حاجة الإنسان إلى العلم بالغيب عن طريق العقل أو النقل

حاجة الإنسان إلى العلم بالغيب عن طريق العقل أو النقل

2024-11-12

69 بازدید

القرآن دعا إلى تحصيل العلم سواء كان مشهودا أو غائبا عن حواسنا وهو العلم بالغيب الذي يحصل لجميع المؤمنين عن طريق البراهين العقلية أو الأدلة النقلية، ولكن هل بمقدور الإنسان أن يحيط بكامل أسرار وخفايا العالمين مطلقاً، هذا ما نتطرق إليه في هذه المقالة.

الإنسان وحاجته الى العلاقة مع الغيب

يدعو القرآن الكريم الى تحصيل العلم، حيث تردد ذكر كلمة العلم في سبعمائة آية منه[1]، ولم تكن دعوة القرآن لتحصيل العلم وأهميته بخطاب خاص ومستثنى لنوع من الناس، بل جاءت الدعوة لطلبه قُلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[2]، عامة لكل الناس.

بالإضافة الى توفر وسائل تحصيله واتاحتها للجميع، ولكن أي علم هذا الذي يدعو إليه القرآن؟ بلا شك إنّه العلم الذي فيه مصلحة الإنسان وبه يتحقق البناء والإعمار، لكنه يحصل بالكسب والجد، لذا اتّصف بالنسبية يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ[3]، خلافاً للعلم الحضوري الذي لا يمنح من قبله سبحانه لأحد إلا لمن ارتضى من عباده.

كما لا ينحصر العلم المراد تحصيله بمساحة العالم المشهود، وكذا لا ينحصر بما هو خاضع للكسب عبر الآلة المحسوسة، وإنّما تتسع دائرته لتشمل عالماً آخر ذاك هو عالم الغيب.

القرآن لم يفكك بين العالمين الغيب والشهادة فأعدّ العلم بالغيب وبما وراء المحسوسات علماً، كما سمى الشخص الذي يحرز على نسبة من العلم بأحدهما أو بكلاهما عالماً.

وبتعبير آخر: إن العلم بالغيب يطلق على العلم بما غاب عن الحواس وبأي طريق حصل، فقد يحصل العلم بالغيب عن طريق البراهين العقلية أو الأدلة النقلية، مثالها العلم بوجود الصانع ووحدته تعالى. كما يطلق العلم بالغيب على ما غاب عن الحس والعقل مثالها أحوال البرزخ ويوم القيامة وما يحدث فيه.

وأخيراً، يطلق العلم بالغيب على العلم الاستقلالي أي بما غاب عن مشاعر الناس جميعاً.

ومن الواضح أن العلم بالغيب من نوعه الأوّل والثاني يمكن أن يحصل عليه الإنسان، أما العلم بالغيب من نوعه الثالث فلا يمكن الحصول عليه.

والواقع يثبت حصول العلم بالغيب بنوعيه الأولين لجميع المؤمنين، بل حتى لغيرهم وحصولهما يتم عن طريق الأدلّة العقلية الحسّية، كما أن الإيمان بالغيب يستلزم العلم بالغيب.

فالمتقون الذين يؤمنون بالغيب عالمون به، كما أنّهم عالمون ببعض الغيب عن طريق إخبار الله تعالى في كتابه، كغلبة الروم مثلاً قبل أوانها، وكعلمهم بالحوادث الماضية، التي لا تنالها حواسهم مما كشف عنه القرآن الكريم، وقد قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ[4]،[5].

ثم لم يبتغ القرآن من العلم إلاّ العلم المؤدي للمصلحة وبواسطته يحصل اليقين: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاء[6]، ويحرك الى العمل والسلوك: كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ[7].

ولكن هل بمقدور الإنسان أن يحيط بكامل أسرار وخفايا العالمين مطلقاً، وبما صُمما بقانونية متداخلة ذات تأثّر وتأثير فيما بينهما في تشكل الظواهر.

يبقى الإنسان ـ الجماعة أو الفرد ـ محدوداً فلا يقوى على الإحاطة بما حوله وماضيه ومستقبله، ولا تعينه التجارب ولا الأبحاث الى كامل العلل والأسباب التي تتحكم في مصير العالمين ذات المدخلية في حياة البشرية جمعاء، وإن كان ذلك يدخل تحت دائرة الإمكان العقلي كما ذكرنا.

