في منتهى الآمال للشيخ عباس القمي رواية للشيخ الصدوق عن معلى بن خنيس انه قال: خرج أبو عبد الله (عليه السلام)- أي الإمام الصادق (عليه السلام)– في ليلة قد رشت السماء – أي أمطرت – وهو يريد ظلة بني ساعده – وهي مظلة كبيرة أو خيمة يحتمي الناس بها من الحر نهارا، ويأوي إليها الفقراء والغرباء ليلا – فاتبعته فإذا هو قد سقط منه شيء، فقال باسم الله، اللهم رده علينا.
قال: فأتيته فسلمت عليه، فقال: معلى؟ قلت نعم جعلت فداك، فقال لي: التمس بيدك، فما وجدت من شيء فادفعه إليّ، قال: فإذ أنا بخبز منتشر، فجعلت ادفع إليه ما وجدت، فإذا أنا بجراب من خبز، فقلت جعلت فداك، أحمله عليّ عنك، فقال: لا، أنا أولى به منك، ولكن امض معي.
قال: فأتينا ظلة بني ساعده، فإذا نحن بقوم نيام، فجعل يدس الرغيف والرغيفين تحت ثوب كل واحد منهم حتى أتى على آخرهم، ثم انصرفنا.
فقلت: جعلت فداك، يعرف هۆلاء الحق؟ فقال: لو عرفوا لواسيناهم بالدقة – والدقة هي الملح.
نجد بعض الناس في القضايا والأحداث والظروف الإنسانية يتعاطى بروح ونفس طائفي، فإذا ما سمع بتفجير أو كارثة من زلزال أو ما شابه اذهب أرواح العشرات أو المئات من البشر فأول ما يسأل عنه هو هل هۆلاء من طائفتي هل هۆلاء سنة أم شيعة أم ماذا؟
واضعا لتفاعله الإنساني اشتراطات تصنيفية، فإذا ما عرف أنهم من غير طائفته لا يبدي للحدث أي اكتراث أو اهتمام بل بعضهم يقول شامتا: يستحقون ما جاءهم، فقط لأنهم ليسوا على مذهبه.
إن التعاطي مع الظروف والأحداث الإنسانية بنفس طائفي هو سلوك منحرف وحائد عن الفطرة وعن توجيهات الإسلام وأهل بيت الرسالة، فأهل البيت (عليهم السلام) يدعوننا من خلال سيرتهم أن ننفتح بعقولنا وأحاسيسنا على هموم الأمة وقضاياها الكبرى ولا نجعل همنا الطائفي يشغلنا عن ذلك، فرغم ما للطائفة من حق للدفاع عن نفسها وحقوقها والتبشير لما تۆمن به إلا أن ذلك لا يعني أبدا الانطواء والانعزال عن الشۆون العامة للمسلمين وعن الهموم الكبرى المشتركة للأمة.
فهاهم أئمتنا الأطهار الذين سُلط عليهم سيف الظلم والبغي والطائفية المقيتة بأعتى وأقسى صورها، رغم كل ذلك لم يتعذروا بذلك ويتخلوا عن الاهتمام بقضايا الأمة الكبرى والمشتركة لكافة المسلمين، فإمامنا علي بن الحسين زين العابدين رغم الحيف والظلم الذي لاقاه في كربلاء حيث استشهدت رجالات أهل البيت(عليهم السلام) وسبيت نساءهم رغم كل ذلك، ورغم اعتمال كل هذا الأسى في نفسه على مدى عشرين أو أربعين عاما كما يروي التاريخ لنا ذلك ويحكي لنا عن طول بكائه وتألماته، إلا أن كل ذلك لم يمنعه من أن ينفتح على الهموم المشتركة للأمة فقد كان في زمانه الأعداء يحومون حول ثغور بلاد الإسلام لينالوا منها، وجيوش المسلمين ترابط على الثغور وتقاتل للدفاع عن دولة الإسلام ورغم أن تلك الجيوش تحت سلطة أعداء أهل البيت(عليهم السلام) من حكام بني أمية إلا أن ذلك لم يمنعه من الدعاء لتلك الجيوش بالنصر في دعاء هو من أطول أدعية الصحيفة السجادية موسوم بـ «دعاء الثغور»، كل ذلك إشارة إلى ضرورة الانفتاح على قضايا الأمة الكبرى وعدم التعاطي معها بالروح الطائفية، فلا ينبغي أن يرضى السنة بأي ضرر قد يأتي من أمريكا على إيران مثلا، كما لا يرضى الشيعة بما يعانيه أهلهم في فلسطين من قبل العدو المحتل فكلا الاعتداءين اعتداء على بلاد الإسلام، بغض النظر عن التصنيف الطائفي لها، فلا بد أن نعيش بروح الأمة في مواجهة ما يلقانا كأمة من أخطار.
إمامنا الصادق ضرب لنا هنا مثالا نحتذي به، فحين خرج حاملا على ظهره شيئا من الطعام ليغيث به بعض المعوزين والمحتاجين من مجتمعه وفي وسط ذلك الليل والناس في ساعة النوم والراحة وفي وقت تزخ السماء بأمطارها لم يتواني عن واجبه ودوره هذا لمجرد كون أولئك المعوزين الذين يعيشون ظروفا إنسانية قاسية على غير رأيه ومذهبه، ولعل روح الطائفية تلك كانت سائدة حينها الأمر الذي جعل مرافقه يسأله إن كان هۆلاء على مذهبه أم لا، متوهما أن الإمام قد يتخذ هذه التصنيفات المذهبية ويعتمدها في مواقفه الإنسانية، لذا أجابه الإمام بأنهم ليسو من شيعة أهل البيت، هكذا علمنا الصادق، هكذا هي مدرسة أهل البيت(عليهم السلام).