بحسب الرؤية القرآنية ليس أصل حدوث الحرب تابعاً للإرادة الالهية و مقتضى نظام الحكمة الإلهية لعالم الوجود فقط؛ وكذلك كيفية الحرب وكميتها، وعلتها، وتداعياتها، ونتائجها أيضاً توابع لنظام الحكمة الربانية وعائدة لتدبير مدير العالم؛ وهنا نشير إلى بعض الأصول والقواعد الحاكمة على الحرب والقتال من وجهة نظر القرآن الكريم.
الأصل الأول: حرية الإنسان واختياره في الحرب
لقد خلق الله تعالى الإنسان حراً مختاراً حتى يتمكن بذلك الاختيار والإرادة الحرة من الحصول على الكمال، وخصوصية تكامل الإنسان إنما تتحقق عن هذا الطريق الوحيد وهو إرادته واختياره، فلم يجعل الله الإنسان كالملائكة الذين يزاولون الأعمال الحسنة فقط؛ إذ نزع منهم جميع بواعث فعل القبح أساساً، فهذا الأمر يختلف في طبيعة هذا الكائن – أي الإنسان – ؛ إذ أودع فيه بواعث فعل الخير إلى جانب حافز فعل الشر ودواعيه، وهو قادر على الاختيار الذي منحه الله له من المبادرة إلى أي من الفعلين ومزاولة كل واحد منهما.
وكون هذا المخلوق بهذا النحو من الصنع والخلقة ومع هذه الدوافع المختلفة والمتناقضة، على الرغم من ميله الباطني لم يرتكب عملاً قبيحاً؛ بل بادر إلى الفعل الحسن ولم تدفعه سرائره إلى أعمال وأفعال لا يوجد فيها غير رضاه سبحانه، وهو بذلك سيحصل على كمالات أكثر من الكمال والدرجة التي عليها الملائكة.
اقتضت الحكمة الربانية إذا أن أيدي البشر مبسوطة في ما يتعلق بالقضايا الفردية والاجتماعية، ويمكنهم بحسب الإرادة والاختيار الذي يتمتعون به أن يصنعوا ما يشاؤون، فلو أرادوا أن يسلكوا طريق الله سلكوه ولو أرادوا سبيل المعصية ساروا فيه أيضاً، فإن الأمر الجلي هنا هو معنى الاختيار والانتخاب، فلو لم يكن الإنسان قادراً على أن يسلك سبلاً مختلفة ومتناقضة كان الحديث عن الاختيار والإرادة وحرية الانتخاب دون معنى.
وعلى كل حال إن مقتضى هذه المرحلة من الحكمة الإلهية هو الإرادة والحرية في العمل الإنساني حتى لو استلزم الأمر سلوك الأفعال المخالفة لمصالح الفرد أو المصالح الاجتماعية العامة، وحتى لو تمكن الإنسان من تجييش الجيوش لقتال أخيه الإنسان فيسفك دمه وينزل به أشد العذاب لماذا؟ لأنه لو لم يكن مريداً مختاراً لذلك لا نتفت مساءلته ومحاسبته في ما بعد.
الأصل الثاني: التقسيم النسبي للقدرة والسلطة
ما قلناه هو أحد أبعاد الحكمة الإلهية، فليس مقتضى الحكمة الإلهية أن يكون الإنسان مختاراً وحراً وله القدرة على القتال والحرب وسفك الدماء فحسب، بل مضافاً إلى ذلك الاقتضاء، إن القدرة والقوة لم تجعل إطلاقاً في يد أحد أو فرقة أو مجموعة، بل جعلت على نحو يمكن لسائر الأفراد والفرق أن يقف أحدها بوجه الآخر، ويمكن لكل مجموعة أن تجابه الأخرى وتتسلط عليها، ويستطيع كل فرد أن ينافس الآخر أو يغلبه.
فلو كان الأمر غير ذلك وتركزت القوة لدى طرف من الأطراف، وملك القدرة الكاملة، وراح يسلب عن الأطراف الأخرى ملكة الاختيار ويجبرهم على فعل ما يشاء، كان ذلك مخالفاً لمقتضى الحكمة الإلهية، وهي أن المرحلة الأولى من خلق البشر هي أن يكون فيها الإنسان مختاراً.
