لسنا هنا بصدد اثبات الحكم بالجواز الشرعي لزيارة المراقد المشرفة فان لهذا الحكم ميدانه الفقهي وشروط استنباطه الخاصة والا لكان من البدعة والتشريع المحرم .
وانما نحن بصدد محاولة تحليلية تعتمد العقل والفطرة السليمة والمرتكزات العقلائية لغرض اثبات الجواز ضمن هذه الدائرة, فالعقل يحكم بان القداسة الالهية اذا اكتسبها انسان ما فانها تسوغ لنا تبجيل هذا الانسان بما هو مضاف الى هذه القداسة بغض النظر عن الحكم الشرعي في ذلك فاذا جاء من الشرع ما يخالف ذلك في هذا المورد او في عموم الموارد فيكون مقدماً على هذا الحكم العقلي.
ان معنى القداسة وكما جاء في المفردات للراغب وفي مادة ( قدس) (( التقديس التطهير الالهي المذكور في قوله تعالى {ويطهركم تطهيرا}{الاحزاب:۳۳} دون التطهير الذي هو ازالة النجاسة المحسوسة))(۱).
فالتطهير اذا لم ينسب الى الله تعالى فهو ازالة النجاسات والادران الحسية , اما اذا نسب اليه تعالى فهو التقديس فاذا كانت القداسة هبة منه تعالى وصفة يضفيها على المقدس فهي لاتشذ عن قوانين المواهب والمنح الالهية والتي منها الكرم والحكمة الالهيين وان يكون ملاك استحقاقها الابتلاء الالهي والاختيار الانساني فاذا وصل الانسان الى مرتبة يستحق فيها ان تفاض عليه هذه الصفة بمعنى الوصول الى الاهلية في القابل فلا شائبة بخل في ساحة كرمة تعالى .
واذا كانت افعاله تعالى ناشئة عن الحكمة والمصلحة فهذا يقتضي افاضتها على الذوات الطاهرة عندما يترتب على هذه الذوات وافعالهم تحقيق المصالح النوعية , وكذلك لابد من الاختيار الانساني والابتلاء الالهي الذي تقره سنة الابتلاء هذا من جهة ومن جهة اخرى العبودية الحقيقية التي يتمثلونها بذواتهم فتأتي افعالهم موافقة للارادة الالهية , فاذا اكتملت هذه العوامل مع عوامل وشروط اخرى فلا مانع من افاضة هذه الهبة وهذا كله من الناحية الثبوتية والواقعية , اما من الناحية الاثباتية والعلمية فعندما نجد انسانا يتصف بهذه الصفة فهذا يدل وبمرحلة سابقة عن تحقق تلك المواصفات فيه وتلك القوانين في حقه فيكشف من ضمن مايكشف عنه عبوديته الحقيقية التي رعاها وعن ارتباطه الالهي الذي شاده بخلوص وصدق, لان الارتباط الالهي والعبودية تارة ينظر لهما بما هما قهريان وهما بهذا المعنى لايشذ عنهما شيء اكتسب صفة الوجود فكل شيء عبد له تعالى ومرتبط به, فقوام وجوده بهذا الارتباط والعبودية لانه ارتباط عليّ غير اختياري واما بدونهما فيخرج الشيء عن دائرة الوجود الى ظلمات العدم وليس هذا هو ملاك الجزاء ,
وينظر اليهما تارة اخرى بما هما اختياريان لمّا يجليهما العبد في سلوكه وافعاله في سره وعلانيته وهما بهذه الرؤية يكونان ملاكا ً للقرب والبعد عنه تعالى واستحقاق الفيوضات الالهية من عدمه, وعلى هذا لاتكون القداسة من الهبات المجانية التي يمكن لكل شارد ووارد الحصول عليها .
ولما كانت هذه الصفة من الافاضات الخاضعة للحكمة الالهية تبعاً للمصلحة والمفسدة النوعية تشريعية كانت هذه المصلحة او تكوينية فهي بذلك تؤسس لدور تشريعي او تكويني جديد يتوقف تتميمه وتحقيقه على حصولها فليست هي الغاية النهائية وانما هي غاية لما قبلها وسيلة لما بعدها, ومن هنا نعرف سر اختصاصها بمخصوصين لان لمعترض ان يعترض بان الكرم الالهي وعدم البخل في ساحته يقتضي عدم حرمان المستحق لهذه الهبة ولايقتضي حرمان غير المستحق تفضلاً منه تعالى .
