- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
بعد الإيمان بالحاجة الماسّة إلى البحث العلمي والدراسة المتخصّصة للوصول إلى أحكام الله تعالى بالاستدلال الصحيح، من خلال دراسة مصادر التشريع الإسلامي، المتمثِّلة بالكتاب والسنّة، تبلورت عملية الاستدلال للوصول إلى هذه الأحكام بالتدريج، وسُمّيت عمليّة الاستدلال هذه بالاجتهاد.
البحث الأول: حديث عام حول الاجتهاد عند الشيعة
تعريف الاجتهاد
وهو مأخوذ من الجهد وبذل الوسع للقيام بعمل ما، وحين ننتقل الى المعنى المصطلح نجد أن له معنيين: عام وخاص.
المفهوم العام للاجتهاد
فقد قيل أن الاجتهاد هو: (استفراغ الوسع في تحصيل الظنّ بالحكم الشرعي)[1].
ولدى الاعتراض بخصوصية أخذ الظنّ ـ والمقصود به المعتبر قطعاً ـ عدل الى ذكر العلم فعرّفه الخضري بأنّه: (بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة)[2].
وإذا اُريد لهذا التعريف أن يسلم من بعض الاعتراض لزم أن يراد بالعلم: العلم الوجداني، والعلم التعبّدي، أو يراد بالحكم ما يعمّ الحكم الواقعي أو الظاهري، إلاّ أن التعريف يبقى ناقصاً لعدم شموله عمليات استنباط الوظيفة العملية العقلية، ولذا عرّفته المدرسة الاُصولية الحديثة بأنه: (ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية أو الوظائف العملية شرعية أو عقلية)[3]، فهو يشمل كلّ جهد يبذل للتوصل الى أحكام الشريعة.
المفهوم الخاص للاجتهاد
فقد ذكروا له تعريفات تنتهي الى أن المراد به هو (الرأي) الذي يقف الى جنب الاُصول الفقهية الاُخرى، وله مصاديق مختلفة كالقياس والاستحسان على ـ أحد معانيه ـ ولكي لا يمتلك جانب الرأي الشخصي غير المسموح به، فقد عرفه الدكتور خلاف بأنه: (بذل الوسع للتوصل الى الحكم في واقعة لا نصّ فيه بالتفكير، واستخدام الوسائل التي هدى الشرع إليها للاستنباط بها فيما لا نصّ فيه).
وإذا قبلنا هذا التعريف، عاد النزاع حول الاجتهاد بالمعنى الخاص نزاعاً حول ما إذا كان الشارع قد سمح بالرأي كمنبع أصيل للفقه فيما لا نصّ فيه طبعاً أم لا؟.
أما إذا اُريد منه إعمال النظر في الاستفادة من المنابع الاُخرى فقد خل في الاجتهاد العام ولم ينفرد بخاصية معينة، فإذا عرفنا الاستحسان ـ مثلاً ـ بأنّه: (تقديم أقوى الدليلين) لم يكن الاستحسان مصدراً رئيسياً بقدر ما هو تعيين للحجة الفعلية من اللاحجة.
فالنزاع إذن ينصب حول جعل الرأي منبعاً أصيلاً ـ طبعاً إذا كان يؤدي الى الظنّ ـ أما ما أدى الى القطع فلا ينازع في حجيته إلاّ البعض ممّن يرفضون حجّية القطع إذا أنتجه إعمال الرأي.
ومدرسة أهل البيت معروفة بموقفها المعارض من هذا النوع من الاجتهاد.
أما اعتمادها على العقل كأصل رابع فهو اعتماد على ما أدى فيه الحكم العقلي الى القطع بالحكم، أو فلنعبّر ما كشف العقل فيه عن الحكم الشرعي قطعاً، وإن كانت بعض المسالك ترفض حتى مثل هذا القطع كما ستأتي الإشارة إليه.
ولا أجدني الآن بصدد الاستدلال لهذا الموقف أو ذاك بقدر هدفي في التعريف بهذه المدرسة الفقهية العريقة.
ضرورة الاجتهاد
إذا لاحظنا معنى الاجتهاد في كونه عملية تحديد الموقف تجاه الشريعة تحديداً استدلالياً، أدركنا بكل بساطة (ضرورة عملية الاجتهاد) بشيء من التحليل، وبملاحظة النقاط التالية لا ندرك ضرورة الاجتهاد فحسب بل تزايد هذه الضرورة يوماً بعد يوم، ومادام في الأرض إنسان، يعمل الإسلام على قيادته نحو السعادة.
وقبل كل شيء يجب أن نقول: إنّنا نتحدّث عن الاجتهاد بالمعنى العام هنا.
أما النقاط التي يجب ملاحظتها فمنها:
النقطة الأولى
إنّ الشريعة إنّما اُعطيت في المجموع الكلي للكتاب والسنّة وبصورة تفرض الحاجة لجهد علمي في دراستها ومقارنتها، فهناك العام والخاص والمطلق والمقيّد والناسخ والمنسوخ والحاكم والمحكوم والوارد والمورود، وهناك التعارض والتزاحم في التطبيق وغير ذلك كثير من الاُمور التي تستدعي حالة خبروية مجهده.
النقطة الثانية
وتزداد هذه الحاجة كلّما ابتعد الشخص عن زمن صدور النص، وهذا الفاصل الزمني يحمل في طيّاته الكثير من المضاعفات كضياع بعض النصوص، ونسيانها، ودخول الموضوع بينها وتغير كثير من أساليب التعبير، وقرائن التفهّم وغير ذلك ممّا يتطلب الفحص والدقة والجهد المستمر.
النقطة الثالثة
وان تطور الحياة وتعقدها يصحبه انطراح عدد كبير من الوقائع التي لم يرد فيها نصّ خاص ممّا يوجب الرجوع الى القواعد العامة. وبنفس المستوى نجد الإسلام يوجه أسئلة متكررة تطرح مدى القبول بالانفتاح على بعض النظم المستوردة أو المتحدية له والآتية من عقول البشر (شرقيّهم وغربيّهم).
النقطة الرابعة
وإن الإسلام رسالة حياة وتنظيم خالد لكل شؤون المجتمع وحينئذ فهناك مواقع في عملية التربية الكبرى لا يمكن تسليمها إلاّ لمجتهد بالشريعة عالم بخفاياها وروحها وتعاليمها حتى يملك كلمة الفصل من خلال ذلك، فالقيادة والقضاء مثلاً لا تتمّان من دون فقيه ومجتهد متضلّع في الشريعة.
ويمكننا بعد هذه النقاط أن نسرد عناصر اُخرى، ولكننا نكتفي بما ذكر لنقول ـ باختصار ـ أن الاجتهاد في الواقع ـ يعني ـ:
ـ إبقاء الروح الإسلامية الفعّالة، المواكبة للتحوّل.
ـ الموفرة للقدرة على الخلود.
ـ ونفي الجمود الممتد.
ـ وتعميق الاستفادة الأكبر من تعاليم الإسلام.
ـ وضمان الوصول الأقرب الى واقعه.
ـ وتقديم الحلول الأنجع للحياة الإنسانية، والأجوبة المحكمة للأسئلة الحادثة المتجددّة.
ـ وقطع الطريق على المتطفلين على عملية ابداء الرأي في الأحكام ممّن امتلكوا أبواق الدعاية وكراسي السلطة وراحوا يفتون هنا وهناك وهم لا يملكون أي تخصّص في ذلك.
ـ والممر المحاسب والمسيطر على كل ما يراد إدخاله الى الإسلام من تصور وحكم، أو الى المجتمع الإسلامي كنظام تطبيقي، أو الى السلوك الفردي كخلق وأمثال ذلك.
والمجال التقريبي المنطقي بين المسالك المتنوعة والمذاهب والمناحي المتفاوتة. والضمان لوجود مجموعة طليعية همّها الحفاظ على الإسلام الأصيل من عبث المنافقين والمتحلّلين وذوي الفكر الخليط، أو التربية العقلية اللا إسلامية، ونفي أي ذيلية فكرية واجتماعية ممّا يؤهلها للتأكيد على تطيبقه الصحيح في الحياة الاجتماعية. وتوفر القدرة على الرؤية الاستنباطية الصحيحة في كل المجالات، ومنها مجال معرفة المفاهيم الإسلامية.
