أصل الحرب أمر جائز في الشرع، وقد قسم القرآن الحروب سواء التي وقعت في العصور الماضية أم الحروب التي ستقع في المستقبل إلى ثمانية أقسام، منها الحرب تجاه الكفار وأهل الكتاب والمنافقين وأهل البغي والدفاع والمقابلة بالمثل.
أولاً: القرآن والحروب التي اندلعت في أول الدعوة الإسلامية
أن أصل الحرب والقتال على العموم أمر جائز في الشرع المقدس، وهناك العديد من القوانين والقواعد الخاصة بالحرب كان الإسلام قد قررها وأمضاها أيضاً، ففي زمان النبي (ص) تواصلت الحروب والمعارك في أكثر من مناسبة بين المسلمين وأعدائهم المشركين.
وقد تعرض المؤرخون إلى أكثر من ثمانين حرباً كانت قد وقعت في تلك الفترة الزمنية من حياته، وقد نزلت كثير من الآيات من القرآن تتعرض إلى هذه الحروب وتفاصيلها، وفي هذا الفصل عقدنا العزم على تناول هذه الآيات وبحث شأن نزولها.
ومن بين الحروب العديدة التي خاضها النبي محمد المصطفى (ص) في حياته مع المسلمين وكان القرآن قد تعرض لها، هي ثلاث حروب بدر والأحزاب وحنين، وقد ذكرت حرب بدر في قوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[1].
ووردت حرب الأحزاب في قوله: وَلَمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا[2]، وجاء ذكر معركة حنين في في قوله: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ[3].
ولكن بغض النظر عن ذكر أسماء الحروب ووقائعها في الآيات والسور القرآنية التي تعرضت لذلك إجمالاً وتفصيلاً، مثل البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنفال والتوبة و…، فإن ما لا نقصده هنا هو البحث في العمق التاريخي للحروب ونفس الفترة الزمنية التي وقعت فيها المعارك في بداية الدعوة، إن ما نرمي إليه هنا فعلاً، وهو الذي يحظى بالأهمية في ما يخصنا هو البحث في هذه المسألة وهي:
أن الحرب التي حدثت في تلك الفترة هل كانت حروباً ومعارك دفاعية؟ أو أن بعضها كان جهاداً ابتدائياً ولم يكن فيها جانب دفاعي؟ وعلى العموم أ في الإسلام جهاد دفاعي فقط أم هناك جهاد ابتدائي قد شرع في الإسلام أيضاً؟ وهنا يطرح سؤال وهو: أساساً كم نوعاً من الجهاد اعتبره وعده القرآن جائزاً؟
ثانياً: التصنيف القرآني للحروب
لقد قسم القرآن بنحو عام الحروب بأصنافها وأنواعها سواء التي وقعت في العصور والفترات الماضية من التاريخ البشري أم الحروب التي ستقع في المستقبل بلحاظ قيمتها واعتبارها على قسمين أساسين هما:
1ـ حروب الحق العادلة
وهي التي أطلق عليها القرآن الكريم عنوان: الجهاد في سبيل الله أو القتال في سبيل الله.
2ـ حروب الباطل الظالمة
وهي التي أطلق عليها القرآن عنوان: القتال في سبيل الطاغوت.
مثال ذلك هذه الآية التي ذكرت القسمين كليهما من الحرب، يقول تعالى: الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا[4].
إن حرب الحق هي تلك الحرب التي تقوم على أساس القتال في سبيل الله، والحرب الباطلة هي تلك الحرب التي تقوم على أساس القتال في سبيل الشيطان.
وكما ذكرنا في موضعه إن أمام الإنسان في الواقع طريقين لا ثالث لهما: أحدهما: عبادة الله سبحانه وطاعته، والآخر: عبادة الشيطان وأتباعه وفي كل عمل يقوم به الإنسان إذا لم يكن من أجل عبادة الله تعالى وطاعته ولم يكن في سبيل الكمال الحقيقي الذي هو القرب والدنو من الحق جل شأنه، فسيكون دون شك عملاً شيطانياً.