فعلى أساس الحكمة الإلهية يجب أن تكون موازين القدرة والقوى منقسمة في المجتمع يمكن أن تكون إلى جانب أي طرف أو فرد زادت تلك القدرة أو نقصت، يمكن لكل واحد من الأطراف أن يقاوم الآخر حقاً أو باطلاً ويجابهه ويتحداه ويخالفه سلباً أو إيجاباً، يقول تعالى في القرآن عند آخر قصة طالوت وجالوت:
وَلَوْلَا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ[1].
وهذه الآية على الرغم من كونها قد جاءت في آخر قصة طالوت وجالوت؛ ولكنها دون شك في مقام بيان الواقع والحقيقة الكلية، إذ يمكن أن نفهم من إطلاق هذه الآية وعمومها، ونستفيد أن الله تعالى أراد أن تكون الإرادة على نحو لا يكون فرداً أو فئة معينة، وعلى مر التاريخ قد استأثر بالقوة والشكيمة والقدرة المطلقة، فإنه في هذا الحال سيزيل قدرة الآخرين مئة بالمئة، وسيعجز الآخرون عن المقاومة والتحدي، لماذا؟ لأنه لو كان الأمر غير ذلك لفقد الآخرون القدرة والإرادة في الكمال الاختياري، وهو نقض للغرض والهدف من خلق الكون والإنسان.
وعليه بعد أن تبين أن الإنسان يتمتع بكامل القدرة والحرية في العمل ويستطيع أن ينافس الآخر ويقاومه ويعارضه ويوظف كل قدراته في التصدي إليه ودحضه تقتضي تلك الحكمة أيضاً أن تتوزع موازين القوى وأقطاب القدرة ولا تتمحور لدى فرد أو فئة أو مجموعة على نحو تسلب القدرة والقوى من الأطراف الآخرين، فتحرم التكامل الاختياري والعروج الإنساني، وهذه الصورة هي خسارة كبيرة للبشر وبتعبير القرآن هي سعي في الأرض فساداً وخراباً ولا تنسجم مع الهدف الأسمى للخلقة.
الأصل الثالث: الحيلولة دون ظهور السلطة المطلقة الباطلة
إن الحكمة الإلهية تقتضي توزيع القدرة بين الأفراد والمجموعات المختلفة حتى لا يغلق طريق الحق بنحو تام، فلو أصبح من بيده القدرة أفراداً أو مجموعات أو دولاً كلهم من أهل الباطل والفساد، وصار الأقوياء المسيطرون يتنافسون ويتبارون فقط على حطام الدنيا وشهواتها المادية وحينها لن يبقى سبيل ومنفذ لأهل الحق.
ولاسيما إذا وصل الحال إلى تقاسم قطبين ضالين نصفي الأرض، وكل واحد منهما سيطر على جزء منها، وبسط نفوذه تماماً على القسم والجزء الذي استحوذ عليه، والنتيجة هنا أن القدرة والسلطة على أهل الخير والحق، وهي نفسها النتيجة التي مرت وهي تمحور القدرة واستحكامها، وحينئذ سوف تسلب القدرة والاختيار من أهل الحق الأمر الذي ينتهي بهم إلى العجز عن الارتقاء والتسامي في التكامل البشري.
من هنا اقتضت الحكمة الإلهية من رسم المسيرة البشرية أن لا يكون الأقوياء كلهم من أهل الباطل، فتوزع القدرة على نحو يكون لأهل الخير والحق نصيب من العيش وفرصة لأداء طقوسهم الفردية وتأمين حياتهم الاجتماعية والمحافظة على سيرهم في طريق الحق والحياة المشرقة، والمضي في مسيرتهم التكاملية والاستمرار بها.
وقد يتفق أن تتحقق هذه الفرصة لأهل الحق من خلال الصراع والاشتباك المستمر من خلال نشوب الصراع والقتال بين أفراد أهل الباطل وفرقه، ففي ذلك الوقت يكون أهل الباطل قد انشغلوا بعضهم ببعض عندها يتمكن أهل الحق والصلحاء من تنفس الصعداء، وإعادة تنظيم قواهم والاستعداد من جديد، فنجد الدعاء المأثور في هذا الباب والذي يقول: اللهم اشغل الظالمين بالظالمين واجعلنا بينهم سالمين غانمين.
وعبر هذه الفرصة والمتنفس الذي حاز عليه المؤمنون ربما يتوفر لهم طريق آخر للحصول على قدرة وقوة موازية ومساوية لقدرة أهل الباطل بحيث يستطيعون منافستهم وتحديهم، وفي هذه الصورة أيضاً يمكنهم التحرر من أهل الباطل فيتمكنون من ممارسة حياتهم الإنسانية بهناء وحرية ويختارون السبيل الواضح والصحيح لحياتهم.
واختصاراً للكلام إن الحروب قد تقع على نحو يكون فيه عشاق طريق الحق ورفاقهم من أهل حارتهم ومحلتهم عندما يكونون مملوئين حيوية ونشاطاً ويطلبون مواصلة درب الحق قاصدين بذلك المسير نحو الله، فلا يشاهدون الطريق إليه مسدوداً أبداً، أجل، قد يكون هذا الطريق والسبيل عسيراً وصعباً إلا أنه يكون سهلاً ميسوراً عندما يكلف الله الناس ويأمرهم بالدفاع والثبات فيسعى المؤمنون من أجل ذلك.
الأصل الرابع: الحرب وعذاب الاستئصال
الأصل الرابع من الاقتضاء الحاكم على الحرب هو نزول العذاب، فعندما ينهمك قوم في الفساد ويستغرقون في الغي فإن مقتضى السنة الإلهية هو نزول العذاب على أولئك القوم، وعقابهم هو أن يزالوا من صفحة الوجود، وهذا النوع من العقاب يسمى (عذاب الاستئصال) وأحد أنواع هذا العذاب هو أن يتم اقتلاع مثل هؤلاء القوم ومحوهم من الأرض على يد المؤمنين والصالحين.
بيان ذلك: قد يحصل أن هناك قوماً توفرت لديهم القدرة والاختيار، وغرقوا في أحوال الشرك والكفر والفساد والظلم والطغيان، وبلغوا حداً انعدم الأمل والرجاء من عودتهم إلى الصواب، وجعلوا الحق والعدل تحت أقدامهم حتى لا يضايقهم في مزاولة أي فعل من أفعال الشر، ومثل هؤلاء القوم طبعاً لم يدخروا جهداً في إيذاء الآخرين، وأوغلوا في النيل من حقوقهم لاسيما مريدي العدل وأهل الحق.
في ضوء هذا المشهد يأمر الله تعالى بقلع هؤلاء من جذورهم ورميهم في غياهب العدم، إذ إن الحكمة الإلهية تقتضي عندما تبلغ الأكثرية الساحقة من الناس هذه المرحلة من السقوط والهبوط، وتبتعد جداً عن القيم والمبادئ الإنسانية، هنا ينزل العذاب وهو استئصال المجتمع كله عن بكرة أبيه، ويبتليه بحسب هذا النوع من العذاب بـ (عذاب الاستئصال)، وهذا العذاب قد يتجلى أحياناً على شكل بلاء سماوي وحوادث طبيعية.
من قبيل الصاعقة السماوية التي نزلت على قوم ثمود وفي هذا السياق يقول تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العَمَى عَلَى الهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العَذَابِ الهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ[2].
ولكن عذاب الاستئصال كما يمكن أن يكون على شكل عذاب وبلاء طبيعي أرضي أو سماوي، فقد يتجلّى في بعض الأحيان على شكل حرب وقتال وصراع على يد الإنسان فيقوم وينهض ثلة من المؤمنين الصالحين ليخوضوا حرباً ضد الطغاة والبغاة، فينتصروا عليهم ويكون سبباً لهزيمتهم واستئصالهم، كما يقول تعالى بهذا الصدد، وَللهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[3].
