المبحث الأوّل: معنى القدرة (لغةً واصطلاحاً)
معنى القدرة (في اللغة) : القدرة تعني التمكّن من الفعل وتركه.
ورد في “مجمع البحرين”: قدرت على الشيء: قويت عليه وتمكّنت منه(1).
ورد في “لسان العرب”: يقال: قدر على الشيء، أي: ملكه، فهو قادر(2).
ورد في “مصباح الكفعمي”: القادر هو الموجد للشيء اختياراً من غير عجز ولا فتور(3).
وقال الشيخ الصدوق: قَدِر، أي: ملك، وقدرته على ما لم يوجد واقتداره على إيجاده هو قهره وملكه له(4).
تنبيه : “القدير” هو الذي لا تتناهى قدرته، فهو أبلغ من “القادر”، ولهذا لا يوصف بصفة القدير إلاّ الله تعالى.
و “المقتدر” هو التام في القدرة الذي لا يمنعه شيء عن مراده(5).
معاني القدرة (في الاصطلاح العقائدي) :
المعنى الأوّل : قال الشيخ الصدوق: “إنّ الله لم يزل قادراً، إنّما نريد بذلك نفي العجز عنه، ولا نريد إثبات شيء معه; لأنّه عزّ وجلّ لم يزل واحداً لا شيء معه”(6).
وهذا المعنى مقتبس من قول الإمام محمّد بن علي الجواد(عليه السلام) حيث قال لأحد أصحابه: “فقولك: إنّ الله قدير خبّرت أنّه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه”(7).
المعنى الثاني :(8) القدرة هي “الفعل” عند “المشيئة”، و “ترك الفعل” عند “عدم المشيئة”. والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
بعبارة أخرى: إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك.
المعنى الثالث :(9) القدرة تعني صحّة الفعل والترك(10).
والقادر هو الذي يصح أن يفعل ويصح أن يترك (أي: لا يفعل).
بعبارة أخرى: القادر هو الذي يصح أن يصدر عنه الفعل ويصح أن لا يصدر عنه الفعل.
تنبيه : إنّ الله تعالى قادر على الأشياء كلّها على ثلاثة أوجه:
أوّلاً: على المعدومات بأن يوجدها.
ثانياً: على الموجودات بأن يفنيها أو يتصرّف فيها بجمعها أو تفريقها أو تحويلها أو نحو ذلك.
ثالثاً: على مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه(11).
أسماء الله التي تعود إلى صفة قدرة الله تعالى(12)
1 ـ القوي
أي: ذو القوّة الكاملة، فلا يعجزه أمر ممكن في إيجاد أو إعدام، ولا يمسّه نَصَب، ولا يلحقه ضعف.
قال تعالى: { إنّ ربّك هو القوي العزيز } [ هود: 66 ]
2 ـ المتين
أي: ذو المتانة الكاملة. والمتانة أبلغ من مطلق القوّة; لأنّها القوّة الزائدة.
فمعنى المتين: هو الذي له كمال القوّة التي لا تعارضها ولا تشاركها ولا تدانيها قوّة، كما لا يعرض لها عجز ولا تعب ولا تناقض في التصرّف بكلّ أمر ممكن.
قال تعالى: { إنّ الله هو الرّزاق ذو القوة المتين } [ الذاريات: 58 ]
3 ـ القادر
أي: ذو القدرة الكاملة، وقد مرّ معنى القدرة قبل قليل.
قال تعالى: { قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم } [ الأنعام: 65 ]
4 ـ المقتدر
أي: ذو القدرة الكاملة. والمقتدر أبلغ من القادر.
قال تعالى: { وكان الله على كلّ شيء مقتدراً } [ الكهف: 45 ]
5 ـ الواجد
أي: ذو الجدّة الكاملة، والجدة هي الغنى مع امتلاك قدرة التصرّف وعدم الاحتياج إلى مساعد ومعين. فمعنى الواجد: القادر على التصرّف بكلّ شيء وفق مراده. ولم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم.