ومن الواضح أن هذه الآية لا تدلنا على خصوصيات الحرب ومزاياها ولا تكشف لنا عن طبيعة العدو وهويته لتكون حرباً في سبيل الله، وما هي الأمور التي تتصف بها الحرب الشيطانية والقتال في سبيل الطاغوت، ولكن عند مطالعة الآيات والروايات الأخرى ستتضح وتتجلى هذه المسألة تماماً، إذ وبعد مراجعة جميع أدلة الجهاد في سبيل الله، نجد أنه قتال في مسيرة الكمال الإنساني والبشري وهي حرب تجعل الإنسان والمجتمع قريباً من الله تعالى.
وهذا الكلام وإن كان معلوماً وجلياً من جهة المفهوم، ولكنه غير معلوم من ناحية المصداق، فهناك بعض الأمور ما زالت غامضة من قبيل: ما هي الحرب؟ وضد أي من الأشخاص والمجموعات؟ وفي أي أوضاع وظروف يمكن أن تكون مصدراً لكمال الفرد والمجتمع؟
ثالثاً: المقصود من اصطلاح «في سبيل الله»
تتضمن جملة في سبيل الله معنى ظريفاً جداً، وعلى الرغم من شهرة هذا الاصطلاح، وكثرة استعماله بين المسلمين، ووفرة استخدامه في المصادر الإسلامية والنصوص الدينية كالقرآن والأحاديث، ولكن لم يلتفت الى معناه ويدرك المقصود منه، وهنا يمكن أن نقول:
إن كل فعل يقوم به الإنسان هو مصداق للحركة، وكل حركة لابد من أن تكون لجهة معينة، وهدفاً وغرضاً محدداً، سواء كان ذلك الفعل خارجياً ظاهراً أم كما يعبرون عنه فعلاً جوارحياً، الذي يقوم به المرء عن طريق أعضاء البدن، أم سلوكاً وفعلاً جوانحياً باطنياً، وهو الفعل الذي يتعلق بروح الإنسان وعقله وفكره، ومن هنا يكون ذلك الفعل مستوراً ومخفياً عن لحظ الآخرين ورؤيتهم، مثل ما يدور في عقل الإنسان وروحه من خيال وأفكار.
وهذه الجهة التي تسير إليها الحركة لو كانت على نحو تنتهي إلى كمال الإنسان وسموه، فسيكون ذلك – طبعاً هو الطريق المستقيم، وهو طريق الخير والصلاح وسعادة الإنسان، وسيؤدي إلى الحق والحقيقة، وأما لو كانت جهة الحركة تمضي بالإنسان بعيداً عن كماله الحقيقي، وتقذفه بمنأى عن سمو ذاته، فمن الطبيعي أن يكون الإنسان وهو في هذه الحالة في طريق الشر والفساد، ويسلك سبيل الشقاء والباطل.
من جهة أخرى وانطلاقاً من رؤية الإسلام، فإن الكمال الحقيقي لأي إنسان لا يكون إلا في القرب الكبير من حضرة الله تعالى، وأدنى من ساحته المقدسة، وما يعده الإسلام من حركات وأفعال صحيحة هي تلك السلوكيات والأفعال التي تتوفر فيها جهة الصلاح والخير للإنسان، وهي التي تكون مصداقاً للحق والعدل، وهي الحركات التي تقع وتحصل كلما صار الإنسان أكثر قرباً ودنواً من الكبير المتعال، مقابل ذلك إن كل سلوك أو حركة تبعد الإنسان عن الله وتنأى به عن رحمته يعدها الإسلام باطلة وفاسدة.
وبتعبير آخر: إن الحركات والأفعال التي يعدها الإسلام حقاً، ويعتبرها عدلاً هي تلك الأفعال التي تكون ضمن المسير والسلوك إلى الله سبحانه وتعالى، وكل حركة وفعل آخر غير داخل في هذا الخط والاتجاه سيكون بحسب القواعد والأصول الإسلامية باطلاً وغير صحيح.
وعليه فلو أردنا الإجابة عن السؤال الآتي وهو: لماذا يطلق الإسلام على الأفعال الإيجابية الحسنة والنشاطات الصحيحة والحقة التي يقوم بها الإنسان عبارة: في سبيل الله؟ علينا أن نقول إنما يكون ذلك لأن الإنسان عندما يقوم بأداء هذه السلوكيات والأفعال يكون قريباً من الله تعالى، وستكون نهايته إليه سبحانه.
وقد استعملت جملة في سبيل الله في القرآن في موارد متعددة، سنشير إلى بعضها:
منها ما جاء في بعض الآيات من وصف تحمل الإنسان العذاب من الأعداء وصبره على أذاهم، وعدت ذلك الأمر موجباً لخيره وسعادته، من قبيل هذه الآية: لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلَاً إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ[5].
ووصفت بعض الآيات الأخرى بعض الأفعال بعنوان «في سبيل الله» أيضاً من قبيل الهجرة والجهاد والتضحية بالنفس والشهادة في محاربة الأعداء ومقارعتهم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمةَ اللهِ[6].
وقال سبحانه: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواْ[7].
واستعملت بعض الآيات الأخرى عنوان: «في سبيل الله» قيداً للإنفاق وبذل الأموال في سبيل الخير، وذلك مثل قوله تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ[8].
وفي بعض الآيات جاء وصف في سبيل الله للعوز المالي والإملاق أيضاً، كما في الآية: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ[9].
رابعاً: مفردة «الله» في القرآن
من المناسب جداً بعد أن تعرفنا معنى العبارة القرآنية «في سبيل الله»، ووقفنا عند مفهومها والمراد منه، أن نشير إلى عبارة قرآنية أخرى شبيهة بها وهي عبارة «الله» ونتعرف الفرق بينهما.
كما قلنا في البحوث المتعلقة بفلسفة الأخلاق أننا نعتقد أن الأفعال الاختيارية للإنسان، عندما يكون لها قيمة واعتبار إيجابي ومفيد فإنها تتصف بأمرين: الأول: أن يكون الفعل حسناً، أي أن يكون ذلك الفعل بنفسه حسناً جميلاً بغض النظر عن طبيعة قصد فاعله والدواعي التي دفعته للقيام به، ويعبر عن هذا الأمر أيضاً بـ ( الحسن الفعلي).
الآخر: أن يكون الباعث والداعي للفعل صحيحاً أيضاً، بمعنى أن قصد الفاعل وهدفه لابد من أن يكون نزيهاً وحسناً، وهو ما يعبر عنه بـ (الحسن الفاعلي)، وتظهر أهمية هذا الأمر خاصة في الأفعال التي يطلق عليها الفقهاء بـ (العبادة).
وعليه إن الفعل الأخلاقي حتى يتصف بالحسن والجمال وحتى تكون له قيمة مفيدة وبعد إيجابي يجب أن يكون بنفسه مجرداً عن غيره حسناً وجميلاً، ولابد أيضاً أن يكون قصد الفاعل وغرضه بعيدًا عن التظاهر والأنانية وخداع الناس وطلب الجاه والسمعة.
وعند بيان هذه المقدمة نقول الآن: إن تعبير في سبيل الله ناظر في الواقع إلى (الحسن الفعلي) والسلوك المفيد والنافع ذاتاً، وأما تعبير «الله»، أو «قربة إلى الله» فهو ناظر إلى (الحسن الفاعلي)، ويدل على أن المرء عندما يهم بالقيام بعمل نافع ومفيد يجب أن تكون دوافعه صحيحة ونزيهة أيضاً.
تجدر الإشارة إلى أن الأهم من بين هذين التعبيرين هو (الحسن الفاعلي)، فإن صحة الباعث والدافع للفعل أو قبحه يمكن أن يجعله في أعلى القيم السامية والاعتبارات الإيجابية، وبالعكس يمكن أن يهبط به إلى أحقر منزلة سلبية وأحقر درجة رخيصة.
خامساً: الأقسام الثمانية للجهاد في القرآن
ذكرنا أن (الجهاد في سبيل الله) لا يختص بمحاربة طائفة معينة، ولا ينحصر في القتال والجهاد الدفاعي فحسب ولبيان رؤيتنا هذه ينبغي عرض الأقسام المختلقة للحرب الإسلامية في القرآن، وتعدد أنواع القتال المبرر في الإسلام.
1ـ الحرب تجاه المشركين
يقول الله تعالى في إحدى الآيات القرآنية لبيان هذا النوع من القتال مخاطباً المسلمين: وَقَاتِلُواْ المُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ[10].
2ـ الحرب تجاه الكفار
وهذا النوع من القتال ذكر في آيات عديدة من القرآن ومن جملتها ما يقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ[11].
ويقول سبحانه في آية أخرى: فَلَا تُطِعِ الكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[12].
3ـ الحرب تجاه أهل الكتاب
وقد جاءت آيات عديدة أيضاً تعرضت إلى قتال أهل الكتاب منها قوله: قَاتِلُواْ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[13].
في ما يتعلق بهذه الآية هناك نقاشات وبحوث مختلفة، من جملتها هذا الأسئلة وهي: هل الآية تشير إلى فريقين أم هل تشير إلى فريق واحد؟ وأإن الله يحفز المسلمين ويرغبهم في قتال الفريقين معاً بخصوصيتين منفصلتين أم يريد منهم محاربة فريق واحد أو قتال فريق واحد له هذه الخصوصيات المتباينة؟
فهل المسلمون مكلفون بقتال أولئك الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يكفون أنفسهم عما حرم الله تعالى ونبيه الكريم و قتال فريق من أهل الكتاب الذين لا يتبعون دين الحق أيضاً؟ أو واجبهم فقط هو محاربة فريق من أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يكفون أنفسهم عن المحرمات الشرعية والإلهية ولا يتبعون دين الحق؟ وجواب هذه الأسئلة سيتعلق بطبيعة تفسيرنا الجمل الآية الكريمة ومقاطعها.
إن أحد الآراء هو أن جملة: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ، الموجودة في هذه الآية تشير إلى مجموعة واحدة، وجملة: وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الكِتَابَ ناظرة إلى فريق آخر ومجموعة أخرى، والرأي الآخر هو أن هذه الآية من أولها إلى آخرها ورغم اختلاف جملها و تباين مقاطعها تشير إلى مجموعة واحدة فقط.
فتبين أننا لو أخذنا بالرأي الأول تكون الآية ناظرة إلى الكفار، وإلى المشركين، وإلى فريق أهل الكتاب أيضاً، ولكن لو أخذنا بالرأي الثاني فإن الآية ستكون ناظرة إلى فريق من أهل الكتاب فقط.
4ـ الحرب تجاه المنافقين
إن الحرب مع المنافقين وقتالهم لون آخر من ألوان الحروب التي خاضها المسملون في زمن النبي (ص)، والتي ركز عليها القرآن، إذ يقول سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ[14].
فضلاً عن جهاد الكفار فإنّ الله سبحانه يأمر في هذه الآية بمجاهدة المنافقين أيضاً، ويوصي نبيه أن يتعاطى معهم بقوة وحزم ولا يتعامل معهم باللين والمرونة، وغض الطرف أو السلم والتجاوز عن أخطائهم.
وفي بعض الآيات يعاتب الله المسلمين ويلومهم على اختلافهم في المنافقين وقتالهم، ويعيب عليهم اختلاف كلمتهم في محاربتهم، وتقريع من يمتنع من المسلمين عن مقارعة هؤلاء والجهاد ضدهم.
قال تعالى: فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلَاً[15].
ثم إن الله تعالى ينبئ المؤمنين بأن هؤلاء المنافقين لن يكتفوا بنفاقهم السري وكفرهم الباطني فحسب، بل لديهم رغبة جامحة بأن تكفروا كما كفروا هم وسلكوا سبيل الضلال، ليكون الجميع متساوين في الكفر، فهؤلاء لا يرتضون دين المسلمين ونهجهم، ولا يرغبون في الاتحاد والانسجام معهم، ولا يتمنون أن يكونوا في خندق واحد إلى جنبهم تحت راية الإسلام؛ ليكون المحور والقطب الذي يلجأ إليه الجميع، من هنا كانوا يسعون إلى إلحاق المسلمين بالكفر والزندقة والإلحاد.
قال تعالى: وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا[16].
