خطبة السيدة فاطمة الزهراء (س) المعروفة التي خطبتها في مسجد النبوي بعد رحلة أبيها رسول الله (ص) أمام جمع من الأنصار والمهاجرين وبحضور أبي بكر ما سببها وما هي؟ ثم بيان معطيات حديثها (س) في خطبتها هذه، وأهم معطياتها هو دعوتها إلى الثورة والإطاحة بحكومة أبي بكر، وإرجاع الحق إلى أهله ومعدنه.
سبب خطبة السيدة فاطمة الزهراء
ضاقت الدنيا على فاطمة الزهراء (س) من الإجراءات القاسية التي اتخذها أبو بكر ضدها، فقد أرهقت منها إرهاقاً شديداً، فانبرت (س) لتقيم عليه الحجة، وتسدّ أمامه كل منفذ ينفذ منه لتبرير سياسته، فخطبت في الجامع النبوي خطاباً خالداً، وضعت فيه النقاط على الحروف، وبرزت فيه أعظم سيدة خلقها الله تعالى في الأرض، وذلك في مواهبها وعبقرياتها، وبما أوتيت من روائع الحكمة وفصل الخطاب.
لا أكاد أعرف أن سيدة بهذا السن وهو سن التاسعة عشرة تستطيع أن تخطب مثل هذا الخطاب الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي خطيب بارع في العالم، ولكن ذلك ليس غريباً وبعيداً على بقية النبوة ومعدن العلم والحكمة، التي غذاها أبوها بمعارفه، وأفاض عليها بمكوناته النفسية، حتى صارت صورة صادقة عنه، كما دلت على ذلك كوكبة من الأخبار.
ووصف الرواة كيفية خروجها (س) إلى جامع أبيها أنها لاثت خمارها على رأسها، وأقبلت في لُمَّةٍ مِنْ حَفَدتها، تَطَأ ذُيُولَها مَا تَخْرِمُ مِشْيتُها مِشْيَةً رَسولِ اللهِ (ص)، حَتَّى دَخَلَتْ على أبي بَكْرٍ وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغَيْرِهِم، فَنِيطَتْ دونَها مُلاءَةٌ.
ثُمَّ أَنَّتْ أَنَّهُ أَجْهَشَ لها القوم بالبكاء، وارتج المجلس، فأمهلتهم حتى إذا سكن نشيجهم، وهَدَات فَوْرَتُهُمْ، افتتحت خطابها بحمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على رسول الله (ص)، فعاد القومُ في بُكائِهِمْ، فلما أمسكوا عادت في خطابها، فقالت (س):
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلَهُ الشَّكْرُ عَلَى مَا أَلْهَمَ، وَالثَّناءُ بِمَا قَدَّمَ، مِنْ عُمُومِ نِعَمِ ابْتَدَأَها، وَسُبُوعِ آلَاءِ أَسْدَاهَا، وَتَمَامِ مِنَن والاها، جَمَّ عَنِ الأَحْصَاءِ عَدَدُها، وَنَأَى عَنِ الْجَزاءِ أَمَدُها، وَتَفاوَتَ عَنِ الْإِدْرَاكِ أَبَدُها، وَنَدَبَهُمْ لِاسْتِرَادَتِها بِالشَّكْرِ لاتصالها، وَاسْتَحْمَدَ إِلَى الْخَلَائِقِ بِإِجْرَالِهَا، وَتَنى بِالنَّدْبِ إِلَى أَمْثَالِها.
حكى هذا المقطع الثناء على الله تعالى، والشكر لألطافه ونعمه التي لا تحصى، فقد أسداها على عباده، وطلب منهم الشكر ليزيدهم من إفضاله ونعمه.
واستمرت فاطمة الزهراء (س) في خطابها قائلة:
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الْإِخْلَاصَ تَأْوِيلَهَا، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَهَا، وَأَنَارَ فِي التَّفَكَّرِ مَعْقُولَهَا، الْمُمْتَنِعُ عَنِ الْأَبْصَارِ رُؤْيَتُهُ، وَمِنَ الْأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الْأَوْهَامِ كَيْفِيَّتُهُ.
ابْتَدَعَ الْأَشْيَاءَ لَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ قَبْلَهَا، وَأَنْشَأَهَا بِلَا احْتِدَاءِ أَمْئِلَةِ امْتَثَلَهَا، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَى تَكْوِينِهَا، وَلَا فَائِدَةٍ لَهُ فِي تَصْوِيرِها، إِلَّا تَثْبِيتاً لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبِيها عَلَى طَاعَتِهِ، وَإِظْهَاراً لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّداً لِبَرِيَّتِهِ، وَإِعْزازاً لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ عَلَى طَاعَتِهِ، وَوَضَعَ الْعِقَابَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ، زِيادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إِلَى جَنَّتِهِ.
