قال الشيخ الصدوق ـ عليه الرحمة ـ : وأخبرني الشيخ أدام الله عزّه مرسلاًعن عمرو بن وهب اليماني قال : حدّثني عمرو بن سعد عن محمد بن جابر عن أبي إسحاق السبيعي قال : قال شيخ من أهل الشام حضر صفين مع أمير المؤمنين عليه السلام بعد انصرافهم من صفين : أخبرنا يا أمير المؤمنين عن مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء من الله وقدر ؟
قال : نعم يا أخا أهل الشام ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ، ما وطئنا موطئاً، ولا هبطنا وادياً ، ولا علونا تلعة ، إلاّ بقضاء من الله وقدر.(۱)
فقال الشامي : عند الله تعالى أحتسب عنائي إذاً يا أمير المؤمنين ، وما أظن أن لي أجراً في سعيي إذا كان الله قضاه عليَّ وقدَّره لي.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنّ الله قد أعظم لكم الاَجر على مسيركم وأنتم سائرون ، وعلى مقامكم وأنتم مقيمون ، ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين ، ولا عليها مجبرين.
فقال الشامي : فكيف يكون ذلك والقضاء والقدر ساقانا ، وعنهما كان مسيرنا وانصرافنا ؟ !
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : ويحك يا أخا أهل الشام! لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حتماً ، لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، والاَمر من الله عز وجل والنهي منه ، وما كان المحسن أولى بثواب الاِحسان من المسيء ، ولا المسيء أولى بعقوبة المذنب من المحسن ، تلك مقالة عبدة الاَوثان وحزب الشيطان وخصماء الرحمن وشهداء الزور وقدرية (۲) هذه الاُمّة ومجوسها (۳) إن الله أمر عباده تخييراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يُطع مكرهاً ، ولم يُعصَ مغلوباً ، ولم يكلف عسيراً ، ولم يرسل الاَنبياء لعباً ، ولم ينزل الكتب على العباد عبثاً ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا باطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ) (۴) . قال الشامي : فما القضاء والقدر اللذان كان مسيرنا بهما وعنهما ؟
قال : الاَمر من الله تعالى في ذلك والحكم منه ثمّ تلا : ( وَكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَرَاً مَّقْدُورَاً ) (۵) .
فقام الشامي مسروراً فرحاً لما سمع هذا المقال وقال : فرّجت عنّي يا أمير المؤمنين ، فرَّج الله عنك وأنشأ يقول :
أنت الاِمام الذي نرجـو بطاعته ***** يوم النشور من الرحمـن رضوانا
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً ***** جزاك ربك عنّـا فيـه إحســانا
نفى الشكوك مقال منـك متّضح ***** وزاد ذا العلم والاِيمــان إيقانـا
فلن أرى عاذراً في فعل فـاحشة ***** ما كنت راكبهـا ظلماً وعـدوانا
كلا ولا قائلاً يومــاً لداهيــة ***** أرداه فيها لدينا غيـر شيطــانا
ولا أراد ولا شاء الفســوق لنا ***** قبل البيان لنا ظلمـاً وعــدوانا
نفسي الفداء لخير الخلــق كُلِّهِمُ ***** بعد النبي علي الخيـر مــولانا
أخي النبي ومولى المؤمنيـن معاً ***** وأوّل الناس تصديقـاً وإيمــانا
وبعل بنت رسـول الله سيّدنــا ***** أكرم به وبها سراً وإعـلانا (۶)
————————————–
(۱) قيل إن القضاء والقدر هو : الاَمر من الله تعالى والحكم بمعنى أنّه تعالى بيّن ذلك وكتبه وأعلم أنّهم سيفعلون ذلك في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته ، وقدر ذلك في سابق علمه وقد اشتهر في الحديث النبوي الشريف إن كلّ شيء بقضاءٍ وقدر ، وانّه يجب الاِيمان بالقدر خيره وشرّه ، وأنّ أفعال العباد واقعة بقضاء الله وقدره ، لا بمعنى أنّه تعالى خلق أفعالهم وأوجدها ـ كي ينسب فعل العباد له ـ إذ لو كان بهذا المعنى لسقط اللوم عن العاصي وعقابه ، ولم يستحق المطيع الثواب على عمله ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً.
فالاَفعال الصادرة من العبد كلّها واقعة بقدرته واختياره غير مجبور على فعله ، بل له أن يفعل غير مضطر ، وله أن لا يفعل غير مكره. وهذا ما جاء عن أئمّة الهدى ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، قال إمامنا الصادق عليه السلام : لا جبر ولا تفويض ، ولكن أمرٌ بين أمرين. وهذا ما ذهبت إليه الاِمامية ومن حذا حذوهم.
فأفعال العباد واقعة تحت قدرتهم واختيارهم ، ولكن غير خارجة عن قدرة الله تعالى ، إذ هو المفيض على الخلق ، فليست أفعالهم واقعة تحت الجبر بتمكينه لهم ، ولم يفوّض لهم خلق الاَفعال فتكون خارجة عن قدرته وسلطانه ، بل له الحكم والاَمر ، وهو على كلّ شيء قدير.
وهناك من ذهب إلى أنّ الفاعل لاَفعال المخلوقين من المعاصي هو الله تعالى ومع ذلك يعاقبهم عليها وهو الفاعل للطاعة ومع ذلك يثيبهم عليها ، وانّه لا فعل للعبد أصلاً ـ وهم المجبرة ـ ولا فاعل سواه ولا شريك له في ذلك فنسبوا إلى الله الظلم بمقالتهم هذه ، تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ، وقد فنّد أمير المؤمنين عليه السلام مقالتهم هذه وزعمهم الباطل قال عليه السلام : ( لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب ) إذ كيف يجبرهم على الطاعة ثمّ يثيبهم على عمل لم يصدر منهم ، وكيف يجبرهم على المعصية ثم يعاقبهم عليها إذ لا عقاب على عمل لم يفعله العبد ( وسقط الوعد والوعيد ) الوعد على الطاعة بالثواب ، والوعيد على المعصية بالعقاب حيث انّه تعالى وعد المطيعين بالثواب الجزيل ، وأوعد العاصين بالعقاب ، ولا يكون ذلك إلاّ باختيارهم وإرادتهم، ولذا أمرهم تعالى ونهاهم وأرسل الرسل لهم وأنزل الكتب عليهم وكلفهم ، ومع الجبر لا قدرة لهم فلا تكليف فيبطل كلّ ذلك ما داموا مجبورين على أفعالهم. وليس هناك أدلّ من الوجدان على قدرة العبد واختياره وانّه غير مجبور على فعله فله أن يفعل وله أن لا يفعل وهو الصواب ، ولذا نجد القرآن الكريم ينسب الاَفعال إلى أصحابها ويحملهم مسؤولية أفعالهم إن خيراً فخير وان شرّاً فشر. فمن تلك الآيات الشريفة قوله تعالى : ( من يعمل مثقال ذرّة ) ، ( من يعمل سوءاً يجز به ) ، ( كلّ امرىءٍ بما كسب رهين ) ، ( جزاءاً بما كانوا يعملون ) إلى غير ذلك من آيات الوعد والوعيد والذم والمدح.
وقد سئل الاِمام أبو الحسن الهادي ـ صلوات الله عليه ـ عن أفعال العباد ، فقيل له : هل هي مخلوقة لله تعالى ؟ فقال عليه السلام لو كان خالقاً لها لما تبرّأ منها وقد قال سبحانه : ( إن الله بريءٌ من المشركين ورسولهُ ) التوبة | ۳٫
راجع : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد : ص ۳۱۵ ، تصحيح الاعتقاد ـ من مصنّفات الشيخ المفيد ـ : ج ۵ ص ۴۳ ، الباب الحادي عشر للعلاّمة الحلّي : ص ۵۹ ، حقّ اليقين في معرفة اُصول الدين لشبّر : ج ۱ ص ۶۰ ، عقائد الاِمامية للمظفّر : ص ۲۶۷٫
(۲) القدرية قيل : هم جاحدوا القدر القائلون بنفي كون الخير والشر كلّه بتقدير الله ومشيئته ، وسمّوا بذلك لمبالغتهم في نفيه. وقالت المعتزلة : القدريّة هم القائلون بأنّ الخير والشرّ كلّه من الله وبتقديره ومشيئته لاَنّ الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ، وقال أبو سعيد الحميري: وسميت القدريّة : قدريّة لكثرة ذكرهم القدر ، وقولهم في كلّ ما يفعلونه قدّره الله عليهم ، والقدرية يسمون: العدلية ، بهذا الاسم ، والصحيح ما قلناه لاَنّ من أكثر من ذكر شيء نُسب إليه ، مثل من أكثر من رواية النحو ، نسب إليه ، فقيل : نحوي ، ومن أكثر من رواية اللغة نسب إليها ، فقيل : لغوي، وكذلك من أكثر من ذكر القدر ، وقال في كلّ فعل يفعله : قدّره الله عليه ، قيل : قدري ، والقياس في ذلك مطرد.
وأمّا في أخبار أهل البيت عليهم السلام فقد يطلق القدري على الجبري والتفويضي، كما عن حريز ، عن أبي عبدالله عليه السلام قال : الناس في القدر على ثلاثة أوجه : رجل زعم أنّ الله عزّ وجلّ أجبر الناس على المعاصي فهذا قد ظلم الله عزّ وجلّ في حكمه وهو كافر ، ورجل يزعم أنّ الاَمر مفوّض إليهم فهذا وهّن الله في سلطانه فهو كافر ، ورجل يقول : إنّ الله عزّ وجلّ كلّف العباد ما يطيقون ، ولم يكلّفهم ما لا يطيقون، فإذا أحسن حمد الله ، وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ.
راجع : معجم الفرق الاسلامية للاَمين : ص ۱۹۰ ، الحور العين أبو سعيد الحميري : ص۲۰۴، بحار الاَنوار : ج ۵ ص ۹ ح ۱۴ ، سفينة البحار : ج ۲ ص ۴۰۹٫
(۳) جاء في كنز العمّال ج ۱ ص ۱۲۱ ، ح ۲۶۷۷ : إنّ لكلّ اُمّة مجوس ومجوس اُمّتي هذه القدرية الخ ، وجاء في سفينة البحار ج۲ ص۴۰۹، وقد ورد في صحاح الاَحاديث: لعن الله القدريّة على لسان سبعين نبيّاً.
(۴) سورة ص : الآية ۲۷٫
(۵) سورة الاَحزاب : الآية ۳۸٫
(۶) الفصول المختارة للشيخ المفيد : ص ۴۲ ـ ۴۳ ، عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق : ج ۲ ص ۱۲۷ ـ ۱۲۸ ح ۳۸ ، كنز الفوائد للكراجكي : ج ۱ ص ۳۶۳ ـ ۳۶۴ ، الاحتجاج للطبرسي : ج ۱ ص ۲۰۸ ـ ۲۰۹ ، ترجمة الاِمام علي عليه السلام من تاريخ مدينة دمشق : ج ۳ ص ۲۸۴ ـ ۲۸۵ ح ۱۳۰۶ ، نهج البلاغة لاَمير المؤمنين عليه السلام تحقيق صبحي الصالح : ص ۴۸۱ من كلام له رقم : ۷۸ ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج ۱۸ ص ۲۲۷ ـ ۲۲۸ ، بتفاوت.
المصدر: الفصول المختارة / الشيخ المفيد