هناك نظرتان:
الأُولى:
تقول بعدم الحاجة إلى الأسرة، فللناس أن يعيشوا حياة إباحية ويكونوا سعداء بذلك، ومعنى ذلك ترجيح قول مَن يقول: بأنّ الحياة الأُسرية هي حياة وضعية اختارها الإنسان، وليست حياة طبيعية له، فعلى هذا ستكون العلاقة الجنسية عامّة مشتركة بين الأفراد، ويعيش الرجل منفصلاً عن المرأة، وهذا يؤدّي إلى وجود دور خاصّة للأطفال، وهي دور الحضانة، ويتولّى أفراد معيّنون تربيتهم وحضانتهم.
أقول:
لم يثبت إلى الآن وجود عصر من عصور التاريخ لم يعش فيه الإنسان الحياة العائلية، فحتّى القبائل المتوحّشة الموجودة في العصر الحاضر ـ والتي تكون نموذجاً لحياة الإنسان القديم ـ لم تكن العلاقة الجنسية فيها بين الذكور والإناث عامّة، بحيث تعيش المرأة منفصلة عن الرجل.
وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على أنّ المشاعر العائلية عند الإنسان الحاصلة من الزواج وعدم الإباحية هو أمر طبيعي وغريزي، وليس حاصلاً من التمدّن والحضارات الحديثة.
الثانية:
نظرة الإسلام، وهي ترى أنّ سعادة البشرية تكون في الحياة الزوجية العائلية الطبيعية، وأنّ المجتمع السعيد ـ بلحاظ الحياة بغض النظر عن مسألة الآخرة ـ هو المجتمع المبني من وحدات صغيرة عائلية متماسكة، وذلك:
1ـ لأنّ استقرار الحياة ونظامها يتوقّف في نظر الإسلام على الحياة الزوجية العائلية، فالنظام العائلي هو النظام الأنجح في تأمين ما يحتاج إليه الإنسان، من استقرارها ونظمها بأحسن وجه.
2ـ إنّ الحاجات البشرية ليست كلّها عبارة عن حاجات مادّية، فحتّى لو فرضنا أنّ مجتمعاً إباحياً استطاع أن يوفّر الحاجات المادّية لكلّ أحد بشكل مستقر، فإنّ هذا لا يكفي لإسعاد البشر، إذ يوجد جانب روحي في البشر يبقى ضمآناً، وهو جانب السكون النفسي والأُلفة والمحبّة، فإنّ الزوجة إذا لم تشعر بمن يحنّ عليها فلا تشعر بالسعادة، وكذلك الزوج فضلاً عن الأطفال.
قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}(1).
ولهذا فقد أوجب الشرع النفقة والمسكن على الزوج، هذا الوجوب لا يستفاد منه مزية للرجل على المرأة التي تحتاج إلى ذلك غالباً، بل حتّى لو كانت المرأة غنية، فمع ذلك يجب على الزوج نفقة الزوجة وتهيئة السكن وما ذاك، إلّا لأنّ يشعر الرجل بالمسؤولية وبالارتباط بالحياة الزوجية، وتكوين الأُسرة التي تُفيد الطرفين؛ لما فيها من الحماية والسكن والاستقرار، فلو فرضنا أنّ المرأة لا تحتاج إلى نفقة وإلى مسكن، إلّا أنّها بلا شكّ بحاجة إلى حماية الزوج لها، وبحاجة إلى السكن الذي هو الاستقرار الروحي والنفسي، ولا نجد هذه الفوائد إلّا بتكوين الأُسرة المتكوّنة من الزواج.
بالإضافة إلى أنّ الأولاد إذا عاشوا في كنف والديهم فسيكونون قد حصلوا على الضمان الكافي لمعيشتهم، عيشة يكون الأبوان محامين عنهم عاملين على سعادتهم، بخلاف دور الرعاية والحضانة التي تتعرّض لنقص في الحماية على الأطفال.
إذن استقرار الحياة ونظامها وحاجات البشر تفرض نظام الحياة الزوجية العائلية.
ثمّ إنّ الإسلام جاء لتنظيم هذه الحياة العائلية على أُسس وهي:
1ـ الإيمان بأنّ الحياة الموحّدة بحاجة إلى قيادة موحّدة.
فلابدّ من قيادة في الحياة الزوجية، ولهذا فرض الإسلام قيادة الزوج على الزوجة، ولم يفرض قيادة الأب على البنت، وقيادة الأخ على الأُخت، وهذا دليل على أنّ الإسلام يجعل الأُنثى كأُنثى في عرض الرجل في الحقوق البشرية، ولهذا جعل القيمومة على الزوجية فقط لصالحها وتدبير أُمورها لخصوصية في الزواج، تعفي الزوجة من مسؤولية النفقة وترتيب بيت الزوجية.
ثمّ إنّ إعطاء القيادة بيد الزوج قد تمثّل في أُمور عديدة كلّها بيد الزوج على شكل حتم، مثل النفقة والطلاق والجماع والمهر والإذن أو المنع من الخروج من البيت والرجوع في العدّة وأمثالها.
2ـ الشهوة الجنسية:
إنّ الإسلام باعتباره ديناً واقعياً ينظر إلى حاجات الروح والجسم على حدّ سواء، ولا يقبل بإدخال نقص على جانب على حساب جانب آخر، ولم يكن من دأبه أن يقضي بعض الحاجات دون بعض.
بل هو دين الفطرة يُلبّي جميع الحاجات بشكل مهذّب من دون إسراف، وعلى هذا الأساس كان على الإسلام أن يُلبّي هذه الحاجة الطبيعية، وتلبيتها عن طريق الإباحية لم يكن صحيحاً على ما مضى في الأساس الأوّل، فلبّى الحاجة عن طريق سنّ قانون الزواج.
ولأجل أن يؤكّد الإسلام على الأسلوب الذي يُلبّي الجانب الروحي والنظام، ولكي يمنع من مفاسد الشهوة الجنسية لو لم يشبع عن طريق محلّل، ورد التأكيد الشديد على الزواج المبكّر فضلاً عن أصل الزواج، وبما أنّ شهوة الرجل تفترق عن شهوة المرأة، إذ شهوة الرجل بصورة الفوران وشهوة المرأة تدريجية، لهذا جعل الإسلام الجماع بيد الرجل، وقد وردت روايات كثيرة تحث المرأة على التجاوب مع الرجل، إذ يُستحبّ أن تُلصق المرأة جسمها بجسم الرجل وتُطيعه، ولو كانت على ظهر قتب.
ملحوظة:
بالرغم من أنّ الشروط في ضمن العقود إذا كان متعلّقها مباحاً لا تكون مخالفة للكتاب والسنّة، فهي ليست من قبيل الالتزام بترك الواجب أو فعل الحرام، ولكن في خصوص الجماع فإنّ الروايات الصريحة في قولها: إذا اشترطت المرأة أن يكون بيدها الجماع والطلاق فإنّه خلاف السنّة، فكأنّ الرواية ترى أنّ إعطاء حقّ الجماع بيد الزوج هو لاشباع القوّامية، ولوجود مقتضى شديد للزوج، وكذا الأمر في الطلاق، مع أنّ الجماع والطلاق كلاهما مباحان.
ففي معتبرة محمّد بن قيس عن أبي جعفر× أنّه قضى في رجل تزوّج إمرأة وأصدقته هي واشترطت عليه أنّ بيدها الجماع والطلاق؟ قال: >خالفت السنّة، ووليت حقّاً ليست بأهله، فقضى أنّ عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق<(2).
ورغم أنّ شهوة الرجل بحالة الفوران، فهو يُشبع المرأة جنسياً، إلّا أنّ الإسلام أخذ احتياطاته في توصية الرجل، فأوجب المبيت في كلّ أربع ليالي ليلة واحدة، وأوجب الجماع في حالات خاصّة كلّ أربعة أشهر مرّة، إلّا أن تُسقط المرأة حقّها، وجعل المداعبة مستحبّة، وأن لا يكون عمله كعمل الحمار، ويوجد في الروايات حثّ على مجامعة المرأة حينما ترغب، حتّى عبّرت بعض الروايات بأنّ إصابة الأهل صدقة.
3ـ السكنية:
إنّ السكنية هي أساس الأُلفة والمحبّة والمودّة، فحيث أنّ الحياة الزوجية تختلف عن حياة التاجر مع عملائه أو ما شابه، فإنّ الارتباطات بين صاحب المصنع وعملائه يمكن إفتراضها ارتباطات محدّدة قاطعة، ولكن الارتباطات بين الزوج والزوجة لم يكن الهدف منها إشباع الحاجات المادّية كما في صاحب المصنع مع عملائه، فلا تثمر إذا كانت ارتباطات محدّدة قاطعة، بل الهدف من ارتباطات الزوج والزوجة هي مادّية وروحية، والارتباطات الروحية لا يمكن تلبيتها إلّا إذا قامت حياة على الأُلفة والمحبّة والمودّة، والإسلام لكي يحفظ المودّة والأُلفة خطا ثلاث خطوات:
1ـ قام الإسلام بتحسيس المرأة تجاه حقوق الزوج تحت عنوان احترامه وتعظيمه وتبجيله، فقال: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}، ليقرّر أنّ الرجل هو أقوى الموجودين.
2ـ قام الإسلام بتحسيس الرجل تجاه المرأة عن طريق ترقيق عواطف الرجل أمام المرأة، فقال مثلاً: (اتّقوا الله في الضعيفين، يعني بذلك اليتيم والنساء<(3).
و(إنّما المرأة لعبة مَن اتّخذها فلا يضيّعها)(4).
و(أوصاني جبرائيل بالنساء حتّى ظننت أنّه لا ينبغي طلاقها إلّا من فاحشة مبيّنة)(5).
و(المرأة ريحانة وليست بقهرمانة)(6).
كلّ هذا التحسيس الرجل أنّ المرأة أضعف الموجودين.
3ـ إنّ الحقوق التي جعلها الإسلام للزوج على الزوجة في الحياة الزوجية العامّة فهي واجبة، كالاستمتاع بالزوجة متى أراد، ولكن توجد حقوق للزوج على زوجته في الأُمور التي هي أمس بالحياة الخاصّة بالزوجة قد جعلها الإسلام مستحبّة على الزوجة، كالتصرّف في أموالها وأعمالها المستحبّة، كالقيام بالطبخ وكلّ عمل يوجب المودّة، ولم يجعلها واجبة لحفظ حرّية المرأة، باعتبارها إنسانة تحتاج إلى حرّية في أعمالها، هكذا رغّب الإسلام بالحياة الزوجية العائلية، ورسم لها أُسسها، وإليك شطراً ممّا يُثبت ذلك:
1ـ روى الحسن بن الفضل الطبرسي في مكارم الأخلاق عن النبي’ أنّه قال: >لا يحلّ لإمرأة تنام حتّى تعرض نفسها على زوجها، تخلع ثيابها وتدخل معه في لحافه، فتلزق جلدها بجلده، فإذا فعلت ذلك فقد عرضت<(7).
2ـ ما رواه أبو بصير بسند معتبر عن أبي عبد الله× قال: >أتت امرأة إلى رسول الله(ص) فقالت: ما حقّ الزوج على المرأة؟ قال: >أن تجيبه إلى حاجته، وإن كانت على قتب، ولا تُعطي شيئاً إلّا بإذنه، فإن فعلت فعليها الوزر وله الأجر، ولا تبيت ليلة وهو عليها ساخط<(8).
3ـ صحيحة سليمان بن خالد عن الإمام الصادق× قال: إنّ قوماً أتوا رسول الله(ص) فقالوا: يا رسول الله، إنّا رأينا أُناساً يسجد بعضهم لبعض، فقال رسول الله(ص): لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها<(9).
4ـ صحيحة ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله× قال: >نهى رسول الله(ص) النساء أن يتبتلن ويعطلّن أنفسهن من الأزواج<(10).
5ـ وروى السكوني عن أبي عبد الله× أنّه قال: قال رسول الله(ص): >إنّما المرأة لعبة مَن اتّخذها فلا يضيّعها<(11).
6ـ معتبرة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي عبد الله×: ما حقّ المرأة على زوجها الذي إذا فعله كان محسناً؟ قال×: >يُشبعها ويكسوها وإن جهلت فيغفر لها<(12).
وأخيراً اتّضح أنّ الحقوق في الأُسرة سوف تكون متفاوتة، فالأُسرة متكوّنة مثلاً من الزوج والزوجة والأب والأُم والأولاد والإخوة والأخوات، لا تكون حقوقهم وواجباتهم واحدة ومتساوية، بل الزوج له حقوق وعليه واجبات، تخالف ما على المرأة وما لها.
وكذا غيرهما من أفراد الأُسرة.
كلّ ذلك لاختلاف الرجل عن المرأة في أُمور متعدّدة، أقرّها الجميع من الناحية الجسمية والنفسية والشعورية وغيرها.
والمناداة بالمساواة في الحقوق والواجبات في الأُسرة الواحدة منبعثاً من التأثّر بالمشاعر، ومردود بالحجج العلمية التي ذكرها علماء الاجتماع والنفس حول اختلاف وظيفة الرجل عن وظيفة المرأة، نتيجة الاختلاف الجسمي والنفسي والشعوري وأمثال ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــ
1ـ الروم: 21.
2ـ وسائل الشيعة: 15، باب29، من المهور، ح1.
3ـ وسائل الشيعة: 14، باب86، من مقدّمات النكاح، ح3.
4ـ وسائل الشيعة: 14، باب86، من مقدّمات النكاح، ح2.
5ـ وسائل الشيعة: 14، باب86، من مقدّمات النكاح، ح4.
6ـ وسائل الشيعة: 14، باب86، من مقدّمات النكاح، ح1.
7ـ الوسائل، باب91، من مقدّمات النكاح، ح5.
8ـ الوسائل، باب81، من مقدّمات النكاح، ح1.
9ـ الوسائل، باب84، من مقدّمات النكاح، ح1.
10ـ الوسائل، باب86، من مقدّمات النكاح، ح2.
11ـ الوسائل، باب86، من مقدّمات النكاح، ح3.
12ـ الوسائل، باب88، من مقدّمات النكاح، ح1.
الكاتب: الشيخ حسن الجواهري