في هذا المقطع بحوث كلامية عن الخالق العظيم، وهي كما يلي:
الأول: امتناع رؤية الباري
جاء في خطبة السيدة فاطمة الزهراء أن الأبصار يمتنع عليها رؤية المبدع والمكون لهذا الكون بما فيه من المجرات التي لا تحصى، وهل يستطيع الممكن في وجوده وفكره أن يبصر تلك الحقيقة المذهلة، كما إن الألسن مهما بلغت في الإبداع وتصوير الأشياء، فإنها عاجزة عن تصويره، وكذلك الأوهام لا تدرك كيفيته، إما إيضاح هذه الأمور والاستدلال عليها فقد عرضت لها بصورة موضوعية المصادر الكلامية.
الثاني: ان الله هو الخالق والمكون للأشياء
ورد في خطبة السيدة فاطمة الزهراء إلى أن الله تعالى هو الخالق للأشياء ومكونها، فقد أنشأها وكونها لا من شيء كان قبلها، ولا حاكى أمثلة كانت قبلها، وإنما ابتدعها بقدرته، وذرأها بمشيئته، فتعالى المبدع العظيم.
الثالث: أن الله مصدر الفيض والعطاء
ذكر في خطبة السيدة فاطمة الزهراء أن الله تعالى لم يكن في خلقه ما يُرى وما لا يُرى حاجة ولا فائدة له فيها، فهو مصدر الفيض والعطاء، خلق الأشياء بقدرته ومشيئته إظهاراً لعظمته، وتنبيهاً لطاعته، وإعزازاً لدعوته، وقد جعل الثواب الذي لا يوصف لعظمته لمن أطاعه، كما جعل العقاب الصارم لمن عصاه.
وتأخذ (س) في ذكر أبيها (ص) قائلة:
وَأَشْهَدُ أَنَّ أَبِي مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِخْتارَهُ وَانْتَجَبَهُ قَبْلَ أَنْ أَرْسَلَهُ، وَسَمَاهُ قَبْلَ أَنِ اجْتَبَلَهُ، وَاصْطَفاهُ قَبْلَ أَنِ ابْتَعَثَهُ: إِذِ الْخَلَائِقُ بِالْغَيْبِ مَكْنُونَةٌ، وَبِسِتْرِ الْأَهَاوِيلِ مَصُونَةٌ، وَبِنِهَايَةِ الْعَدَمِ مَقْرُونَةٌ، عِلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَلِ الْأُمُورَ، وَإِحَاطَةٌ بِحَوادِثِ الدُّهُورِ، وَمَعْرِفَةٌ بِمَواقِعِ الْمَقْدُورِ.
ابْتَعَثَهُ اللهُ إِنَّمَاماً لِأَمْرِهِ، وَعَزِيمَةٌ عَلَى إِمْضَاءِ حُكْمِهِ، وَإِنْفَاذَا لِمَقَادِيرِ حَتْمِهِ، فَرَأَى الْأُمَمَ فِرَقاً فِي أَدْيَانِها، عُكَفَاً عَلَى نيرانها، عَابِدَةٌ لِأَوْثَانِها، مُنْكِرَةً لِلَّهِ مَعَ عرفانها.
فَأَنَارَ اللهُ بِأَبِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ ظُلَمَهَا، وَكَشَفَ عَنِ الْقُلُوبِ بُهَمَها، وَجَلَا عَنِ الْأَبْصارِ غُمَمَها، وَقَامَ فِي النَّاسِ بِالْهِدَايَةِ، فَأَنْقَذَهُمْ مِنَ الْغِوَايَةِ، وَبَصَّرَهُمْ مِنَ الْعَمَايَةِ، وَهَداهُمْ إِلَى الدِّينِ الْقَوِيمِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيم.
ثُمَّ قَبَضَهُ اللهُ إِلَيْهِ قَبْضَ رَأْفَةٍ وَاخْتِيَارٍ، وَرَغْبَةٍ وَإِيْشَارٍ، فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ عَنْ تَعَبِ هَذِهِ الدَّارِ فِي رَاحَةٍ، قَدْ حُفَّ بِالْمَلَائِكَةِ الْأَبْرَارِ، وَرِضْوانِ الرَّبِّ الْغَفَّارِ، وَمُجاوَرَةِ الْمَلِكِ الْجَبَارِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَى أَبِي نَبِيِّهِ وَأَمِينِهِ عَلَى الْوَحْيِ، وَصَفِيِّهِ وَخِيَرَتِهِ مِنَ الْخَلْقِ، وَالسَّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ.
في خطبة السيدة فاطمة الزهراء تحدثت عن أبيها الذي أنار العقول، وحرر الإنسان من عبودية الأوثان والأصنام التي هي من صنع الإنسان، وفتح آفاقاً كريمة ومشرقة للحياة يعيش الإنسان في ظلالها، موفور الكرامة ناعم البال… وكان من معطيات حديثها ما يلي:
الأول: اختيار الله النبي محمد للنبوة
جاء في خطبة السيدة فاطمة الزهراء أن الله تعالى اختار عبده ورسوله للنبوة، وخصة بهذه المنزلة الرفيعة قبل أن يخلقه، علماً منه تعالى بسمو ذات نبيه وعظيم شأنه.
