إن الذرية الصالحة تعد الملف المفتوح للانسان عندما ينتقل إلى عالم الانقطاع عن كل سبب.. يضاف إليها الصدقة الجارية، والعلم الذي ينتفع به.. ويا له من فوز عظيم، إذ يحتاج العبد إلى حسنة واحدة ترجح كفة أعماله، وإذا بالبركات تـنهمر عليه من ولد صالح له، لم يكن ذلك في حسبانه!.. وقد روي أن عيسى (ع) مر بقبركان يعذب صاحبه، ثم ارتفع عنه العذاب، فسأل الله تعالى عن سبب ذلك!.. فقال: أدرك له ولد صالح، فأصلح طريقا، وآوى يتيما.
من أفضل بركات الزواج هو تحقيق نعمة إضافة فرد صالح في الأمة: فإن سقط -وهو حمل في بطن أمه- يقف على باب الجنة لا يدخلها إلا أن يدخل أبواه.. وإن ولد حيا ومات قبل الأبوين، كان سببا لأن يؤجرا أجر الصابرين.. وإن بقي بعدهما، استغفر لهما.. وقد ورد أن من سعادة المرء، أن لا يموت حتى يرى خلفا من نفسه.. وأن الذليل من لا ولد له.
تبدأ حقوق الولد من الساعات الأولى قبل الزواج، فيصلي المؤمن ركعتين ليلة زفافه، طالبا من الله تعالى الذرية الطيبة بالمأثور من الدعاء.. ثم تسمية الولد قبل أن يولد، فإن السقط يشكو أباه يوم القيامة قائلا: ألا سميتني؟!.. وخير الاسماء ما تضمن معنى العبودية لله تعالى، وأسماء الانبياء والائمة (ع) .. وكم من العقوق أن يحمل الولد اسما يستحي أن يـُدعى به في الناس، أو لا يحمل معنى ذا بال، كبعض الاسماء الشاعرية في هذه الايام.
إن الابتداء بالاذان والاقامة في أذن الطفل، وكذلك الفاتحة وآخر سورة الحشر، وتحنيكه بماء الفرات، وتربة الحسين (ع) –حيث تفوح منها رائحة الشهادة – لمن موجبات غرس روح التوحيد والولاية في أعماق وجوده، من خلال رسم ذلك في الصفحة الاولى من حياته.. وكم يجل والديه عندما يكبر، فيتذكر هذا الاحسان في حقه منذ صغره!.. وكم من الجميل أن يشرك الابوان الفقراء فرحتهما وذلك من خلال العقيقة المسنونة.
تتجلى أهمية الذرية من خلال دعوات الانبياء والصلحاء لذرياتهم، وكأنه همّ شاغل لهم.. فهذه أم مريم (ع) -بمجرد وضع ابنتها المباركة- تعيذها وذريتها من الشيطان الرجيم.. وهذا ابراهيم (ع) يسأل ربه في مضان الاجابة، أن يوفقه وذريته لاقامة الصلاة، ويشكر ربه على هبة اسماعيل واسحق له على كبر سنه.. ونحن أيضا مأمورون بمثل هذا الدعاء من خلال الاكثار من القول: {ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين اماما – لقد أمرتنا النصوص المباركة إغراق الذرية بالحنان.. فجعلت قبلة الولد موجبة لحسنة، وجعلت نظر الوالد الى ولده بمثابة عتق نسمة، وورد الامر بالتصابي مع الصبي.. ويبلغ التأكيد مداه عندما يرد النص عن النبي (ص) بأن الله تعالى لا يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان!.. ولكن هذا كله، لا يعني حالة الدلال المفسد للولد، فإن الاستسلام لرغباته في كل صغيرة وكبيرة مقدمة للافساد.
إننا لا نفشي سرا عندما نقول: بان كل شيء بات حولنا أرضية للافساد والفساد، مصداقا لقوله تعالى: {ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس}.. ولو استوعب الناس الأمر في حينه، لعله أضيف إليه الفضاء!.. فهذا حال مدارسنا بمناهجها واجوائها، وهذا حال الشارع والسوق، ناهيك عن الفضائيات والمواقع.. فلم يبق إلا حصن الاسرة، فلو استسلم أصحابه للغزو الثقافي الشامل لسقط آخر معاقل الصمود.. أو من العقل أو المنطق أن يشتري ولي الامر -بماله وبإشرافه- وسائل الارتباط بالعالم الخارجي بما فيه من المفاسد من دون رقابة، ليتحمل وزر كل ذلك في الدنيا قبل الاخرة؟!.
إن الاعراض والغضب سلاح نافع، ومن هنا جعل الهجران في المضاجع من وسائل التأديب عند صدور الحرام من الزوجة.. ولكن تكرار استعمال هذا السلاح -بمبرر وبغير مبرر- يفقده قيمته في ما لو استعمل في محله يوما ما!.. فالذي يكثر من الغضب، فإن غضبه لا يحمل قيمة رادعة، بل قد يوجب سخرية أو تمرد الطرف المقابل.. هذا ناهيك عن الضرب الذي هو أسلوب التعامل مع البهائم، قبل أن يكون مع البشر!.. إلا في الحدود التي أذن بها الشارع الحكيم.
إن من الخطأ الفادح إظهار الزوجين خلافهما في التربية امام الاولاد.. فتتحول الام في نظر الولد على أنها الحضن الدافئ، ويتحول الاب وكأنه قائد عسكري لا يعرف الرحمة في دائرة حكومته!.. فهذا كله مقدمة لعقوقهما أو عقوق أحدهما.. فلا بد من الاتفاق على منهج تربوي موحد في الخفاء، وما المانع أن يخصص الانسان جزءا من وقته واهتمامه للدراسة التربوية في هذا المجال.. فبمثل هذه الاخطاء وأمثالها، نهدم ما بنيناه في أعوام طويلة من العناء والمشقة في تربية الاولاد، وخاصة في هذه الايام العصيـبة!..
إن هذا الحديث من روائع ما ورد عن اهل البيت (ع) مما يعكس حالة الشفقة والرفق بالاولاد -خصوصا الاناث منهم- ومن ناحية يعكس عمق ارتباطهم بجدتهم الزهراء (ع).. اذ يقول السكوني: وردت على الصادق (ع)، وأنا مغموم مكروب، فقال لي يا سكوني، ما غمك؟.. فقلت: ولدت لي ابنة .. فقال: يا سكوني!.. على الارض ثقلها، وعلى الله رزقها، تعيش في غير أجلك، وتأكل من غير رزقك.. فسرى والله عني، فقال: ما سميتها؟.. قلت: فاطمة، قال: آه!.. آه!.. ثم وضع يده على جبهته، إلى أن قال: أما إذا سميتها فاطمة؛ فلا تسبها، ولا تلعنها، ولا تضربها!..