6 ـ العزيز
أي: ذو العزّة الكاملة، والعزّة هي القدرة على التغلّب.
قال تعالى: { إنّ ربّك هو القوي العزيز } [ هود: 66 ]
7 ـ المُـقيت
أي: الحافظ للشيء والشاهد والمقتدر، وبعبارة أخرى: المُقيت يعني المستولي القادر على كلّ شيء. وهذا المعنى هو أحد معاني هذا الاسم.
قال تعالى: { وكان الله على كلّ شيء مقيتاً } [ النساء: 85 ]
8 ـ مالك المُلك
أي: الذي تنفذ مشيئته في ملكه كيف يشاء، لا مردّ لقضائه، ولا يكون ذلك إلاّ من كمال القوّة والمتانة والقدرة والعزّة والغنى.
قال تعالى: { قل اللّهم مالك الملك توتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء } [ آل عمران: 26 ]
9 ـ المِلك (بكسر الميم)
أي: المتصرّف بالأمر والنهي التكويني في كلّ شيء، فإذا قال لشيء: كُن، وُجد ذلك الشيء حسب مشيئته تعالى، وهذا يرجع إلى كمال القدرة على التصرّف بالممكنات.
قال تعالى: { فتعالى الله الملك الحق } [ طه: 114 ]
المبحث الثاني: أقسام القادر
1 ـ القادر المختار
مثاله: الله سبحانه وتعالى، الإنسان في أفعاله الاختيارية.
2 ـ القادر الموجب (المضطر)
مثاله: الشمس بالنسبة إلى الإشراق، والنار بالنسبة إلى الإحراق.
الفرق بين “القادر المختار” و “القادر الموجب” :
1 ـ القادر المختار هو المتمكِّن من الفعل والترك.
القادر الموجب هو المتمكِّن من الفعل فقط دون الترك(13).
2 ـ القادر المختار يصح منه أن لا يفعل.
القادر الموجب يمتنع منه أن لا يفعل(14).
3 ـ القادر المختار يصح منه أن يفعل الفعل.
القادر الموجب يجب أن يصدر عنه الفعل(15).
4 ـ القادر المختار هو الذي يفعل مع شعوره بفعله.
القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل مع عدم شعوره به(16).
5 ـ القادر المختار هو الذي يعلم بأثره.
القادر الموجب هو الذي لا يعلم بأثره(17).
وبصورة عامّة: القادر المختار هو الذي يؤدّي فعله بإرادته واختياره.
القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل من دون إرادته واختياره(18).
تنبيهان :
1- اشتهر عن بعض الفلاسفة القول بأنّ الله تعالى “قادر موجب” لا “قادر مختار”(19).
ولهذا قال هؤلاء بقدم العالم(20)، وأثبتوا لله إرادة وقدرة لا بالمعنى الذي أثبته المتكلّمون، بل شبّهوا الله تعالى بجهاز مبرمج يعمل من دون إرادة واختيار وفق ما يملي عليه علمه بالنظام الأحسن. تعالى الله عن ذلك، وسبحانه عمّا يصفه هؤلاء(21).
2 ـ القادر المختار أشرف وأسمى من القادر الموجب.
لأنّ القادر الموجب لا فضل له في ألطافه وتفضّله على العباد; لأنّه يفعل من دون إرادته واختياره.
ولكن القادر المختار، فإنّه متفضّل في تقديم الطافه ومواهبه; لأنّه إن شاء منح هذه الألطاف والمواهب وإن شاء منعها.
أضف إلى ذلك: القادر الموجب أشبه ما يكون بجهاز مبرمج يعمل وفق البرمجة الموجودة فيه، وهكذا ذات لا تستحق العبادة والإطاعة; لأنّها فاقدة للاختيار، ولهذا من المستحيل أن نقول بأنّه تعالى ـ والعياذ بالله ـ قادر موجب ومضطر!
____________
1- مجمع البحرين، الشيخ الطريحي: 3 / 466.
2- لسان العرب، ابن منظور: 11 / 57. مادة (قدر).
3- مصباح الكفعمي، الشيخ الكفعمي: ج 1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص 382.
4- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 29، ذيل ح 9، ص 192.
5- مصباح الكفعمي، الشيخ الكفعمي: ج 1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص 383.
6- التوحيد، الشيخ الصدوق: باب 9، ذيل حديث 12، ص 127.
7- المصدر السابق: باب 29، ح 7، ص 188.
8- انظر: الرسائل العشر، الشيخ الطوسي: مسائل كلامية ، مسألة (5 ) ، ص 94 .
قواعد المرام، ميثم البحراني : القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 83 .
مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 161، وقد نسب العلاّمة الحلّي هذا المعنى للأوائل.
9- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، قدرته تعالى، ص 48.
تلخيص المحصّل، نصيرالدين الطوسي: القول في الصفات الثبوتية، ص 269.
المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 42.
عجالة المعرفة، محمّد بن سعيد الراوندي: فصل في الصانع وصفاته، ص 30. المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في صفات المحدث، ص 35.
مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 160.
10- إذا كان الفعل ممكناً ولم يمنع منه مانع.
انظر: المسلك في أصول الدين، المحقّق الحلّي: النظر الأوّل، المطلب الثاني، ص 42.
11- انظر: مجمع البيان، الشيخ الطبرسي: ج 1، تفسير آية 20 من سورة البقرة ص 152.
12- العقيدة الإسلامية، عبدالرحمن حسن جنكة الميداني: 161 ـ 163 (بتصرّف).
13- انظر: النكت الاعتقادية، الشيخ المفيد: الفصل الأوّل، ص 22.
الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد، مقداد السيوري: في صفات الله تعالى، ص 56.
14- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 93.
15- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، ص 49.
16- انظر: المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، القول في صفات المحدث، ص 35.
17- انظر: قواعد المرام، ميثم البحراني: القاعدة الرابعة، الركن الثالث، البحث الأوّل، ص 83 .
18- انظر: الأنوار الجلالية، مقداد السيوري: الفصل الأوّل، ص 75.
19- انظر: قواعد العقائد، نصيرالدين الطوسي: الباب الثاني، قدرته تعالى، ص 47.
كشف الفوائد، العلاّمة الحلّي: الباب الثاني، الصفات الثبوتية، القدرة، ص 159.
إرشاد الطالبين، مقداد السيوري: مباحث التوحيد، إثبات القدرة للباري، ص 182. الأنوار الجلالية، مقداد السيوري: الفصل الأوّل، ص 75.
20- لأنّ الموجب هو الذي لا يتخلّف أثره عنه بالضرورة، وهو الذي لا ينفك عنه فعله، والذين يقولون بأنّه تعالى قادر موجب، يعتقدون بأنّ العالم بالنسبة إلى الله كالنور بالنسبة إلى الشمس، وبما أنّه تعالى كان من الأزل، فالعالم أيضاً كان معه من الأزل; لأنّ العالم لا ينفك عن الله; وهو كالنور بالنسبة إلى الشمس، فمادامت الشمس موجودة فالنور موجود معها.
انظر: الباب الحادي عشر، العلاّمة الحلّي: الفصل الثاني، ص 32. الاعتماد، مقداد السيوري: في صفات الله تعالى، ص 57.
وإثبات حدوث العالم (أي: وجود العالم بعد عدمه) يثبت بأنّ الله تعالى قادر مختار لا قادر موجب.
انظر: الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الثاني، ص 53 ـ 54. تجريد الاعتقاد، نصيرالدين الطوسي: المقصد الثالث، الفصل الثاني، ص 191.
21- لمعرفة أدلة تنزيه الله عن الاتّصاف بالقادر الموجب راجع:
مناهج اليقين، العلاّمة الحلّي: المنهج الرابع، البحث الرابع، ص 160 ـ 161.
المصدر: التوحيد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) / الشيخ علاء الحسون