المبحث الخامس: التثليث
خصائص مسألة التثليث :
1- نظرية التثليث ـ في الواقع ـ نظرية غير معقولة، وقلّما توجد في مختلف الأديان مثل هذه المسألة في غاية التعقيد والإبهام والغموض.
2- ورد في بعض التحقيقات بأنّ عقيدة التثليث تسرّبت إلى الديانة المسيحية من الديانة البراهمانية الهندوسية، وهي ديانة كانت تعتقد قبل المسيحية بأنّ الربّ الأزلي، والأبدي متجسّد في ثلاثة مظاهر، وهي:
أوّلاً: برهما (الخالق): وهو الموجد في بدء الخلق.
ثانياً: فيشو (الواقي): وهو الواقي والابن الذي جاء من قبل أبيه.
ثالثاً: سيفا (الهادم): وهو المفتي الهادم المُعيد للكون إلى سيرته الأولى(1).
3- يعتبر المسيحيون “الاعتقاد بالتثليث” من المسائل التعبّدية التي لا تدخل في نطاق التحليل العقلي، وهي منطقة محرّمة على العقل، لأنّ حقيقتها فوق القياسات المادية.
يرد عليه : لا يخفى خطأ مقايسة عالم ما وراء الطبيعة مع عالم الطبيعة، ولكن لا يعني هذا الأمر هيمنة الفوضى على عالم ما وراء الطبيعة وخلوّه من المعايير المنطقية.
كما لا يخفى وجود سلسلة من القضايا العقلية البديهية التي لا يوجد أدنى شك في أنّ هيمنتها على “عالم ما وراء المادة” و “عالم المادة” سواء.
مثال ذلك: مسألة احتياج المعلول إلى علّة.
مسألة امتناع اجتماع النقيضين.
حقيقة التثليث :
الطبيعة الإلهية تتألّف من ثلاثة أقانيم(2) متساوية الجوهر، هي الأب والابن وروح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة مع ذلك ذات رتبة واحدة وعمل واحد(3).
يرد عليه : القول بأنّ الإله “ثلاثة أقانيم وجوهر واحد” لا يخلو من أمرين:
1 ـ الإله حال كونه ثلاثة واحد، وحال كونه واحداً ثلاثة!
وهذا كلام متناقض وباطل.
2 ـ الإله جملة واحدة ذات أجزاء ثلاثة.
كما نقول في الإنسان: إنّه واحد ذات أجزاء كثيرة.
ويلزم من هذا المعنى أنّه تعالى مركّب، وبما أنّ المركّب محتاج إلى أجزائه فسيكون الإله أيضاً محتاجاً في تحقّق وجوده إلى الأقانيم، ولكنّه تعالى منزّه عن الاحتياج، فلهذا نستنتج بطلان القول بإله ذي ثلاثة أقانيم وجوهر واحد(4).
الأدلة القرآنية على إبطال ألوهية المسيح :
1- كان المسيح يعبد الله ويدعو الناس إلى عبادة الله أيضاً: فلو كان المسيح إلهاً لما صحّ منه هذا الفعل.
قال تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إنّ الله هو المسيح ابن المريم وقال المسيح يا بني اسرائيل اعبدوا الله ربّي وربّكم } [ المائدة: 72 ]
2- كان المسيح كبقيّة البشر يأكل الطعام، وليس من صفات الإله هذا الأمر.
قال تعالى: { ما المسيح ابن مريم إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل وأمّه صديقة كانا يأكلان الطعام } [ المائدة: 75 ]
3- الله تعالى قادر على إهلاك المسيح فتثبت ألوهية الله تعالى فحسب دون غيره.
قال تعالى: { فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمّه ومن في الأرض جميعاً } [ المائدة: 17 ](5)
المبحث السادس: الله تعالى واتّخاذ الولد
ذهب النصارى إلى أنّ الله اتّخذ المسيح ولداً له.
يرد عليه : قول النصارى بأنّ الله اتّخذ المسيح ابناً له لا يخلو من أمرين:
1- المعنى الحقيقي: والولد ـ حقيقة ـ جزء من والده انفصل عنه ونما خارجه.