ورغم أن المنافقين يظهرون الإسلام ويقولون به لكنهم لم يرافقوا المؤمنين والمسلمين الواقعيين ولم يهاجروا معهم من مكة إلى المدينة، وكانوا يقصدون من ذلك البقاء على التل، ولم يُعرفوا مع أي طرف هم عند اندلاع الحرب بين المسلمين والمشركين حتى إذا ألقت الحرب أوزارها بانتصار المسلمين أو بهزيمتهم فإنهم قد نأوا بأنفسهم عن كلفة الحرب وخسائرها، وبعد الحرب يمكنهم من خلال الوقوف إلى جانب المنتصر الانتفاع والإفادة من ذلك، وهذا الأسلوب العام سياسي بامتياز، وفيه كثير من الدجل والمراوغة والدهاء، فمثل هؤلاء لا يكشفون عن موقفهم الصريح، ولا يعلنون عنه حتى يستطيعوا ركب الموج، ولا يتأخرون تحت أي ظرف من الظروف عن القافلة السائرة.
وكيفما كان الأمر؛ فإن الله تعالى وفي مقابل هذا الخداع، وهذه الحيل التي يمارسها المنافقون؛ يكلف المسلمين بأن يجعلوهم على المحك، ويمتحنوهم حتى تتبين صحة ما يدعيه هؤلاء من الإسلام أو من كذبه، وأحد مصاديق هذا الاختبار استسلامهم للهجرة مع المسلمين إلى المدينة وإذعانهم لها، إذ ذكر الله تعالى في هذه الآية مخاطباً المسلمين: إنهم لو هاجروا معكم إلى المدينة رافقوهم وصاحبوهم، وإلا فلا تفعلوا ذلك أبداً، بل تعاملوا معهم بحزم وقوة وغلظة، وعلى كل حال إن الله تعالى يحذر المسلمين من أن ينخدعوا بالحيل المكشوفة لهؤلاء الانتهازيين، وما لم يأتوا إلى طريق الصواب بصدق وإخلاص، ولم يطمئنوا لكلامهم وحديثهم عليهم أن لا يعتمدوا عليهم ولا يحبوهم ولا يخالطوهم.
5ـ جهاد أهل البغي
وهذا نوع آخر من الحروب الإسلامية جاء في الآيات القرآنية أيضاً، قال تعالى: وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ[17].
إن الجملة الأولى من هذه الآية تفترض أن فريقين من المؤمنين قد نشب بينهم الصراع والقتال، ومن الطبيعي في هذا الفرض إما ان يكون الفريقان كلاهما أو أحدهما قد غلب عليه هوى النفس، وانتصرت عليه قواه الشيطانية، أو أصابه الطمع والكبر، أو يكون الفريقان قد أخطاً جراء سوء تفاهم قد حل بينهما، ذلك لأنه في غير هذه الصور التي ذكرت لا يمكن أن نتصور فريقين من المؤمنين يقصد كل واحد منهما أن يقتل الآخر، ويزعزع الأمن والأمان الذي ينعم فيه الطرف الآخر، فلو وقعت مثل هذه الحرب وتحقق هذا الفرض، وجب على سائر المسلمين أن ينهوا هذه الحرب، ويقطعوا ديمومتها، وأن يحلوا بدل ذلك الصلح والسلام بين الفريقين.
ومن ثم إن هذه الآية تحتوي على فرض آخر وهو أن يعتدي أحد الفريقين على الفريق الآخر، أي أن يقوم أحد الفريقين علناً وبوضوح بالتعدي على الفريق الآخر وظلمه واغتصاب حقوقه، ومن الطبيعي أن يكون رد فعل الفريق الآخر هو مواجهة هذا التجاوز والتعدي الذي وقع حيفه عليه، ذلك لأن هجوم الفريق الأول وغارته غير مبررة، وغير صحيحة وظالمة، والحرب والمواجهة التي قام بها الفريق الآخر صحيحة وحقة، لماذا؟
لأن الفريق الأول هو من قام بالاعتداء والفريق الآخر دافع عن نفسه، وفي ضوء استعمالات الفقه الإسلامي إن الفريق الأول (باغ)؛ وواجب المسلمين هنا ليس هو الصلح وزرع السلام بين الفريقين، بل إن تكليفهم هنا هو قتال الفريق الباغي حتى يكف عن بغيه وتجاوزه، ويخضع للحق، وينزل لحكم الله وأمره، وأما لو كف المتجاوز والمعتدي عن اعتدائه وتجاوزه لأي علة كانت واهتدى إلى سبيل الحق وخضع لأمر الله، هنا وفي هذه الصورة يجب على المسلمين إصلاح ذات البين وبسط العدل والإنصاف والسلام بينهما.