فإنّ الاجتهاد يوفر للنظام الإسلامي من يملأ له منصب القيادة الواعية السليمة، ومنصب الفتوى المهم، ومنصب القضاء الشرعي،
ذلك أنّ الإسلام بتخطيطه للحياة الاجتماعية لاحظ الجوانب الفطرية الثابتة فشرع لها قوانين ثابتة لاشباع متطلباتها كما لاحظ الجوانب المتغيرة فواجهها بقوانين عامة تشمل حالاتها المتنوعة وترك لولي الأمر المجتهد القائد الفرصة للقيام بتنظيم الحياة على أساس المصلحة الاجتماعية المتغيرة بعد أن وضع له اشعاعات وتعليمات يسلك بها أفضل البدائل المطروحة أمامه عبر التشاور مع ذوي الخبرة المتخصصين الرساليين.
ولو كان في المجال متّسع لتحدثنا عن التطبيقات العملية لهذا المبدأ في حقول مختلفة ولكن لا مجال هنا لذلك.
وبعد هذا كلّه لا تجدنا بحاجة لعرض ضرورة فتح مجال تقليد غير المجتهدين في الأحكام الشرعية بعد ملاحظة الاُسلوب العقلائي، بل وقبل ذلك دلالة الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على هذه الحقيقة.
إنّها ضرورة الرجوع للخبراء (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً)[4] على أن الشريعة احتاطت في التقيد فشرحت شروط العالم المقلَّد بل أوجبت ـ في أكثر الآراء ـ الرجوع الى الأعلم.
وهكذا يستمر هذان المبدآن بعد انحفاظ مصادر الشريعة (الكتاب والسنّة) وتراكم خبرات المجتهدين.
عوامل اغلاق باب الاجتهاد
ـ انقسام الدولة الإسلامية وتناحر الحكّام وانشغالهم عن تشجيع حركة التشريع، وانشغال العلماء باُمور الدنيا.
ـ أو انقسام المجتهدين الى فرق وأحزاب متعصّبة.
ـ أو انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء وعدم وجود ضوابط.
ـ أو ما قيل من شيوع شيء من التحاسد.
ـ أو نبوغ شخصيات علمية لامعة سدت ـ بطبيعة عظمتها ـ الطريق على الآخرين احتراماً وانبهاراً بها.
ـ أو ما هناك من عوامل سياسية أو حتى فقهية أو غير ذلك.
أما كل هذه العوامل فيمكنها أن تذوب إذا لاحظنا:
ـ ضرورة الاجتهاد المستمر.
ـ وانضباط القواعد الاجتهادية حتى عادت متقاربة، هذا ما نجده بوضوح في (الاستحسان).
ـ واتساع الحياة والتعقيدات والوقائع المطروحة.
ـ واحتياج الدولة الإسلامية الى المجتهدين في ولاية أمرها وشؤونها القضائية وغيرها.
ـ وقبل كل ذلك انحفاظ المصادر التشريعية الاُولى.
ـ وتزايد خبرات المجتهدين المتراكمة عبر الزمن والتنقيب في المصادر الاُولى والبحث والتعمّق.
فمن يقارن ما وصلت إليه الجامعة العلمية في النجف أو قم اليوم، من نظريات اُصولية، يجد البون شاسعاً بينه وبين المستوى قبل مئة عام مثلاً.
ومن الملاحظ ان الاجتهاد يتعقد بتعقد الحاجة، وفي مرحلة من تطوره يتحول الى عمليتين متعاقبتين إحداهما اُصولية تركز على دراسة العناصر المشتركة التي يمكن الاستفادة منها في مختلف الأبواب الفقهية، والثانية فقهية تدرس الواقعة وتطبق تلك القواعد.
ومن هنا عبّر عن علم الاُصول بمنطق الفقه باعتبار أنه يقوم بنفس ما يقوم به علم المنطق بالنسبة للأفكار الإنسانية عموماً من تنظيم قواعدها التي تعصمها عن الخطأ.
وهنا ندرك أن علم الاُصول نشأ في أحضان علم الفقه، كما نشأ علم الفقه في أحضان علم الحديث، كما يعبّر المرحوم الشهيد محمّد باقر الصدر.
الاجتهاد وخطر الذاتية
ولاُستاذنا المرحوم الشهيد الصدر بحث رائع في هذا المجال، جاء في مقدمة الجزء الثاني من كتابه القيِّم «اقتصادنا»، وهو بصدد اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي من خلال الأبنية العلوية له وهي الأحكام والاُسس التي تشكّل أرضيته الاجتماعية وهي العقيدة والمفاهيم والعواطف.
وملخص بحثه هو أن:
الاجتهاد يعني: تسرّب بعض المواقف الذاتية أحياناً الى النتيجة، ويشتد الخطر ويتفاقم عندما تفصل بين الشخص الممارس والنصوص التي يمارسها فواصل تاريخية وواقعية كبيرة، وحين تكون تلك النصوص بصدد علاج قضايا يعيش الممارس واقعاً مخالفاً كلّ المخالفة لطريقة النصوص في علاج تلك القضايا. كالنصوص التشريعية المرتبطة بالجوانب الاجتماعية من حياة الإنسان، فعملية اكتشاف المذهب الاقتصادي الإسلامي ـ مثلاً ـ تتعرض لخطر الذاتية أكثر منها في استنباط الأحكام الفردية كالحكم بطهارة بول الطائر مثلاً.
ثم هو يحاول تحديد منابع الخطر في الاُمور التالية:
أ ـ تبرير الواقع
حيث يندفع الممارس ـ عن لا شعور أحياناً ـ الى تطوير النصوص الى الشكل الذي يبرر به واقعاً فاسداً يعيشه ويراه ضرورة كمحاولة البعض لتبرير الفائدة الربوية مدّعياً أن الإسلام ينهى عنها إذا كانت كبيرة جداً (أضعافاً مضاعفة) دون الالتفات الى النصّ الشريف القائل: (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ)[5].
ب ـ دمج النصّ ضمن اطار خاص
كأنّ يؤمن بمنحى خاص ثم يعمد الى النصوص فيختار منها ما يناسب منحاه. أو ما لا يصطدم به كأنّ نفترض الممارس يحمل نظرة تقديسية للملكية الفردية ممّا يدعه يعرض عن بعض النصوص التي لا تتلاءم وذلك، فقد كتب فقيه يعلّق على النصّ القائل: (بأنّ الأرض إذا لم يعمرها صاحبها أخذها منه ولي الأمر واستثمرها لحساب الاُمة) فكتب يقول: (الأولى عندي ترك العلم بهذه الرواية فإنها تخالف الاُصول والأدلة العقلية).
ومن أمثلة ذلك ما تلقيه الاقترانات اللغوية للَّفظة من تضليل. فكلمة الاشتراكية اشرطت بكتلة من الأفكاروالقيم والسلوك، وحينئذ فنحن نواجه خطر الاستجابة للأشراط الاجتماعي لتلك الكلمات.
ج ـ تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه
وهي عملية تمديد للدليل دون مبرر موضوعي وأكثر ما تأتي في مجال الاستفادة من عنصر التقرير كدليل على الحكم الشرعي. كأن يستفيد شخص جواز الإنتاج الرأسمالي في الشريعة الإسلامية من سكوت الشريعة عمّا كان يجري أمام المعصوم من عمليات إجارة في مجال تلك المواد المعدنية.
د ـ اتّخاذ موقف نفسي معيّن بصورة مسبقة تجاه النص
ويتوضّح هذا بافتراض فقيهين أحدهما يتّجه نفسياً لاكتشاف أحكام السلوك الفردي، والآخر يتّجه نفسياً لاكتشاف الجانب الاجتماعي فإنّهما بطيبعة الحال يختلفان في النتائج حينما يدرسان نصوصاً متشابهة.