وبعبارة أخرى: الولد هو انفصال جزء من الوالد واستقراره في رحم الأم.
وهذا المعنى يستلزم كون الله مركّباً ومتّصفاً بالآثار الجسمانية، ولكنّه تعالى منزّه عن ذلك، فنستنتج بطلان اتخاذ الله ابناً له حقيقة.
2- المعنى المجازي: يستعمل هذا المعنى بين الناس بأن يتّخذ أحد الأشخاص شخصاً آخر ابناً له، وذلك في الموارد التي يكون هذا التبني متناسباً، ولهذا لا يصح للإنسان أن يتّخذ الجمادات والبهائم ولداً له أو يتّخذ من هو أكبر سنّاً ولداً له.
ومن هذا المنطلق لا يصح نسبة هذا المعنى إلى الله; لأنّه تعالى منزّه عن الجسمانية، فلهذا لا يصح أن يتّخذ ما هو جمساني ابناً له(6).
أضف إلى ذلك:
1 ـ يستلزم اتّخاذ الله ابناً له أن تكون له صاحبة.
قال تعالى: { بديع السماوات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة } [ الأنعام: 101 ]
2- يستلزم اتّخاذ الله ابناً له أن يكون الابن مثيلاً ونظيراً له في الاتّصاف بالصفات الإلهية، من قبيل: الاستقلال والغنى عن الغير، فيلزم وجود الشريك لله، وهو محال.
قال تعالى: { الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتّخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك }[ الفرقان: 2 ]
وقال تعالى: { وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كلّله قانتون } [ البقرة: 116. ]
تنبيه : قال بعض النصارى: بأنّ المسيح وُلد من غير أب، فلهذا يصح القول بأنّه ابن لله تعالى. فجاء في القرآن الكريم ردّاً على هذه المقولة:
{إنّ مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب } [ آل عمران: 59 ]
المبحث السابع: عبادة الاصنام
ورد في مناظرة رسول الله(صلى الله عليه وآله) مع عبدة الأصنام: أنّه(صلى الله عليه وآله) قال لهم: “لمَ عبدتم الأصنام من دون الله؟
فقالوا: نتقرّب بذلك إلى الله تعالى…، إنّ هذه [ الأصنام ] صور أقوام سلفوا، كانوا مطيعين لله قبلنا، فمثّلنا صورهم وعبدناها تعظيماً لله…. كما تقرّبت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى، وكما أمرتم بالسجود ـ بزعمكم ـ إلى جهة “مكة” ففعلتم، ثمّ نصبتم في غير ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم، وقصدتم بالكعبة إلى الله عزّ وجلّ لا إليها.
فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله): أخطأتم الطريق وضللتم… لقد ضربتم لنا مثلاً، وشبّهتمونا بأنفسكم ولسنا سواء، وذلك أنّا عباد الله مخلوقون مربوبون، نأتمر له فيما أمرنا، وننزجر عمّا زجرنا، ونعبده من حيث يريده منّا، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعدّ إلى غيره مما لم يأمرنا به ولم يأذن لنا، لأنّا لا ندري لعلّه إن أراد منّا الأوّل فهو يكره الثاني، وقد نهانا أن نتقدّم بين يديه.
فلمّا أمرنا أن نعبده بالتوجّه إلى الكعبة أطعناه، ثمّ أمرنا بعبادته بالتوجّه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فاطعناه، ولم نخرج في شيء من ذلك من اتّباع أمره.
والله عزّ وجلّ حيث أمر بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه; لأنّكم لا تدرون لعلّه يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به .
ثمّ قال لهم رسول الله(صلى الله عليه وآله): أرأيتم لو أذن لكم رجل دخول داره يوماً بعينه، ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره؟ أولكم أن تدخلوا داراً له أخرى مثلها بغير أمره؟ أو وهب لكم رجل ثوباً من ثيابه، أو عبداً من عبيده أو دابة من دوابه، ألكم أن تأخذوا ذلك؟
قالوا: نعم.
قال: فإن لم تأخذوه ألكم أخذ آخر مثله؟
قالوا: لا; لأنّه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن في الأوّل…
قال(صلى الله عليه وآله): فلم فعلتم ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصور؟”.
فقال القوم: سننظر في أمورنا، وسكتوا(7)… ثمّ عادوا بعد ثلاثة أيام وأسلموا.
المبحث الثامن: أقسام وحدانية الله
1 ـ توحيد الذات
أي: إنّ الله تعالى أحد لا جزء له، وواحد لا ثاني له(8).
2 ـ توحيد الصفات
أي: صفات الله عين ذاته تعالى(9).
3 ـ توحيد العبودية
أي: تخصيص العبادة لله، ونفي الشريك عنه في استحقاق العبودية(10).
تنبيه : أشار بعض العلماء إلى أقسام أخرى من التوحيد ـ تدخل في إطار التوحيد الأفعالي ـ ولكن الصحيح عدم إلحاق هذه الأقسام بالتوحيد; لأنّها غير مختصة بالله، بل يصح للعباد القيام بها بإذن الله تعالى .
ومن هذه الأقسام: التوحيد في الأفعال.
فالله تعالى يفعل، والإنسان أيضاً يفعل، ولكن الفرق أنّه تعالى يفعل بصورة مستقلة، ولكن الإنسان يفعل بإذن الله تعالى وبحوله وقوّته.
فلهذا لا يصح القول: لا فاعل إلاّ الله تعالى.
وإنّما الصحيح القول: لا فاعل ـ على نحو الاستقلال ـ إلاّ الله تعالى.
تتمة : ويتفرّع عن التوحيد في الأفعال أقسام أخرى للتوحيد، منها:
التوحيد في الخالقية والمؤثّرية والتدبير والتقنين والمالكية والرازقية والطاعة والحاكمية والاستعانة و…
فالله تعالى خالق ومؤثّر ومدبّر ومقنّن ومالك ورازق ومطاع وحاكم و…
والإنسان أيضاً خالق ومؤثّر ومدبّر ومقنّن ومالك ورازق ومطاع وحاكم و…
ولكن الفرق أنّه تعالى يخلق ويؤثّر ويدبّر و… على نحو الاستقلال.
ولكن الإنسان يخلق ويؤثّر ويدبّر و… بإذن الله تعالى.
ولهذا لا يصح القول: لا خالق ولا مؤثّر ولا مدبّر و… إلاّ الله تعالى.
وإنّما الصحيح القول: لا خالق ولا مؤثّر ولا مدبّر و… ـ على نحو الاستقلال ـ إلاّ الله تعالى.
____________
1- للمزيد راجع : مفاهيم القرآن، جعفر سبحاني: 6 / 488 ـ 489.
2- الأقانيم: الأصول، وأحدها أقنوم.
لسان العرب، ابن منظور: 11 / 326 مادة (قنن).
3- انظر: قاموس الكتاب المقدّس: حرف الثاء، الثالوث الأقدس، ص 232.
4- انظر: الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 291 ـ 292.
المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصي: ج 1، الردّ على الفرق المخالفة في التوحيد، ص 145.
5- انظر: الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 299.
6- الملخّص، الشريف المرتضى: الجزء الثاني، فصل في الكلام على النصارى، ص 293 ـ 294.
الاقتصاد، الشيخ الطوسي: القسم الأوّل، الفصل الخامس، ص 81 .
غنية النزوع، ابن زهرة الحلبي: باب الكلام في التوحيد، الفصل الخامس، ص 69 ـ 70.،
7- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي: ج1، فصل في ذكر طرف مما جاء عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الجدال والمحاجّة والمناظرة، رقم 20، ص 39 ـ 44.
8- للمزيد راجع المباحث السابقة في هذا الفصل.
9- للمزيد راجع في هذا الكتاب: الفصل الثالث، المبحث السادس، القول الخامس.
10- تنبيه: إنّ توحيد الذات والصفات متقدّم في الرتبة عن توحيد العبودية; لأنّ الله تعالى منزّه عن الشريك والتركيب سواء كان هناك معبوداً أو لا .
المصدر: التوحيد عند مذهب أهل البيت (عليهم السلام) / الشيخ علاء الحسون