السؤال:
يدعي الشيعة عصمة أئمتهم ـ كما هو معلوم ـ، وهذا أحرجهم كثيراً أمام الروايات العديدة التي فيها أن الأئمة كغيرهم من البشر يجوز عليهم صدور السهو والخطأ..، حتى أقر عالم الشيعة المجلسي بأن: «المسألة في غاية الإشكال؛ لدلالة كثير من الأخبار والآيات على صدور السهو عنهم»(1).
الجواب:
أولاً: إن الأدلَّة من القرآن كما في آية التطهير، ومن الأحاديث المتواترة عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» حول أن الأرض لا تخلو من حجة، منضماً إلى حديث: يكون بعدي اثنا عشر خليفة، منضماً إلى حديث الثقلين المتواتر.. الدال على أن الأئمة هم عدل الكتاب، وهم الحجة إلى يوم القيامة ـ أن ذلك كله ـ يدلُّ على عصمة الحجة حتى عن السهو، والنسيان، والخطاء، والمعصية، لأن التخلف في مورد واحد معناه: عدم وجود الحجة في ذلك المورد..
ثانياً: يقول السائل: يدعي الشيعة عصمة أئمتهم.. وهذا أحرجهم كثيراً أمام الروايات التى تجوز عليهم السهو والخطاء كسائر البشر.. مع أن هذا الإحراج الذي ادعى أنه أصاب الشيعة لم يوجد إلا عند شخص واحد منهم، وهو العلامة المجلسي «رحمه الله» حسب قول السائل..
وقد صرح المجلسي «رحمه الله» نفسه في نفس هذا المورد: بأن الشيعة قد أجمعوا إلا من شذ على عصمتهم المطلقة، ولم يتحيروا ولا شكوا في ذلك.
ثالثاً: صرح العلامة المجلسي «رحمه الله»: بأن الذي أحرجه هو الأخبار التى دلَّت على صدور السهو عنهم في غير الواجبات والمحرمات، كالمكروهات، والمباحات.. فما معنى تعميم كلام السائل إلى كل سهو وخطأ حتى في الواجبات والمحرمات.
رابعاً: إن كلام المجلسي «رحمه الله» ليس خاصاً بالأئمة، بل هو عام لهم وللأنبياء معاً..
خامساً: اعترف المجلسي «رحمه الله» بدلالة بعض الآيات والأخبار، ودلائل علم الكلام على عصمتهم «عليهم السلام» حتى عن السهو في المكروهات والمباحات.. وأن هناك أخباراً أخرى تدلُّ على جواز السهو عليهم في المكروهات والمباحات..
ومعنى ذلك: أنه لم يتعرض لحل الإشكال القائم بين هذه الطائفة من الأخبار والآيات، وبين تلك الطائفة من الأخبار والآيات..
ومن الواضح: ان هذه الإشكال يطال السنة والشيعة على حد سواء كما يلزم على كل شيعي، والمجلسي منهم أن يحل هذه الإشكال.. كذلك يجب على كل غير شيعي أن يحل هذا الإشكال.. إذ لا ريب في عدم جواز أن تكون الآيات متناقضة، وكذلك الأخبار عند السنة وعند الشيعة على حد سواء.
سادساً: قد يكفي في حلّ هذا الإشكال القول: بأن العصمة عن السهو في الواجبات والمحرمات إنما تتحقق لأجل أن المعصوم قد حصل على ملكة قوية يمتنع معها عروض النسيان والسهو له.. والملكة أمر بسيط غير قابل للتجزئة إذا وجدت، فإن الحافظة لا تفرق بين مواردها.
يضاف إلى ذلك: أن الخطأ والسهو في الأمور الدنيوية يضعف ثقة الناس بالنبي والإمام في ضبطه لسائر الأمور التي أمر بها، وبتبليغها..
سابعاً: إذا رجعنا للآيات التي قد يُتوهم أنها تشير إلى سهو الأنبياء، فسنجد أنها لا تدلُّ على سهوهم حتى في المباحات والمكروهات، وكنموذج على ذلك نشير إلى مثالين اثنين هما: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ:
الأول: قوله تعالى عن موسى «عليه السلام» حين قال للعبد الصالح: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً﴾(2) .
فقد نسب موسى «عليه السلام» إلى نفسه النسيان فيما يبدو للوهلة الأولى.. ولكننا نقول:
إن التأمل في الآيات يعطي:
1- إن موسى «عليه السلام» لا يريد نفي العصمة عن نفسه من هذه الجهة.. لأنه لم ينكث العهد، إذ لم يكن قد عاهد الخضر «عليه السلام» على السكوت على ما يراه مخالفاً لأحكام الشريعة، وحقائق الدين، بل كان من واجبه الإلهي أن يعترض وأن يسأل، وأن يظهر حساسية بالغة لصالح الإلتزام بالحكم الشرعي، ولو لم يعترض «عليه السلام» على الخضر لم يكن أهلا لمقام النبوة والرسالة.
2- إن قول موسى «عليه السلام»: ﴿لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ﴾، لايعني: أن المبرر لاعتراضه على الخضر هو النسيان، وأنه يعتذر له منه، فإنه لم يقل له: لا تؤاخذني بنسياني، بل قال: ﴿بِمَا نَسِيتُ﴾(3)، أي: بتركي العمل في المورد الذي كان علي أن أهمل الوعد فيه، وأزيحه عن ذاكرتي، لكي أبادر لمواجهة ما أراه مخالفاً للشرع، ويجب عليَّ الردع عنه، فالمراد بالآية الإعتذار بالإنشغال بالأهم عن غيره..
3- وحين أكّد له الخضر «عليه السلام» بصورة ضمنية على أن عمله ليس فيه مخالفة للحكم الشرعي، وأنه سيعرف باطن الأمر في الوقت المناسب، قبل منه ذلك، فلما تكرر ما ظاهره المخالفة كان لا بد من تكرار الإعتراض، عملا بالتكليف الإلهي، ولم يستعجل الحكم، ولا نكث العهد، ولا كان ذا فضول.. ولا هو يعاني من عدم الإنضباط أمام الكلمة المسؤولة كما يقوله البعض..
4- أما المرة الثالثة، فلم تكن امتداداً لما سبقها، بل كانت نتيجة اتفاق جديد بين العبد الصالح وبين موسى «عليه السلام»، حيث توافقا على الإلتزام بمضمون قوله تعالى: ﴿قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً﴾(4)، حيث قد أصبح بإمكان موسى «عليه السلام» أن يعترض على العبد الصالح إن شاء، فتكون المفارقة بينهما، وبإمكانه أن يسكت ويستمر معه.
فاختار موسى الإنفصال، لا عن نسيان للوعد، بل عن معرفة به، والتفات إليه..
فالمراد بالنسيان في الآية: الترك والإهمال، ولو ظهر بصورة العمل الذي يصفه الناس ـ عادة ـ بأنه نسيان، ولم يكن في واقعه وحقيقته كذلك، وهذا العمل هو وضع هذا الوعد جانبا، والمبادرة لإنجاز التكليف الشرعي الحاضر، الذي هو الأهم.
فالتعبير بالنسيان لا يراد به الإخبار عن حدوثه، بل الإخبار عن العمل الذي يراه الناس كذلك، وإن لم يكن في واقعه كذلك.
5- ولعل نجاح موسى «عليه السلام» الباهر في هذا الإمتحان هو الذي أظهر أهليته لمقام النبوة والرسالة، وعرّفنا على سر اصطفاء الله له من بين سائر قومه ليكون نبياً من أولي العزم.
6- كما أنه لا ربط لهذه الآية بموضوع علم الأنبياء والأئمة، وإنما هي ترتبط بموضوع تنجز التكليف في ما يرتبط بالمعذرية أمام الله سبحانه، لكي يكون العمل عن حجة ظاهرة لكي لا يصبح ذريعة للجبارين والظالمين.
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً:
المثال الثاني: قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(5).
فإن هذه الآية صريحة في نسبة النسيان لنبي الله آدم «عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام»..
غير أننا نقول:
روي عن (أحدهما) الإمام الصادق أو الإمام الباقر «عليهما السلام» قوله عن آدم «عليه السلام»: «إنه لم ينس، وكيف ينسى وهو يذكره، ويقول له إبليس: ﴿مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ﴾(6)»(7)
وذلك يفيد: أن المراد بالنسيان في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾(8) ـ إن كانت الآية تتحدَّث عما جرى بين آدم وإبليس ـ هو أنه قد عمل عمل الناسي، بأن ترك الأمر وانصرف عنه، كما يترك الناسي الأمر الذي يطلب منه.
والرواية المتقدمة: المصرِّحة بأن آدم «عليه السلام» لم ينس نهي الله عن الشجرة، يمكن أن تكون ناظرة إلى ما قلناه.. ولكن روي أيضاً عن الإمام الصادق «عليه السلام» ما يدلُّ على أن نسيان العهد في هذه الآية لا يرتبط بالنهي عن الشجرة، بل هو يرتبط فيما أخذ عليه في الميثاق.. والقول فيها لا يختلف عن القول في سابقتها.. ولهذا البحث مجال آخر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- بحار الأنوار، (25/ 351).
2- الآية 73 من سورة الكهف.
3- الآية 73 من سورة الكهف.
4- الآية 76 من سورة الكهف.
5- الآية 115 من سورة طه.
6- الآية 20 من سورة الأعراف.
7- تفسير العياشي ج2 ص9 و 10 وبحار الأنوار ج11 ص187 عنه، وتفسير البرهان ج2 ص6 وتفسير نور الثقلين ج2 ص14 وج3 ص402 والتفسير الأصفى ج2 ص772 والتفسير الصافي ج3 ص323 وتفسير الميزان ج1 ص145 وج14 ص227.
8- الآية 115 من سورة طه.
الكاتب: السيد جعفر مرتضى العاملي