غير ان هذا الكلام وان كان صحيحا من جهة غناه تعالى الا انه ليس كذلك من جهة حكمته ولا يصح تجريد الغنى عن الحكمة كما هو واضح لان هذه الهبات ليست اعتبارية قد يتحقق منها النفع والمصلحة لو نالها غير مستحقها وانما هي من الصفات الواقعية كالعلم والحلم والشجاعة .فلو لم تترتب على هبتها لغير اهلها مفسدة ففي احسن الاحوال ويقيناً لاتحصل المصلحة فيلزم العبث المخالف للحكمة الالهية .
ثم ان القداسة لما كانت مترتبةً على الفعل الاختياري فلا مزيد عناية في تصويرحصولها لدى الانسان لما تقدم واما تصوير حصولها في بعض الموجودات والاشياء كالأماكن والازمنة فهذا مما يحتاج الى بيان , لان احداً منا لايشك في قداسة الكعبة المشرفة ومكة المكرمة او يوم الجمعة وايام الاعياد والاشهر الحرم على سبيل المثال مع انها خارجة عن محط التكليف والاختيار اللذان يؤسسان لنيل هكذا صفات كما لا مجال لفرض اعطائها عبثاً تعالى الله عن ذلك علوا ً كبيرا.
واما تصوير ذلك فانا لما قلنا ان القداسة تؤسس لدور جديد أي ما بعد القداسة فلا بد من وجود ارتباط بين هذا الدور وبين افعال الانسان الاختيارية تترتب على هذه الافعال – بما هي مرتبطة بهذا الشيء المقدس – مصالح ومفاسد وثواب وعقاب ما كانت لتترتب لولا هذه القداسة والعلاقة بين الفعل والمقدس ,فلهذه الاماكن والازمنة تعلقات بافعال الناس واضحة الدلالة على ما اشرنا اليه, مثلاً مكة المكرمة والكعبة المشرفة ارتبطت بافعال المكلفين ومناسك العابدين من قبيل الحج والعمرة التي يترتب عليها من الثواب والمصالح ما يعلمه جل الناس وانكار ذلك او عصيانه يستتبع العقاب والمفاسد المعلومة كذلك, وغير المعلوم في الامرين كثير , كما ان اهانة أي بقعة من الارض ليس لها قداسة لايضاهي اهانة هذه البقعة المباركة بل قد لايعد شيئاً بالنسبة لها, والصلاة في المسجد الحرام ليس كالصلاة في أي مسجد اخر فضلاً عن عموم الارض الى غير ذلك من الميزات التي يكتسبها الفعل اذا تعلق بها وما هذا الاختلاف في الاثر الا لكتساب تلك الاماكن هذه الصفة وما هذا الاكتساب لها الا لنسبتها اليه تعالى فهي بيته الحرام .
وهكذا الحال بالنسبة للأزمنة فيوم الجمعة يختلف العمل فيه عنه في غيره طاعة كان او معصية من مضاعفة الثواب او تضاعف العقاب , وكذلك الحال في بقية الامثلة .
واما الدور الذي قلنا انه يتاسس على هذه القداسة فلا ينحصر بدور واحد وليس بالامكان احصاءها لانها خارجة عن الاطار العقلي غير مدركة العلل وانما نلتمس ذلك من بيانات الشارع ,وكل ما يمكن للعقل معرفته بعض الحكمة منها اما استقلالاً او بمعونة الشرع ايضاً.
فمن هذه الادوار التي ترتكز وتتأسس على القداسة هو دور الوساطة بحيث يكون للمقدس بوصفه كذلك موضوعية في حصول المتوسط اليه والمراد, ويتفاوت حجم هذا الدور تبعاً لتفاوت نفس الصفة او الموصوف او تداخل واجتماع الموصوفات , ونلمس ذلك بوضوح في قضية اخوة يوسف (ع) لما سألوا اباهم ان يستغفر لهم ولم يستغفروا هم لانفسهم فأخر ذلك الى السحر من ليلة الجمعة مما يكشف عن موضوعية يعقوب (ع) وهذا الوقت المبارك لنيل المغفرة, وهكذا الحال في طلب المغفرة والتوبة في بعض الاماكن.
