ما هو مفهوم المرجعية الدينية لدى الشيعة الإمامية؟ وما هي هويتها؟ وما هي اُسسها والمقترحات الحديثة حولها؟ وهل الولاية واحدة أو متعددة؟ وما مقدار قوتها بعد انتصار الثورة الإسلامية؟ بحوث نتطرق إليها الواحدة بعد الأخرى.
المرجعية مفهوم وهوية
تقوم فكرة المرجعيّة لدى الشيعة على اُسس متعدّدة أهمّها مسألة الاجتهاد والتقليد باعتبارهما مبدأين أصيلين في عملية فهم الحكم الإسلامي والعمل به، ويعبّر الإسلام من خلالهما عن مرونته وواقعيّته.
فلا يمكن لكلّ أحد أن يستنبط الحكم الإسلامي، خصوصاً مع ملاحظة الفارق الزمني الطويل بيننا وبين عصر النصوص، الأمر الذي يتطلب تخصّصاً لبعض الناس في فهم الشريعة والاجتهاد فيها، ثم تُعرض النتائج على الآخرين ليعملوا بها. وهو مضمون الآية الشريفة: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[1].
ولكي يسدّ الطريق على المتطفّلين على الاجتهاد فقد وُضعت له اُسس وقواعد تضبطه وتضمن الى حدّ كبير قربه من الواقع.
ولأنّ المجتهدين قد يختلفون في عملية الاستنباط، وليس لأي رأي مهما سما أن يمنع من الرأي الآخر (إذا كان هذا الأخير منسجماً مع القواعد المطروحة) فقد تُرك باب الاجتهاد مفتوحاً.
ومن الخطأ أن نتصوّر أن النصوص القرآنية الناهية عن الاختلاف تنظر الى جانب الاختلاف الطبيعي في الاستنباط الصحيح من النصوص، وإنّما تنظر الى التنازع في المواقف العملية، وقد عمل المسلمون بهذين المبدأين لقرون ممتدّة، إلاّ أن الكثير من العلماء وتبعاً لاستدلالات عقلائية وتحوّطاً للأحكام الشرعية طرحوا فكرة اشتراط «الأعلمية» في مَن يجوز تقليده، وذلك في خصوص موارد الاختلاف في الفتوى.
وقد كان لهذه الفكرة الدور الكبير في السوق نحو قيام «المرجعية» كظاهرة طبيعية على امتداد المسيرة.
كما لا ننسى أن بعض العلماء كانوا يمتلكون من العظمة والسّعة الحدّ الذي جعلهم مرجعاً لكلّ الاُمة، لا بل كادت شخصيتهم العلمية الضخمة تسدّ أبواب الاجتهاد كلّها، وذلك كما يقال بالنسبة لشخصية المرحوم الشيخ الطوسي (ره).
كما يمكن أن نعتبر حالة التشرذم والاستضعاف التي كان الشيعة يعيشونها خلال قرون ـ وخصوصاً في العصور الأخيرة ـ وشوقهم لقيادة دينية تجمع شملهم وتوحّد كلمتهم وتدافع عن حقوقهم، من أهمّ العوامل في تركيز دور «المرجعية» في حياة الشيعة وخصوصاً في العصور الأخيرة.
وقد قامت المرجعية الشيعة بأدوار ضخمة في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية ولا يمكن أن ينكرها أحد.
وممّا ساعد على هذه الاُمور قيام المرجعية بدور ولائي مستمدّ من النصوص التي تقرّر موضوع اشتراط الفقه في شخص «وليّ الأمر» الأمر الذي منح المرجعية القدرة على توحيد المواقف السياسية أحياناً، وتنظيم عملية جباية الخمس والزكاة والوجوه الشرعية وباقي الضرائب، وتنظيم الحوزات العلمية، والقيام بالخدمات الاجتماعية الكبرى، والاحتفاط بالشخصية المستقلّة للعالم الشيعي.
ومنذ حدوث التطورات والتعقيدات الاجتماعية، ونشوء الكثير من القضايا المستجدّة، وتعقّد الكثير من المواقف السياسية والاجتماعية، ونفوذ الكثير من العناصر المعادية، اتّجهت المرجعية نحو تقوية جهازها وتوسيع معلوماتها وتنظيم أساليبها العلمية والعملية لمواجهة الموقف الجديد.