البحث الثاني: لمحة تاريخية عن الاجتهاد لدى مدرسة أهل البيت (ع)
طبق ما تقدّم فإن عملية الاجتهاد كانت تصاحب حتى عصر المعصوم مع قلّة الحاجة إليه في زمانه، وإذا كان علم الاُصول مظهراً جليّاً من مظاهر الاجتهاد فإنا نستطيع أن نفسّر كيف تأخّر نشوء هذا العلم لدى مذهب أهل البيت عنه لدى المدارس الإسلامية الاُخرى، ذلك أن هذه المدرسة كانت تؤمن بامتداد عصر النصّ الشرعي الى حوالي مئتين وخمسين عاماً بعد الفترة التي اعتقدت فيها المدارس الاُخرى بانتهاء عصر النصّ المباشر من المعصوم وهو الرسول الأعظم (ص)، وبمجرد أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي وبدأ عصر الغيبة الكبرى تفتحت الذهنية الاُصولية ودرست العناصر المشتركة وإن كانت بذور الفكر الاُصولي قد تشكّلت في أذهان أصحاب الأئمة (ع) منذ عصر الصادقين (الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام)) وربّما اُلفت رسائل في ذلك.
ومنذ ذاك رفضت مدرسة أهل البيت الاجتهاد بالمعنى الخاص ورأت فيه اتّباعاً للظنّ دون دليل معتبر ومنفذاً للآراء الشخصية والاستحسانات الطارئة وناقشت الأدلة التي ذكرتها المدارس الاُخرى وجاءت عن الإمام جعفر الصادق (ع) روايات كثيرة ضد هذا المعنى، واعتقدت هذه المدرسة أن النصوص الشرعية، والقواعد الرائعة المعطاة كفيلة بتغطية كل الوقائع المستقبلية وملائمة الإسلام لكل الظروف والتغيّرات فإذا كانت القواعد الشرعية متناهية فإنّها قادرة على شمول مصاديق غير متناهية، وأثبتت ذلك عملياً خلال القرون المتمادية. وقد أيّدتها في هذا المنحى بعض المدارس السنّية كالظاهرية التي شنّت حملة ضد القياس مثلاً.
وعلى أي حال فربّما أدّى اشتراك لفظ الاجتهادين بين المعنى الخاص الى التحرّز عن اللفظ وتأليف الكتب ضد (الاجتهاد) ويقصد به المعنى الخاص طبعاً من مثل مصنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري الذي أسماه (الاستفادة في الطعون على الأوائل والردّ على أصحاب الاجتهاد والقياس)، وصنّف إسماعيل بن عليّ النوبختي في عصر الغيبة الصغرى كتاباً في الردّ على الاجتهاد، كما ذكر الرجالي الشيعي المعروف النجاشي في كتابه.
ويرى اُستاذنا الشهيد الصدر أنّ الكلمة ظلّت هكذا حتى رأينا المحقّق الحلّي المتوفى سنة (676 ه) في كتابه (المعارج) يفرق بين المفهومين بعد أن يعرّف الاجتهاد بأنه: (بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية).
ويرى الشهيد مرتضى المطهري أنّ روح التقارب كانت سائدة رغم الخلاف، فبمجرد أن ينفتح باب التقارب باتّساع مفهوم مثلاً يتم التقارب بشكل طبيعي، والاجتهاد أحد موارده، والاجماع كذلك فإن مدرسة أهل البيت (ع) ترفض النظر للاجماع حجّة برأسه ولكنها طرحته وقبلته بعد اتّساع مفهومه لشمول الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم. ومن ذلك اعتبار الأدلة أربعة قياساً على الأدلة الأربعة لدى المدرسة السنّية، ولكن بتبديل القياس أو الاجتهاد الى العقل ولكن في أحكامه القطعية الكاشفة عن الحكم الشرعي عبر قاعدة التلازم.
والملاحظ أنّ كل علماء الإمامية الذين حمّلوا على الاجتهاد كانوا ـ كما هو الظاهر ـ يطبّقون عملية الاجتهاد بمعناها الأعم.