الثاني: زمان بعثة النبي
ورد في خطبة السيدة فاطمة الزهراء أن النبي (ص) بُعِثَ في زمان كانت الأمم فرقاً وشيعاً مختلفة في أديانها، فبعضها تعبد الأوثان، وبعضها تعبد النيران، فأنار الله تعالى بالنبي العقول، وأزال الظلمات، وكشف الجهل عن القلوب، وحرر الإنسان من هذه الخرافات التي أودت به إلى مستوى سحيق من مجاهل هذه الحياة.
الثالث: اختيار الله مجاورة النبي
ذكر في خطبة السيدة فاطمة الزهراء أن الله تعالى قد اختار جوار عبده ورسوله إليه محفوفاً برضوان الله تعالى، قد حفت به ملائكة الله المقربين، وأنبيائه المعظمين.
وتستمر (س) في خطابها التأريخي الخالد قائلة:
أَنتُمْ عِبَادَ اللهِ نُصُبُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَحَمَلَهُ دِينِهِ وَوَحْيِهِ، وَأَمَنَاءُ اللَّهِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَبُلَغَاؤُهُ إِلَى الْأُمَمِ، وَزَعَمْتُمْ حَقٌّ لَكُمْ لِلَّهِ فِيكُمْ، عَهْدٌ قَدَّمَهُ إِلَيْكُمْ، وَبَقِيَّةٌ اسْتَخْلَفَها عَلَيْكُمْ:
كِتابُ اللهِ النَّاطِقُ، وَالْقُرْآنُ الصَّادِقُ، وَالنُّورُ السَّاطِعُ، وَالضَّياءُ اللَّامِعُ، بَيِّنَةٌ بَصائِرُهُ، مُنْكَشِفَةٌ سَرائِرُهُ، مُنْجَلِيَةٌ ظَوَاهِرُهُ، مُغْتَبِطَةٌ بِهِ أَشْياعُهُ، قَائِدٌ إِلَى الرَّضْوانِ اتِّباعُهُ، مُؤَدَّ إِلَى النَّجَاةِ اسْتِمَاعُهُ بِهِ تُنَالُ حُجَجُ اللَّهِ الْمُنَوَّرَةُ، وَعَرَائِمُهُ الْمُفَسَّرَةُ، وَمَحارِمُهُ الْمُحَذَرَةُ، وَبَيِّنَاتُهُ الْجَالِيَةُ، وَبَرَاهِينُهُ الْكَافِيَةُ، وَفَضَائِلُهُ الْمَنْدُوبَةُ، وَرُخَصُهُ الْمَوْهُوبَةُ، وَشَرَائِعُهُ الْمَكْتُوبَةُ.
ورد في خطبة السيدة فاطمة الزهراء (س):
أولاً: سمو مكانة أصحاب النبي
عن سمو مكانة أصحاب أبيها الله، وأنهم أمناء الله تعالى على منهجه، وعلى تبليغ رسالة الله تعالى إلى أمم العالم وشعوب الأرض، فقد خصهم تعالى بهذه المزية.
ثانياً: عظم القرآن الكريم
عن عظم القرآن الكريم، فهو النور الساطع، والضياء اللامع، الذي يقود إلى الرضوان، ويؤدي إلى النجاة، فهو حجة الله تعالى على عباده، يهديهم للتي هي أقوم، ويقيم أودهم.
في خطبة السيدة فاطمة الزهراء (س) أخذت بالحديث عن فرائض الإسلام وعلل تشريعاته قائلة:
فَجَعَلَ اللهُ الْإِيْمَانَ تَطْهِيراً لَكُمْ مِنَ الشَّرْكِ، وَالصَّلَاةَ تَنْزِيهَا لَكُمْ عَنِ الْكِبْرِ، وَالزَّكَاةَ تَزْكِيَةٌ لِلنَّفْسِ، وَنَمَاءٌ فِي الرِّزْقِ، وَالصَّيامَ تَثْبِيتاً لِلْإِخْلَاصِ، وَالْحَجَّ تشييداً لِلدِّينِ، وَالْعَدْلَ تَنْسِيقاً لِلْقُلُوبِ، وَطاعَتَنَا نِظَاماً لِلْمِلَّةِ، وَإِمَا مَتَنَا أَمَانَا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهَادَ عِزّاً لِلْإِسْلَامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجَابِ الْأَجْرِ.
وَالْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعَامَّةِ، وَبِرَّ الْوَالِدَيْنِ وِقَايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الْأَرْحَامِ مَنْساةٌ فِي الْعُمْرِ، وَمَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصَاصَ حِصْنَا لِلدِّمَاءِ، وَالْوَفَاءَ بِالنَّذْرِ تَعْرِيضاً لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكادِيلِ وَالْمَوَازِينِ تَغْيِيراً لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيهَا عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنَابَ الْقَذْفِ حِجَابَاً عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السَّرْقَةِ إِيجاباً لِلْعِفَّةِ، وَحَرَّمَ اللهُ الشَّرْكَ إِخْلَاصاً لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ.
فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ، وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ فِيما أَمَرَكُمْ بِهِ، وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، فَإِنَّهُ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
لقد ألقت فاطمة الزهراء (س) الأضواء على علل الأحكام الشرعية والآداب الإسلامية، وكشفت عن أسرار تشريعاته التي خفيت على الكثيرين… أما إيضاح هذه البنود فإنّه يستدعي الإطالة، وقد أثرنا الايجاز فيها.
وتستمر (س) في خطابها التاريخي قائلة:
أَيُّهَا النَّاسُ، اِعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ، وَأَبِي مُحَمَّدٌ، أَقُولُ عَوْداً وَبَدْءاً، وَلَا أَقُولُ ما أَقُولُ غَلَطاً، وَلَا أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ شَطَطاً، (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ).
فَإِنْ تَعْزُوهُ وَتَعْرِفُوهُ تَجِدُوهُ أَبِي دُونَ نِسَائِكُمْ، وَأَنَا ابْنِ عَمِّي دُونَ رِجَالِكُمْ، وَلَنِعْمَ الْمَعْزِيُّ إِلَيْهِ (ص).
فَبَلَغَ الرَّسالَةَ، صادِعاً بِالنَّذارَةِ، مائِلاً عَنْ مَدْرَجَةِ الْمُشْرِكِينَ، ضارياً تَبَجَهُمْ، آخِذاً بِأَكْظَامِهِمْ، داعياً إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ، وَيَنْكُتُ الْهَامَ، حَتَّى أَنْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلَّوْا الدُّبُرَ.
حَتَّى تَفَرَّى اللَّيْلُ عَنْ صُبْحِهِ، وَأَسْفَرَ الْحَقُّ عَنْ مَحْضِهِ، وَنَطَقَ زَعِيمُ الدِّينِ، وَخَرِسَتْ شَفَاشِقُ الشَّيَاطِينِ، وَطاحَ وَشِيظُ النِّفَاقِ، وَانْحَلَّتْ عُقَدُ الْكُفْرِ وَالشَّقَاقِ، وَفُهْتُمْ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْبِيضِ الْخِمَاصِ.
وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ، مُذْقَةَ الشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ الطَّامِعِ، وَقَبْسَةَ الْعَجْلَانِ، وَمَوْطِئَ الْأَقْدامِ، تَشْرَبُونَ الطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ الْقِدَّ)، أَذِلَّةٌ خاسِئِينَ، تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِمُحَمَّدٍ (ص) بَعْدَ اللَّتَيَا وَالَّتِي، وَبَعْدَ أَنْ مُنِيَ بِبُهَم الرِّجالِ، وَذُوبَانِ الْعَرَبِ، وَمَرَدَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
كُلَّمَا أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ، أَوْ نَجَمَ قَرْنٌ لِلشَّيْطَانِ، أَوْ فَغَرَتْ فَاغِرَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَذَفَ أَخَاهُ فِي لَهَواتِها، فَلَا يَنْكَفِيُّ حَتَّى يَطَأَ صِمانَها بِأَخْمَصِهِ، وَيُخْمِدَ لَهَبَهَا بِسَيْفِهِ، مَكْدُوداً في ذاتِ اللهِ، مُجْتَهِداً فِي أَمْرِ اللهِ، قَرِيباً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ، سَيِّداً فِي أَوْلِياءِ اللَّهِ، مُشْمَّراً ناصحاً، مُجِداً كَادِحاً، لَا تَأْخُذُهُ فِي اللَّهِ لَوْمَةٌ لَائِم وَأَنْتُمْ فِي رَفَاهِيَّةٍ مِنَ الْعَيْشِ، وَادِعُونَ فَاكِهُونَ آمِنُونَ، تَتَرَبَّصُونَ بِنَا الدَّوائِرَ، وَتَتَوَ كَفُونَ الْأَخْبَارَ، وَتَنْكُصُونَ عِنْدَ النَّزالِ، وَتَفِرُّونَ مِنَ الْقِتالِ.
افتتحت فاطمة الزهراء (س) هذا المقطع من خطابها التاريخي بقولها (س): اعْلَمُوا أَنِّي فَاطِمَةُ، وَأَبِي مُحَمَّدٌ….
أجل، أنت قبس من نور الله تعالى، وأنتِ نفس محمد، وقلبه النابض.
أنت يا سيدة النساء الذي يرضى الله تعالى لرضاك، ويغضب لغضبك.
أنت التي أقمت صروح الحق، وأسست معالم العدل، وشيدت مذهب أهل البيت، فأنت دعامته، ورافعة لوائه.
وقد عرضت فاطمة الزهراء (س) في هذا المقطع إلى أنها لا تقول قولاً، ولا تعمل عملاً إلا ما وافق الحق ؛ فهي مع الحق والحق معها.
ثم عرضت إلى فضل النبي محمد (ص) على المسلمين ورأفته وشفقته عليهم، فقد كان كالأب البار بهم، عزيز عليه عنتهم، حريص على سعادتهم، بالمؤمنين رؤوف رحيم.