دعوة القرآن تركّز على تبنّي قاعدة الإيمان بالغيب والارتباط بالوسائل التي اُسس لها الوحي: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ[8]، وشدّ الإنسان الى تلك القاعدة، لأن حضارة الإنسان لا ترتقي دوماً إلاّ بالعنصر المتعالي عن الأرض أو قل عالم الشهادة، لأن الاندكاك بعالم يتصف بالسفلية انطلاقاً من كونه يكفي نفسه بنفسه مقولة غير صحيحة، لتوقف التاريخ على الإنسان وتوقف الإنسان على التاريخ، ويبقى الإنسان عند ذلك محجوزاً في نفس التاريخ فيؤدي هذا الى هبوط الحضارة، كما هو ملحوظ في تاريخ الحضارات وانهيارها، ذلك لاعتمادها اُفقاً محدوداً:

إِرَمَ ذَاتِ العِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي البِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ[9]، ثم إن الرقي يستدعي أخذ النسبي المحتاج كماله من المطلق.

لذا لا يمكن إقصاء هذا الإنسان عن هذا العالم الرحيب، لوجود صلة أزلية وثيقة وتلاحم فطري أصيل: فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ[10].

الإنسان مخلوق قريب من الغيب، لا بل هو حفنة من الغيب «من روحي» وتحدث القرآن عن هذا القرب والعلاقة بمشهد آخر، قد تضمّن حواراً بين محض الغيب ـ الله ـ والإنسان: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ[11].

ولهذا يكفي الإنسان موعظة عند الدعوة للاعتقاد بالتوحيد أن نحاكيه بالتذكرة، كما هي أساليب الأنبياء ودعواتهم التوحيدية، لامتلاكه رصيداً قلبياً سبق وأن أقرّ بفطرته بهذا المعتقد، لذا لا يُقبل من المعاند المشرك أي عذر يبرّر به شركه كالغفلة مثلاً.

ولما كان الإنسان قد صممّ بطريقة لا يمكن إقصاؤه عن عالم الغيب، بسبب هذا التلاحم بين العالمين بما فيها الإنسان كعالم آخر يتربط معها، وتأثير كل من هذه المخلوقات مع بعضها، وبما منح هذا المخلوق الإنسان النوع من قابليات تمكنه من توظيف عناصر الغيب المودعة فيه وفي الكون لصالح الإعمار والبناء الذي أخذه على عاتقه، لذا فهو محتاج الى التطلع والانشداد والعلم بهذا العالم لعلاقة ذلك بشؤون الخلافة.

العلم بالسنين علم بالغيب

ندب القرآن الكريم الى العلم بالسنن كوسيلة، تكشف لنا عن واقع مستقبلي لم يحدث بَعدُ، وتساهم في رقي الإنسان نحو الكمال، لأن العلم بها وبشروطها يضع الإنسان موضعاً يكون فيه قادراً على خلق المصير، ومتعالياً عليه ومتحكماً في اختيار ما هو مناسب لحياته، فيسعى بوعي لتهيئة وتوفير شروطه وأسبابه اعتماداً على الثابت السنني المكتشف من قبل الوحي.

إذاً فالعلم بالسنن وشروطها أمر تحصيلي كسبي، إلا أنّه مفردة من مفردات العلم بالغيب، أو أن السنن ذات صلة بالإيمان بالغيب قرباً أو جحوداً وتمتد الى النوايا والمقاصد القلبية والمشاعر والأحاسيس في حياة الاُمّة: ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[12]،  وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ[13].

كما يخالف القرآن طريقة التعامل العشوائية مع السنن، والتي لا تعتمد الوعي والعلمية في الانتقاء، انطلاقاً من دورها وأهميتها في تحقيق مصير الإنسان.

من جهة قد لا يتوصل الإنسان الى معرفة دقيقة أو مطلقة بالسنن وعلى فرض توصله واحاطته بفعلية هذه السنّة أو تلك وفي هذا الظرف أو ذاك، إلاّ أنه يبقى عاجزاً عن استيعابها على طول الخط، وعن استيعاب المعارف الإلهية ذات المدخلية بحياة الإنسانية جمعاء، وبها ترتبط حركة الوجود في بُعديها الغيبي والحسي باتجاه الغايات الكبرى، عن طريق العلم التحصيلي الكسبي الواعي، ذلك لغياب العلم من هذا اللون ـ الكسبي ـ بالخفايا والأسرار التي تجري في هذا العالم الرحيب، خصوصاً التكويني لا التشريعي فحسب.

