ديباجة
التوجيهات والتبريرات التي ذكرناها آنفاً للحجاب تُمثِّل في الأغلب ما اصطنعه خصوم الحجاب من حجج، وأرادوا بذلك أنْ يطرحوه بوصفه أمراً غير منطقيّ وغير معقول حتّى في صورته الإسلاميّة.
من الواضح أنّ الإنسان إذا افترض أنّ مسألةً ما خرافة، فالتبرير الذي سيذكره لها يتناسب مع كونها خرافة.
لكنّ الباحثين إذا تناولوا المسألة بشكلٍ حياديٍّ فسوف يُدركون أنّ الستر والحجاب الإسلاميّ لا يرتكز على تلك التبريرات الخاطئة والفارغة.
إنّنا نرى فلسفة خاصّة ومتميّزة للحجاب الإسلاميّ تُوجّه الحجاب وتبرّره عقليّاً، ويُمكن أنْ نُعدّها من زاوية تحليليّة الأساس لنظريّة الحجاب في الإسلام.
مصطلح الحجاب
قبل أنْ نعرض اجتهادنا في الكشف عن أساس هذا المصطلح ومدلوله يلزمنا أنْ نذكّر بمسألة في هذا المجال، وهي: ما هو المدلول الّلغوي لكلمة “الحجاب”، التي تعني في عصرنا ستر المرأة؟.
كلمة الحجاب تعني الستر، كما أنّها تعني البُردة والحاجب. لكنّ استعمالها في الأعمّ جاء بمعنى البُردة. وتدلّ هذه الكلمة على مفهوم الستر هنا باعتبار أنّ البُردة وسيلة للستر. ولعلّنا يُمكننا القول: إنّ كلّ ستر ليس بحجاب في أصل اللغة، بل ما يُدعى حجاباً هو الستر الذي يفصل تماماً في فصل البُردة عمّا وراءها. فيصف القرآن غروب الشمس بقوله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب﴾1. يعني بعد الفصل التامّ بينها وبين الرائي. والغشاء الحاجز بين القلب والجوف يُدعى “الحجاب الحاجز”. وفي عهد الإمام عليه السلام لمالك يقول: “فلا تطولنّ احتجابك عن رعيّتك”. فالحجاب هنا الخفاء والعزلة.
إنّ استخدام كلمة الحجاب بمعنى ستر المرأة استخدام جديد نسبيّاً. فقديماً وعلى الخصوص في مصطلح الفقهاء كانت كلمة “الستر” تُستخدم بدلاً من الحجاب. لقد استخدم الفقهاء “الستر” حينما تعرّضوا لذلك في كتاب النكاح والصلاة ولم يستخدموا كلمة “الحجاب”.
وقد كان الأفضل أنْ لا تُستبدل الكلمة، وأنْ نستخدم دائماً كلمة “الستر”، إذ إنّ معنى الحجاب الّلغويّ – كما قلنا – هو البردة. وحينما تُستخدم في مورد الستر فذلك باعتبار أنّ جسد المرأة يكون خلف سترها، ومن هنا تخيّل جمع أنّ الإسلام أراد أنْ تبقى المرأة خلف حائل، ووراء البردة، وتُحبس في دارها ولا تخرج منه!
إنّ الستر الذي فرضه الإسلام على المرأة لا يعني أنْ لا تخرج المرأة من بيتها. ولم تُطرح في ثقافة الإسلام مسألة حبس المرأة وسجنها في الدار. نعم كان هذا العُرف سائداً في بعض الحضارات القديمة كما في الهند وإيران، ولكن لا وجود لهذا العرف في الإسلام.
حجاب المرأة في الإسلام يعني: أنْ تستر المرأة بدنها حينما تتعامل مع الرجال، وأنْ لا تخرج أمامهم مثيرة. النصوص القرآنيّة تُثبت هذا المعنى ولم تستخدم كلمة الحجاب فيها، كما تُؤيده فتاوى الفقهاء، وسنذكر حدود الستر في ضوء إفادتنا من القرآن والسنّة.
إنّ الآيات القرآنيّة التي ألقت الضوء هنا ـ سواء في سورة النور أو سورة الأحزاب ـ ذكرت حدود ستر المرأة وطبيعة تعاملها مع الرجال الأجانب، دون أن تستخدم كلمة “الحجاب”. نعم هناك آية في القرآن استخدمت كلمة “الحجاب”، وهي خاصّة في نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم. نحن نعلم أنّ هناك أحكاماً خاصّة بنساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم وردت في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يُخاطب نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم صراحةً: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾. وقد أراد بذلك أنْ يحول دون أنْ تتحوّل “أمّهات المؤمنين”، بحكم ما لهنّ من احترام وتقدير في قلوب المسلمين، إلى أدوات بيد العناصر الأنانيّة المخرّبة يستغلّونهنّ على طريق مطامحهم السياسيّة والاجتماعيّة كما حدث لأمِّ المؤمنين “عائشة” بعد أنْ خالفت هذا الحكم، فحدث الانقسام السياسيّ الذي ترك آثاراً مفجعة في تاريخ الإسلام. وقد كانت نفسها تُظهر أسفها على ما حدث وتتمنّى لو كان لها جمع من الأبناء يُقتلون ولا يحدث ما حدث. وسرُّ منع نساء النبيّ صلى الله عليه واله وسلم عن الزواج بعد وفاته – كما أرى – هو عين ما تقدّم، يعني: أنّ الزوج اللاحق يُمكنه أنْ يُسيء الاستفادة من مركز زوجته فيحدث ما يحدث. من هنا فإذا كان هناك حكم أشدّ وآكد في خصوص نساء النبيّ فيعود لعوامل سياسيّة واجتماعيّة.
على أيّة حالة فالآية التي استخدمت فيها كلمة “الحجاب” هي الآية (53) من سورة الأحزاب إذ تقول: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاء﴾. وحينما يُستخدم مصطلح “آية الحجاب” في التاريخ الإسلاميّ يُراد به هذه الآية لا غيرها.
أمّا كيف شاعت كلمة “الحجاب” في العصر الأخير بدلاً من اصطلاح الفقهاء الشائع “الستر”، فإنّ أمر هذه المسألة مجهول عندي، ولعلّه نشأ جرّاء الخلط بين الستر الإسلاميّ والحجاب الذي تعارفت عليه أمم أخرى. وسنوضح هذه المسألة بشكل أكبر فيما بعد.
فلسفة الحجاب
ترجع فلسفة الحجاب الإسلاميّ ـ بنظرنا ـ إلى عدّة عوامل، بعضها ذو جانب نفسيّ، والآخر ذو جانب أُسريّ، وبعضها ذو بُعدٍ اجتماعيّ، وآخر يرتبط برفع مستوى المرأة واحترامها، والحيلولة دون ابتذالها. وتنبثق كلُّ هذه العوامل من قاعدة أعمّ وأشمل وهي أنّ الإسلام يُريد حصر ألوان المتعة الجنسيّة سواء كانت بصريّة أو سمعيّة أو لمسيّة في محيط الأُسرة والزواج القانونيّ، ويبقى المحيط الاجتماعيّ العامّ ميداناً للعمل والإنتاج. خلافاً لنظام الغرب في عالمنا المعاصر، حيث يخلط العمل والإنتاج بالّلذة الجنسيّة. فالإسلام يُريد فصل هذين المُحيطَين أحدهما عن الآخر بشكل كامل.
نأتي الآن إلى شرح الأبعاد الأربعة المتقدِّمة
1 – التوازن النفسيّ:
حريّة الاختلاط بين الرجل والمرأة دون قيد أو شرط، وارتفاع الحاجز بينهما، يرفع نسبة الأمراض الجنسيّة، ويُحوّل طلب الجنس إلى عطش روحيّ وحاجة غير قابلة للإشباع. فالغريزة الجنسيّة قويّة وعميقة، وكلّما استجاب الإنسان لها ازداد هيجانها، كالنّار، فكلّما أُطعمت ارتفع أوارها. ولأجل إدراك هذه الحقيقة ينبغي الالتفات إلى أمرين:
أ – كما أنّ التاريخ يُذكِّر بذوي الجشع الماليّ، وأنّ هؤلاء كانوا يسعون لجمع المال والثروة بحرص محيّر، وكلما كثُرت ثروتهم ازداد حرصهم، فهو يُذكّر أيضاً بالجشعين في المسائل الجنسيّة، فهؤلاء أيضاً لم يقفوا عند حدٍّ على الإطلاق في اقتنائهم للحسناوات، فذوو الحريم، وجميع أصحاب النفوذ الذين كانوا مقتدرين على ذلك كانوا كذلك.
يقول “كريستنس” في الفصل التاسع من كتابه “إيران في العصر الساسانيّ”:”نُلاحظ على رسوم الطاق الأثريّ بعضاً من صور الثلاثة آلاف امرأة التي كانت لدى “خسرو برويز”، فلم يُشبع هذا الملك ميله هذا أبداً فهو يجلب كلّ فتاة أو ثيّب أو ذات بعل يصفونها له إلى حرمه. وكلّما حصل لديه ميل لتجديد زوجته، يكتب إلى عمّاله في البلدان كتاباً يصف فيه خصائص المرأة الكاملة. ثُمّ يعمد عمّاله إلى جلب هذه المرأة إليه في أيِّ مكان وجدوها وكانت مواصفاتها متطابقة مع ما جاء في كتاب الملك”.
ويُمكننا العثور على مثل هذه الحكايات بشكل كثير في التاريخ القديم. وقد استُبدل شكل هذه الحكايات في الواقع الجديد، مع فارق وهو أنّ الواقع الجديد لا يوجب أنْ يتوفّر الشخص على إمكانات خسرو برويز أو هارون الرشيد ليستطيع أنْ يتوفّر على هذا العدد الكبير من النساء، فبفضل الثقافة الجديدة يُمكن للشخص الذي يتمتّع بعُشر إمكانات برويز أو هارون أنْ يتمتّع بالجنس الأنثويّ بمقدار ما تمتّعا.
ب – هل تساءلت: إلى أيِّ صنفٍ من الإحساس ينتمي “الغزل”؟ فبعض النصوص الأدبيّة العالميّة تختصّ بالعشق والغزل، وفي هذا القسم، يتغزّل الرجل بمحبوبته ويُقدّرها، ويُقدِّم بين يديها حاجته، ويُشعرها بعظمتها وصغره أمامها، وهو أحوج ما يكون لالتفاتة من قِبَلها. ويبثّها لواعج الشوق والحنين على فراقها.
ماذا يعني هذا؟ لِمَ لا يُمارس البشر بشأن سائر حاجاتهم مثل هذا العمل؟ هل رأيت حتى الآن إنساناً يُحبّ الثروة أو الجاه قد تغزّل بالثروة أو الجاه؟ لِمَ يستطيب الإنسان غزل الآخرين؟ لِمَ نلتذ كثيراً بديوان حافظ؟ هل هناك غير أنّ الإنسان يجد أنّ هذه الأشعار تتطابق مع غريزة عميقة تملأ وجوده؟ كم هو خطل أولئك الذين يقولون: إنّ العامل الأساس لنشاط البشر هو الاقتصاد!!.
للبشر موسيقى خاصّة بالنسبة لحبّهم الجنسيّ، كما أنّ لهم موسيقى خاصّة بالنسبة للمعاني والقيم المثاليّة، في حين ليست لديهم موسيقى بالنسبة لحاجاتهم الماديّة البحتة كالماء والخبز.
أنا لا أُريد أنْ أدّعي أنّ كلّ العشق جنسيّ، ولا أقول أبداً إنّ حافظاً وسعدي وسائر الشعراء الغزليّين أنشدوا الشِّعر لأجل الغريزة الجنسيّة. فهذا بحث آخر، ينبغي دراسته بشكل مستقلّ. لكنّ الثابت أنّ الكثير من العشق والغزل هو عشق وغزل الرجال بالنسبة للمرأة، وهذا المقدار كافٍ لكي نعرف أنّ اهتمام الرجل بالمرأة ليس من قبيل اهتمام الخبز والماء، فيقتنع بإشباع بطنه، بل يظهر هذا الاهتمام بصورة حرص وجشع وتنويع، أو بصورة عشق وغزل. وسوف نتناول لاحقاً البحث حول الظروف التي يقوى بها هذا الاهتمام على صورة حرص وجشع جنسيّ، والظروف التي يظهر بها على صورة عشق وغزل، ويلبس ثوباً معنويّاً.
على أيِّ حال فقد اهتم الإسلام اهتماماً كاملاً بطاقة هذه الغريزة الحادّة. وقد وردت نصوص كثيرة في صدد خطر “النظر” والخلوة بالمرأة، وبالنتيجة خطر الغريزة التي تربط الرجل والمرأة أحدهما بالآخر. ولقد اتخذ الإسلام تدابير لتوجيه هذه الغريزة، وحدّد في هذا المجال تكاليف للرجال وللنساء.
فقد كلّفهما معاً بالنسبة للنظر:﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ… وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾2.
وخلاصة حكم هذه الآية هو: لا ينبغي للرجل والمرأة أنْ يتفحّصَ كلٌّ منهما الآخر في النظرة، وعليهما أنْ يتجنّبا النظر بشهوة، فلا يجوز لهما النظر بشهوة. كما قرّر تكليفاً خاصّاً بالنساء وهو أنْ يستُرنَ أجسادهن أمام الرجال الأجانب، وأنْ لا يظهرنَ في الملأ العام متبرِّجات، وأن لا يُمارسنَ بأيِّ عذر وبأيّة صورة عملاً يؤدّي إلى إثارة الرجال الأجانب.
إنّ روح الإنسان مؤهّلة للإثارة بشكل كبير. ومن الخطأ أنْ نظنَّ أنّ قابليّة الروح الإنسانيّة على الإثارة محدودة بحدٍّ خاصّ، تهدأ بعد تجاوزه. فكما أنّ البشر ـ أعمّ من الرجل والمرأة ـ لا يشبعون من الثروة والجاه، كذلك الأمر بالنسبة للجنس. فليس هناك رجل يشبع من مصاحبة الحسناوات، كما ليس هناك امرأة تشبع من لفت أنظار الرجال وامتلاك قلوبهم. وبالتالي كلُّ قلب لا يشبع.
ومن ناحية أخرى، فالطلب اللامحدود لا يمكن تلبيته سواء أردنا أم لم نُرد، وهو توأم مع لون من الإحساس بالحرمان. وعدم نيل الأماني بدوره يؤدّي إلى اضطرابات وأمراض نفسيّة. لِمَ تزداد نسبة الأمراض النفسيّة في الغرب؟
علّة ذلك: الحريّة الجنسيّة والإثارة الجنسيّة التي تحصل عن طريق الصحف والمجلّات والحفلات والسينما والاجتماعات الرسميّة وغير الرسميّة.
أمّا علّة اختصاص حكم الستر في الإسلام بالنساء فهو: أنّ الميل نحو التجمُّل أمر خاصّ بالنساء. فالرجل صيد – من زاوية القلوب – والمرأة صائد. والمرأة صيد – من زاوية الأجساد – والرجل صائد. وينشأ ميل المرأة نحو الظهور الأنيق جرّاء نزوعها لصيد قلوب الرجال.
لم يحدث في أيِّ مكان من العالم أن ارتدى الرجال ألبسة تحكي عن أبدانهم، وتأنّقوا بشكل مثير. فالمرأة بحكم طبيعتها الخاصّة تُريد أنْ تجلب قلب الرجل وتجعله أسيراً للارتباط بها. لذا فإنّ التبرُّج والعريّ انحرافان خاصّان بالنساء، وحكم الستر مقرّر لهنّ.
سوف نتناول بالبحث قابليّة الغريزة الجنسيّة على الطغيان، خلافاً لادّعاء أمثال “راسل”. فبترك الغريزة الجنسيّة حرّة بشكل كامل خصوصاً مع توفّر أسباب الإثارة لا يحصل لها إشباع. كما سنتناول انحراف “النظر” لدى الرجال، وانحراف “التبرُّج” لدى النساء.
2 – إحكام الرابطة الأسريّة:
لا شكّ في أنّ كلَّ أمر يؤدّي إلى إحكام العلاقة الأُسريّة، ويُفضي إلى خلق روح المودّة الصميمة بين الزوجين هو أمر نافع للأُسرة، يجب بذل أكبر ما يُمكن من جهد لتحقيقه. وعلى العكس كلُّ أمر يؤدّي إلى إضعاف العلاقة بين الزوجين، وإخماد جذوة الحبّ بينهما، أمر مضرّ بالحياة الأُسريّة، ويجب محاربته.
إنّ انحصار المتع والّلذّات الجنسيّة في محيط الأُسرة وتحت ظلِّ الزواج المشروع يُعمِّق العلاقة بين الزوجين، ويؤدّي إلى تلاحمهما بشكلٍ أكبر.
إنّ حكمة الستر ومنع المتع الجنسيّة مع غير الزوجة الشرعيّة – على المستوى الأُسريّ – هي: أنّ الزوجة الشرعيّة تُصبح من زاوية نفسيّة عامل إسعاد للرجل. في حين تكون الزوجة الشرعيّة من زاوية نفسيّة – في ظل الإباحة الجنسيّة – مراقباً مُزعِجاً وبالتّالي يقوم بناء الأُسرة على أساس العداء والتنافر.
وهذا الوضع هو علّة ما نراه لدى شباب اليوم، حيث يتهرّبون من الزواج، وكلّما اقتُرح عليهم الزواج يُجيبون بأنّ الوقت لم يحلّ ولا نزال أطفالاً، أو يطرحون معاذير أخرى… في حين كان الزواج قديماً أحلى أماني الشباب. وقد كان الشباب – قبل أنْ تتحوّل المرأة، بفضل العالم الغربيّ، إلى سلعة رخيصة ومتوافرة – لا يفضّلون حياة الملوك على ليلة الزفاف.
كان الزواج قديماً يتحقّق بعد مرحلة من الانتظار والتمنّي، وفي ضوء ذلك يُصبح كلٌّ من الزوجين عاملاً في سعادة الآخر. أمّا اليوم فلا مبرّر لذاك الشوق وتلك الرغبة، بعد أنْ أصبحت المتعة الجنسيّة خارج إطار الزواج متوافرة في حدِّها الأعلى.
إنّ العلاقات الحرّة، دون قيد أو شرط، بين الفتيات والشباب حوّلت الزواج إلى تكليف وتقييد، لا بُدّ من تحميله للشباب عن طريق الوصايا والمواعظ الأخلاقيّة، وأحياناً – كما تقترح بعض الصحف عن طريق القوّة.
يختلف المجتمع الذي يحصر العلاقات الجنسيّة بمحيط العائلة وتحت ظلِّ الزواج الشرعيّ عن المجتمع الّذي يُبيح الاختلاط الجنسيّ الحرّ، في أنّ الزواج في المجتمع الأوّل نهاية الحرمان والانتظار، بينما يكون الزواج في المجتمع الثاني بداية التقييد والحرمان. ففي ظلِّ النظام الحرّ يضع عقد الزواج نهاية لمرحلة حريّة الفتاة والشاب، ويُلزمهما بالوفاء أحدهما للآخر. وفي ظلِّ النظام الإسلاميّ يضع الزواج نهاية للحرمان والانتظار.
يؤدي النظام الحرُّ إلى أوّلاً: امتناع الشباب عن الزواج وبناء الأُسرة ما أمكنهم، ويُقدمون على الزواج في حالة مشارفة نشاطهم وحيويّتهم الشابّة على الضعف والانحلال. وتكون المرأة عندئذٍ وسيلة إنجاب فقط، أو يطلبونها لأداء الخدمات.
ثانياً: يؤدّي إلى تفكيك عُرى العلاقات الزوجيّة، وبدلاً من بناء العائلة على أساس الحبّ العميق والعشق الخاصّ، وبدلاً من أنْ يجد كلٌّ من الزوجين في الآخر عامل إسعاد، تُبنى الأُسرة على أساس الرقابة، ويجد كلٌّ من الزوجين الآخر عاملاً في سلب حريّته وتقييده.
فحينما يريد الفتى أو الفتاة أنْ يقول: تزوّجت، يقول: اتّخذت حارساً لحبسي. لِمَ ذلك؟ لأنّهما كانا قبل الزواج حرَّيْن، يذهبان حيث يرغبان، ويرقصان مع من يُريدان، دون حدٍّ، وبلا رقيب.
أمّا بعد الزواج فتُحدّ هذه الحريّة. فإذا تأخّر ليلاً تُحاسبه زوجته وتسأله: أين كنتَ؟ وإذا رقص مع فتاة في حفل صاخب، تعترض عليه زوجته، ومن الواضح إلى أيِّ حدٍّ تتحلّل العلاقة الأُسريّة في ظلِّ هذا النظام، وإلى أيِّ حدٍّ تُصبح موضع شكٍّ وريبة.
ظنَّ بعضهم أمثال “راسل” أنّ الحيلولة دون العلاقات الحرّة إنّما تكون لتطمين الرجل على سلامة نسله وعدم اختلاط نسبه. فاقترحوا لحلِّ هذا الإشكال موانع الحمل، في حين أنّ المسألة لا تنحصر في سلامة النسل. فالأهمّ من ذلك هو خَلْق أنبل وأشدّ العواطف الإنسانيّة بين الزوجين، وتحقيق الوحدة والانسجام في محيط الأُسرة. ويُمكن تحقيق هذا الهدف حينما ينصرف الأزواج والزوجات عن ألوان المتعة الجنسيّة مع غير زوجاتهم وأزواجهنّ الشرعيّين. فلا يكون للرجل عين طمع بغير زوجته، ولا تخرج المرأة مُثيرة مهيّجة لغير زوجها، ورعاية قاعدة المنع عن ألوان المتعة الجنسيّة خارج محيط الأُسرة، قبل الزواج أيضاً.
مُضافاً إلى أنّ المرأة المتطوِّرة، التي تُقلِّد أمثال “راسل” وتلتزم بمدرسة “الأخلاق الجنسيّة الحديثة”، تلتمس الحبَّ والعشق – مع كونها ذات زوج ثانوي – في مجال آخر، وتُمارس الجنس مع معشوقها. وما هو الضمان لأنْ لا تستخدم المرأة وسائل منع الحمل مع زوجها الشرعيّ الّذي لا تربطها معه علاقة حبّ أكيدة، وتفسح المجال أمام معشوقها لأنْ تحمل منه، وتُلحق الولد بالزوج الشرعيّ؟! من المقطوع به أنّ مثل هذه المرأة ترغب بأنْ تحمل من الرجل الذي تعشقه، لا من زوجها الشرعيّ، الّذي تربطها معه علاقة شرعيّة فقط، والّذي لا يجوز أنْ تحمل من غيره بحكم الشرع. كما أنّ الرجل بالطبع يُريد أنْ يُنجب من المرأة التي يُحبّها، لا من المرأة التي تربطه معها رابطة شرعيّة فقط. وقد أثبت العالَم الأوروبي أنّ إحصائيات الأبناء غير الشرعيّين مُذهِلة، رغم توافر وسائل منع الحمل.
3 – التماسك الاجتماعيّ:
إنّ جرَّ الممارسات الجنسيّة من محيط الأُسرة إلى المحيط الاجتماعيّ العام، يؤدّي إلى إضعاف النشاط الإنتاجيّ والفعّاليّة الاجتماعيّة. خلافاً لتمحّلات معارضي الحجاب، حيث يقولون: “إنّ الحجاب يؤدّي إلى تعطيل نصف الطاقات الاجتماعيّة”.
فالسفور وترويج العلاقات الجنسيّة الحرّة يؤدّي إلى إضعاف الطاقة الإنتاجية للمجتمع.
إنّ الذي يؤدّي إلى تعطيل قوى المرأة وحبس استعداداتها هو الحجاب؛ إذا جاء على صورة سجن المرأة وحرمانها من الفعاليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة. وليس هناك في الإسلام شيء من هذا القبيل. فالإسلام لا يقول: على المرأة أنْ لا تخرج من دارها. ولا يقول: ليس للمرأة حقّ في التعلُّم وتحصيل العلم. بل على العكس فالإسلام يرى أنّ طلب العلم فريضة مُشترَكة يتحمّلها كلٌّ من الرجل والمرأة. كما أنّه لم يُحرِّم نشاطاً اقتصاديّاً خاصّاً على المرأة. الإسلام لا يُريد إطلاقاً أنْ تكون المرأة عضواً عاطلاً وكلّاً. فستر البدن باستثناء الوجه والكفّين لا يحول دون أيِّ نشاط ثقافيّ أو اجتماعيّ أو اقتصاديّ. إنّ الذي يؤدّي إلى تعطيل الطاقة العمليّة للمجتمع هو تلويث محيط العمل بالممارسات الشهوانيّة.
أيُّهما أفضل لاقتدار الطلّاب على التحصيل العلميّ والإصغاء لمحاضرة الأستاذ: أنْ يعكف الفتى والفتاة على تحصيل العلم في صفوف مستقلّة، أو يحصّلان العلم معاً في صفٍّ دراسيٍّ مُشترَك مع ستر الفتيات لأجسادهن، دون أيِّ تجميل أو زينة، أم أنْ يجلس الفتى إلى جانب الفتاة المتزيّنة المرتدية ثياباً سافرة عن ساقيها؟ وهل أنّ الرجل العامل في الأزقّة والأسواق والمعامل والمؤسّسات الإداريّة، الذي يواجه الفتيات المثيرات، أقدر على العمل، أم الرجل الذي لا يواجه الإثارة؟. إذا لم تُصدِّق فسل العاملين في هذه الميادين. أجل، فكلُّ مؤسسة أو شركة تُريد أنْ تسير أعمالها بجدّية، تحول دون مثل هذا الاختلاط. وإذا لم تُصدّق إذهب وحقّق!.
الحقيقة هي: أنّ الوضع القائم بيننا من السفور والتحلُّل، والّذي نتقدّم به على أوروبا وأمريكا، هو من مختصّات المجتمعات الرأسماليّة الغربيّة المنحطّة، وهو إحدى النتائج السيّئة للممارسات الغربيّة، بل إحدى الوسائل الّتي يستخدمونها لتخدير المجتمعات الإنسانيّة وتحويلها عنوةً إلى مستهلِك لبضائعهم.
نشرت صحيفة اطّلاعات تقريراً (قبل عشر سنوات من انتصار الثورة) نقلته عن الإدارة العامّة للإشراف على الموادّ الاستهلاكيّة، جاء فيه بصدد ميزان استهلاك الموادّ التجميليّة ما يلي: ” استوردت البلاد في بحر سنةٍ واحدة (210,000) كيلوغرام من الموادّ التجميليّة، وقد بلغت المساحيق الدهنيّة (181,000) كيلوغرام…”.
أجل، لأجل أنّ تكون المرأة الإيرانيّة مستهلِكاً جيّداً لبضائع المعامل الأوروبيّة، عليها باسم “التجدُّد” و”التقدُّم” و”التطوُّر الزمنيّ” أنْ تعرض نفسها كلَّ يوم وكلَّ ساعة متجمِّلة بالمساحيق الّتي يصنعها عالم الرأسماليّة. وإذا أرادت المرأة الإيرانيّة أنْ تكون لزوجها فقط، أو تتجمّل للحضور في المجالس النسائيّة الخاصّة فسوف لا تكون مستهلِكاً جيّداً للرأسماليّة الغربيّة، وسوف لا تقوم بدورٍ آخر وهو عبارة عن الحطّ من خُلُق الشباب وإضعاف إرادتهم، وتجنيد الفعاليّات الاجتماعيّة، لمصلحة الاستعمار الغربيّ.
قليلاً ما تسمع في المجتمعات غير الرأسماليّة ذات الحسّ الدينيّ، المآسي والكوارث الّتي تقع في عالَم الغرب باسم حريّة المرأة.
4 – رفعة المرأة واحترامها:
قُلنا سابقاً إنّ الرجل بشكلٍ عام متفوِّق جسميّاً على المرأة. ومن زاوية فكريّة وعقليّة يبقى تفوُّق الرجل – على الأقلّ – محلّ بحث وشكّ. فعلى هذين المستويين لا تستطيع المرأة مجابهة الرجل، ولكنّ المرأة أثبتت على الدوام أنّها قادرة على السيطرة على الرجل عاطفيّاً وقلبيّاً.
إنّ وضع حاجز وحدٍّ بين المرأة نفسها والرجل من جملة الوسائل الغامضة الّتي تستفيد منها المرأة لحفظ مقامها أمام الرجل.
لقد حضّ الإسلام المرأة على الاستفادة من هذه الوسيلة، خصوصاً تأكيده على أنّه كلّما تحرّكت المرأة بشكل أكثر وقاراً وعفّةً، وامتنعت عن عرض نفسها أمام الرجل، كلّما ازداد احترامها لدى الرجل.
وسنرى لاحقاً في تفسير آيات سورة الأحزاب أنّه بعد توصية النساء بالستر يقول تعالى: ﴿ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْن﴾، فيكون الحجاب علامة على عفاف المرأة وعزّتها على الرجال، وبالتالي لا تقع مورداً لأذى الطائشين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ص : 32.
2- النور: 30- 31.
المصدر: الحجاب / سلسلة تراثيات إسلامية / جمعية المعارف الإسلامية الثقافية