لمحات من عناصر الرسول الأكرم (ص) ومكوناته النفسية

لمحات من عناصر الرسول الأكرم (ص) ومكوناته النفسية

2024-09-21

100 بازدید

ما خلق الله تعالى فضيلة يشرّف بها الإنسان ويسمو إلا وهي من عناصر شخصيّة الرسول (ص)، ومن مقوماته وذاتيّاته، فقد خلقه الله تعالى مهذباً من كل عيب ومطهراً من كل رجس، قد توفرت فيه جميع الصفات الرفيعة والمثل العليا التي استطاع بها أن يغيّر مجرى تأريخ العالم، ويحدث زلزالاً مدمّراً لعقائد الجاهلية التي استباحت جميع مآثم الحياة.

لمحات من عناصره (ص)

إنه ليس في تأريخ عظماء العالم شخصيّة تضارع شخصية الرسول (ص) في مواهبه وعبقرياته، وفي قدراته وملكاته، فقد رفع رسالة ربّه بقوّة وشموخ وليس عنده قوة تحميه من المد الجاهلي، سوى عمه مؤمن قريش أبي طالب وابنه بطل الإسلام الإمام أمير المؤمنين… وهذه لمحات من عناصره ومكوّناته النفسية.

قوة الإرادة

من المؤكد في علم النفس أن قوة الإرادة من أميز الصفات التي يتحلى بها الإنسان، وتدرجه في مصاف العظماء الخالدين، وقد كتب الخلود لبعض الشخصيات التي دخلت معترك الحياة، وفي ميدان الصراع المسلح مع القوى الناهضة لها أمثال نابليون وأبي مسلم الخراساني وغيرهما، وهم لا يملكون أية صفة أخرى سوى هذه الظاهرة.

وقد دخل النبي محمد (ص) في صراع رهيب مع القوى الجاهلية المنحطة فكرياً، فدمر جميع معالمها، وقضى على أعمدتها، وذلك بقوة إرادته، وصلابة عزمه، مع ما تمتع به من الصفات المشرقة.

لقد تسلّحت قريش بقواها المادية ودخلت في ميدان الصراع مع الرسول (ص) المحرر الأعظم، فلم يحفل بهم، ولم تخفه وحدته وقلة من آمن به من المستضعفين، الذين لم يكن لهم ركن شديد يأوون إليه، وراح النبي (ص) مع قلة الصديق والناصر يملي على صفحات الكون إرادته التي لا يقف أمامها شيء قائلاً لعمه:

«وَاللَّهِ يا عَمِّ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ بِيَمِيْنِي، وَالْقَمَرَ بِيَسَارِي عَلَىٰ أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ ما تَرَكْتُهُ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ أَمُوْتَ دُونَهُ».

أي إرادة أقوى من هذه الإرادة؟ أي عزم أصلب من هذا العزم؟

لقد مضى الرسول (ص) في نضاله وكفاحه حتى نصره الله تعالى وأعزه وأيده، فأقام كلمة التوحيد، وأنقذ الناس من عبادة الأوثان والأصنام.

سمو الأخلاق

من أبرز الصفات الرفيعة الماثلة في شخصية الرسول (ص) سمو الأخلاق، فقد كان آية من آيات الله تعالى في هذه الظاهرة التي امتاز بها على سائر النبيين، وساد بها على جميع المخلوقين، وقد صعق بها القلوب حتى استطاع أن يجمع كلمة العرب، ويوحد صفوفهم، ويجنّدهم لتطهير الأرض من براثن الوثنية والجاهلية، وقد أثنى الله تعالى عليه، ومجد فيه هذه الصفة الرفيعة قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عظیم)[1].

وتحدث (ص) عن معالي أخلاقه فقال: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ»[2].

لقد كانت الأخلاق السامية التي فطر عليها الرسول (ص) من صميم خلقته، ليست مصطنعة ولا مكتسبة، وكان فيما يقول الرواة ينفر من التصنع والتكلف، وكان يدعو ويقول: «اللَّهُمَّ كَمَا أَحْسَنْتَ خَلْقِي فَحَسِّنْ خُلُقي».

الحلم

من صفاته (ص) البارزة سعة الحلم، فقد كان من أوسع الناس حلماً، وكانت هذه الظاهرة من أبرز صفاته ومن أميزها، وذكر المؤلفون في سيرته بوادر مهمة من عظيم حلمه كان منها:

1ـ روى أنس بن مالك قال: كنت مع النبي (ص)، وعليه برد غليظ الحاشية، فجذبه أعرابي جذباً شديداً، فأثرت حاشية البرد في صفحة عاتقه الشريف، ورفع صوته على النبي قائلاً: يا محمد، أحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل من مالك، ولا من مال أبيك.

ولم يتأثر النبي (ص) من اعتدائه عليه، وإنما قابله بلطف قائلا له: «المالُ مالُ اللهِ، وَأَنا عَبْدُهُ».

وقابله النبي (ص) ببسمات قائلاً: «وَيُقادُ مِنْكَ يا أَعْرَابِيُّ مَا فَعَلْتَ بِي؟».

«لا».

«لم؟».

لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة.

وضحك النبي، وأمر أن يحمل له على أحد بعيريه تمراً، وعلى الآخر شعيراً[3].

أرأيتم هذا الحلم الرفيع الذي هو نفحة من روح الله تعالى، ومن ألطافه التي منحها لعبده ورسوله ليكون نوراً يستضيء به العباد.

2ـ ومن عظيم حلمه أنه لما كسرت رباعيته، وشج جبينه في يوم أُحد شق ذلك على أصحابه فراحوا يقولون له: لو دعوت عليهم؟.

فأجابهم برحمة ولطف: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَاناً، وَلكِنْ بُعِثْتُ داعِياً وَرَحْمَةً، اللَّهُمَّ إِهْدِ قَوْمِي فَإِنَّهُمُ لَا يَعْلَمُونَ»[4].

وهكذا تجلت الرحمة بجميع رحابها في نفسه العظيمة على أعدائه الذين أسرفوا في ظلمه والاعتداء عليه، فأشفق عليهم، ودعا لهم بالهداية لا بالعذاب والانتقام.

الجود

كان الرسول (ص) من أندى الناس كفاً، وأكثرهم براً، وكان البر والإحسان إلى البؤساء والمحرومين من صفاته وعناصره.

وقد ذكر الرواة أمثلة كثيرة من بره كان منها:

1- عن أنس أن رجلاً سأله (ص) فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه وقال: «أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة[5].

۲- ردّ على هوازن سباياها[6]، وكانت ستة الآف من الآدميين.

٣- أعطى غير واحد مائة من الإبل، وأعطى صفوان مائة ثمّ مائة ثم مائة[7].

التواضع

من صفاته (ص) الرفيعة التواضع فهو بالرغم من أنه سيد الكائنات وأعظم الموجودات، إلا أنه كان من أشد الناس تواضعاً، وقد قال لأصحابه: «إِنَّما أنا عَبْدٌ: أَكُلُ كَما يَأْكُلُ الْعَبْدُ، وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ»[8].

وقد قال له شخص: يا خير البرية، فردّ عليه: «ذاكَ إِبْراهِيمُ»[9].

وهكذا كان الرسول (ص) المثل الأعلى لكل فضيلة خلقها الله تعالى في الأرض.

الزهد

من خصائص الرسول (ص) الزهد في الدنيا، فقد رفض زينتها ومباهجها، وتجرد تجرّداً كاملاً عن جميع رغباتها، وعاش عيشة الفقراء والبؤساء، وهذه بعض الروايات عن زهده:

1ـ دخل على الرسول رجل فرآه جالساً على حصير قد أثر في جسمه، ووسادة من ليف أثرت في خده، فجعل الرجل يقول بألم: ما رضي بهذا كسرى ولا قيصر، إنهم ينامون على الحرير والديباج، وأنت على هذا الحصير، فقال له النبي (ص): «أنا خَيْرٌ مِنْهُما، ما أَنَا وَالدُّنْيا، إِنَّما مَثَلُها كَمَثَلِ راكِبٍ مَرَّ عَلَىٰ شَجَرَةٍ، وَلَهَا فَيْءٌ فَاسْتَظَلَّ تَحْتَهَا، فَلَمّا مالَ الظَّلَّ عَنْهَا ارْتَحَلَ وَتَرَكَها»[10].

2- روت عائشة قالت: ما شبع رسول الله (ص) ثلاثة أيام تباعاً من خبز، حتى مضى لسبیله[11].

3- روی ابن عباس قال: كان رسول الله (ص) يبيت هو وأهله الليالي المتتابعة طاوياً لا يجدون عشاء[12].

4ـ روت عائشة قالت: كان فراش رسول الله (ص) الذي ينام عليه أدماً، حشوه من ليف، وقد توفي صلوات الله عليه ودرعه مرهونة عند يهودي في نفقة عياله، وهو يدعو: «اللهمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلَ مُحَمَّدٍ قُوْتاً»[13].

الإنابة إلى الله عزّ وجل

من ذاتياته (ص) الإنابة إلى الله تعالى، والخوف الشديد منه.

يقول الإمام الصادق: «وما كانَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (ص) مِنْ أَنْ يَظَلَّ خَائِفاً جَائِعاً في اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»[14].

وروى ابن عمر قال: «انا كنا نعد في مجلس الرسول (ص) يقول مائة مرة: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَتُبْ عَلَيَّ إِنَّكَ التَّوَابُ الْغَفُورُ»[15].

لقد أناب إلى الله تعالى، وأرهق نفسه إرهاقاً شديداً في عبادته، حتى نزل عليه الوحي بهذه الآية: ﴿وطه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى[16]، وقد فاق جميع الأنبياء بعبادته وإنابته إلى الله تعالى.

الحياء

كان الرسول (ص) أشد الناس حياء.

قال أبو سعيد الخدري: «كان رسول الله (ص) أشدّ حياء من العذراء في خدرها»[17].

ولما فتح الله تعالى الفتح المبين باحتلال مكة التي كانت قلعة للوثنية ومركزاً للقوى المعادية للنبي (ص)، دخل فاتحاً تحف به قواته المسلّحة، وهو مطأطأ برأسه إلى الأرض خجلاً وحياء من قريش التي جهدت على مناجزته ولف لواء رسالته، وخاطبهم بناعم القول قائلاً لهم: «اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطَّلَقَاءُ».

وكان من حيائه أنه لم يصرح باسم من يكرهه، وإنما يقول: «ما بالُ أَقْوامٍ يَقُولُونَ أَوْ يَصْنَعُونَ كَذا»[18].

وقال: «الْحَياءُ وَالإِيمَانُ مَفْرُونَانِ في قَرْنِ واحِدٍ، فَإِذَا سُلِبَ أَحَدُهُمَا تَبِعَهُ الآخَرُه»[19].

ذكره (ص) لله عز وجل

كان الرسول (ص) دوماً يلهج بذكر الله تعالى، فكان فيما يقول الرواة: إذا أصبح يقول: «الْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيراً عَلى كُلِّ حالٍ»، يردّد ذلك ثلثمائة وستين مرة، وإذا أمسى قال مثل ذلك[20].

وروى الإمام الصادق (ع): «إِنَّ رَسُولَ اللهِ (ص) كَانَ لَا يَقومُ مِنْ مَجْلِسٍ وَإِنْ خَفَّ حَتَّى يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَمْساً وَعِشْرِينَ مَرَّةٌ»[21].

بكاؤه (ص) عند تلاوة بعض الآيات عليه

وإذا تليت على الرسول (ص) بعض الآيات أغرق في البكاء، فقد روى ابن مسعود قرأت على رسول الله (ص) من سورة النساء، فلما بلغت هذه الآية: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً)[22]، ففاضت عيناه من الدموع[23].

وروى عبد الله، قال: «قال رسول الله (ص): اقرأ عليَّ، قلت: لأقرأ عليك وعليك أنزل؟

قال: أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْري، فقرأت حتى إذا بلغت: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً)، قال: رأيت عينيه تذرفان دموعاً[24].

لقد تعلّق الرسول (ص) بالله تعالى، وتفاعل حبّه له بمشاعره وعواطفه، وكان ذلك ناجماً عن معرفته الكاملة لله تعالى خالق الكون وواهب الحياة.

الشفقة والرحمة

من عناصره (ص) الشفقة والرحمة لجميع الناس متفقين ومختلفين، وقد أعلن الذكر الحكيم ذلك قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِن أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ[25].

ومن شفقته على قومه الذين كذبوه وناجزوه وجهدوا على قتله أنه لم يدعو عليهم، فبعد أن بالغوا في إيذائه وتكذيبه والاعتداء عليه جاءه جبرئيل فقال له: «إنّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد أمر ملك الجبال تأمره بما شئت فيهم، وناداه ملك الجبال بعد أن سلّم عليه: مرني بما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشيين – وهما جبلان في مكة – فقال له النبي (ص): «أَرْجُوْ أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَن يَعْبُدُ اللهَ تَعَالَى وَلَا يُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً»[26].

أرأيتم هذه الرحمة التي لا حدود لها، وقد أعلنها القرآن الكريم.

قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ[27]، وأي رحمة أعظم من النبي (ص) على الناس، فقد رفع كلمة الله تعالى عالية في الأرض وهي مصدر كل رحمة ونعمة، وأقام نظاماً رائعاً متطوراً لإصلاح البشرية.

وكان (ص) شديد الرحمة والشفقة على أهله وعياله. يقول خادمه أنس بن مالك: ما رأيت أحداً كان أرحم بالعيال من رسول الله[28].

لقد كان الرسول (ص) من أروع أمثلة الرحمة التي شملت الأصدقاء والأعداء، وقد استطاع برحمته ورأفته أن يؤلّف بين القلوب، ويوحّد بين المشاعر، ويجمع الكلمة، ويوحد الصف.

الوفاء

فقد كان (ص) من أوفى الناس، وأرعاهم لمقابلة المعروف والإحسان بالإحسان، وكان من وفائه لأمّ المؤمنين خديجة بعد وفاتها أنه إذا قدمت له هدية بادر بإهدائها إلى إحدى صديقات خديجة[29].

وكان من وفائه لأصحابه أنه إذا غاب عنه شخص منهم ثلاثة أيام سأل عنه، فإن كان غائباً دعا له، وإن كان شاهداً زاره، وإن كان مريضاً عاده.

ومن وفائه أنه وفد عليه وفد من النجاشي الذي أكرم اللاجئين عنده من المسلمين الذين هاجروا للحبشة، فقام (ص) بنفسه يخدمهم، فقال له أصحابه: «نكفيك»، فقال «إِنَّهُمُ كانُوا لأَصْحابنا مُكْرِمِينَ، وَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُكَافِتَهُمْ»[30].

الشجاعة

كان الرسول (ص) أشجع الناس، وأصلبهم وأقواهم شكيمة، وتحدث الإمام أمير المؤمنين (ع) عن شجاعة النبي (ص) بقوله:

(إنا كنا إذا حمى البأس ويروى اشتد البأس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله (ص) فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي (ص) وهو أقربنا إلى العدو كان من أشد الناس يومئذ بأسا)[31].

وروى العباس عن شجاعة الرسول (ص) بقوله: لما التقى المسلمون والكفار يوم حنين ولّى المسلمون مدبرین، فطفق رسول الله (ص) يركض بغلته نحو الكفار، وأنا آخذ بلجامها أكفّها أن لا تسرع، وأبو سفيان بن الحارث، ثم نادى يا لَلْمُسْلِمينَ…[32].

إن شجاعة الرسول (ص) أعظم من أن توصف أو يلم بها بيان.

حب الفقراء

حبه (ص) للفقراء، فكان يكن لهم في دخائل نفسه أعظم الود والإخلاص، وكان أباً وحصناً لهم وكهفاً وملجاً وملاذاً، وقد وجدوا في كنف مراعاته من البرّ ما لا يوصف، وكان يوصي المسلمين بالبر والإحسان لهم، وجعل لهم نصيباً مفروضاً في أموال الأغنياء، فشرع الزكاة وألزم بها، كل ذلك مراعاة لهم، وكان من حبّه لهم أنّه كان يدعو الله تعالى أن يحشره في زمرتهم.

فقد روى أبو سعيد قائلاً: سمعت رسول الله (ص) يقول: «اللَّهُمَّ أَحْيني مِسْكِيْناً، وَتَوَفَّنِي مِسْكِيناً، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ، وَأَنَّ أَشْقَى الْأَشْقِياءِ، مَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فَقْرُ الدُّنْيا وَعَذَابُ الْآخِرَةِ»[33].

كراهته (ص) للعظمة

كراهيته (ص) الشديدة للتفوق والأنانية والعظمة، فقد روى عبد الله بن عباس قال: مشیت خلف رسول الله (ص) لأنظر هل يكره أن أمشي وراءه أو يحبّ ذلك، قال: فالتمسني بيده وألحقني به حتى مشيت بجنبه، ثم تخلفت مرة ثانية، فالتمسني بيده فألحقني به فعرفت أنه يكره ذلك[34].

وكان يكره أن يستقبل بالتعظيم والتبجيل، وكان يقول لأصحابه: «لَا تَقُوْمُوا – لي- كَما تَقُوْمُ الْأَعاجِمُ يُعَظمُ بَعْضُهُا بَعْضاً»[35].

وهكذا كان رسول الله (ص) ينفر ويمج جميع ألوان التعظيم، ويرى أنه لا يحسن إلا لله تعالى خالق الكون وواهب الحياة.

الصبر

فقد صبر (ص) على أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد عانى من قريش جميع صنوف الأذى، حاربوه واعتدوا عليه وسبوه حينما كان في مكة، ولما هاجر منها تتبعوه، وحرّضوا عليه القبائل، وشنوا عليه الحروب بلا هوادة، وقد صبر على كل هذه المحن.

يقول الإمام الصادق (ع): «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بَعَثَ مُحَمَّداً (ص) فَأَمَرَهُ بِالصَّبْرِ فَقالَ: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً)[36]،[37]، لقد صبر صلوات الله عليه على ما لاقاه من قومه من المكروه حتى فتح له الله تعالى الفتح المبين.

إن الله تعالى أمر نبيه بالصبر. قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِن عَزْمِ الْأُمُورِ)[38]، وقد رباه الله تعالى بهذا الخلق الرفيع ليكون هادياً ومرشداً للعالمين.

العدل

تبنيه (ص) للعدل الخالص، فقد فُطر عليه، وأقامه في دنيا الوجود، وهو من أهم بنود رسالته المشرقة الهادفة لنشر العدالة الاجتماعية بين الناس، وقد خاطبه بعض جهال العرب، فقال له: أعدل يا محمد ».

فرد عليه قائلاً: (وَيْحَكَ فَمَنْ يَعْدِلْ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ، خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ)[39].

وكان من عدله أنّه لا يأخذ أحداً بقرف أحد، ولا يصدّق أحداً على أحد، وقد نشر العدل بجميع رحابه وصنوفه بين الناس، فلم يميّز أحداً على أحد، وساوى بين الجميع في الحقوق والواجبات، ولم يستثن منها أي أحد، وأقام نظامه على أروع صور العدل الذي فيه حياة الناس، وضمان حقوقهم وأمنهم ورخائهم.

النظافة

من خصاله (ص) النظافة ونزاهة الجسم من الأوساخ، وقد عرف بهذه الظاهرة.

قال أنس: «ما شممت عنبراً قط ولا مسكاً ولا شيئاً أطيب من ريح رسول الله، وكان إذا صافح أحداً فإنّه يظل يومه يجد ريحها، وإذا وضع يده على رأس صبي فيعرف بطيبه من بين الصبيان، وإذا سلك في طريق فإن طيبه يؤثر في الطريق».

وقد حثّ على النظافة بمفهومها الواسع فقال (ص): (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى النَّظَافَةِ)[40].

ولعه (ص) بالطيب

كان (ص) ولعاً بالطيب، وكان ينفق عليه أكثر مما ينفق على الطعام، ولم يعرض عليه طيب جيد إلا تطيب به، ويقول: هُوَ طَيِّبٌ رِيحُهُ، خَفِيفٌ حَمْلُهُ، وكان يدهن بالبنفسج، ويقول: هو أفضل الأدهان، كما تطيب بالمسك والغالية، وإذا تطيب بالمسك يرى وبيضه[41] في مفارقه[42].

الفصاحة والبلاغة

كان (ص) أمير البيان وسيد البلغاء والفصحاء الذي أذهلت بلاغته روّاد الحكمة والبيان، فجوامع كلماته، وبدائع حكمه كانت في أرقى مراتب البلاغة، ليس فيها تعقيد ولا غموض ولا التواء، قد رضعت بجواهر البلاغة.

وقد استطاع (ص) بسمو بلاغته أن يحتل العواطف، ويسيطر على النفوس، وأن الكثيرين ممن آمنوا به قد جلبهم روعة بيانه وصدق دعوته، وقد أثر عنه القول: أَنَا أَفْصَحُ مَنْ نَطَقَ بِالضَّادِ، وَنَشَأْتُ فِي بَنِي سَعْدِ.

الوقار

كان (ص) وحيد دهره في وقاره، وقد خضعت له الجباه، فلم ير الناس مثله في هيبته ووقاره، ووصفه الرواة أنه إذا جلس فلا يخرج شيء من أطرافه، وإذا جلس احتبى بيديه ولا يتكلم في غير حاجة تعرض له، كما كان يعرض عمّن يتكلم بغير أدب ووصفه ابن أبي هالة بقوله: «كانَ رَسُولُ اللهِ (ص) سُكُوْتُهُ عَلَى أَرْبَعِ: عَلَى الْحِلْمِ، وَالْحَذَرِ، وَالتَّقْدِيرِ، وَالتَّفْكِيرِ[43].

لقد كان آية من آيات الله في وقاره، وفي كل شأن من شؤون حياته.

الاستنتاج

إن لشخصية الرسول (ص) مواهب وخصائص، منها: قوة الإرادة، وسمو الأخلاق، والحلم، والجود، والتواضع، والزهد، والإنابة إلى الله عزّ وجل، والحياء، وذكره لله عز وجل، وبكاؤه عند تلاوة بعض الآيات عليه، والشفقة والرحمة، والوفاء، والشجاعة، وحب الفقراء، وكراهته للعظمة، والصبر، والعدل، والنظافة، وولعه بالطيب، والفصاحة والبلاغة، والوقار.

الهوامش

[1] القلم، ٤.

[2] الأربلي، كشف الغمة، ج١، ص٢٤٤.

[3] الاصفهاني، دلائل النبوة، ص١٣٤.

[4] الطبراني، المعجم الكبير، ج11، ص189.

[5] القاضي عياض، الشفا، ج1، ص112.

[6] القاضي عياض، الشفا، ج1، ص112.

[7] القاضي عياض، الشفا، ج1، ص112.

[8] المتّقي الهندي، کنز العمال، رقم 4078.

[9] السيوطي، الدر المنثور، ج1، ص116.

[10] الكليني، الكافي، ج2، ص134.

[11] الصدوق، الأمالي، ص398.

[12] ابن سيّد الناس، عيون الأثر، ج٢، ص٤٢٨.

[13] ابن حنبل، مسند أحمد، ج2، ص446.

[14] روضة الكافي: ١٦٣.

[15] ابن حنبل، مسند أحمد، ج8، ص35.

[16] طه، ۱ و۲.

[17] المنّاوي، فيض القدير، ج٥، ص١٥٩.

[18] الذهبي، تاريخ الإسلام، ص455.

[19] الصدوق، معاني الأخبار، ص٤١٠.

[20] الكليني، الكافي، ج٢، ص٤٨٩.

[21] الكليني، الكافي، ج٢، ص504.

[22] النساء، 41.

[23] ابن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص374.

[24] ابن حنبل، مسند أحمد، ج1، ص380.

[25] التوبة، ۱۲۸.

[26] ابن كثير، تفسير ابن كثير، ج3، ص259.

[27] الأنبياء، ۱۰۷.

[28] ابن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص163.

[29] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج٤، ص١٧٥.

[30] البيهقي، دلائل النبوة، ج2، ص307.

[31] القاضي عياض، الشفا، ج1، ص116.

[32] البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص37.

[33] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج٢، ص٥٦.

[34] الخطيب البغدادي، تاریخ بغداد، ج12، ص91.

[35] ابن حنبل، مسند أحمد، ج5، ص253.

[36] المزمل، 10.

[37] الكليني، الكافي، ج٢، ص٨٨.

[38] لقمان، 17.

[39] القاضي عياض، الشفا، ج1، ص223.

[40] السيوطي، الجامع الصغير، ج١، ص٥١٧.

[41] الوبيض: البريق.

[42] الكليني، الكافي، ج٢، ص263.

[43] ابن الأثير، أسد الغابة، ج١، ص٢٦.

مصادر البحث

1ـ ابن الأثير، علي، أسد الغابة، بيروت، دار الفكر، طبعة 1409 ه‍.

2ـ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، 1416 ه‍.

3ـ ابن سيّد الناس، محمّد، عيون الأثر في فنون المغازي والشمائل والسير، بيروت، مؤسّسة عزّ الدين، طبعة 1406 ه‍.

4ـ ابن كثير، إسماعيل، تفسير القرآن الكريم، بيروت، دار المعرفة، طبعة 1412 ه‍.

5ـ الأربلي، علي، كشف الغمة في معرفة الأئمّة، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1421 ه‍.

6ـ الإصفهاني، إسماعيل، دلائل النبوّة، تحقيق مساعد بن سلمان الراشد، دار العاصمة، بلا تاريخ.

7ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه‍.

8ـ البيهقي، أحمد، دلائل النبوّة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405 ه‍.

9ـ الحاكم النيسابوري، محمّد، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار التأصيل، طبعة 1435 ه‍.

10ـ الخطيب البغدادي، أحمد، تاريخ بغداد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

11ـ الذهبي، محمّد، تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الثانية، 1409 ه‍.

12ـ السيوطي، عبد الرحمن، الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1429 ه‍.

13ـ السيوطي، عبد الرحمن، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت، دار الفكر، بلا تاريخ.

14ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

15ـ الصدوق، محمّد، معاني الأخبار، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، طبعة 1379 ش.

16ـ الطبراني، سليمان، المعجم الكبير، بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1405 ه‍.

17ـ القاضي عياض، الشفا بتعريف حقوق المصطفى، بيروت، دار الفكر، طبعة 1409 ه‍.

18ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

19ـ المتّقي الهندي، علي، كنز العمّال، بيروت، مؤسّسة الرسالة، طبعة 1409 ه‍.

20ـ المنّاوي، محمّد، فيض القدير شرح الجامع الصغير، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415 ه‍.

مصدر المقالة

القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه‍.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *