ومن الحجة على إمامة أعيان الأئمة عليهم السلام ، أنا قد دللنا على وقوف تعيين الإمام على بيان العالم بالسرائر سبحانه بمعجز يظهر على يديه ، أو نص يستند إليه ، وكلا الأمرين ثابت في إمامة الجميع .
أما المعجز فعلى ضروب :
منها : الإخبار بالكائنات ، ووقوع المخبر مطابقا للخبر .
ومنها : الإخبار بالغائبات .
ومنها : ظهور علمهم ذي الفنون العجيبة في حال الصغر والكبر ، وتبريزهم فيه على كافة أهل الدهر ، على وجه لم يعثر عليهم بزلة ولا قصور عند نازلة ولا انقطاع في مسألة ، من غير معلم ولا رئيس يضافون إليه غير آبائهم ، وفيهم من لا يمكن ذلك فيه ، كالرضا وأبي جعفر وأبي محمد عليهم السلام .
وإعجاز هذه الطريقة من وجهين :
أحدهما : أن العادة لم تجر فيمن ليس بحجة أن يتقدم في علم واحد – فضلا عن عدة علوم – من غير معلم .
الثاني : أن كل عالم عدا حجج الله سبحانه محفوظ عنهم التقصير عند المشكلات ، والعجز عند كثير من النوازل ، والانقطاع في المناظرة .
ومنها : تعظيمهم مدة حياتهم من المحق والمبطل ، وشهادة الكل على لؤم من ينقصهم وإن كان عدوا ، والإشارة بذكرهم بعد الوفاة ، وخضوع العدو والولي لمشاهدهم ، وهجرة الفرق المختلفة إليها ، وتقربهم إلى مالك الثواب والعقاب سبحانه بحقهم ، مع فقد الخوف منهم والطمع فيما عندهم ، وحصول عكس هذا الأمر فيمن عداهم من منتحلي الإمامة وذوي الخلافة بنفوذ الأمر وثبوت الرجاء والخوف .
وهذه الطرق منها ما هو معلوم ضرورة ، كظهور علمهم ، وثبت تعظيمهم في الحياة وبعدها .
ومنها ما هو معلوم للأكل ناظر في الأخبار ومتأمل الآثار ، لثبوت التواتر به ، كالنص ، على ما نبينه .
ومن ذلك : رد الشمس لأمير المؤمنين عليه السلام في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكلام الجمجمة ، وإحياء الميت بصرصر ، وضرب الفرات بالقضيب وبسوطه حتى بدت حصباؤه ، وكلام أهل الكهف ، إلى غير ذلك من آياته الثابتة .
ومن ذلك : ضرب الحسن بن علي عليهما السلام النخلة اليابسة بيده فأينعت حتى أطعم الزهري من رطبها ، وقوله لأخيه الحسين عليهما السلام : قد علمت من سقاني السم ، فإذا أنا مت فاحملني إلى قبر جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجدد به عهدا ، وستخرج عائشة لتمنع من ذلك ، فكان كما قال .
ومن ذلك : ما سمع من كلام رأس الحسين عليه السلام ، وقوله عليه السلام قبل مسيره لأم سلمة : إني مقتول في طريقي هذا ، وقوله لعمر بن سعد – وقد قال له : إن قوما سفهاء يزعمون أني أقتلك – : إنهم ليسوا سفهاء ، ولكنهم علماء ، وإنه يسرني ألا تأكل من تمر العراق شيئا ، فكان كما قال .
ومن ذلك : كلام الحجر الأسود لعلي بن الحسين عليهما السلام ، وشهادته له بالإمامة ، ودعاؤه للظبي فجاءه فأكل معه من الطعام ، وإخباره عبد الملك ابن مروان بقصة الكتاب إلى الحجاج ، وإخباره أن الله تعالى قد زاد في ملكه لذلك زمانا طويلا ، وإخباره بولاية عمر بن عبد العزيز وقصة يزيد .
ومن ذلك : عود النخلة اليابسة لأبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام ذات تمر وانتشاره عليه وعلى أصحابه ، ومسح يده على عيني أبي بصير حتى رأى الحاج ثم مسحه عليهما فرجعتا ، وإنفاذه الجن في حوائجه .
ومن ذلك : مسح أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام على عين أبي بصير حتى رأى السماء ثم أعاده ، وإخباره المنصور بما آل إليه أمره ، وإخباره الشامي بحاله منذ خرج من منزله وإلى أن وصل إليه .
ومن ذلك : دعاء أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام الشجرة فجاءت تخد الأرض خدا ثم أشار إليها فرجعت ، وخطابه للأسد ، وقصصه مع علي بن يقطين ، وقوله لهشام بن سالم بعد شكه وقوله في نفسه : أين أذهب إلى الحرورية أم إلى المرجئة أم إلى الزيدية ؟ فقال له : إلى إلي ، لا إلى الحرورية ولا إلى المرجئة ولا إلى الزيدية .
ومن ذلك : إخراج أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليهما السلام السبيكة من الأرض لإبراهيم بن موسى ، وفهمه كلام السخلة ، وإخباره بقصة آل برمك قبل وقوعها بصفتها ، وقصة الغفاري وما عليه من الدين المجهول .
ومن ذلك : توضؤ أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام في مسجد ببغداد يعرف موضعه بدار المسيب في أصل نبقة يابسة ، فلم يخرج من المسجد حتى اخضرت وأينعت – حدثني الشيخ أبو الحسن محمد بن محمد ، قال : حدثنا الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد المفيد رضي الله عنه أنه أكل من نبقها وهو لا عجم له – وقصة الشامي وتخليصه من الحبس من غير مباشرة .
ومن ذلك : قصة أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام مع علي بن مهزيار ، وخروجه في القيظ بآلة الشتاء ، وإخباره بما أضمره في عرق الجنب ، وقصة صالح بن سعيد وخان الصعاليك ، وقصة يونس النقاش والفص الياقوت.
ومن ذلك : قصة أبي محمد الحسن بن علي عليهما السلام مع زينب الكذابة ، وقصة السنور .
ومن ذلك : لصاحب الزمان عليه السلام : قصة المصري والمال ، وقصة الحسين بن فضل ، وقصة أحمد بن الحسن ، والتوقيعات على أيدي السفراء بفنون الغائبات .
في أمثال لهذه الآيات ، يطول بذكرها الكتاب ، ويخرج به عن الغرض بهذا المختصر ، من أراد الوقوف على جميع ذلك وجده في تصانيف شيوخنا رضي الله عنهم ، وفيما ذكرناه كفاية .
وجميعه إذا تؤمل وجد مختصا به تعالى ، على وجه خارقا للعادة ، مطابقا لدعوى من ظهر على يده الإمامة ، فاقتضى صدقه كسائر المعجزات .
وطريق ثبوت هذه الآيات تواتر الإمامية بها ، كالنص الجلي على ما نوضحه .
إن قيل : ظهور المعجز على يد المدعي فرع لجوازه ، فدلوا على ذلك .
قيل : المعجز للتصديق نائب مناب قوله تعالى : صدق هذا علي ، وذلك يقتضي جواز ظهوره على من للناظر مصلحة في العلم بصدقه ، وقد بينا حصول اللطف بوجود الإمام ، وتعذر تميزه من دونه أو ما يستند إليه من النص ، فيجب ظهوره عليه بحيث لا نص ينوب منابه ، وهذا يقتضي جوازه مع ثبوته ، بل يجوز ظهوره على من يستحق التعظيم من الصالحين ، ليقطع المكلف على كونه مستحقا للتعظيم ، فيفعله خالصا من الاشتراط ، ولا يقتضي ذلك التنفير عن النظر في معجزات الأنبياء عليهم السلام ، ولا يمنع من كونها مثبتة لهم بالنبوة ، لأن الباعث على النظر في المعجز هو الخوف من فوت المصالح ، وذلك حاصل في مدعي الإمامة والصلاح كمدعي النبوة ، فيجب كون الناظر مدعوا مع الجميع .
فأما كونه مبينا ، فإنما يبين الصادق من الكاذب ، ثم يرجع الناظر إلى قوله المؤيد به قاطعا على صدقه آمنا من دعواه النبوة وليس بنبي ، أو الإمامة مع كونه صالحا حسب ، لكون المعجز مؤمنا من ذلك .
وأيضا فإنا نعلم ظهور الآيات على من ليس بنبي ولا إمام ، كمريم وأم موسى .
أما مريم ، فنطق المسيح عليه السلام حين الوضع وفي المهد عقيب دعواها البراءة مما قذفت به ، ومعاينتها الملك مبشرا لها عن الله تعالى بما يفتقر معه إلى معجز لتعلم كونه رسولا لله سبحانه إليها ، ونزول الرزق عليها من السماء وهي في كفالة زكريا عليه السلام .
وأما أم موسى ، فإخباره سبحانه بالإيحاء إليها ، والوحي معجز ولأن إلقائها موسى في اليم واثقة برجوعه إليها يقتضي علمها بصحة الوعد ، وذلك لا يمكن إلا بالمعجز وإذا كان ظهور المعجز على من ليس بنبي واجبا في حال وجائزا في آخر وحاصلا في آخر ، ووجدنا الناقلين من الشيعة جماعة لا يجوز عل بعضهم الكذب في المخبر الواحد – على ما نبينه فيما بعد – ينقلون هذه المعجزات خلفا عن سلف ، حتى يتصلوا في النقل عن الطبقات التي لا يتقدر في خبرها الكذب لمن شاهدها ظاهرة على أيدي الحجج المذكورين عليهم السلام ، ثبت كونها واقتضى ذلك إمامتهم عليهم السلام .