تمّ الاتّفاق في صلح الحديبيّة على أن يكفّ كلّ من الطرفين عن شنّ الحرب ، وألاّ يحرّضا حلفائهما على ذلك ، وألاّ يدعماهم في حرب من الحروب . لكنّ قريش نكثت مقرّرات ذلك الصلح بتجهيز بني بكر – حلفائهم – على قبيلة خزاعة حليفة المسلمين ، أو بالاشتراك ليلا في قتال ضدّها ( 1 ) .
وتناهى إلى أسماع النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) استشهاد عدد من المسلمين مظلومين ، واستنجاد عمرو بن سالم – رئيس قبيلة خزاعة – بأبيات مؤثّرة ، فأنجده .
وهكذا عزم على فتح مكّة ، ومحو معالم الشرك من مركز التوحيد ، إذ لا مانع يحول دون ذلك حينئذ . فسيطر رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) على مكّة عبر خطّة عسكريّة عجيبة ، وفتحها بلا إراقة دم ، ومعه أكثر من عشرة آلاف مقاتل ( 2 ) .
وشهد الإمام عليّ ( عليه السلام ) هذا النصر ، وكان حضوره فيه لافتاً للنظر من وجوه :
1 – كان حاطب بن أبي بلتعة قد كتب إلى قريش كتاباً يخبرهم فيه بعزم النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) على فتح مكّة ، وأرسله مع إحدى النساء . فاستدعى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) عليّاً ( عليه السلام ) ، وبعثه مع اثنين للقبض على تلك المرأة . ولمّا لقوها وطلبوا منها دفع الكتاب إليهم أنكرت ذلك أشدّ إنكار ، ففتّشوها عدّة مرّات فلم يجدوا عندها شيئاً ، ودلّ تفتيشهم على صحّة ما تدّعيه . فقال لها الإمام ( عليه السلام ) : والله ما كَذَبنا رسولُ الله صلوات الله عليه . . . والله لتُظهرنّ الكتاب أو لأردنّ رأسك إلى رسول الله ! فاستسلمت المرأة وأخرجته من ضفيرتها ، ودفعته إليه(3).
2 – كان سعد بن عبادة يحمل راية الإسلام ، وينادي : اليوم يوم الملحمة . . . . فنادى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) نداء الرحمة والرأفة ، وقال : اليوم يوم المرحمة . . . ( 4 ) ، ثمّ دعا عليّاً ( عليه السلام ) وأمره أن يرفع الراية مكان سعد ( 5 ) .
3 – أعطى النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) الأمان للجميع بعد فتح مكّة إلاّ شرذمة من سود الضمائر المعاندين فقد أهدر دمهم ، منهم الحويرث – الذي كان يؤذيه كثيراً يوم كان في مكّة – وامرأة مغنّية كانت تهجوه ( صلى الله عليه وآله ) ، فقتلهما الإمام ( عليه السلام ) ( 6 ) .
1 – تاريخ الطبري عن عروة بن الزبير وغيره : لمّا أجمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) المسير إلى مكّة كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) من الأمر في السير إليهم ، ثمّ أعطاه امرأة . . . وجعل لها جُعلاً على أن تبلّغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثمّ فتلت عليه قرونها ، ثمّ خرجت به . وأتى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث عليّ بن أبي طالب والزبير ابن العوّام ، فقال : أدركا امرأة قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش ، يحذّرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم .
فخرجا حتى أدركاها بالحليفة – حليفة ابن أبي أحمد – فاستنزلاها ، فالتمسا في رحلها ، فلم يجدا شيئاً ، فقال لها عليّ بن أبي طالب : إنّي أحلف ما كذب رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولا كذبنا ، ولتخرِجِنّ إليّ هذا الكتاب أو لنكشفنّكِ . فلمّا رأت الجدّ منه قالت : أعرض عنّي . فأعرض عنها ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منه ، فدفعته إليه ، فجاء به إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 7 ) .
2 – صحيح البخاري عن عبيد الله بن أبي رافع : سمعت عليّاً ( رضي الله عنه ) يقول : بعثني رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) أنا والزبير والمقداد ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ( 8 ) ، فإنّ بها ظعينة ( 9 ) معها كتاب ، فخذوه منها . فانطلقنا تَعادَى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، قلنا لها : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب !
فقلنا : لتُخرِجِنّ الكتاب أو لنُلقينّ الثياب . فأخرجته من عقاصها ( 10 ) . فأتينا به رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ( 11 ) .
3 – تاريخ الطبري عن عبد الله بن أبي نجيح : إنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله ) حين فرّق جيشه من ذي طوى ، أمر الزبير أن يدخل في بعض الناس من كديً ( 12 ) ، وكان الزبير على المجنِّبة ( 13 ) اليسرى ، فأمر سعد بن عبادة أن يدخل في بعض الناس من كداء ( 14 ) .
فزعم بعض أهل العلم أن سعداً قال حين وجّه داخلاً : ” اليوم يوم الملحمة ، اليوم تُستحلّ الحُرمة ” فسمعها رجل من المهاجرين ، فقال : يا رسول الله ، اسمع ما قال سعد بن عبادة ! وما نأمن أن تكون له في قريش صولة ! ! فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) لعليّ ابن أبي طالب : أدركه فخذ الراية ، فكُن أنت الذي تدخل بها ( 15 ) .
4 – أنساب الأشراف : أمّا الحويرث بن نقيذ ، فكان يعظم القول في رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وينشد الهجاء فيه ، ويكثر أذاه ، وهو بمكّة . فلمّا كان يوم الفتح هرب من بيته ، فلقيه عليّ بن أبي طالب فقتله ( 16 ) .
ــــــــــــــــــــ
( 1 ) الطبقات الكبرى : 2 / 134 ، تاريخ الطبري : 3 / 44 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2 / 521 ، الكامل في التاريخ : 1 / 609 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 36 ، أنساب الأشراف : 1 / 449 .
( 2 ) الطبقات الكبرى : 2 / 135 وص 139 ، تاريخ الطبري : 3 / 50 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 42 ، الكامل في التاريخ : 1 / 612 .
( 3 ) صحيح البخاري : 4 / 1557 / 4025 ، صحيح مسلم : 4 / 1941 / 161 ، مسند ابن حنبل : 1 / 173 / 600 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 341 / 5309 ، الطبقات الكبرى : 2 / 134 ، تاريخ الطبري : 3 / 48 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2 / 525 ، الكامل في التاريخ : 1 / 611 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 40 ؛ تاريخ اليعقوبي : 2 / 58 .
( 4 ) أُسد الغابة : 2 / 442 / 2012 ، كنز العمّال : 10 / 513 / 30173 نقلاً عن ابن عساكر .
( 5 ) تاريخ الإسلام للذهبي : 2 / 532 ، تاريخ الطبري : 3 / 56 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 49 ، الكامل في التاريخ : 1 / 614 ؛ الإرشاد : 1 / 135 ، شرح الأخبار : 1 / 305 ، إعلام الورى : 1 / 385 ، المناقب لابن شهر آشوب : 1 / 207 و 208 .
( 6 ) أنساب الأشراف : 1 / 456 و 457 ؛ الإرشاد : 1 / 136 .
( 7 ) تاريخ الطبري : 3 / 48 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 40 وفيه ” خليقة ” بدل ” حليفة ” وراجع المستدرك على الصحيحين : 3 / 341 / 5309 والكامل في التاريخ : 1 / 611 .
( 8 ) روضة خاخ : موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة ( معجم البلدان : 2 / 335 ) .
( 9 ) الظعينة : المرأة في الهودج ( لسان العرب : 13 / 271 ) .
( 10 ) العَقْص : ضرب من الضَّفر ؛ وهو أن يلوى الشعر على الرأس ؛ ولهذا تقول النساء : لها عِقْصة ، ف وجمعها عِقَص وعِقاص وعقائص ، ويقال : هي التي تتّخذ من شعرها مثل الرمّانة (لسان العرب: 7 / 56).
( 11 ) صحيح البخاري : 4 / 1557 / 4025 ، صحيح مسلم : 4 / 1941 / 161 ، مسند ابن حنبل : 1 / 173 / 600 ، تاريخ الإسلام للذهبي : 2 / 525 .
( 12 ) كُدا – بالضمّ والقصر : الثنية السفلى مما يلي باب العمرة ( لسان العرب : 15 / 218 ) .
( 13 ) المُجنِّبتان من الجيش : الميمنة والميسرة ( لسان العرب : 1 / 276 ) .
( 14 ) كَداء – بالفتح والمد : الثنية العليا بمكّة ممّا يلي المقابر ، وهو المعلى ( لسان العرب : 15 / 218 ) .
( 15 ) تاريخ الطبري : 3 / 56 ، السيرة النبويّة لابن هشام : 4 / 48 ، الكامل في التاريخ : 1 / 614 وراجع المغازي : 2 / 821 والإرشاد : 1 / 134 وشرح الأخبار : 1 / 305 ، وإعلام الورى : 1 / 385 والمناقب لابن شهر آشوب : 1 / 207 .
( 16 ) أنساب الأشراف : 1 / 456 ، الكامل في التاريخ : 1 / 616 وراجع المغازي : 2 / 857 .
المصدر: موسوعة الإمام علي (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ / الشيخ محمد الريشهري