وعليه نفهم من هذه الآية أن القتال المشروع لا يختص بالكفار سواء الكفار الظاهريين كالمشركين وأهل الكتاب، أو الكفار الباطنيين وهم المنافقون – بل يشمل قتال المسلمين الباغين أو أهل البغي أيضاً.
6ـ الجهاد من أجل خلاص المستضعفين
من أقسام الحرب هو الجهاد لتخليص المؤمنين المستضعفين وغير القادرين على الإفلات من العدو وإنقاذهم، ويطلق على هذا النوع من الحرب الحرب من أجل خلاص المستضعفين، فقد يعيش بعض المسلمين في بعض الدول غير الإسلامية في ظلم وتجاوز؛ ولكونهم أقلية، أو لأن القوة والقدرة كانتا بيد الكفار والمنافقين، أو لغيرها من الأسباب كانوا لا يستطيعون رد هذا الاعتداء والظلم ومواجهته.
من جهة أخرى لا تتيح لهم الظروف والأوضاع الخروج من تلك البلاد والهجرة إلى دار الإسلام والسفر إلى إحدى الدول الإسلامية والعيش جنباً إلى جنب مع المسلمين، ففي مثل هذه الحالة أيضاً يجب على سائر المسلمين مساعدة أولئك المسلمين والمؤمنين المستضعفين قدر الإمكان والإسراع لإنقاذهم، ويلزمهم محاربة الظالمين والغاصبين لحقوق الناس، وتهيئة الظروف والفرص المناسبة التي تساعد في تخليص إخوتهم المسلمين من الظلم والأسر الذي هم فيه، وقد أشار القرآن إلى هذا النوع من الجهاد بقوله:
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[18].
۷ و ۸ ـ الدفاع والمقابلة بالمثل
الجهاد الدفاعي، والجهاد القصاصي وهذان النوعان من الحرب والقتال لا يختصان بطائفة وفريق معين، بل إن المسلمين مكلفون بمقاتلة أي شخص، أو فريق أو مجموعة يكفّر ويقصد ممارسة أي لون من ألوان الاعتداء والظلم على المسلمين؛ سواء كان ذلك الاعتداء يتعلق بالمقدسات الدينية، أم التجاوز على العرض والشرف والنفس والمال ونحو ذلك، فعليهم هنا أن يوقفوا العدو عند حدوده، ويجبروه على الكف عن مثل هذه الأعمال، هذا اللون من القتال والجهاد يسمى بحرب الدفاع أو الجهاد الدفاعي.
والمسلمون مكلفون أيضاً بمواجهة كل فرد أو طائفة اعتدت على المسلمين أو اغتصبت حقوقهم، وهذا النوع من قتال المسلمين هو نوع من أنواع القصاص والمقابلة بالمثل.
الاستنتاج
إن القرآن تعرض لثلاث حروب خاضها النبي (ص) في حياته، واطلق على الحرب الحق العادلة عنوان الجهاد في سبيل الله، وعلى حرب الباطل الظالمة عنوان القتال في سبيل الطاغوت، ثم قسم الحرب إلى ثمانية أقسام، منها: الحرب تجاه المشركين والكفار وأهل الكتاب والمنافقين وأهل البغي، والدفاع والمقابلة بالمثل.
الهوامش
[1] آل عمران، ۱۲۳.
[2] الأحزاب، ۲۲.
[3] التوبة، ٢٥.
[4] النساء، ٧٦.
[5] التوبة، ۱۲۰.
[6] البقرة، ۲۱۸.
[7] البقرة، ۱۹۰.
[8] البقرة، ٢٦١.
[9] البقرة، ٢٧٣.
[10] التوبة، ٣٦.
[11] التوبة، ۱۲۳.
[12] الفرقان، ٥٢.
[13] التوبة، ٢٩.
[14] التوبة، ۷۳.
[15] النساء، ۸۸.
[16] النساء، ۸۹.
[17] الحجرات، ۹.
[18] النساء، ٧٥.
مصدر المقالة (مع تصرف)
مصباح اليزدي، محمّد تقي، الحرب والجهاد في القرآن الكريم، مؤسّسة العرفان للثقافة الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1436 ه.