ثم ذكرت جهاده في سبيل هذا الدين، وما عاناه من الأتعاب الهائلة من جبابرة قريش، ومردة أهل الكتاب، حتى قام الإسلام على سوقه عبل الذراع، واندحرت معاقل الشرك وحصون الإلحاد.
وذكرت فاطمة الزهراء (س) حال الأمة العربية من الذل والهوان حتى أنقذها الله تعالى بعبده ورسوله، قبر بدينها ودنياها، وأقام لها مجداً ومكانة بين الأمم، وصنع لها حضارة من أروع وأفضل حضارة أقيمت في العالم على امتداد التاريخ.
وعرضت (س) إلى فضل ابن عمها الإمام علي ابن أبي طالب (ع)، وجهاده المشرق في نصرة الإسلام، ونزوله في ساحات الحروب في حين أن المهاجرين من قريش الذين استولوا على السلطة كانوا في أيام النبي (ص) وادعين آمنين، لم يكن لهم أي ضلع في نصرة الإسلام، وإنما كانوا ينكصون عند النزال، ويفرون من القتال، يتربصون بأهل البيت (ع) الدوائر، ويتوقعون بهم نزول الأحداث.
ثم أخذت فاطمة الزهراء (س) في خطابها قائلة:
فَلَمَّا اخْتارَ اللهُ لِنَبِيِّهِ دَارَ أَنْبِيَائِهِ وَمَأْوَى أَصْفِيائِهِ، ظَهَرَ فِيكُمْ حَسَيكَةٌ النِّفَاقِ، وَسَمَلَ جِلْبَابُ الدِّينِ، وَنَطَقَ كَاظِمُ الْعَاوِينَ، وَنَبَغَ حَامِلُ الْأَقَلِّينَ، وَهَدَرَ فَنِيقُ الْمُبْطِلِينَ، فَخَطَرَ فِي عَرَصَاتِكُمْ، وَأَطْلَعَ الشَّيْطَانُ رَأْسَهُ مِنْ مَغْرَزِهِ، هاتفاً بِكُمْ، فَأَلْفَاكُمْ لِدَعْوَتِهِ مُسْتَجِيبِينَ، وَلِلْغِرَّةِ فِيهِ مُلَاحِظِينَ، ثُمَّ اسْتَنْهَضَكُمْ فَوَجَدَكُمْ خِفَافاً، وَأَحْمَشَكُمْ فَأَلْفَاكُمْ غِضاباً، فَوَسَمْتُمْ غَيْرَ إِبْلِكُمْ، وَأَوْرَدْتُمْ غَيْرَ شِرْبِكُمْ.
هذا، وَالْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْكَلْمُ رَحِيبٌ، وَالْجُرْحُ لَمَّا يَنْدَمِلْ، وَالرَّسُولُ لَمَا يُقْبَرْ، اِبْتِدَاراً زَعَمْتُمْ خَوْفَ الْفِتْنَةِ، (أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ).
فَهَيْهَاتَ مِنْكُمْ، وَكَيْفَ بِكُمْ، وَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، وَكِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أُمُورُهُ ظَاهِرَةٌ، وَأَحْكَامُهُ رَاهِرَةٌ، وَأَعْلَامُهُ باهِرَةٌ، وَزَواجِرُهُ لَائِحَةٌ، وَأَوَامِرُهُ واضِحَةٌ، وَقَدْ خَلَقْتُمُوهُ وَراءَ ظُهُورِكُمْ، أَرَغْبَةٌ عَنْهُ تُرِيدُونَ؟ أَمْ بِغَيْرِهِ تَحْكُمُونَ؟ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عرضت فاطمة الزهراء (س) إلى انتقال أبيها (ص) إلى حظيرة القدس، وإلى الأحداث الهائلة المروعة التي حلت بالصحابة بعد وفاته والتي منها:
۱- ظهور النفاق، وضعف الوازع الديني في النفوس.
2- بروز الغواة على مسرح الحياة السياسية.
3- نبوغ الخاملين الذين لم يكن لهم أي رصيد اجتماعي، ولا خدمة أسدوها للقضية الإسلامية.
4- اتباع الشيطان، والاستجابة الكاملة لخدعه وغروره.
5- التنديد بالصحابة على ما أقدموا عليه من صرفهم الخلافة عن أهل بيت النبوة ومراكز العلم والحكمة في دنيا الإسلام، مع قرب وفاة المنقذ العظيم (ص)، ولا عذر لهم فيما اقترفوه فقد سقطوا في الفتنة، وانحرفوا عن الطريق القويم.
٦- قد أبطلت جميع أعذارهم لما ارتكبوه وأقدموا عليه من مجافاة عترة رسول الله (ص)، فالقرآن الكريم بين أيديهم أموره ظاهرة، وآياته واضحة، وهو يدعو إلى الاصلاح الشامل، واتباع الحق، وتقديم الفاضل والعالم على غيره.
ثم استمرت فاطمة الزهراء (س) في خطابها قائلة:
ثُمَّ لَمْ تَلْبَثُوا إِلَّا رَيْتَ أَنْ تَسْكُنَ نَفْرَتُها، وَيَسْلَسَ قِيادُها، ثُمَّ أَخَذْتُمْ تُورُونَ وَقْدَتَها، وَتُهَيَّجُونَ جَمْرَتَهَا، وَتَسْتَجِيبُونَ لِهُتافِ الشَّيْطَانِ الْغَوِيِّ، وَإِطْفَاءِ أَنْوارِ الدِّينِ الْجَلِيِّ، وَإِسْمَادِ سُنَنِ النَّبِيِّ الصَّفِيِّ، تُسِرُّونَ حَسْواً فِي ارْتِغَاء، وَتَمْشُونَ لِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ فِي الْخَمَرِ وَالضَّرَاءِ، وَنَصْبِرُ مِنْكُمْ عَلَى مِثْلِ حَرِّ الْمُدَى، وَوَخْزِ السَّنَانِ فِي الْحَشَا.
وَأَنْتُمْ الْآنَ تَزْعُمُونَ أَلَا إِرْتَ لَنَا، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ تَبْغُونَ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ.
أَفَلَا تَعْلَمُونَ؟ بَلَىٰ قَدْ تَجَلَّى لَكُمْ كَالشَّمْسِ الضَّاحِيَةِ أَنِّي ابْنَتُهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ، أَأَغْلَبُ عَلَى إِرْثِي؟
وجهت فاطمة الزهراء (س) عتابها إلى الأنصار، وأنهم استجابوا لنداء الشيطان في إقصائهم لعترة رسول الله (ص) عن الخلافة، فقد أطفأوا بذلك نور الله تعالى، واستجابوا لرغباتهم الخاصة التي هي بعيدة كل البعد عن الحق، وذكرت السيدة الزكية بقية النبوة أن أهل البيت (ع) قد صبروا على ما ألم بهم من الخطوب والكوارث… ثم عرضت إلى حرمانها من إرث أبيها، فقد استبد القوم بتركة النبي وضموها إلى بيت المال بلا وجه.
ثم وجهت (س) خطابها إلى أبي بكر قائلة:
يَابْنَ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي كِتَابِ اللَّهِ أَنْ تَرِثَ أَبَاكَ وَلَا أَرِثَ أَبِي؟
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً فَرِيَّاً، أَفَعَلى عَمْدٍ تَرَكْتُمْ كِتَابَ اللَّهِ وَنَبَذْتُمُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ إِذْ يَقُولُ: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ)[1]، وَقَالَ فِيمَا اقْتَصَّ مِنْ خَبَرِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا إِذْ قَالَ: ﴿فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ)[2].
وَقَالَ: ﴿وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)[3].
وَقَالَ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُم لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)[4].
وَقَالَ: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)[5].
وَزَعَمْتُمْ أَنْ لَا حِظْوَةَ لِي، وَلَا إِرْتَ مِنْ أَبِي، وَلَا رَحِمَ بَيْنَنَا، أَفَخَصَّكُمُ اللَّهُ بِآيَةٍ أَخْرَجَ مِنْهَا أَبِي؟
أَمْ هَلْ تَقُولُونَ: إِنَّ أَهْلَ مِلَّتَيْنِ لَا يَتَوَارَثَانِ؟ أَوَلَسْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْ أَهْلِ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ؟
أَمْ أَنتُمْ أَعْلَمُ بِخُصُوصِ الْقُرْآنِ وَعُمُومِهِ مِنْ أَبِي وَابْنِ عَمِّي؟
فَدُونَكَهَا مَخْطُومَةٌ مَرْحُولَةً تَلْقَاكَ يَوْمَ حَشْرِكَ. فَنِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ، وَالزَّعِيمُ مُحَمَّدٌ، وَالْمَوْعِدُ الْقِيَامَةُ، وَعِنْدَ السَّاعَةِ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ، وَلَا يَنْفَعُكُمْ إِذْ تَنْدَمُونَ، وَ لِكُلِّ نَيَا مُسْتَقَرٌّ، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ).
في خطبة السيدة فاطمة الزهراء اقامت الحجج البالغة على ميراثها من أبيها، والتي منها:
١- الآيات البينات الدالة بعمومها على أن كل ميت يرثه أبناؤه وأرحامه، وهي صريحة وواضحة في دلالتها على إرثها من أبيها.
٢- إن من موانع الأرث أن يكون الميت من ملة ووارثه من ملة أخرى، كأن يكون الميت مسلماً وابنه غير مسلم، فإنّه لا يرث أباه. والحال أن سيدة النساء وأباها من ملة الإسلام، فلماذا تحجب من الميراث.
وبعد هذا التفتت إلى أبي بكر فقالت له: خذ فدكاً وتصرف فيها، فهناك موعد عند الله وهو الحاكم بين عباده.
ثم إنها رمت بطرفها نحو الأنصار فقالت لهم:
يَا مَعَاشِرَ النَّقِيبَةِ، وَأَعْضَادَ الْمِلَّةِ، وَحَضَنَةَ الْإِسْلَامِ، مَا هَذِهِ الْغَمِيزَةُ فِي حَقِّي، وَالسِّنَةُ عَنْ ظُلَامَتِي؟ أَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) أَبِي يَقُولُ: (الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ)، سُرْعَانَ مَا أَحْدَثْتُمْ، وَعَجْلَانَ ذَا إِهَالَةٌ (٤) وَلَكُمْ طَاقَةٌ بِمَا أُحَاوِلُ، وَقُوَّةٌ عَلَى مَا أَطْلُبُ وَأَزَاوِلُ؟
أَتَقُولُونَ: مَاتَ مُحَمَّدٌ؟ فَخَطْبٌ جَلِيلٌ اسْتَوْسَعَ وَهْتُهُ، وَاسْتَنْهَرَ فَتْقُهُ، وَانْفَتَقَ رَتْقُهُ، وَأَظْلِمَتِ الْأَرْضُ لِغَيْبَتِهِ، وَكُسِفَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، وَانْتَثَرَتِ النُّجُومُ لِمُصِيبَتِهِ، وَأَكْدَتِ الْآمالُ، وَخَشَعَتِ الْجِبَالُ، وَأَضِيعَ الْحَرِيمُ، وَأُزِيلَتِ الْحُرْمَةُ عِنْدَ مَمَاتِهِ.
فَتِلْكَ وَاللهِ النَّازِلَةُ الْكُبْرَى، وَالْمُصِيبَةُ الْعُظمى، لَا مِثْلُهَا نَازِلَةٌ، وَلَا بَائِقَةٌ عَاجِلَةٌ، أَعْلَنَ بِهَا كِتَابُ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي أَفْنِيَتِكُمْ، وَفِي مُمْسَاكُمْ وَمُصْبَحِكُم، يَهْتِفُ فِي أَفْنِيَتِكُمْ هِتافاً وَصُراحاً، وَتِلَاوَةً وَإِلْحَانَا، وَلَقَبْلَهُ مَا حَلَّ بِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، حُكْمٌ فَصْلٌ، وَقَضَاءٌ حَتْمٌ.
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)[6].
استنهضت فاطمة الزهراء (س) شباب المسلمين لارجاع حقها الغصيب، وظلامتها التي عانتها من القوم، وذكرتهم أن رعايتها رعاية لأبيها رسول الله (ص) الذي قال: «الْمَرْءُ يُحْفَظُ فِي وُلْدِهِ»، ولكنهم – مع الأسف ـ لم يحفظوا مكانتها، وجهلوا حقها، وعمدوا إلى ظلمها.
وذكرت (س) أن ما نزل بهم مثل ما حلّ بالأمم بعد فقد أنبيائها من الانحراف عن سنن الأنبياء، فقد منيت هذه الأمة بزلزال مدمر بعد وفاة النبي (ص)، إنه الانقلاب على الأعقاب الذي هو من أعظم صنوف البلاء.
ثم إنها (س) وجهت خطابها إلى بني قيلة تستنهض هممهم للأخذ بحقها قائلة:
أَيْهَا بَنِي قَيْلَةَ، أَأَعْضَمُ تُرَاثَ أَبِي وَأَنْتُمْ بِمَرْأَى مِنِّي وَمَسْمَعِ وَمُنْتَدَى وَمَجْمَعِ، تَلْبَسُكُمُ الدَّعْوَةُ، وَتَشْمَلُكُمُ الْخُبْرَةُ، وَأَنْتُمْ ذَوُو الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ، وَالْأَدَاةِ وَالْقُوَّةِ، وَعِنْدَكُمُ السَّلَاحُ وَالْجُنَّةُ، تُوَافِيكُمُ الدَّعْوَةُ فَلَا تُجِيبُونَ، وَتَأْتِيكُمُ الصَّرْخَةُ فَلَا تُغِيثُونَ، وَأَنْتُمْ مَوْصُوفُونَ بِالْكِفَاحِ، مَعْرُوفُونَ بِالْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، وَالتَّخْبَةُ الَّتِي انْتُخِبَتْ، وَالْخِيَرَةُ الَّتِي اخْتِيرَتْ لَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ.
قَاتَلْتُمُ الْعَرَبَ، وَتَحَمَّلْتُمُ الْكَدَّ وَالتَّعَبَ، وَنَا طَحْتُمُ الْأُمَمَ، وَكَافَحْتُمُ الْبُهَمَ، فَلَا تَبْرَحُ أَوْ تَبْرَحُونَ، نَأْمُرُكُمْ فَتَأْتَمِرُونَ، حَتَّىٰ إِذَا دَارَتْ بِنَا رَحَى الْإِسْلَامِ، وَدَرَّ حَلَبُ الْأَيَّامِ، وَخَضَعَتْ نُعْرَةُ الشَّرْكِ، وَسَكَنَتْ فَوْرَةُ الْإِفْكِ، وَخَمَدَتْ نِيرَانُ الْكُفْرِ، وَهَدَأَتْ دَعْوَةُ الْهَرَجِ، وَاسْتَوْسَقَ نِظَامُ الدِّينِ، فَأَنَّى حِرْتُمْ بَعْدَ الْبَيَانِ، وَأَسْرَرْتُمْ بَعْدَ الأَعْلَانِ، وَنَكَرْتُمْ بَعْدَ الْأَقْدَامِ، وَأَشْرَكْتُمْ بِعْدَ الْإِيْمَانِ؟
(أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ)[7].
ودعت فاطمة الزهراء (س) الأنصار إلى الثورة والإطاحة بحكومة أبي بكر، فقد ذكرتهم بسابق جهادهم في نشر الإسلام، وإعلاء كلمة الحق، وما عانوه من مشاق وتعب في ميادين الجهاد حتى استوسق نظام الدين، وقام الإسلام على سوقه عبل الذراع. وقد نعت عليهم جمودهم، وعدم قيامهم بنصرة الإمام الله، الذي أقامه رسول الله (ص) علماً لأمته.
واستمرت (س) في خطابها للأنصار قائلة لهم:
أَلَا وَقَدْ أَرى أَنْ قَدْ أَخْلَدْتُمْ إِلَى الْخَفْضِ، وَأَبْعَدْتُمْ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْبَسْطِ وَالْقَبْضِ، وَخَلَوْتُمْ بِالدَّعَةِ، وَنَجَوْتُمْ مِنَ النِّيْقِ بِالسَّعَةِ، فَمَجَجْتُمْ ما وَعِيتُمْ، وَدَسَعْتُمُ الَّذِي تَسَوَّغْتُمْ ، فَإِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ.
أَلَا وَقَدْ قُلْتُ مَا قُلْتُ هَذَا عَلَى مَعْرِفَةٍ مِنِّي بِالْخَذْلَةِ الَّتِي خَامَرَتْكُمْ، وَالْغَدْرَةِ الَّتِي اسْتَشْعَرَتْهَا قُلُوبُكُمْ، وَلَكِنَّهَا فَيْضَةُ النَّفْسِ، وَنَفْتَةُ الْغَيْظِ، وَخَوَرُ الْقَنَا، وَبَيَّةُ الصُّدُورِ، وَتَقْدِمَةُ الْحُجَّةِ، فَدُونَكُمُوهَا فَاحْتَقِبُوهَا دَبِرَةَ الظَّهْرِ، نَقِبَةَ الْخُفَّ، بَاقِيَةَ الْعَارِ، مَوْسُومَةٌ بِغَضَبِ اللَّهِ الْجَبَارِ، وَشَنَارِ الْأَبَدِ، مَوْصُولَةً بِنَارِ اللَّهِ الْمُوقَدَةِ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ، فَبِعَيْنِ اللَّهِ مَا تَفْعَلُونَ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ، وَأَنَا ابْنَةُ نَذِيرٍ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، (فَاعْمَلُوا إِنَّا عَامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ)[8].
وانتهى هذا الخطاب الخالد الذي دعت فيه إلى الثورة والإطاحة بحكومة أبي بكر، وإرجاع الحق إلى أهله ومعدنه، وقد وجلت منه القلوب، وخشعت الأبصار، وبخعت النفوس، وأوشكت أن ترد شوارد الأهواء، ويرجع الحق إلى نصابه إلا أن أبا بكر قد استطاع بلباقته الهائلة، وقابلياته الدبلوماسية، أن يسيطر على الموقف، وينقذ حكومته من الانقلاب، فقد قابل بضعة الرسول (س) بكل احتفاء وتكريم، وأظهر لها المزيد من الاحترام والتقدير، وأنه يكن لها من الإخلاص والولاء أكثر ما يكنه لابنته عائشة، كما أظهر لها الحزن العميق على وفاة أبيها رسول الله، وود أنه قد مات قبل موته، إلى غير ذلك من الكلمات المعسولة.
كما عرض لها أنه لم يتقلد منصب الحكم عن رأيه الخاص وإنما انتخبه المسلمون، وأن الاجراءات الصارمة لم تكن عن رأيه الخاص، وإنما كانت عن رأي المسلمين، وقد جلب له بذلك القلوب، وأخمد نار الثورة، وقضى على جميع معالمها.
الاسنتناج
أن خطبة السيدة فاطمة الزهراء (س) القتها في الجامع النبوي بعد الإجراءات القاسية التي اتخذها أبو بكر ضدها، وخطبت خطاباً خالداً، وضعت فيه النقاط على الحروف، وذلك بحضور أبي بكر وجمع من الصحابة، وذكرت فيها حرمانها من إرث أبيها، ثم أنها استنهضت المسلمين لارجاع حقها الغصيب، وظلامتها التي عانتها من القوم.
الهوامش
[1] النمل، ٢٧.
[2] مريم، ٥ و ٦.
[3] الأنفال، ٧٥، والأحزاب، 6.
[4] النساء، 11.
[5] البقرة، ۱۸۰.
[6] آل عمران، ١٤٤.
[7] التوبة، ۱۳.
[8] الاحتجاج، ج۱، ص۱۳۲.
مصادر البحث
الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه.