من أجل وصول الإنسان إلى الرقي والكمال لابد له من منهج يسير عليه، والمنهج الصحيح هو ما طرحه أئمة أهل البيت (ع) لبناء الإنسان الكامل، وقبل الحديث المجمل عن منهج أهل البيت (ع) في بناء الإنسان الكامل لابد من التعرض لبعض النقاط تمهيداً للموضوع.
النقطة الاُولى
قد لا نبالغ إذا قلنا إن كلّ المذاهب الاجتماعية تسعى لاعطاء صورة عن الإنسان الكامل، وتبني تعاليمها على أساس من السعي لتحقيق هذه الصورة.
وربّما كان هذا المبدأ من تأثيرات الفطرة الإنسانية نفسها، وإن كان المذهب نفسه لا يؤمن بالفطرة.
فحتّى اُولئك الذين يهبطون بالإنسان الى مستويات حيوانية سفلى هم في الواقع يخطئون في المصداق، وبالتالي يسلكون المنهج الخاطئ لتحقيق أهدافهم.
على أنهم يعلمون أنهم يخاطبون موجوداً معيّناً له شروطه في التقبّل، ومن أوائل هذه الشروط أن تكون الفكرة المفروضة منسجمة مع نداءاته الإنسانية عموماً وإن أخطأت في المصداق.
النقطة الثانية
إنّ الوجدان ـ وهو المحكمة التي يرجع إليها الإنسان قبل أن يدخل الى عالم المعرفة والدين والفكر المتطور ـ يقضي لأوّل وهلة بأنّ الإنسان موجود متميز على غيره بعناصره الذاتية، ولا يملك أي مذهب أن ينكر هذه الخصيصة المتميزة، حتى ولو كان لازم كلامه هذا الانكار نتيجة لخطئه في الفهم والتصور.
إنّ الإنسان قبل كل شيء يتحدث عن اُمور يعبر عنها بواسطة مصطلحات من قبيل الحقّ والعدالة والإنسانية والأخلاق والفن وغير ذلك، وهذه الاُمور لا يمكن أن يستقيم لها معنى إلاّ إذا آمنا بالخصائص الذاتية، وإلاّ لم يعد هناك فرق بين الحقّ الإنساني وأي حقّ آخر، وبين السلوك العادل والسلوك الظالم، والسلوك الإنساني والسلوك الحيواني، وهذا المعنى يخالف الوجدان البتة.
والإسلام يطلق على هذه الخصائص الذاتية اسم الفطرة ويضع لها مخططها، في حين تحاول المذاهب الاُخرى أن تنكر الفطرة من جهة، وأن تبقي على استعمالها لتلك المصطلحات من جهة اُخرى، وهذا ما نراه عين التناقض.
النقطة الثالثة
قد يطرح هذا التساؤل: لماذا التركيز على أهل البيت (ع)؟
وتتلخص الإجابة في أن أهل البيت (ع) هم المفسرون للقرآن الكريم، وهم المرجع العلمي الثاني بعد القرآن، وهم النموذج العملي للإسلام بعد رسول الله (ص).
هذه الحقائق أكّدها الرسول الكريم مراراً في حديث الثقلين وغيره، حتى إنّ المسلمين لم يكونوا ليختلفوا في هذه المرجعية، وإن كانوا اختلفوا في مسألة القيادة السياسية.
وقد أكّد الواقع العملي هذه الحقيقة عبر قرنين ونصف من الزمان فقد كانوا (ع) معدن العلم، ومرجع الاُمة، وحماة الحقّ، لم تقصر لهم باع، ولم يقفوا أمام تساؤل، حتى لقد عبّر الخليل بن أحمد الفراهيدي ـ وهو من هو في العلم ـ بقوله يصف عليّاً (ع): «استغناؤه عن الكلّ واحتياج الكلّ إليه دليل إمامته»[1]، وعبر الإمام أحمد بن حنبل وهو ينقل حديث سلسلة الذهب بقوله: «لو تلي هذا الإسناد على مجنون لِبِرئَ من علّته».
فمن الطبيعي إذن أن نرجع إليهم في معرفة هذا المنهج، منهج بناء الإنسان الكامل، لنسلك سبيلهم ونقتدي بهداهم.
النقطة الرابعة
إننا نلمح لدى العرفاء ومريدي التصوّف تعرضاً للإنسان الكامل، حيث يتعرض البسطامي المتوفى سنة (261 ه) للإنسان الكامل الذي يصل الى هذا المقام بعد الفناء في الذات الإلهية، ويتحدث عنه ابن العربي في فصوص الحكم والفتوحات المكية كما يلخصه عزيز الدين النسفي بالأقوال الحسنة، والأفعال الحسنة، والمعارف، ولكنا نتصور أن تعريفاتهم ناقصة ومغلقة أحياناً، وأنها تفتقد المنهج التربوي الواقعي، بل تحاول أن تنأى عن الواقع، وأنهم إنّما أخذوا ـ في كثير من الأحوال ـ عن منابع أهل البيت (ع) فالأحرى إذن أن نعود الى المنهج الصافي الرقراق.
الخطوط العريضة لمنهج أهل البيت (ع)
وإذا أردنا إلقاء نظرة على منهجهم في مجال بناء الإنسان الكامل، تبدو أمامنا الخطوط التالية:
الخطّ الأوّل: التوعية بحقيقة المسيرة التكاملية للإنسان
وتركّز النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) على ذلك، مؤكّدة أن على الإنسان أن يجعل الله تعالى هدفه في كل عمل، وأن كل خطوة تكاملية إنّما تتم إذا كانت في إطار التقرب الى الله، وفي إطار تحقيق الرضا الإلهي لا غير، وأن كل المصائب والمتاعب تُنسى إذا كانت بعين الله، وهنا يتم التركيز على عنصر النيّة باعتباره المنبع الفياض المستمر لمسيرة منسجمة في خطّ التقرّب الى الله، وبها تتحول حياة الإنسان أينما كان الى عبادة، وتتحول الأرض كلّها الى مسجد، فيتّسع مفهوم المسجد ليشمل الحياة، وذلك بدلاً من حصر الحياة في المسجد أو الفصل بينها وبينه كما يفعل الآخرون.
والنصوص في هذا المجال كثيرة، نذكر منها ما يلي:
1ـ الإمام عليّ (ع) كان يؤكّد: «إنّ الله تبارك وتعالى أخفى رضاه في طاعته، فلا تستصغرن شيئاً من طاعته فربما وافق رضاه وأنت لا تعلم»[2].
2ـ ويقول (ع): «هيهات! لا يخدع الله عن جنته، ولا ينال ما عنده إلاّ بمرضاته»[3].
3ـ وكان الإمام الحسين (ع) يردّد في مراحل نهضته: «رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفّينا اُجور الصابرين».
4ـ وكان يقول (ع): «من طلب رضا الله بسخط الناس كفاه الله اُمور الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله وكّله الله الى الناس»[4].
5ـ وعن عليّ (ع): «الرضا ثمرة اليقين»[5].
الخط الثّاني: العمل على تقوية العناصر الفطرية الإنسانية وترشيدها
وهذه العناصر التي يشهد بها الوجدان هي عنصر التعقّل، وعنصر الإرادة، والميول والدوافع الغريزية، وقد سعت النصوص الواردة عن أهل البيت (ع) الى تقوية هذه العناصر وتجليتها في السلوك الإنساني، مع تأكيد على الحالة المتوازنة فيها بحيث تؤدي دورها الطبيعي دون أن يطغى بعضها على البعض الآخر، وإلاّ انقلب الأمر الى ضدّه وتحولت الى عناصر سلبية قاتلة.
وتتجلّى هذه العملية التربوية الإنسانية فيما يلي:
أ ـ تنمية عنصر التعقّل واعطاؤه الدور الأساسي في البين
والحديث عن هذا المجال رحب فسيح والروايات كثيرة وكتب أحاديثهم ملأى بالتوجيهات، وقد أوجدت التأثير في المجال العقائدي، كما في مسألة التركيز على ضرورة الإيمان العقلي باُصول العقيدة أو في مسألة التحسين والتقبيح العقليين حيث طرحت أروع نظرية إسلامية في البين أو في مسألة الصفات الإلهية أو في مجال القضاء والقدر وغير ذلك، كما كان لها الأثر في المجال الاستنباطي، حيث عاد العقل أصلاً من اُصول الفقه على التفصيلات المذكورة في محلها، هذا فضلاً عن الحثّ على إعمال المنهج العقلي في مختلف مجالات المعرفة الاُخرى.
ونورد هنا بعض النصوص كنماذج محيلين الراغبين في المزيد الى الكتب الحديثية المفصّلة:
1ـ عن الإمام أمير المؤمنين (ع): «من قعد به العقل قام به الجهل»[6].
2ـ عنه (ع): «العقل أقوى أساس»[7].
3ـ وعنه (ع): «العقل رسول الحقّ»[8].
4ـ عن الإمام الصادق (ع): «لا غنى أخصب من العقل، ولا فقر أحطّ من الحمق»[9].
5ـ عن الإمام الكاظم (ع): «يا هشام، ما قسّم بين العباد أفضل من العقل»[10].
6ـ عن الإمام الباقر (ع): «إنّما يداقّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدنيا»[11].
7ـ عن الإمام عليّ (ع): «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الأعضاء».
8ـ عن الإمام الكاظم (ع): «من أراد الغنى بلا مال وراحة القلب من الحسد والسلامة في الدين، فليتضرّع الى الله عزّ وجل في مسألته بأن يكمل عقله»[12].
9ـ عن الإمام الصادق (ع): «حجّة الله على العباد النبيّ، والحجّة فيما بين العباد وبين الله العقل»[13].
10ـ عن الإمام عليّ (ع): «ما آمن المؤمن حتى عقل»[14].
11ـ وعنه (ع): «العقل عقلان: عقل الطبع وعقل التجربة، وكلاهما يؤدي المنفعة»[15].
12ـ وعنه (ع): «لو لم ينه الله سبحانه عن محارمه لوجب أن يجتنبها العقل»[16].
13ـ وفي الحديث عن وصايا لقمان: «تواضع للحقّ تكن أعقل الناس»[17].
ب ـ تقوية عنصر الإرادة الإنسانية
وهذا المعنى أمر يؤكده الإسلام ويخطط له تخطيطاً واسعاً ويقود له جزءاً كبيراً من برامجه، ومن المقطوع به أن أحد أهداف الصوم، وكذلك أحد أهداف عملية الحجّ، هو تقوية الإرادة الإنسانية عبر التدريب على الصبر، وهو المعنى المعطى للصوم، وعبر تفهيم الإنسان أن عليه أن يضبط حواسه بإرادته ولا يدع نفسه تتغلب عليه، وإلاّ عاد كالحيوان همه علفه.
وقد عمل أهل البيت (ع) على تقوية هذه الإرادة، وتربية الأتباع الواعين الصابرين عبر النصوص المؤكّدة على ذلك، وعبر التأكيد على ضرورة ضبط النفس والسيطرة على الهوى.
يقول أمير المؤمنين (ع): «العقل صاحب جيش الرحمن والهوى قائد جيش الشيطان والنفس متجاذبة بينهما، فأيّهما غلب كان في حيزه»[18].
وعنه (ع): «العاقل يتقاضى نفسه بما يجب عليه ولا يتقاضى لنفسه بما يجب له»[19].
وعن الإمام الكاظم (ع): «أكثر الصواب في خلاف الهوى»[20].
وقال الإمام الحسن (ع): «أيّها الناس، إنّما أخبركم عن أخ كان من أعظم الناس في عيني، كان خارجاً من سلطان بطنه فلا يشتهي ما لا يجد ولا يكثر إذا وجد. كان خارجاً من سلطان فرجه فلا يستخفّ له عقله ولا رأيه. كان خارجاً من سلطان الجهالة فلا يمدّ يده إلاّ على ثقة لمنفعة»[21].
وعن رسول الله (ص): «ثلاث خصال من كنّ فيه استكمل خصال الإيمان: الذي إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه من الحقّ، ومن إذا قدر لم يتعاط ما ليس له»[22].
ويقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «لن يستكمل العبد حقيقة الإيمان حتى يؤثر دينه على شهوته»[23].
ويقول (ع): «كان لي فيما مضى أخ في الله، وكان يعظّمه في عيني صغر الدنيا في عينه…»[24].
ويقول (ع): «اكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك الى الرغائب، فإنّك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً»[25].
ويقول (ع): «الصبر أحسن خُلل الإيمان وأشرف خلائق الإنسان»[26].
ويقول الإمام الصادق (ع): «لا ينبغي… لمن لم يكن صبوراً إن يعد كاملاً»[27].
ويقول (ع): «من جعل له الصبر والياً لم يكن بحدث مبالياً»[28].
ويقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «بالصبر تدرك معالي الاُمور»[29].
ويقول الإمام الصادق (ع): «الصبر رأس الإيمان»[30].
ج ـ التركيز على ضرورة الاستجابة المتوازنة للميول والغرائز
الغرائز في التصوّر الإسلامي من عطاء الله تعالى، فيجب ألا تكْبت من جهة وألاّ يفسح المجال لها لتؤثر على السلوك تأثيراً أعمى من جهة اُخرى، بل يتمّ التوازن في عملها باختلاف الظروف والأحوال ووفق هدى الشريعة الغرّاء وعبر أعمال الإرادة الإنسانية الواعية.
فالغرائز طاقات فوّارة عُبئت في الذات الإنسانية لتقوم بدفع الإنسان للحفاظ على ذاته وللإبقاء على نوعه، والاندفاع نحو استكناه المجهول وإعمار الأرض وإثراء المسيرة الإنسانية، والوصول بعد ذلك الى التديّن الواقعي، وما لم يدعمها تعقل صحيح ويهديها وحيّ أصيل وعلم إلهي واسع وتضبطها إرادة قوية، فسوف تتحول الى قوى مخرّبة وهدّامة تمزّق الإنسان وتهوي به في مكان سحيق.
ومن هنا جاءت الروايات الشريفة عن أهل البيت (ع) لتؤكّد هذه الحقيقة ولتدفع الإنسان نحو المسيرة المتوازنة.
فللإنسان أن يحبّ ذاته ويعمل لها، ولكن ينبغي ألاّ ينسى أن ذاته مكتوب لها الخلود، فعليه أن يعد لذّاته في عالم الآخرة، كما أن عليه ألاّ ينسى أن هناك حبّاً أسمى لله تعالى الجمال والكمال المطلق، وحينئذ ينسى نفسه في حبّ الله.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في مناجاته: «إلهي، كفى بي عزّاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحب».
ويقول الإمام الصادق (ع): «لا يمحض رجل الإيمان بالله حتى يكون الله أحبّ إليه من نفسه وأبيه واُمّه وولده وأهله وماله ومن الناس كلّهم»[31].
ويقول الإمام الباقر (ع): «الدين هو الحبّ والحبّ هو الدين»[32].
ويقول الإمام الصادق (ع): «إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حبّ الله وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنّما خالط القوم حلاوة حبّ الله فلم يشتغلوا بغيره»[33].
وقل نفس الشيء عن الغرائز الاُخرى كالغضب والتدين والتملك والغريزة الجنسية وغريزة الاُمومة وغيرها. ولن نطيل في هذا المجال فالحديث عنه واسع.
ولا ننسى أن هناك ثروة دعائية ضخمة ورثناها عن أهل البيت (ع)، وهي تركز عنصر التعادل والتوازن أروع تركيز، وهو ما نلاحظه مثلاً في دعاء الإمام عليّ (ع) الذي رواه كميل بن زياد، والأدعية الواردة في الصحيفة السجادية وغيرها.
يقول الإمام علي زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق: «اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ولا ترفعني في الناس منزلة إلاّ حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزاً ظاهراً إلاّ أحدثت لي ذلّة باطنة عند نفسي بقدرها.. اللّهمّ لا تدع خصلة تعاب مني إلاّ أصلحتها ولا عائبة اُؤنّب بها إلاّ حسّنتها ولا اُكرومة فيّ ناقصة إلاّ اتممتها… اللهمّ اجعلني أصول بك عند الضرورة واسألك عند الحاجة واتضرع إليك عند المسكنة… اللهمّ خذ لنفسك من نفسي ما يخلّصها وأبق لنفسي من نفسي ما يصلحها، فإن نفسي هالكة أو تعصمها».
ولا يسمح المجال للتوسع فإن العطاء واسع.
الخط الثالث: التربية العملية للأفراد على السير نحو الكمال
إنّ الإسلام ـ كما هو واضح للمتتبّع لبرامجه وخططه ـ لا يكتفي بطرح النظرية العامة في مختلف المجالات، بل يعمل على تفصيلها وتوضيحها وتقديم النماذج العملية والحسيّة لها لتتوضّح أمام الأذهان وتتركّز في النفوس.
ولكي ينظر الناس الى أهل البيت (ع) نماذج حيّة للإنسان الكامل نجد الآيات الكريمة والروايات الشريفة تطرحهم بوضوح، وتؤكد على مرجعيتهم العلمية وكونهم نماذج عُليا تطبيقية للمفاهيم المتقدمة، فهم رمز الطهارة، وهم محلّ المودّة، وهم سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق، وهم باب حطّة، وهم باب مدينة العلم، وهم مع الحقّ والحقّ معهم، وهم حبل الله، وهم الثقل الأصغر بعد الثقل الأكبر وهو القرآن، وهم محل الولاية واُصولها، وهم الراسخون في العلم، وغير ذلك.
ولكي يتجلّى الحبّ والمودّة وترتبط الاُمة ارتباطاً عاطفياً حارّاً بهم، نجد الصلاة والسلام عليهم تقارن الصلاة والسلام على رسول الله (ص) وتكملها، وإلاّ عادت بتراء.
بعد كل هذا نلاحظ أن تاريخهم وسيرتهم يكشفان عن نماذج عالية هي الإسلام المجسَّد والقرآن المطبَّق في مختلف المجالات الإنسانية، فهم الخلق العالي والسلوك السامي والخلق الحميد، والعلم الواسع، والاهتمام الأقصى بقضايا الاُمة أينما كانت، والسهر على مصالحها وتقديم مصلحتها على أية مصلحة اُخرى، فالإمام محمد الباقر (ع) يؤسس مدرسة علمية ضخمة يستمد من معينها العلماء، والإمام جعفر الصادق (ع) يعمل على توسعتها ودفع الشبه المثارة حول الإسلام والوقوف بوجه الاتجاهات الفقهية الخطيرة والمنحرفة، والإمام موسى الكاظم (ع) يتحمل العذاب الطويل لبيان الحقّ، والإمام علي الرضا (ع) يدخل في قلب العمل الاجتماعي ويكافح الانحراف، والإمام الحسن العسكري (ع) يبعث بتلامذته الى الكوفة ليردّوا على شبهات بعض الفلاسفة، وكذا نجد أهل البيت (ع) قمماً في الفكر والسلوك تستحقّ أن تقتدي بها الأجيال.
والتاريخ ينقل لنا الكثير من الأساليب العملية التي نفّذوها لبناء جيل إسلامي طليعي متقدم، وزرع أفراده في قلب الاُمة ليقوموا بدورهم في أكسابها السلوك الاجتماعي الذي يطلبه الإسلام، بعد أن كانوا هم القمة في الورع والخلق الحميد.
وكتب الروايات زاخرة بأوصاف هذه الفئة الطليعية.
يقول الإمام الحسن العسكري (ع): «شيعة عليّ هم الذين لا يبالون في سبيل الله أوَقَع الموت عليهم أو وَقعوا على الموت، وشيعه عليّ هم الذين يؤثرون إخوانهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وهم الذين لا يراهم الله حيث نهاهم، ولا يفقدهم من حيث أمرهم، وشيعة علي هم الذين يقتدون بعليّ في إكرام إخوانهم المؤمنين»[34].
ويقول الإمام الباقر (ع): «ما شيعنا إلاّ من اتّقى الله وأطاعه، وما كانوا يعرفون إلاّ بالتواضع والتخشّع وأداء الأمانة وكثرة ذكر الله…»[35].
ويقول الإمام أمير المؤمنين (ع): «شيعتنا المتباذلون في ولايتنا المتحابّون في مودّتنا المتزاورون في إحياء أمرنا، الذين إذا غضبوا لم يظلموا وإن رضوا لم يسرفوا، بركة على من جاوروا، سلم لمن خالطوه»[36].
الاستنتاج
أن أهل البيت (ع) لهم منهج في بناء الإنسان الكامل، ولهذا المنهج خطوطاًً عريضة هي: 1ـ التوعية بحقيقة المسيرة التكاملية للإنسان، 2ـ التربية العملية للأفراد على السير نحو الكمال، 3ـ العمل على تقوية العناصر الفطرية الإنسانية وترشيدها، وتتجلّى هذه العملية التربوية الإنسانية فيما يلي: أ ـ تنمية عنصر التعقّل واعطاؤه الدور الأساسي في البين، ب ـ تقوية عنصر الإرادة الإنسانية، ج ـ التركيز على ضرورة الاستجابة المتوازنة للميول والغرائز.
الهوامش
[1] الحكيم، الاُصول العامة للفقه المقارن، ص179.
[2] الصدوق، الخصال، ج1، ص209.
[3] الآمدي، غرر الحكم، ح3142.
[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص182.
[5] الآمدي، غرر الحكم، ح3085.
[6] الآمدي، غرر الحكم، ح6335.
[7] الآمدي، غرر الحكم، ح475.
[8] الآمدي، غرر الحكم، ح1325.
[9] الكليني، الكافي، ج1، ص29.
[10] الحرّاني، تحف العقول، ص397.
[11] الصدوق، معاني الأخبار، ج2، ص2.
[12] الكليني، الكافي، ج1، ص28.
[13] الكليني، الكافي، ج1، ص28.
[14] الآمدي، غرر الحكم، ح1693 .
[15] ابن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، ص49.
[16] الآمدي، غرر الحكم، ح7595.
[17] الكليني، الكافي، ج1، ص16.
[18] الآمدي، غرر الحكم، ح2099.
[19] الآمدي، غرر الحكم، ح1851.
[20] البرقي، المحاسن، ج1، ص311.
[21] المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص294.
[22] المجلسي، بحار الأنوار، ج71، ص359.
[23] المجلسي، بحار الأنوار، ج78، ص81.
[24] المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص294.
[25] الشريف الرضي، نهج البلاغة، ك31.
[26] الآمدي، غرر الحكم، ح1893.
[27] الحرّاني، تحف العقول، ص364.
[28] المجلسي، بحار الأنوار، ج8، ص136.
[29] الآمدي، غرر الحكم، ح4227.
[30] الكليني، الكافي، ج2، ص90.
[31] المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص25.
[32] الحويزي، تفسير نور الثقلين، ج5، ص385.
[33] الكليني، الكافي، ج2، ص130.
[34] العسكري، التفسير المنسوب للإمام العسكري (ع)، ص219.
[35] الحرّاني، تحف العقول، ص295.
[36] الكليني، الكافي، ج2، ص236.
مصادر البحث
1ـ ابن طلحة الشافعي، محمّد، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول (ع)، تحقيق ماجد بن أحمد العطية، بلا تاريخ.
2ـ الآمدي، عبد الواحد، غرر الحكم ودرر الكلم، قم، دار الكتاب الإسلامي، الطبعة الثانية، 1410 ه.
3ـ البرقي، أحمد، المحاسن، تصحيح وتعليق جلال الدين محدّث، قم، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1371 ه.
4ـ الحرّاني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1404 ه.
5ـ الحكيم، محمّد تقي، الأُصول العامّة للفقه المقارن، مؤسّسة آل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1979م.
6ـ الحويزي، عبد علي، تفسير نور الثقلين، قم، مؤسّسة إسماعليان، الطبعة الرابعة، 1412 ه.
7ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
8ـ الصدوق، محمّد، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، طبعة 1403 ه.
9ـ الصدوق، محمّد، معاني الأخبار، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، طبعة 1379 ش.
10ـ العسكري، الحسن، التفسير المنسوب للإمام العسكري (ع)، قم، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
11ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
12ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
مصدر المقالة
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.