لأن الإحاطة لا تتم إلاّ بالعلم منه سبحانه، لأن التحصيل الكسبي الذي يقوم به الفرد أو الجماعة يبقى ظرفيّاً  آنياً محصوراً بالزمن، عاجزاً عن الإحاطة الكاملة، فهو إذاً ناقص فلا ينتج لنا إلاّ الدور الناقص والإرادة الإلهية تريد الكامل. هذا حتى بحدود العالم المشهود فكيف بالبعد الغيبي وعالمه الرحيب.

إذاً فالإنسان النوع بحاجة الى العلم الموهوب، ولكنه لا يحصل على هذا العلم إلاّ بأخذه عبر الوسائل الإلهية كالوحي أو الإلهام، أو النقر في القلب، أو التعلم بالواسطة ممن يوحى إليه لغرض استيعاب حركة التاريخ كلها.

في الفقرة اللاحقة من البحث والفقرات التي تليها سيتضح دور هذا النموذج الربّاني، بالإضافة الى وضوح ضرورة تسديده عبر منحه ملكات، وعلماً خاصاً يؤدي به دوره الموكول به على أكمل وجه، وبالتالي قد يفيض هذا الموكِّل من علمه الممنوح الى مَنْ له القابلية على حمله، حسب مقتضيات الإعمار والبناء في عالم الدنيا.

علاقة العصمة بعلم الغيب

المخلوقات في هذا الوجود لم تخلق على وجه الاستقلال، وإنّما لوحظ فيها المخلوقات الاُخرى التي تحيط بها، فالكون كلٌ مترابط ويتحرك بطريقة منظمة وهدي إلهي مقدّر: الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى[14]، وقال تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ[15].

بناءً على ذلك فالموجودات في المجموعة الكونية يؤثر بعضها في البعض الآخر والإنسان لا يستثنى من هذا القانون فهو مخلوق ضمن هذا القانون، وبالتالي خاضع الى قانونيته.

فمن جهة أنّه يتأثر في هذا الكون فواضح، لأن الشمس إذا ارتفعت أو اقتربت سوف تؤثر على الحياة بما فيها الإنسان.

ومن الجهة الثانية أن الإنسان يؤثر على مَن حوله من الموجودات فهذه الجهة تحتاج الى مزيد من البيان، قال تعالى: وَضَرَبَ اللهُ مَثَلَاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ[16].

مفهوم الآية أن الاستقرار والهدوء والحركة الهادفة في العلاقة وبين أفراد الجماعة والعمل والانتاج والرخاء ووفرة السلع وسيادة الأمن في كل صوره، كل هذه الاُمور وغيرها تشكل ظواهر سليمة جاءت بسبب كون أهل القرية قد التزموا الشكر بمفرداته العملية كالعدالة والمحبة والمساواة، ولمّا تخلت القرية عن هذه القيم ولم تجعل الله محوراً لنشاطها وحياتها، وكفرت بماضيها التوحيدي المشرق واستبدلته بالآلهة المتعددة، كالتبعية للإنسان القوي، أو طاعة النفس والشيطان وحب المال والسلطة، هذه الارتباطات ستؤول الى سوء التوزيع وسيادة الظلم وعدم الاطمئنان وشيوع الخوف والفقر والطبقية، فلم يُعد العيش في هذه القرية بعد ذلك سعيداً أبداً.

الكفر والفسق والنفاق وأي موقف فكري أو سلوكي صادر من الإنسان، بالنتيجة له امتداد وتأثير بما حوله، وليس بصحيح حصر المسألة بالجانب المادي من فعل الإنسان، وإنّما تدخل المواقف القلبية والاعتقادية في هذا الاطار أيضاً، لأن الاعتقاد فعل، فالكفر الذي هو عمل باطني له مؤثرات خارجية على مَن حوله من المخلوقات الاُخرى، ومسيرة الإنسان نفسه خاضعة لقراراته الاعتقادية الباطنية.

ولذا تسأل الملائكة عن هذا المخلوق الجديد آدم ـ من خلال ربطها بين الفسق وفعل سفك الدماء، الناتج عن الإرادة ـ وعن مصيره وحياته وحركته في الأرض وكيفية تعامله مع المجموعة الكونية، لأنهم ضمن معلوماتهم أن الكون خاضع لنظام كوني واحد حسبما يعمل به الجميع، ولابد لهذا المخلوق الطارئ على الكون أن يكون منسجماً مع نظامه.

ولما كان قد صمم بطريقة تجعله قادراً أن يخالف النظام الكوني، لذا سوف ينتج سفك الدماء والخراب والدمار في هذا الكون، لأن الفوضى تحدث بوجود الإرادة التي تؤدي الى الكفر أحياناً وإمكانية اختراق النظام والالتفاف عليه، فهذا المخلوق الجديد طروّه خطر لا على نفسه فحسب، بل على الكون كلّه: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ[17].

لكن الله سبحانه وتعالى تلافى الإشكال والتساؤل الذي صرّحت به الملائكة لاعتراضها على تولّي هذا المخلوق مقاليد الخلافة، فقال: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا[18].

صنع هذا المخلوق وأودع فيه من العلم بما يتلائم مع مهامه الإلهية والتي تعينه على تحقيق الغايات، فعلم الإنسان بالأسماء كلّها هبة منه سبحانه، لقد أطلعه على حقائق الأشياء وأطلعه على الكون كلّه وعلى الأنظمة الحاكمة فيه، ثم ما هو موقعه من هذا الوجود وكيف يؤثر فيه لغرض استخدامه لصالح أهدافه وغاياته وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ[19].

وإيداع هذا العلم ممّن بعده الى سلسلة الأنبياء (ع) حتى خاتمهم محمد المصطفى (ص)، وبعده السلسلة الطاهرة من آله (ع).

وهذا العلم بالغیب هو الذي يدرك بواسطته المعصوم حقائق الأشياء، كما هي وبرؤية واضحة، وبشكل لا يقبل الشك، فالعلم بالغیب الذي يتصف بهذه الميزة يؤدي الى العصمة حتماً.

وتقريب هذا التصور مثاله: قانون الجاذبية كأحد القوانين في هذا الكون له علاقة مع الإنسان وعلى الإنسان أن يعمل بموجبه ويحذر مخالفته، كما أن العلاقة بين هذا القانون والإنسان تختلف عن علاقة القانون مع بعض المخلوقات كالطير مثلاً، فالطير يخترق هذا القانون لأجل مصلحة، أو قل: إن هذا القانون له من وجه آخر علاقة مع الطير تختلف عن الإنسان، فالإنسان يتجنب فعل الطير لاختراقه هذا القانون، لأن الآثار المترتبة على الإنسان غير الآثار المترتبة على الطير، فعلم الإنسان بهذا القانون وجهات اختراقه هو الذي منحه العصمة في أن لا يعمل بخلافه، وإلاّ فالإنسان له الإرادة في المخالفة والافتراق.

ثمّ هناك قانون آخر له مردوداته على حياة الإنسان قد يدركه الإنسان، ولكن قد لا يدرك آثاره ومردوداته لأنه لا يمتلك علماً ورؤية بالآثار المترتبة على مخالفته مثل أكل مال اليتيم، يقول القرآن الكريم: أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ[20].

المعصوم يمتلك علماً يرى فيه أن مال اليتيم نار، وغير المعصوم قد يراه مالاً يتلذذ به فلا يرى أنّه نار محرقة، فالمعصوم عنده علم ووضوح بتأثير هذا التصرف ومردوداته، كما نرى نحن ونعلم بقانون الجاذبية الذي جعلنا نمتنع عن المخالفة مع وجود القدرة على المخالفة فينا.

أما الأثر المترتّب على أكل مال اليتيم، فلا نعلم به أي إننا لا نمتلك علماً نرى من خلاله قوانين الوجودات كلها، يوسف (ع) يستطيع أن يعمل الفاحشة لأنه يمتلك الإرادة الحرة في ممارستها، إلاّ أن يوسف يرى الزنا فاحشة بحكم وضوحه وعلمه بهذه القانونية، فليس معناه أنّه لا يمتلك اللذة الجنسية ولا الإرادة كالجدار بل إن لديه علماً بآثار هذا القانون فلا يخالفه اطلاقاً.

من هنا نجد أتباع مدرسة أهل البيت (ع) يقولون بعصمة أئمتهم جميعاً، بما فيهم الإمام محمد الجواد (ع) وإن كان صبيّاً ابن سبع سنين، فهو عالم بكل شيء ليس فقط بأحكام الصلاة أو الحج، بل بكل شيء، ولا يعصي الله تعالى، بل ولا يخطئ أعداؤهم يومذاك الذين كانوا يملكون الحكم كانوا يعرفون من شيعة أهل البيت (ع) هذا الرأي، أي إنه ليس معتقداً سرياً أو مخفياً، كانوا يعرفون أن شيعة أهل البيت (ع) يقولون في أئمتهم (ع) هذا القول.

والدولة بأجهزتها مع محاولاتها، كلما حاولت تكذيب هذه الحقيقة فإنّها لم تنجح، جاؤوا بالإمام الجواد (ع) وهو صبي وجمعوا العلماء وعلى رأسهم القاضي يحيى بن أكثم، ويجلس في مكانه (كقاض) ويلتفت الى الإمام الجواد (ع) قائلاً: يا ابن رسول الله، أسألك؟

فقال له الإمام الجواد (ع): قم واجلس مجلس السائل من المسؤول؟

ويقوم يحيى بن أكثم بشيبته ويجلس متأدّباً بين يدي الإمام الجواد (ع) جلسة السائل من المسؤول.

فكّر يحيى بن أكثم، ماذا يسأل الإمام (ع)؟ هل يسأله عن الصلاة وأحكامها؟ وهو عالمٌ بأن الإمام الجواد (ع) وعائلته يؤدّون الصلاة يومياً، فإذاً هو عارف بالصلاة وأحكامها، فكّر بأنّ هذا الصبي في بغداد ولم يذهب الى الحج، لأن فريضة الحج يؤدّيها الإنسان مرة واحدة في حياته على نحو الوجوب، وإن وُفّق فيؤديها ـ مثلاً ـ عشر مرات، ثم إن الإمام الجواد (ع) لازال صبياً ولم يذهب الى الحج، فقال له: يابن رسول الله، ما قولك في مُحرم قتل صيداً؟

فأجابه الإمام (ع): قتله في حل أو حرم، عالماً كان المُحرم أم جاهلاً، قتله عمداً أو خطأ، حراً كان المُحرم أم عبداً، صغيراً كان أو كبيراً، مبتدئاً بالقتل أم معيداً، من ذوات الطير كان الصيد أم من غيرها، من صغار الصيد كان أم من كباره، مصراً على ما فعل أو نادماً، في الليل كان قتله للصيد أم نهاراً، محرماً كان بالعمرة إذ قتله، أو بالحج كان محرماً؟[21].

فتحيّر يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز، ثم أجاب الإمام الجواد (ع) عن المسألة كما مفصّل ذلك في الكتب.

وهذه الحادثة تشير الى امتلاك الإمام الجواد (ع) للعصمة المسددة المتضمّنة للعلم الحضوري.

والعلم الذي يمتلكه الإمام المعصوم ويتسلّط بواسطته على معرفة الأشياء، وبه تتم أغراض الرسالة، موهوب منه سبحانه بدون كسب من الإمام، بهدف أن تكون للإمام قدرة تامة لتحقيق الغرض الإلهي الذي ينبغي إنجازه على أكمل وجه ويظهره على الدين كله. عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ[22].

والعلم بالغیب المفاض للإمام (ع) بأي سبب كان، سواء بإلهام أو نقر في الأسماع، أو بتعليم من الرسول ـ ويمتد الى معرفة الغيب ـ فهو غير العلم الذي يختص به سبحانه، فذاك مكفوف عن من سوى الله وحتى الملائكة المقربين والأنبياء المرسلين وهو العلم بالغيب المطلق.

ولذا فالعلم بالغیب المفاض يتم إما بشكل تعليمي غير طبيعي، كما هو في الكتب الإلهية المنزلة على رسله بواسطة أمين الوحي، وهي تتضمن الأحكام والإخبار بالأحداث السالفة والحاضرة وحتى المستقبلية، لكل نبي بحسب نوع رسالته، قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ[23].

وإما أن يتم بشكل عملي مثل المعجزات فتجري على يديه ولا ينال الرسول إلا قيمتها العملية، أما حقيقتها العلمية فقد لا يملكها ولا يقف عليها، وقد يحصل عليها كحقيقة إحياء الموتى فإنها من الغيب الخاص به سبحانه.

ولكن لا مانع من تعليمه لغيره وإفاضته على بعض رسله كما ورد في حق إبراهيم الخليل (ع)، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى[24].

ويفترق علم الإمام (ع) عن علم الله سبحانه، بأنّ علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات، وهو عين ذاته.

أما العلم بالغیب الحضوري للإمام (ع) فلا يشارك علم الله في شيء من هذه الاُمور، لأن علم الإمام (ع) حادث ومسبوق بالمعلومات، وهو غير الذات فيه وإنّما حضوره عند الإمام بمعنى انكشاف المعلومات فعلاً لديه فلا يشارك الله في علمه. والقول بالاشتراك والاتحاد بين العلمين هو من القول بالشرك والغلو الذي لا يقول به الأئمة (ع)  أنفسهم فضلاً عن أتباعهم.

الاستنتاج

لقد ثبت من خلال سير البحث أن الإنسان النوع خلق بطريقة لا يستغني عن الارتباط بالغيب، حيث تتوقف مهامه الرسالية على الارتباط به أولاً، ثم معرفته بهدف التعامل معه ثانياً، وذلك لتوقف تحقيق الأهداف الإلهية على العلم بهذا العالم الرحيب، ولا تعارض بين ما يمتلكه الإنسان من حرية وإرادة وبين مسار الوجود القائم على أساس الجبرية، لأن الإنسان زود بالعلم الذي اطّلع بواسطته على أسرار الوجود وحركته العلية ومصيره ونهايته.

وهذا العلم بالغیب لا ينفك عن العصمة التي تمنعه عن العبث بهذه الأسرار، لأن العصمة تعني أن المعصوم يدرك بهذا العلم حقائق الأشياء كما هي برؤية واضحة وبشكل لا يقبل الشك، مما يدعوه لتوظيفه لأغراض الرسالة وأهدافها، ولم يكن المقصود منه هو العلم الذي يحصل بالكسب والجهد، لأن هذا ناقص ومحدود والرسالة تريد الدور الكامل، فالمقصود إذاً هو العلم الحضوري الموهوب منه تعالى.

ويفترق علم الإمام عن علم الله سبحانه، لأن علمه سبحانه قديم وسابق على المعلومات وهو عين ذاته، أما العلم الحضوري عند الإمام فلا يشارك علم الله في شيء من هذه الاُمور، لأن علم الإمام حادث ومسبوق بالمعلومات وهو غير الذات فيه، فعلم الإمام عرضي موهوب وممنوح منه جل شأنه فلا اتحاد بين العلمين.

الهوامش

[1] عبد الباقي، المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، ص469، مادة العلم.

[2] الزمر، 9.

[3] المجادلة، 11.

[4] هود، 49.

[5] نخبة من العلماء، الإمامة والولاية، ص129.

[6] فاطر، 28.

[7] الصف، 3.

[8] البقرة، 3.

[9] الفجر، 7 ـ 13.

[10] الحجر، 29.

[11] الأعراف، 172.

[12] الروم، 41.

[13] الأعراف، 96.

[14] طه، 50.

[15] يس، 38 ـ 40.

[16] النحل، 112.

[17] البقرة، 30.

[18] البقرة، 31.

[19] يس، 12.

[20] البقرة، 174.

[21] المجلسي، بحار الأنوار، ج50، ص76، نقلاً عن الاحتجاج.

[22] الجنّ، 26 ـ 27.

[23] البقرة، 253.

[24] البقرة، 260.

مصادر البحث

1ـ عبد الباقي، محمّد فؤاد، المعجم المفهرس لألفاظ لقرآن الكريم، القاهرة، دار الحديث، بلا تاريخ.

2ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍، نقلاً عن الاحتجاج.

3ـ نخبة من العلماء، الإمامة والولاية في القرآن الكريم، قم، تحقيق ونشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الأُولى، 1427 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الموسوي، عبد الرحيم، علم الأئمة الاثني عشر (ع) بالغيب، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه‍.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *