تتميّز عبادات الإسلام بأنها توقيفية في نوعها وكيفيتها وتفاصيلها، وليس للإنسان حق في أن ينقص منها أو يزيد فيها شيئاً بحسب رأيه، وعلى هذا اجماع المسلمين قاطبة.
من هنا نجد ضرورة البحث في ما يقوم به بعض المسلمين في شهر رمضان من أداء صلاة باسم صلاة التراويح، هل شرّعها الشارع الحكيم وبيّن حكمها وتفاصيلها؟ أم لم تشرع في الشريعة الإسلامية فتكون حينئذ بدعة والبدعة محرّمة، حيث لا أساس لها في الكتاب ولا السنّة النبوية؟!
الكتاب والسنّة ينفيان مشروعية صلاة التراويح
وعندما نتلوا الكتاب العزيز لا نجد في آياته أثراً لصلاة التراويح، ولو كان هناك أثر قرآني فيها لتمسك به فقهاء المذاهب الأربعة، ولم نجد أحداً منهم استدل عليها بشيء من القرآن الكريم.
وكذلك عندما نأتي لسيرة النبي (ع) لا نجد فيها أثراً لصلاة التراويح، بل نجد فيها تأكيداً على قيام الليل في شهر رمضان، ولكن بنحو الفرادى لا الجماعة.
والأخبار تؤكد أن صلاة التراويح لم يأت بها رسول الله (ص)، ولا كانت على عهده، بل لم تكن على عهد أبي بكر، ولا شرّع الله الاجتماع لأداء نافلة من السنن المستحبة، غير صلاة الاستسقاء.
وإنّما شرّعه في الصلوات الواجبة، كالفرائض الخمس اليومية، وصلاة الطواف والآيات والجنائز…
وكان رسول الله (ص) يقيم ليالي رمضان ويؤدي سننها في غير جماعة، وكان يحض على قيامها، فكان الناس يقيمونها على نحو ما رأوه (ص) يقيمها.
وهكذا كان الأمر على عهد أبي بكر حتى مضى لسبيله سنة ثلاث عشرة للهجرة، وقام بالأمر بعده عمر بن الخطاب، فصام شهر رمضان من تلك السنة لا يغيّر من قيام الشهر شيئاً.
متى اُستحدثت صلاة التراويح
فلمّا كان شهر رمضان سنة أربع عشرة أتى المسجد ـ أي عمر بن الخطاب ومعه بعض أصحابه ـ فرأى الناس يقيمون النوافل، وهم ما بين قائم وقاعد وراكع وساجد وقارئ ومسبح، ومحرم بالتكبير، ومحلّ بالتسليم، في مظهر لم يرقه، عزم على اصلاحه بحسب رأيه فسنّ لهم التراويح أوائل الليل من الشهر، وجمع الناس عليها حكماً مبرماً، وكتب بذلك الى البلدان ونصب للناس في المدينة إمامين يصليان بهم التراويح، إماماً للرجال وإماماً للنساء. وفي ذلك رويت روايات:
وإليك ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما[1] من أن رسول الله (ص) قال: «من قام رمضان ـ أي بأداء سننه ـ إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه»، وأنّه (ص) توفي والأمر كذلك ـ أي وأمر القيام في شهر رمضان لم يتغير عمّا كان عليه قبل وفاته (ص) ـ، ثم كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر وصدراً من خلافة عمر.
وأخرج البخاري في كتاب التراويح أيضاً من الصحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ، قال: خرجت مع عمر في ليلة رمضان الى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرقون، الى أن قال: فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على اُبيّ بن كعب (قال): ثمّ خرجت معه ليلة اُخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم. قال عمر: نعم البدعة هذه…
قال العلاّمة القسطلاني عند بلوغه الى قول عمر في هذا الحديث: نعمت البدعة هذه، ما هذا لفظه:
سمّـاها بدعة، لأنه (ص) لم يَسُنّ لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق، ولا أول الليل، ولا هذا العدد[2].
وقال محمد بن سعد ـ حيث ترجم عمر في الجزء الثالث من الطبقات ـ: وهو أول من سنّ قيام شهر رمضان ـ بالتراويح ـ وجمع الناس على ذلك، وكتب به الى البلدان، وذلك في شهر رمضان سنة أربعة عشرة، وجعل للناس بالمدينة قارئين قارئاً يصلي التراويح بالرجال، وقارئاً يصلي بالنساء.
قال السيد عبد الحسين شرف الدين معلّقاً على مبرّري صلاة التراويح: «وكأنّ هؤلاء عفا الله عنهم وعنا، رأوه قد استدرك (بتراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين.
بل هم بالغفلة ـ عن حكمة الله في شرائعه ونظمه ـ أحرى، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها إنفراد مؤديها ـ جوف الليل في بيته ـ بربه عزّ وعلا يشكو إليه بثه وحزنه، ويناجيه بمهماته مهمة مهمة حتى يأتي على آخرها ملحّاً عليه، متوسلاً بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأً من الله تعالى إلاّ إليه، ولا منجى منه إلا به.
لهذا ترك الله السنن حرة من قيد الجماعة ليتزودوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقل منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فإنّها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيد البشر»[3].
رأي الإمامية في صلاة التراويح
إنّ الشيعة الإمامية ـ تبعاً للرسول وأهل بيته (ع) ـ يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة، ويرون أنّ إقامتها جماعة هي بدعة غير مشروعة، حدثت بعد رسول الله، بمقياس ما أنزل الله به من سلطان.
قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلّى انفراداً، والجماعة فيها بدعة.
واستدلّ على مذهب الإمامية بإجماعهم على أنّ ذلك بدعة.
ونقل السيد الحكيم في المستمسك حكاية المنتهى والذكرى وكنز العرفان الاجماع عليه[4].
صلاة التراويح في نصوص أهل البيت (ع)
أمّا أئمة أهل البيت فقد اتّفقت كلمتهم على أن الجماعة في النوافل مطلقاً بدعة، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها، وهناك صنفان من الروايات الواردة عنهم:
الصنف الأول
ما يدلّ على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل، فنذكر منه روايتين:
1ـ قال الامام محمد الباقر (ع): «ولا يُصلّى التطوع في جماعة، لأن ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»[5].
2ـ قال الإمام الرضا (ع) في كتابه الى المأمون: «ولا يجوز أن يصلّى التطوّع في جماعة، لأن ذلك بدعة»[6].
الصنف الثاني
ما يدل على عدم تشريعها في صلاة التراويح.
فقد تحدّث عنه الإمام الصادق (ع) وقال: لما قدم أمير المؤمنين (ع) الكوفة أمر الحسن بن علي (ع) أن ينادي في الناس لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسن بن علي (ع) بما أمره به أمير المؤمنين (ع)، فلمّا سمع الناس مقالة الحسن بن علي (ع) صاحوا: واعمراه، واعمراه، فلما رجع الحسن الى أمير المؤمنين (ع)، قال له: ما هذا الصوت؟ فقال: يا أمير المؤمنين! الناس يصيحون واعمراه واعمراه، فقال أمير المؤمنين: قل لهم: صلّوا[7].
وربما يتعجب القارئ من قول الامام: «قل لهم: صلوا» حيث تركهم يستمرّون في الإتيان بهذا الأمر المبتدع، ولكن إذا رجع الى سائر كلماته يتجلّى له سرّ تركهم على ما كانوا عليه.
قال الشيخ الطوسي: إن أمير المؤمنين لما أنكر، أنكر الاجتماع، ولم يُنكر نفس الصلاة، فلمّا رأى أن الأمر يفسد عليه ويفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم[8].
هذه الروايات تفصح لنا عن موقف أهل البيت (ع) من صلاة التراويح.
سنّة الرسول (ص) برواية أهل البيت (ع)
تختلف روايات أئمة أهل البيت (ع) عن بعض ما رواه أصحاب السنن، فرواياتهم (ع) صريحة في أن النبي (ص) كان ينهى عن إقامة نوافل رمضان جماعة، وأنّه (ص) لما خرج بعض الليالي الى المسجد ليقيمها منفرداً، ائتمّ به الناس فنهاهم عنه، ولمّا أحسّ اصرارهم على الائتمام ترك الصلاة في المسجد واكتفى بإقامتها في البيت.
سأل زرارة ومحمد بن مسلم والفضيل الباقر والصادق (ع) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة، فقالا: إنّ النبي (ص) كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف الى منزله، ثم يخرج من آخر الليل الى المسجد فيقوم فيصلّي، فخرج في أول ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه، فهرب منهم الى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلاً في شهر رمضان لصلاة الليل، ولا تصلّوا صلاة الضحى، فإن تلك معصية، ألا وإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة سبيلها الى النار. ثم نزل وهو يقول: «قليل في سنّة خير من كثير في بدعة»[9].
موقف الصحيحين من صلاة التراويح
لكن المروي عن طريق أهل السنة يخالف ذلك، وإليك نص البخاري ومسلم:
روى الأوّل في باب التهجد: «إن رسول الله صلى ذات ليلة في المسجد فصلى بصلاته ناس، ثم صلّى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني خشيت أن تُفرَض عليكم وذلك في رمضان»[10].
روى مسلم عن عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته أن رسول الله (ص) خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدثون بذلك فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله (ص) في الليلة الثانية فصلّوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلّوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله (ص) حتى خرج لصلاة الفجر فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثم تشهّد، فقال: «أما بعد فإنّه لم يخفَ عليَّ شأنكم الليلة، ولكنّي خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها»[11].
والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين علي (ع)، وما رواه الشيخان واضح، فعلى الأول، نهى النبي (ص) عن إقامتها جماعة، وأسماها بدعة، وعلى الثاني، ترك النبي (ص) الإقامة جماعة خشية أن تُفرض عليهم، مع كونها موافقة للدين والشريعة، إذاً فأي القولين أحقّ أن يتّبع؟
مناقشة الصحيحين
إن في حديث الشيخين مشاكل عديدة جديرة بالوقوف عليها:
المشكلة الاُولى
ما معنى قوله: «خشيت أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها»؟
فهل مفاده: أن ملاك التشريع هو إقبال الناس وإدبارهم، فإن كان هناك اهتمام ظاهر من قبل الناس، يفرض عليهم وإلاّ فلا يفرض ؟ مع أن الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في الحكم، سواء أكان هناك اهتمام ظاهر أم لا، فإن تشريعه سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم، وإنّـما يتّبع مجموعة من المصالح والمفاسد والتي هو أعلم بها سواء أكان هناك من الناس إقبال أم إدبار.
المشكلة الثانية
لو افترضنا أن الصحابة أظهروا اهتمامهم بصلاة التراويح باقامتها جماعة، أفيكون ذلك ملاكاً للفرض؟ فإن مسجد النبي (ص) يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلا ستة آلاف نفر أو أقل.
أفيمكن جعل اهتمامهم كاشفاً عن اهتمام جميع الناس في جميع العصور الى يوم القيامة؟
المشكلة الثالثة
أن الثابت من فعل النبي، أنّه صلاها ليلتين، أو أربع في آخر الليل، وهي لا تزيد عن ثماني ركعات. والتأسّي بالنبي يقتضي الاقتداء به فيما ثبت. لا فيما لم يثبت، بل ثبت عدمه بما صرّح به القسطلاني ووصف ما زاد عليه بالبدعة وذلك:
1ـ إنّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.
2ـ ولا كانت في زمن الصديق.
3ـ ولا أول الليل.
4ـ ولا كلّ ليلة.
5ـ ولا هذا العدد[12].
ثم التجأ في إثبات مشروعيّتها الى اجتهاد الخليفة.
وقال العيني: إن رسول الله لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر. ثم اعتمد ـ العيني ـ في شرعيّته الى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين[13].
المشكلة الرابعة
أنه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين، (أعني أهل البيت (ع)) تُصبح إقامة النوافل جماعة بدعة على الاطلاق، وإن أخذنا برواية الشيخين، فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، والزائد عنه يصحّ بدعة إضافية، والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعاً، والكيفية التي يقام بها، غير مشروعة.
ولم يبق ما يحتج به على المشروعية إلا جمع الخليفة الناس على إمام واحد وهو ما سنشرحه في البحث الآتي:
جمع الناس على إمام واحد في عصر عمر
روى البخاري عن عبد الرحمن بن عبد القاريّ أنّه، قال: خرجت مع عمر بن الخطاب ليلة في رمضان الى المسجد، فإذا الناس أوزاع متفرّقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط.
فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على اُبيّ بن كعب، ثم خرجت معه ليلة اُخرى والناس يُصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون. يريد آخر الليل، وكان الناس يقومون أوّله[14].
ولكن الظاهر من شرّاح الصحيح أن الإتيان جماعة لم يكن مشروعاً.
التشريع مختصّ بالله سبحانه
إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأن النبي لم يسنّ الاجتماع، أسندوا إقامتها جماعة الى عمل الخليفة، ومعنى ذلك أن له حق التسنين والتشريع، وهذا يضاد اجماع الاُمة، إذ لا حقَّ لأي إنسان أن يتدخل في أمر الشريعة بعد إكمالها، لقوله تعالى: (اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا)[15]، وكلامه يخالف الكتاب والسنّة، فإن التشريع حق لله سبحانه لم يفوضه لأحد، والنبي محمد المصطفى مبلغ عنه.
أضف الى ذلك لو أن الخليفة قد تلقى ضوءاً أخضر في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك، مع كون بعضهم أقرأ منه، كأُبي بن كعب، وأفرض، كزيد بن ثابت، وأعلم وأقضى منه، كعلي بن أبي طالب (ع) ؟ فلو كان للجميع ذلك لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين، وكان اُلعوبة بأيدي غير المعصومين.
وعلى كل تقدير، فإنّ الله سبحانه لم يفوّض أمر دينه في التشريع والتقنين الى طريق غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: «والحق أن قول الصحابي ليس بحجّة، فإن الله سبحانه وتعالى لم يبعث الى هذه إلا نبيّنا محمداً (ص) وليس لنا إلا رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلفون على السواء باتباع شرعه والكتاب والسُنّة، فمَن قال إنّه تقوم الحجة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر به الله»[16].
تخرصات للفرار من وصمة البدعة
ومن هذا كله يتضح أن صفة البدعة مستحكمة في صلاة التراويح، ومنطبقة عليها، خاصة مع قول عمر بن الخطاب: «إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل… نعمت البدعة هذه»[17].
ولو لم تكن هذه بدعة بالرغم من قوله: إني أرى، وقوله بكل بصراحة: نعمت البدعة، فما هي البدعة إذاً؟!
ومن هنا ظهرت محاولات لتخريج التراويح من دائرة البدعة وإدخالها في دائرة السنّة، واعطاء تفاسير لكلمة عمر «نعمت البدعة هذه» بحيث تخالف ظاهرها، وها نحن نذكر محاولتين وهي:
1ـ محاولة ابن أبي الحديد المعتزلي
حيث ذكر أن لفظ البدعة يطلق على مفهومين:
أحدهما: ما خالف الكتاب والسنّة، مثل صوم يوم النحر وأيام التشريق، فإنّه وإن كان صوماً إلاّ أنّه منهي عنه.
والثاني: ما لم يرد فيه نص، بل سكت عنه ففعله المسلمون بعد وفاة رسول الله (ص).
فإن اُريد بكون صلاة التراويح بدعة بالمفهوم الأول فلا نسلّم أنها بدعة بهذا التفسير. وقول عمر: إنّها لبدعة خبر مروي مشهور، ولكن أراد به البدعة بالتفسير الثاني[18].
وليته أورد كلامه هذا إيراداً، ولم يظهره اعتقاداً، فإنّ المعنى الأول ليس من البدعة، فإن مخالفة الكتاب والسُنّة لا تسمى بدعة وإنما تسمى اجتهاداً في مقابل النص، فيبقى معنى البدعة منحصراً بالمعنى الثاني الذي أورده، والذي قال: إن كلمة عمر تنطبق عليه، لأن البدعة ما أحدث على غير مثال سابق، والتراويح منها.
وليست البدعة ما أحدث على نحو مخالف لمثال سابق حتى يقال بأن البدعة هي مخالفة الكتاب والسنّة.
ثم قال في الصفحة التالية: «أليس يجوز للإنسان أن يخترع من النوافل صلوات مخصوصة بكيفيات مخصوصة واعداد ركعات مخصوصة ولا يكون ذلك مكروهاً ولا حراماً؟ فإنّه داخل تحت عموم ما ورد في فضل صلاة النافلة،… والتراويح جائزة ومسنونة لأنها داخلة تحت عموم ما ورد في فضل صلاة الجماعة».
ولا أدري على أي مذهب فقهي يتم كلامه هذا؟! فالمعروف لدى المسلمين أن العبادات الواجبة أو المستحبة توقيفية، وأن مفهوم العبادة متوقف على وجود أمر شرعي، فإذا ثبت الأمر الشرعي على نحو الوجوب أو الاستحباب كان المأمور به عبادة، وإلاّ فلا، والأمر الشرعي يتدخل في أصل العبادة، وفي شكلها وهيئتها.
بمعنى أنّها توقيفية في الأصل والشكل والهيئة، فكما لا يحق للإنسان تشريع أصل عبادة معينة كذلك لا يحق له تشريع هيئتها وشكلها، ولعل ابن أبي الحديد يرى أن الأمر بالنافلة وما ورد في فضل الجماعة يكفيان لإثبات شرعية صلاة ذات أشكال مخترعة من قبل العبد، وليس الأمر كذلك، فإنّ أخبار فضل النافلة وأخبار فضل الجماعة، تشير الى عبادات بهيئات مخصوصة صدرت عن صاحب الشرع (ص)، وتطلب من المؤمنين إتيانها بالهيئة التي سنّها الرسول (ص).
2ـ محاولة تقسيم البدع بحسب الأحكام الخمسة
وهي من أسوأ المحاولات وأبعدها عن الواقع وروح الشريعة الإسلامية، وهي تعكس شدة الهاجس الذي يعيشه أصحاب هذه المحاولة تجاه قضية صلاة التراويح واعتراف عمر بن الخطاب الصريح بأنها بدعة.
فقد قالوا: إنّ البدعة تنقسم الى: بدعة محرمة، ومكروهة، ومباحة، والواجبة، والمستحبة[19].
والجواب الواضح المختصر على هذه المحاولة: إنّ للبدعة معنى واحداً واضحاً هو: ادخال ما ليس من الدين في الدين، وقد اتفق المسلمون عليه سنّة وشيعة، وهذا المعنى لا يقبل التقسيم بحسب الأحكام الخمسة. ولا بحسب الحسن والقُبح، نعم لو كان للبدعة معان متعددة لأمكننا تصور التقسيم فيها، بل لها معنى واحد هو المعنى المذموم المذكور في السُنّة، والذي حذّر النبي (ص) منه وتوعد عليه بأشد العذاب، وليت القائلين بالتقسيم الخماسي أو الثنائي يستشهدون على كلامهم بآية أو حديث نبوي يشهد لصحة قولهم.
الاستنتاج
إن صلاة التراويح لا أساس لها في الكتاب والسُنّة، وأئمة أهل البيت (ع) قد أكّدوا أنها من البدع التي لم يشرّعها الشارع الحكيم كما أنّها لم تكن في عصر النبي (ص) وأبي بكر وفترة من عصر عمر بن الخطاب. بل إنها بدعة ظهرت بأمر من عمر بن الخطاب، وأن كل المحاولات الرامية لتبرئتها من صفة البدعة محاولات فاشلة.
الهوامش
[1] راجع: البخاري، صحيح البخاري، كتاب صلاة التراويح، ج2، ص52، مسلم، صحيح مسلم، باب الترغيب في قيام رمضان، ج2، ص176.
[2] القسطلاني، ارشاد الساري، ج4، ص656، كتاب التراويح.
[3] شرف الدين، النص والاجتهاد، ص214.
[4] الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج7، ص170.
[5] الصدوق، الخصال، ج2، ص152.
[6] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج1، ص131.
[7] الطوسي، تهذيب الاحكام، ج3، ص70.
[8] الطوسي، تهذيب الاحكام، ج3، ص70.
[9] الصدوق، من لا يحضره الفقيه، كتاب الصوم، ص87.
[10] البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص63، باب التهجد بالليل.
[11] مسلم، صحيح مسلم، ج6، ص41.
[12]القسطلاني، ارشاد الساري، ج4، ص656، كتاب صلاة التراويح.
[13] العيني، عمدة القاري، ج6، ص126، كتاب التراويح.
[14] البخاري، صحيح البخاري، باب فضل من قام رمضان، ح2010.
[15] المائدة، 3.
[16] الشوكاني، ارشاد الفحول، ص361.
[17] البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص252.
[18] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج12، ص284.
[19] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج13، ص253، كتاب الاعتصام، باب الكتاب والسنّة.
مصادر البحث
1ـ ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1378 ه.
2ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
3ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
4ـ الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى، قم، مكتبة المرعشي النجفي، طبعة 1404 ه.
5ـ شرف الدين، عبد الحسين، النص والاجتهاد، تحقيق وتعليق أبو مجتبى، قم، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
6ـ الشوكاني، محمّد، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأُصول، بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة 1424 ه.
7ـ الصدوق، محمّد، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، طبعة 1403 ه.
8ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
9ـ الصدوق، محمّد، من لا يحضره الفقيه، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، منشورات جامعة المدرّسين، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
10ـ الطوسي، محمّد، تهذيب الأحكام، تحقيق وتعليق السيّد حسن الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الرابعة، 1365 ش.
11ـ العيني، محمود، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1421 ه.
12ـ القسطلاني، أحمد، إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1431 ه.
13ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
البهبهاني، عبد الكريم، صلاة التراويح سنة أم بدعة، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.