إن منطق القوة الذي يعتمد عليه المؤمنون هو البصيرة المغروسة في نفوسهم فتجدهم يقولون: إننا عندما نقاتل المشركين والكافرين والظلمة والمفسدين لا نعرف الهزيمة أبداً؛ فلو متنا كان مصيرنا إلى الجنة، وهذا وحده فوز عظيم، ولو قضينا على أعداء الإسلام والمسلمين وأركعناهم لهو نصر آخر أيضاً، وبالنتيجة إن الحرب كيفما كانت نتائجها ستكون لصالحنا.
وأما الأعداء الطغاة الذين لا أمل ولا رجاء لهم لنيل الهداية الربانية، سيكونون ضحية العذاب الإلهي، وهذا العذاب هو مقتضى الحكمة الإلهية البالغة لله تبارك وتعالى، الذي يقع عليهم من خلال تسخير بعض الظواهر الطبيعية والسماوية أو بعض العوامل البشرية.
وأن العذاب الرباني قد يتجلّى بحرب المؤمنين على الكفرة والمنافقين، وهذا في الواقع لون من ألوان عذاب الاستئصال؛ إذ يعذب الله بقوة المؤمنين والمسلمين والمجاهدين وبأيديهم الطغاة والفئات التي تستحق ذلك العقاب.
وعليه إن حروباً كهذه كانت مقصودة وملحوظة عند تكوين نظام الخلقة، وكان أمرها محفوظاً في الأيام الأولى للخلق، أي إن هناك فئة من المعاندين والعصاة والمردة اقتضت الحكمة الإلهية منذ ذلك الحين التخلص منهم واستئصالهم عن بكرة أبيهم، فيأخذوا جزاءهم العادل على أيدي الصلحاء والمؤمنين، وهذه الحروب في الواقع هي عذاب رباني استحقه الأوغاد والأشرار في الأرض جرى على أيدي المؤمنين الجديرين بالحرب والقتال في سبيل الله.
ويمكن أن نشاهد هذا القانون أيضاً في الآية القائلة: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى[4].
وهذه الآية وسواها تشير إلى التوحيد الأفعالي والولاية الإلهية على المؤمنين والرسول خاصة، وهذه النكتة تفيد أيضاً أن قتل الكافرين بيد المؤمنين وهذا العذاب الإلهي في الواقع هو معطى يشير إلى أن ظلم الطغاة وفساد الظالمين بلغ حداً لا يطاق، ولا سبيل لمعالجته إلا باستئصالهم ومحوهم، شاؤوا أم أبوا، وسوف يتحقق على أيدى المؤمنين ليقذفوهم في الهلكة والعدم، وبعبارة أخرى: إن هذا اللون من الحرب هو صورة من عذاب الاستئصال.
الأصل الخامس: دور الحرب في التنبيه والتأديب
القانون التكويني الحاكم على الحرب هو نظام التأديب والتنبيه، إذ تقتضي الحكمة الربانية أن تكون الحرب في بعض الأحيان لتأديب فئة من المؤمنين المضطرين لفعل مجموعة من الأخطاء والمعاصي وتقريعهم، وهذه الحرب قد تفضي إلى هزيمة المؤمنين، وربما تكون هزيمتهم على مجموعة أخرى من المؤمنين الصلحاء، ولكن كيف كانت نتيجة الحرب؟
كثير من المؤمنين وأهل الدين لا يقصدون العناد والتمرد على الله والاستكبار على سلطته وأحكامه؛ ولكن بسبب تأثير الهوى وتحت ضغط الميول النفسية ووساوس الشيطان ينحرفون عن الجادة والطريق المستقيم، فيسلكون سبيل الظلم والفساد، هؤلاء وأمثالهم لا ينكرون وجود الله وليسوا أعداء للدين؛ ولكن بسبب تأثير الرغبات أحياناً والميول النفسية انحرفوا عن التعاليم الدينية وضوابطها، ولم يعملوا في ضوء الأحكام والأوامر التي يجب ويلزم أن يكون الفعل في ضوئها.