والجدير بالذكر ان بعض الامور المقدسة من غير البشر كالاماكن والازمنة والاشياء الاخرى تكتسب القدسية لارتباطها وتعلقها ببعض الذوات الانسانية المقدسة ويكون الشخص هو الواسطة في اتصاف هذه الاشياء بهذه الصفة كالمدينة المنورة لكونها مهجر ومثوى اشرف الكائنات وهو النبي الاكرم (ص) ولهذه المدينة المقدسة ادوار تشريعية كالاحكام الخاصة بها من استجابة الدعاء وخصوصية الصلاة والكون فيها , وتكوينية كالاثر الخاص الذي يمحق مَن انتهك حرمتها وذلك غير ما يترتب عليه من عقاب اخروي ,
لكن يمكن ان يبرز هنا سؤالين
الاول- ان هذه القداسة هل تختص بذات النبي الاكرم(ص) او يمكن ان تشمل غيره من الانبياء والاوصياء بل والصالحين وان تفاوتت درجة القداسة.؟
الثاني – هو ان كانت بعض الاشياء تكتسب هذه القداسة بسبب هذه الذوات البشرية المقدسة ويكون لها ادوار عظيمة الا يحكم العقل باستناد هذه الادوار او ما هو اعظم منها الى نفس هذه الذات الطاهره ؟ اما بالنسبة الى السؤال الاول فان القداسة لما كانت ناشئة من الارتباط الصادق بالله تعالى وانها من الصفات الواقعية التي تفاض على الانسان الذي يحقق شروط نيلها وانها ليست اعتبارية تابعة لاعتبار المعتبر(۲) فلايمكن التخصيص فيها للبعض دون البعض بل كل من كان اهلاً للحصول عليها مع تحقق الشروط التي مرّ ذكرها فيه فانه يكتسبها خصوصاً اذا قبلنا انها ليست بمسوى واحد حتى يقال بعدم امكان بلوغ هذه المرتبة لكل شخص كمرتبة الخاتمية.
واما بالنسبة للثاني فالضرورة والبداهة والفطرة تغني عن تجشم عناء الجواب علية للاولوية العقلية القطعية المرتكزة في كل نفس سليمة.
ولابد ان يُعلَم ان الكلام هنا في اصل الدعوى وبنحو كبروي وليس لبيان المصاديق المقدسة فمما يترتب على وجود هذه الصفة وتحققها بغض النظر عمن اتصف بها ,انها تكون مقدمة لتحقيق بعض المصالح , وكلا الامرين – اي وجودها والمصالح المتوقفة عليها – مما لاشك فيه لثبوتهما في الشريعة الاسلامية فالمصالح الدنيوية والاخروية المتحققة باداء المناسك في الديار المقدسة لايمكن تحقيقها باداء نفس المناسك في مكان اخر كما سبق ذكره بل الامر بالعكس تماماً.
هذا مايتعلق باصل موضوع القداسة بصورة عامة ,اما من ناحية معرفة الشخوص والاشياء المقدسة فغالباً ما يتصدى الشارع المقدس لبيانها لان الارتباط الحقيقي بالله سبحانه وتعالى المؤسس للقداسة لايعلمه الا هو تبارك وتعالى فيطلع عليه من يشاء لغرض بيانه للناس , ويمكن ان يعلم ذلك من خلال معاشرة هؤلاء ومعايشتهم فيعرف حال صدقهم في كل سلوك لهم سواء كان مع الله سبحانه وتعالى او مع الناس او مع انفسهم فيثبت في حقهم بعض الكرامات التي تجري لهم تبعاً لقداستهم .
مما تقدم كله يتبين امكان ان تكتسب بعض الاماكن والاوقات والاشياء هذه القداسة من جهة تعلقها باحد المقدسين وتخضع معرفتها ومعرفة صفتها لنفس قانون معرفة اصحابها كما هو الحال لمدينة كربلاء وقبة ضريح الامام الحسين(ع) وتراب قبره الشريف لما ثبت في الاخبار , فالشفاء الذي في تربته انما هو اثر تكويني ترتب على هذا التراب لقداسته المستقاة من قداسة الامام الحسين (ع) نفسه, فتبجيل واحترام وتقديس مرقده او ضريحه الشريفين او كربلاء لايمكن تفسيره بوجهة سلبية- بدعوى انها عبادة للقبور- كما عليها بعض المتعنتين۰
واما ما يذكر من النهي عن زيارة القبور فلو سلّمنا به وتنزلنا معه وغضضنا الطرف عن المتون والاسناد فان مما يعرف في واقع الشريعة المقدسة ان بعض التشريعات تأتي لاغراض خاصة ولغايات محددة وتنتهي عند تمام هذه الاغراض واستحكامها وتحقق هذه الغايات وتأصلها مما يكشف عن ان الشيء الذي أَمرَ به او نُهيَ عنه ليس مما يلحقه هذا الامر والنهي لذاته بل للوازم غير ذاتية تتبعه فاذا ما تم الفصل بينه وبين هذا اللازم فيرجع الى اصله من الاباحة فهي كالتكاليف التي تترتب على العناوين الثانوية التي تنتفي بانتفاء عنوانها الثانوي غير ان الفارق بينهما ان احكام العناوين الثانوية تتوارد بمعنى انها تأتي وتذهب تبعاً لتوارد عناوينها بخلاف الاول محل الكلام فهو مما لامجال لرجوعه بعد تحقق غرضه وهو الفصل بينه وبين لازمه فيرتفع بذلك حكمه الاول
وهذا ما يثبته الحديث الشريف ((قال رسول الله (ص) نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور الا فزوروها ونهيتكم عن اخراج لحوم الاضاحي من منى بعد ثلاث الا فكلوا وادخروا, ونهيتكم ۰۰۰۰ الحديث) (۳)
ففيه دلالة واضحه على رجوع الاباحة لاصلها بالنسبة لزيارة القبور بعد الامن من احتمال تحولها الى معبودات وبعد والضمان دون حصول ذلك, ومعه لامجال لان نكون ملكيين اكثر من الملك وندعي الحرص على الشريعة الغراء اكثر من صاحبها .
فاذا ثبت هذا الجواز والاباحة لعامة قبور المؤمنين بل المستفاد من النصوص استحبابه لما فيه من المنافع للزائر والمزور فياتي دور قداسة اصحاب بعض المراقد للحكم باولوية زيارة مراقدهم من غير حريجة مكتسبة مسبقاً لاسباب معينة تمنعنا من استفادة هذه الاحكام الواضحة وتحرمنا من الانتفاع مما فيها وما يحوطها من المعاني والمضامين الراقية في الجنبة المعنوية وكذا التشريعية وهذا غير ما هو ملحوظ من الجوانب الاخرى التي منها المادية والتكوينية وذلك لما سبق من اناطة بعض الادوار التشريعية والتكوينية بالمقدس ,سواء كانت هذه الاستفادة من ذات المقدس او ممن اكتسب القداسة منه لارتباطه به كما تقدم ذكره,
وبذلك يتضح رجحان زيارة هذه المشاهد المشرفة بالاولوية وبغض النظر عما يترتب عليها من منافع أي في اصل المشروعية عقلاً وارتكازاً وعقلائيا.ً
ومما يثبت هذا الامر ايضاً هو اننا نجد الحياديين ومن غير المسلمين كذلك من الذين لم يتأثروا بخلفيات مسبقة اتجاه واقع هؤلاء الاشخاص الكاملين سلبية كانت هذه الخلفيات او ايجابية , نجدهم قد حكموا وفق ما نتهينا اليه ولم تسجل منهم حالةً انتقادية على ما يشاهدونه من تعظيم الكثير من الناس للاعاظم ولمن اعتقدوا قداستهم وفي كل ملة ودين مما يدل على انه من الامور المركزة في الذهنية العقلائية العامة والتي تكفينا فيها نحن المسلمين سكوت الشريعة المقدسة عنها فكيف بما جاء من حض وحمل عليها.
ونخلص من هذا كله الى ان احترام وتبجيل كل ما هو مقدس مما لابد منه وليس فقط جائزا,ً ومن مصاديق الاحترام والتبجيل زيارة مشاهدهم المقدسة وذلك لتتميم الدور المرتبط بهذه المقدسات, وان النهي عن ذلك لابد له من دليل بدرجة من القوة والوضوح والصراحة والشهرة بحيث يمكنه تعطيل هكذا مرتكز عقلائي عام .
ثم ان احد اهم المكتسبات المترتبة على هذا التقديس هو هذا الارتباط الذي نجده عند الامامية بأئمتهم والذي ينعكس على كثير من مفاصل حياتهم الاخلاقية والعبادية والتعاملية والتربوية والذي يتفاوت من شخص لاخر تبعاً لتفاوت هذا الارتباط, الامر الذي يفقده غيرهم ولذا نجد ان الذين ذهبوا الى النهي عنه يعيشون العزلة عن ماضيهم وان صرحت بعكس ذلك السنتهم الا ان واقعهم الذي يعيشونه وسلوكياتهم تفضح هذا الامر وتبين صدق مدعانا , وأما تصريحهم بعكس واقعهم فهو نابع من هذه العقدة وهي عقدة الفجوة والعزلة بينهم وبين اسلافهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(۱) المفردات في غريب القرآن ۰۰ الراغب الاصفهاني ص ۴۱۳٫
(۲)(كما نتعامل بها نحن خطأ ً فنضفيها على مستحقها وغير مستحقها تبعاً لواقع موضوعي او اعتبارات اخرى كالحب والبغض والمصالح والاهواء وهذا هو الخلل الذي نقع فيه فننعت بها من هب ودب وقد نجرها عمن هو اهل لها واقعا كما حصل في العصمة حيث جرد عنها اهلها ونالها الاراذل من الحكام والطواغيت بفعل الاهواء والضلال) .
(۳) وسائل الشيعة ج۱۴ باب ۴۱ ح۷ ص۱۷۰٫
الكاتب: عبد علي الناصري