وقد شهد العالم الشيعي تحولات جيّدة في هذا المضمار في الحوزات الشيعية الكبرى في النجف وقم ومشهد، لا مجال لنا هنا لاستعراضها.
ولم تعد الدراسات تقتصر على الأبواب التقليدية كالصلاة والطهارة، وإنّما راحت تتناول شيئاً فشيئاً بعض الأبواب الأكثر اجتماعية، وألّفت الرسائل في المسائل المستحدثة إلاّ أنها ـ والحقّ يقال ـ لم تتقدّم التقدّم المطلوب.
ومن المسائل التي شغلت بال الحوزات العلمية والجماهير المؤمنة معاً في كثير من الفترات مسألة انتخاب «المرجع الأعلى» خصوصاً بعد ازدياد عدد المجتهدين، وتعدّد المدارس، واشتداد حسّاسية الصراع مع قوى الكفر والاستبداد العالمي وتطوّر أساليبه في المواجهة والعداء.
وهذا ما يتجلّى بشكل أوضح عندما يتوالى فقدان العالم الإسلامي لشخصيات مرجعية في فترة زمنية قصيرة، وهو ما حدث في يومنا هذا، حيث فقدت الاُمّة الشخصيات التالية على الترتيب التالي:
آية الله العظمى الشهيد السيّد محمّد باقر الصدر.
آية الله العظمى السيّد عبدالله الشيرازي.
آية الله العظمى السيّد الإمام السيّد الخميني.
آية الله العظمى السيّد المرعشي النجفي.
آية الله العظمى السيّد الخوئي.
آية الله العظمى السيّد السبزواري.
آية الله العظمى السيّد الگلپايگاني.
آية الله العظمى الشيخ الآراكي.
رحمهم الله تعالى جميعاً وأسكنهم الفسيح من جنّته.
وهذه الفواجع أحدثت توتراً شديداً وقلقاً مستمراً ناتجاً من تعدد الولاءات وكثرة الادّعاءات وغموض الحقيقة، وأثارت الشبّهات حول الأساليب التقليدية لانتخاب المرجع، والعلاقة بين «المرجعية» و«ولاية الفقيه» ومفهوم الأعلمية، وهل يُقتصر على الصور التقليدية له؟ والتي يعبّر عنها بالقدرة الأكثر على الاستنباط في الاُمور المعروفة، أو أنها تحمل معها عناصر اُخرى كسعة الإطّلاع على القضايا الاجتماعية والسياسية العالمية، والقدرة الأكبر على تنقيح المواضيع التي يراد معرفة أحكامها، بما يسمح للأعلم أن يكون أقرب من غيره في معرفة الموقف الإسلامي من القضية، خصوصاً إذا لاحظنا الترابط الوثيق بين مواقف الإسلام وأحكامه ومفاهيمه في كلّ المشاكل الحياتية الإنسانية.
كلّ هذه التساؤلات طُرحت على صعيد البحث لا العلمي فقط، وإنّما على الصعيد الثقافي العام، وحقّ لها أن تُطرح على كلا الصعيدين وإن اختلفت لغة الطرح بينهما.
ولسنا نستطيع أن نبتعد عن هذه المشكلة، أو ندفن رؤوسنا في الرمال تاركين الاُمور تتّخذ بنفسها مجراها الطبيعي، فعلينا إذن أن نقول كلمة في هذه المسألة الخطيرة راجين أن ينظر الجميع إليها بعين الإخلاص في قول الحقيقة.
إنّنا نعتقد أنّ الأساليب القديمة التي تمّ التعامل بها في مجال انتخاب المرجعية العامّة، حيث أوكلت الاُمور الى نوعية الظروف وقدرة التبليغ بالإضافة الى المقام الذاتي الذي يملكه المرجع، هذه الأساليب إن كانت ناجعة في العصور الماضية عصور التشرذم والاستضعاف فهي اليوم تكاد تنقلب على أهدافها في عصر الطلائعية الشيعية لكلّ العالم الإسلامي، عصر الكلمة الشيعية الاُولى في قبال كلّ الطواغيت وكلّ القوى الاستكبارية.
إذاً لا نستطيع أن نترك الاُمور على عواهنها خصوصاً مع ملاحظة العداء الاستكباري المخطط لضرب الثورة الإسلامية وتركيز الأعداء على المرجعية، ومحاولة النفوذ من خلالها.
إننّا بحاجة لاُسلوب جديد منسجم مع القواعد الشرعية لانتخاب «المرجعية»، هذا بالإضافة الى أننا بحاجة تامة للتأكيد على الدور الأساس للمرجعية وتخليصها ممّا اُضيف إليها.
فالمرجعية مرجعية في الفتوى عليها أن تقوم بعرض الوقائع على النصوص والمنابع الإسلامية، واستنباط الموقف الإسلامي عبر عملية اجتهادية تحمل كل عناصر الاجتهاد المطلوبة.
وإذا اُريد لها أن تكون مرجعية عامة لكل قطّاعات الاُمة، وواعية لكلّ القضايا الفقهية، وكلّ ما له دخل في تنقيح الموقف الصحيح من اُمور اجتماعية وسياسية وحقوقية وغيرها، كان المفروض بها أن تستعين بلجنة مشكّلة من كبار العلماء بالإضافة لكبار المتخصّصين بمختلف القضايا التي يُراد منها معرفة الموقف الأصيل.
وربّما كان من غير الممكن بمكان أن نتصور أنّ الاجتهاد الفردي المنعزل يستطيع أن يلمّ بكلّ القضايا اليوم، وربّما أمكن القول هنا أنّ قيام «دار للإفتاء» تضمّ النخبة من علماء الشريعة هو الحلّ الأمثل لهذه المشكلة، خصوصاً إذا رأينا أن كلّ الأدلة المذكورة للتقليد ـ والمعروف منها هو بناء العقلاء ـ تنسجم تمام الإنسجام مع هذا الطرح.
أما المسألة القيادية في الاُمة فلابد أن تترك بشكل واضح الى «وليّ الأمر» الفعلي القائم بتنظيم شؤون المسلمين… ولا معنى لتصوّر قيادتين فعليّتين في الاُمة الواحدة والطائفة الواحدة، فضلاً عن تصور أن كل فقيه وليّ مطلقاً على كلّ النفوس والأعراض والأموال في أية نقطة من العالم! وأن النظرية السياسية الإسلامية والواقع وكلّ بناء العقلاء ومجمل النصوص الآتية في الولاية تأبى ذلك.
إننا من هنا نعلنها حقيقة مرّة وربّما ضاقت بها بعض النفوس ونؤكد على أنّ الاُسلوب التقليدي في انتخاب المرجعية لم يعد اُسلوباً نافعاً، بل يحمل معه نقاط ضعف كبرى يمكن أن ينفذ من خلالها العدو، ويسري معه الوهن في الجسم العام. كما نؤكّد أنّ الولاية لا تعدّد مطلقاً بمقتضى كلّ الملاكات المطروحة.
وحينئذ فعلى الواعين من أبناء هذه الاُمة أن يعملوا على تركيز هاتين الحقيقتين المهمّتين، حتى نضمن قدسيّة المرجعية ودورها الفاعل، وحتى لا نشهد بعد هذا ضياع الكثير من مصالح الاُمة ووقوعها تحت رحمة النظرات الفردية والنزعات الروحية المائلة الى الافراط أو التفريط.
اُسس المرجعية الدينية والمقترحات الحديثة حولها
يمكن القول أن مصطلح المرجعية مأخوذ من بعض الروايات التي اُرجعت الناس الى الفقهاء، من قبيل ماجاء في التوقيع الشريف من قوله (ع): «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة أحاديثنا»[2].
إلاّ أنّ هذه الظاهرة المهمّة في حياة مدرسة أهل البيت، لم تكن تملك ـ باستمرار ـ الأبعاد القيادية كلّها، ومنذ عصر الغيبة.
صحيح أن الاُمة ـ بمقتضى توجيهات أئمة أهل البيت (ع) ـ كانت تدرك أنّ القيادة الحقيقية متوافرة في هذه الفئة، باعتبارها الأقرب الى القيادة المعصومة علماً وسلوكاً، وباعتبار ماجاء من روايات تؤكّد على اشتراط الفقه في القاضي، واشتراط العلم في الإمام، وأنّ الفقيه هو الحصن لهذه الاُمة وما الى ذلك.
صحيح أنّ بعض علماء مدرسة أهل البيت (ع) استطاعوا بقدرتهم العلمية الضخمة أن يمسكوا بزمام الفتوى في مجمل كيان مدرسة أهل البيت (ع) من قبيل الشيخ المفيد والشيخ الطوسي والشهيد الأوّل، وإن عظمة الشيخ الطوسي (ره) أدّت الى سّد أبواب الاجتهاد لعشرات السنين ـ كما يقال ـ إلاّ أنّ ذلك كان يتبع القدرات الشخصية لأمثال هؤلاء العظماء، لا الى وجود مبدأ مقرّر في الحياة الشيعية يصل إليه هؤلاء وغيرهم بشكل طبيعي.
وحدة الولاية وتعدّدها
هذا من جهة المرجعية الفتوائية، فإذا أضفنا الى ذلك النقاط الاُخرى التي تمتّعت بها المرجعية وهي مسألة (الولاية)، أدركنا بوضوح أكثر عدم وجود هذه الصفات بشكل مستمر وعلى مرّ العصور.
وواضح أنّ (ولاية الأمر) لا تبعيض فيها بين النفوس والأعراض والأموال، ولا بين منطقة ومنطقة من العالم. فالدولة الإسلامية واحدة، والقانون واحد، ووليّ الأمر هو وليّ الأمر على الجميع، هذا طبعاً إذا رفضنا النظرات التجزيئية التي ولّدتها عصور التمزّق في الخلافة، الأمر الذي ترك آثاره حتى على نظر الفقهاء الى النظام السياسي الإسلامي.
إذا نظرنا للموضوع بهذه الروح وتصفّحنا تاريخ أهل البيت (ع) أدركنا حقيقتين أساسيتين:
الحقيقة الاُولى
لزوم وحدة الوليّ وعدم تعدّده، وهي حقيقة يؤدّي إليها النظر في كل أدلّة الولاية، وملاحظة عدم وجود نصّ عام، أو إطلاق فيها يجعل الولاية لكلّ فقيه.
ومنها أن نتصوّر مئات القيادات والرؤوس (المتساوية في الصلاحية) للدولة الإسلامية. وهذا أمر لا يقبله منطق سليم، فضلاً عن انّه ممّا أكدت الروايات الإسلامية رفضه[3].
الحقيقة الثانية
إنّ مثل هذه الخصائص لم تكن متجلّية في أي شخص باعتباره مرجعاً في الفتوى، ووليّاً عاماً للمسلمين، أو الشيعة بالخصوص، له حقّ التصرّف في الأموال وغيرها.
بل إنّنا نجد الفقهاء ـ حتى أواخر القرن الخامس الهجري ـ يحارون في أمر التصرّف في سهم الإمام (ع) من الخمس، ثم تحوّل الرأي عن ذلك بعد وضوح أنّ الخمس لم يكن لشخص الإمام بل لمنصبه، باعتباره راعياً للاُمّة ومطبّقاً للشريعة. ومع ذلك، وجدنا الأمر متردّداً بين الدفع الشخصي المباشر لهذه الضرائب المالية، أو اللجوء الى خصوص الفقهاء، كما رأى العلاّمة المجلسي (ره) حتى كان الشيخ الأنصاري الأعظم (ره) الذي يقول: «فلو طلب الفقيه الزكاة والخمس من المكلّف، فلا دليل على وجوب الدفع إليه شرعاً، نعم لو ثبت شرعاً اشتراط صحّة أدائها بدفعه الى الفقيه مطلقاً، أو بعد المطالبة وأفتى بذلك الفقيه وجب اتّباعه…»[4].
وهكذا نجد صاحب الحدائق يردّ على نظرية العلاّمة المجلسي فيقول: «إنّا لم نقف له على دليل»[5].
وعلى أيّ حال، فإنّنا نتصوّر أنّ (المرجعية) تُعدّ ظاهرة متقدّمة وناجعة، طرحت نفسها بحقّ في التاريخ الشيعي، وتطوّرت بمرور الأيام وتعقّد العلاقات، ونموّ الحاجة الى قيادة علمائية جامعة للشتات، وموحّدة للصفوف، إن على صعيد الفتوى، أو على صعيد القيادة، وهذا تاريخها الناصع يوضّح لنا بما لا يقبل الشك أنها ـ وعلى الرغم من بعض الضعف في نظامها ـ كانت رأس الحربة في محاربة البدع والانحرافات، لا بل في محاربة الاستعمار والاستبداد، على الرغم من أنها لم تكن تملك سلطة رسمية، إلاّ في بعض العصور; كالمحقّق الثاني في عصر الدولة الصفوية، والمرحوم كاشف الغطاء في الدولة القاجارية. بل ربّما كانت محاربة في كلّ مكان، وإن كانت تعتمد فقط على النفوذ المعنوي والعلمي الذي تملكه بين الجماهير المؤمنة.
الاُسس التي قامت عليها المرجعية
وهي مجموعة من اُسس فقهية، واُخرى نابعة من طبيعة الوضع الاجتماعي، وتعقيده وشدّة الضغط المعادي، والحاجة الى الوحدة في المواجهة.
أما الاُسس الفقهية فيمكن أن نحصرها فيما يلي:
1 ـ أدلّة التقليد، بما فيها مسألة اشتراط الأعلمية.
2 ـ أدلّة ولاية الفقيه.
ولسنا بحاجة الى توضيح الاُسس الطبيعية والاجتماعية التي تطلّبت هذه الحاجة فهي واضحة.
وقد تعاظمت هذه الاُسس حتى بلغت بالمرجعية الى حدّ القيادة الفعلية العملية السائدة، وهناك طُرحت في البين تساؤلات كثيرة:
السؤال الأول
في مجال كيفية انتخاب المرجع، وهل تُترك على عواهنها؟ باعتبار أنّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته، وهي عبارة منقولة عن المرحوم الإمام الاصفهاني، أو أنّ من الطبيعي أن توضع صيغة عملية معقولة في البين، خاصةً بعد ملاحظة التآمر الكبير على مدرسة أهل البيت (ع)، والتخطيط المعادي الذي يسعى لضربها وإجهاضها.
السؤال الثاني
في مجال إمكانية تعدّد المراجع، أي تعدّد المواقف القيادية من جهة، والمواقف السلوكية الشرعية من جهة اُخرى، لا بين منطقتين متباعدتين فقط، بل وحتى في مدينة واحدة، كالنجف الأشرف وقم المقدسة وغيرها.
السؤال الثالث
مسألة ضرورة الاستعانة بشورى فقهاء، أو إمكان تفرّد الفقيه في الفتوى مع وجود الاختلاف في الأذواق، وتشعّب شؤون الحياة وتعقّد العلاقات الاجتماعية، وإمكان تسرّب عناصر الضغط المصلحية أحياناً الى مناصب مهمة تترك أثرها على مسيرة الاُمة.
كلّ هذه التساؤلات كانت تُطرح، إلاّ أنها كانت تختفي تماماً بملاحظة الآثار الإيجابية الكبرى التي تتركها المرجعية في الحياة من جهة، وعدم تحوّل هذه التساؤلات الى مشاكل حقيقية، باعتبار ما كان عليه الوضع الشيعي من تشرذم وتفرّق وضعف لا يشعر معه الإنسان العادي بحرج كبير في تعدّد الفتاوى والمرجعيات والقرارات، من جهة اُخرى.
أضف الى ذلك، أنّ العداء الاستكباري والتحامل، لم يكن يبلغ الى حدّ التحرّك الى الداخل الشيعي بشكل قويّ، باعتبار عدم إدراكه ـ كما يبدو ـ لعمق هذا النفوذ المعنوي.
المرجعيّة بعد انتصار الثورة الإسلامية
وبعد نجاح الثورة الإسلامية الكبرى في إيران بقيادة المرجع الإسلامي العظيم الإمام الخميني (ره)، هذه الثورة التي قلبت الموازين العالمية رأساً على عقب، وعطّلت (الكومبيوتر) السياسي الغربي، وبعثت من الرميم حسّاً إسلامياً ضخماً في الجماهير الإسلامية في كلّ مكان بلزوم العودة الى الذات، وصياغة الحياة القرآنية من جديد.
بعد هذا الإنتصار الكبير، طرحت المرجعية الدينية نفسها من جديد في الساحة، كأقوى ما تكون، وأشتدّ التآمر على كلّ الوجود المرجعي بشكل قويّ أيضاً، لم يسبق له مثيل، إلاّ أنّ الذي كان يُبقي تلك التساؤلات في مستوى عدم الأهمية اُمور:
1ـ إنّ القيادة الفعلية للاُمّة كانت بيد المرجعية نفسها.
2ـ انشغال القيادة بلملمة الاُمور وصياغة أركان الدولة ودفع خطط الأعداء.
3ـ وعي المرجعية الاُخرى لضرورة دعم الثورة الإسلامية بكلّ قوّة.
4ـ التأييد الجماهيري القاطع للقيادة الثورة الإسلامية. الى الحدّ الذي لم يكن ليسمح لأيّ خلاف أن يترك أثره على الساحة، حتى أنه عندما اختلف أحد المتصدّين للاُمور المرجعية مع الثورة، وراح يعارض مسيرتها، رفضته الجماهير الإسلامية نفسها وتخلّت عنه، وهكذا مرّت هذه الفترة بسلام.
إلاّ أن الذي بعث التساؤلات من جديد هو رحيل الإمام الخميني القائد المثالي العظيم (ره)، وانتقال القيادة الى تلميذ مخلص من تلامذته، وفقيه كبير واع لكلّ مشاكل الخطّ ومعالم الطريق، إلاّ أنه لم يكن في مقام أحد المراجع المعروفين، ثم تتابعت الأحداث بوفاة مراجع الاُمة، كالإمام الخوئي والإمام الگلبايگاني وغيرهم، الأمر الذي بعث التساؤلات الماضية من جديد.
وممّا جعل الإجابة عن تلك التساؤلات أمراً محتماً، جملة ظواهر جيّدة منها:
الظاهرة الاُولى
تصاعد العداء الكافر، ومحاولات التسلّل الى حصن المرجعية الحصين، حتى عادت إذاعات الكفر تتدخل في هذا الموضوع المقدّس. بل وراح بعض العملاء من الحكّام يضغطون لتحقيق مآربهم.
الظاهرة الثانية
طرح مرشحين للمرجعية يعرف الواعون من الاُمّة سوابق بعضهم وعدم صلاحيتهم لذلك، ومدى خطورتهم على مستقبل الصحوة الإسلامية وعلاقات الاُمة بالقيادة نفسها.
الظاهرة الثالثة
التفسيرات الجديدة لموضوع الأعلمية الدخيلة في صياغتها المرجعية، باعتبارها أوسع ممّا تصوّره فقهاؤنا (رحمهم الله) من القدرة الأكبر على الاستنباط، وخصوصاً في بعض الأبواب الفقهية، الى حدّ جعلها جزءاً من الأعلمية يضاف إليها جزء آخر مهمّ هو القدرة على استيعاب الحوادث الزمانية والمكانية، ومصلحة الاُمة الإسلامية، ومعرفة الترابط بين الهيكلية الإسلامية كلّها، بما فيها من أحكام للحياة ومفاهيم تصوّرية، تترك آثارها على صعيد العمل، ونظريات تميّزها عن النظريات الاُخرى، كالاشتراكية والرأسمالية وغير ذلك من عناصر لها أثرها الكبير في عملية الاستنباط.
وهكذا برزت من جديد مشاكل (الأعلمية) و (الانتخاب الأصلح) و (المرجعية الرشيدة) وغير ذلك.
مقترحات حول مستقبل المرجعية
قبل كلّ شيء نجد أنفسنا بحاجة الى التأكيد من جديد، على أنّ الحالة الشعبية العامة لا تتحمّل مطلقاً قيادتين فعليّتين ووليّين فعليّين كما مرّ، وأكّدنا ذلك من ذي قبل. فينبغي على المخلصين لمصالح الاُمة ومستقبل الثورة الإسلامية والكيان الإمامي، أن يدركوا ذلك ويعملوا ما أمكنهم على تحقيق أحد أمرين:
الأمر الأوّل
توحيد المرجعية والقيادة إذا اُريد للمرجعية أن تحتفظ بما تملكه اليوم من خصائص.
الأمر الثاني
أن تعود المرجعية الى وظيفتها الحقيقية في المجال الإفتائي، مع السعي لتوحيد الموقف الإفتائي العام، من خلال إنضمام باقي المجتهدين الى حوزة المرجع الأعلى، المنتخب بطريقة واقعية تُبعد الاُمة عن الوقوع في الهلكات، وعدم الإفتاء العام للناس ليتوحّد الموقف الإفتائي. أو أن نطرح فكرة (شورى الإفتاء) من أوّل الأمر، وهي فكرة منسجمة تمام الإنسجام مع كلّ الأدلّة التي تطرح التقليد كنظام شرعي مقبول.
مسألة الأعلمية
من الطبيعي ـ أوّلاً ـ أن تُناقش الفكرة التي تحتفظ بالأعلمية نفسها، ولكن تناقش في مفهومها، ولها الحقّ في هذا النقاش بملاحظة عدم ورود تعريف خاصّ لها من الشريعة. بل عدم وجود مفهوم واضح عن الأعلمية لدى العلماء الذين سبقوا الشيخ الأنصاري (ره) المتوفى عام (1281 ه).
فهي ـ إذن ـ مسألة عرفية عقلائية في مفهومها بلا ريب، وبالرجوع الى أدلّتها نجدها ـ أيضاً ـ تعتمد غاية ما تعتمد على البناء العقلائي، حيث ذكر أنّ الشريعة أوكلت الأمر الى هذا البناء والسيرة العقلائية وصدّقتها.
وإنّنا نعتقد جازمين بأنّ الشريعة لا يمكن أن تترك هذا الأمر الخطير الذي يلازم حياة كلّ فرد ـ وفي جميع سلوكياته ـ الى مسألة بناء العقلاء، وخصوصاً في جوٍّ تسود فيه سيرة مخالفة لدى عموم المسلمين بالرجوع الى أيّ من المجتهدين المطّلعين دونما ملاحظة لمسألة الأعلمية.
الاستنتاج
إن المرجعية الدينية لدى الشيعة لها أسس وقواعد تضبط الاجتهاد وتضمن الى حدّ كبير قربه من الواقع، وأنها قامت بأدوار ضخمة في المجالات العلمية والاجتماعية والسياسية ولا يمكن أن ينكرها أحد، وقد شهد العالم الشيعي تحولات جيّدة في الحوزات الشيعية الكبرى في النجف وقم ومشهد، وأن المرجعيّة بعد انتصار الثورة الإسلامية قلبت الموازين العالمية رأساً على عقب، وطرحت نفسها من جديد في الساحة، كأقوى ما تكون، وأشتدّ التآمر على كلّ الوجود المرجعي بشكل قويّ أيضاً.
الهوامش
[1] التوبة، 122.
[2] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج18، الباب الحادي عشر، ح9.
[3] منها ما جاء في صحيحة الحسين بن أبي العلاء: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): «وتكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا، قلت: يكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامت». الكليني، الكافي، ج1، ص178.
[4] الأنصاري، المكاسب، ص154.
[5] البحراني، الحدائق، ج12، ص470.
مصادر البحث
1ـ الأنصاري، مرتضى، کتاب المكاسب، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، قم، المؤتمر العالمي بمناسبة الذكرى المئوية الثانية لميلاد الشيخ الأنصاري، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
2ـ البحراني، يوسف، الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
3ـ الحر العاملي، محمد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
4ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
مصدر المقالة (مع تصريف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.