بل إنهم وبصورة وزمن محدود ومؤقت ابتلوا بالضيق والعسر و مجموعة من المصائب، فلما أرادوا الخروج من تلك البلايا والمحن وقعوا في شراك الأعمال القبيحة والمخالفات السيئة، ولكن عقوبة مثل هذه لا تحصل على أيدي المؤمنين الطاهرين الخلص ليحاربوا هؤلاء المؤمنين الذين طرأ عليهم النقص وتلوثوا ببعض المعاصي؛ ذلك لأن المؤمنين الذين بلغوا هذه الدرجة من الطهارة والنقاء لا يمكن ان تتلوّث أيديهم بالدماء، ولا يصدر عنهم الأذى والضرر من هنا إن إجراء هذه العقوبة على هؤلاء الأفراد.
إما أن يكون بأيدي فئة مؤمنة أخرى لم يكتمل إيمانها بعد، وتلوثت نفوسها ببعض المعاصي، أو بأيدي الكفار وغير المؤمنين، فانهم مملوؤون حقداً وعداوة، ويسعون في أذى المؤمنين وظلمهم، وهم مهووسون بقهر الصلحاء من الناس وتعذيبهم؛ ووقتئذ سوف تتسع الهوة بينهم وبين الإنابة والتوبة والرجوع إلى الصواب.
والحاصل هو أن تأديب الأشخاص من ضعفاء الإيمان، وتقريع ذوي الأعمال القبيحة هو أيضاً أحد القوانين التكوينية الأخرى الحاكمة على وقوع الحرب وظهورها، رغم أن هذا القانون غير قابل للتبرير والتوضيح أبداً من وجهة نظر فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع المادي في العصر الحاضر، لأن مثل هذه المدارس تنكر هذا القانون أساساً.
الأصل السادس: جدوى الحرب لدى المجاهدين
أن الجهاد في سبيل الله غالباً ما يرافق البؤس والعناء والألم، إلا أن هذا العمل والفعل لا يخلو عموماً من فوائد ومنافع أيضاً، تقول الآية حكاية عن ذلك: كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[5].
الجملة الأولى من هذه الآية تبين القانون التشريعي المتعلق بالحرب وهو ليس موضوع بحثنا الآن، ما تبقى من الآية هو موضوع بحثنا وهو تبيين أحد القوانين التكوينية الأخرى المتعلقة بالحرب، ففي هذه الآية هناك جملة: كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ، تدل على أن الحرب والنزال غالباً ما يصاحب القتل، والضرب والجرح، والإصابة، والأسر، والضياع، والتشرد، والشكل، والدمار، والخراب والقحط، وعشرات المحن والبلايا.
أجل فهي ظاهرة مرة بالغة الإزعاج وليست من طبع الإنسان وسليقته ولكن الجملة الآتية في الآية: وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ، تشير إلى هذه الحقيقة وهي أنه رغم الصعاب والمحن التي ترافق هذه الظاهرة فإن هناك فوائد وأموراً إيجابية كثيرة إلى جانبها أيضاً، والتي لا ينبغي التغافل عنها، وهذه الفوائد والحسنات هي التي يمكن أن تبرر وقوع الحرب والصراع في العالم.
فوائد الحروب وحسناتها
وتجدر الإشارة هنا إلى بعض فوائد تلك الحروب وحسناتها وهي على النحو الآتي:
1ـ إيجاد النشاط والحيوية والحيلولة دون الجمود والاسترخاء والكسل
من جملة نتائج الجهاد في سبيل الله هو أن الله سبحانه وتعالى يريد بمثل هذه الحروب تخليص الناس من الكسل وتحريرهم من الجمود والاسترخاء، ويقصد من ذلك أن يتفاعل الإنسان بنشاط وحيوية وكامل الطاقة مع الحوادث والوقائع التي تدور حوله، إذ من الطبيعي أن الإنسان وعلى مدى فترة طويلة لو كان ينعم بالراحة والرفاه، والأمان والهدوء والسكون، فإنه ينحدر إلى الخمول، ويعتاد على الكسل والاسترخاء، وبالنتيجة يتثاقل عن الحركة ويتوقف عن النشاط.
ومن جهة أخرى إن روح القتال والمقاومة والمجابهة تصبح ضعيفة لديه، فالحرب تخرج المجتمع من الكسل وتنأى به عن الخمول والاسترخاء، من هنا إن أفراد المجتمع يشعرون عندما تدور رحى الحرب أن كل شيء من حولهم في خطر، فتستيقظ كل القوى الخاملة والنائمة فيهم، وتنشط كل الطاقات الثملة لديهم، إن الحرب تقذف في نفس الإنسان الحماس، والإقدام، والمنافسة، والصلابة والاستقامة، وترفع درجة النشاط إلى مستوى أكبر.
من هنا إن الحرب في مثل هذه الأحوال يكون حكمها حكم اللقاح فيما يخص لبدن الإنسان عندما يعيد له النشاط والجاهزية مرة أخرى، ويعبئ القوى الداخلية في مواجهة غارات واجتياح الفايروسات والميكروبات إلى جسمه.
2ـ رفع الإحساس بالنقص والفاقة
الثمرة الأساسية الأخرى من ثمار الجهاد هو انتباه المجتمع وإحساسه بالحاجة والفقر الموجود في شرائحه، وهذا الشعور يدفع أفراده إلى النهضة والاجتهاد في إزالة ذلك النقص، ويسعون لتأمين الحاجة، وملئ الحلقات المفقودة من الفاقة لديهم.
وعندما تقدم أمة من الأمم لأي سبب كان على الحرب مع الأجنبي والعدو وبالطبع فإنها أيضاً ستكون بحاجة للحرب جراء إحساس أفراده بضرورة البقاء على قيد الحياة، فإن تلك الأمة ستبادر تدريجاً إلى مكامن النقص، ومواطن الاحتياج المنتشرة في مفاصل الدولة، وعند تشخيصها تسعى بكل طاقتها إلى رفع النقص الحاصل، ولو قلبنا صفحات التاريخ لوجدنا أن نسبة مئوية غير قليلة من الاكتشافات والاختراعات في الفن والصناعة بدأت وتبلورت إبان وقوع الحرب والمعارك.
3ـ ترويج الإسلام وزيادة عدد المسلمين
من ثمار الحرب الأخرى هي أن السعي والإيثار والتضحية والتفاني الذي يبرزه المؤمنون والمجاهدون والمضحون لاسيما عندما ينتصرون في المعارك على أعدائهم – سوف تتحقق لهم الشهرة، وسيتعرف الناس عليهم في الأرض أكثر، ويشعر من يرافقهم بصدق دينهم ويفهم أهدافهم، ومقاصدهم، وعقائدهم.
وبعد أن يستوعب المجتمع والناس البواعث والدواعي الإنسانية والإلهية لدى المؤمنين سوف يدفعهم ذلك إلى المشاركة في إدارة الحرب، والمساهمة في القتال ودفع نفقاتها، وتحمل الخسائر التي تنشب جرائها، الأمر الذي سيثير فيهم روح اعتناق الإسلام وعبادة الله، يعني أن أولئك المؤمنين عندما حازوا على القدرة في الهجوم والغارة على العدو جعل ذلك الأمر لهم مكانة لامعة، وكسبوا درجة ممتازة بين الناس، واتاحت لهم الحرب أيضاً تبليغ الدين الحق وإذاعته.
الأصل السابع: الحرب وسيلة للاختبار والتطور
أن المؤمنين الموحدين عندما يتحملون عناء المعارك، ومرارة القتال فإنهم بذلك يرتقون درجات الكمال المعنوي والروحي، وهي من الأمور والفوائد الحسنة الأخرى للحرب، وفي إثر ذلك جعلها الله تبارك وتعالى وفي ضوء إرادته الحكيمة تلك الحسنة والفائدة ولحظها في النظام التكويني والتعاليم التشريعية لحياة الإنسان.
فيمكن القول هنا: إن ساحة المعركة والحرب بنحو عام هي أفضل مكان يمكن من خلاله أن يصل الإنسان إلى الهدف الأساسي من خلقته وتكوينه، والدنو من الكمال النهائي، ومعنى الهدف الحقيقي من خلقة الإنسان هو بلوغه الكمالات المعنوية والروحية كلما تسامى في المسير إلى قرب الله، فلو أراد المرء السير والسلوك نحو الله والقرب الإلهي فإن الوقت الوحيد الذي يمكن فيه الوصول إلى مراده ومقصوده هو تحمل الصعاب والنوائب والمحن والنكبات وتجرع كثيراً من المشاكل والشعور الحرمان.
إن الوصول إلى الكمال المعنوي، والنمو الروحي يتحقق في صورة واحدة فقط، وهي أن يخالف الإنسان هوى نفسه، ويقف أمام أهوائها ورغباتها، ويركن بإخلاص محض إلى الأوامر الإلهية والقوانين الربانية، وهذا الأمر يحتاج إلى صبر واستقامة، إن الإنسان الذي يمكن أن يبلغ الدرجات العالية من الكمال هو الذي لا يقع ضحية غرائزه، ولا تكبله الميول الشهوانية، ويتحقق ذلك فقط عندما يكون ذلك مرضياً الله تعالى، حتى لو خالف هوى نفسه مئة بالمئة.
الأصل الثامن: الانتصار النهائي للحق
أن نهاية حياة الإنسان وخاتمتها، وصراعاتها، وكفاحها الإنساني ستكون هي الانتصار النهائي الذي يختم هذه المسيرة للحق والحقيقة وسيستولي عباد الله والصالحون على كل العالم.
إن الله تعالى يعطي المؤمنين الصالحين والمجاهدين في سبيل الله الحرية والإرادة في العمل والاختيار، ويعطي المخالفين والأعداء ذلك أيضاً، وكل واحد من الفريقين يحظى بالأرضية المناسبة للنشاط والفعالية، ويمد كل واحدة من المجموعتين بالعدة والعدد، والأسباب والأدوات الكافية، لكنه سبحانه يعتني بالفرقة الأولى المجاهدة والمقاتلة في سبيل الله عناية خاصة، وفي معرض تأييده ونصره لهؤلاء سينالون في النهاية النصر الحقيقي.
وهذا النصر ليس دون حساب أو تدبير وليس دون ضوابط وشروط خاصة بذلك النصر، وكيفما كان الأمر فإن الحكمة الإلهية له تعالى اقتضت النصر النهائي لأهل الحق من عباد الله الصالحين في تلك الحرب، وفي هذا السياق آيات عديدة وردت في القرآن، منها: وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[6].
ويستفاد من مجموع الآيات القرآنية أن عاقبة الحرب والقتال الحاصل بين أهل الحق وأهل الباطل ستكون النصر النهائي لأهل الحق والحقيقة، وسيكون الفوز والظفر حليف الدين الإسلامي، وأنصاره الحقيقيين أيضاً، وفي ضوء ما يعتقد به الشيعة فإن النصر النهائي والتام لدين الإسلام سيتحقق على يد أمام العصر والزمان، وفي نهاية التاريخ سيكون العالم من أوله إلى آخره تحت راية الحق والعدل الخفاقة، وهي الراية التي سيرفعها.
الاستنتاج
أن من الأصول الحاكمة على الحرب من وجهة نظر القرآن هي: حرية الإنسان واختياره في الحرب، والتقسيم النسبي للقدرة والسلطة، والحيلولة دون ظهور السلطة المطلقة الباطلة، ونزول العذاب، والتنبيه والتأديب، وأن الحرب لا تخلو عموماً من فوائد ومنافع، وأنها وسيلة للاختبار والتطور،الانتصار النهائي للحق.
الهوامش
[1] البقرة، ٢٥١.
[2] فصلت، ۱۷ – ۱۸.
[3] الفتح، ۷.
[4] الأنفال، ۱۷.
[5] البقرة، ٢١٦.
[6] آل عمران، ۱۳۹.
مصدر المقالة
مصباح اليزدي، محمّد تقي، الحرب والجهاد في القرآن الكريم، مؤسّسة العرفان للثقافة الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1436 ه.