والملاحظ أنّ المسيرة الاجهادية الممتدة والمفتوحة لدى مدرسة أهل البيت (ع) واجهت بالإضافة للعرقلة السابقة الناشئة من شيء من الخلط بين المفهومين العام والخاص للاجتهاد واجهت حالتين اُخريين كادت الثانية منهما تعصف بالمسيرة الاجتهادية على الاطلاق وتغلق الباب تماماً.
الحالة الاُولى
فكانت الفترة التي تلت حياة شيخ الطائفة (رحمة الله عليه) فقد كانت عظمة هذا الرجل ومؤلّفاته وشخصيته مسيطرة الى الحد الذي امتنع معه العلماء بعده من اظهار أي نظر جديد. وكان هذا الوضع سائداً حتى بزغ نجم العالم الجليل ابن إدريس الحلّي فراح يتحدّى ذلك الوضع ويسدي بذلك خدمة كبرى لمسيرة الاجتهاد.
الحالة الثانية
فكانت الحركة الإخبارية التي بدأت منذ حوالي أربعة قرون على يد الشيخ الملاّ أمين الاسترآبادي الذي استطاع أن يجذب إليه بعض العلماء وقد امتازت مدرسته بالوقوف ضد حجّية الحكم العقلي مطلقاً ورفض الاجماع بل وحتى التوقف عن العمل بالظواهر الكتابية إلاّ إذا فسرتها أحاديث أهل البيت وادّعت أن كل الأحاديث الواردة في الكتب الأربعة الرئيسية للإمامية وهي (الكافي) و (التهذيب) و (الاستبصار) و (من لا يحضره الفقيه) صحيحة ومعتبرة بل هي قطعية الصدور، وراحت تنكر أي تخصّص في الدّين وتنفي التقليد فعلى الناس مراجعة الروايات مباشرة والعمل بها.
والحديث هنا طويل إلاّ أن هذا الخطر ارتفع بظهور مجموعة من العلماء على رأسهم العالم الكبير الوحيد البهبهاني وغيره ممّا فتّت هذا المسلك ولم يعد له وجود ـ إلاّ نادراً ـ بعد أن كاد يشيع الجمود والانحراف بالمسيرة الفكرية الصاعدة.
وجاءت الضربة القاضية له على يد المرحوم الشيخ الأنصاري أعلى الله مقامه.
ملاحظات حول المرجعيات الشيعية عبر الزمن وفي الوقت الحاضر
بعد أن انتهى عصر الغيبة الصغرى للإمام المهدي (ع) حيث كان السفراء الأربعة يمثلون الوسائط المباشرة بينه (ع) وبين الشيعة وبدء عصر الغيبة الكبرى بدأت في الحقيقة مسيرة الاجتهاد الشيعية بعد أن كانت تعتمد على الأئمة من أهل البيت (ع)، فلا يجد العلماء حاجة ماسّة الى الاجتهاد إلاّ في الحالات التي لا يتسنّى فيها الاتّصال بالمعصوم، وتشكّلت شيئاً فشيئاً المرجعيات الشيعيّة بشكل طبيعي.
الملاحظة الأولى
إنّ لفظ المرجعية لم يكن متداولاً بشكل عام إلاّ في العصور الأخيرة.
الملاحظة الثانية
إنّ قوّة الشخصية وقدرتها الفكرية وأحياناً التنظيمية هي التي كانت تفرض نفسها على الساحة لا أن هناك منصباً يملؤه أكفأ الأشخاص بشكل طبيعي.
الملاحظة الثالثة
في حالة تعدّد الاتجاهات أو تعدد الشخصيات اعتاد الشيعة على تعدّد المرجعيات ولم يجدوا في ذلك أي حرج. وهذا أمر شهدناه في العصر الحاضر. ولا نجد فيه ضيراً مادام الأمر في حدوده الضيّقة (الإجتهادية أو الشخصية) أما إذا عبر الى الساحة الاجتماعية فإنّ المرجعية أما أن تتصدى للقيادة أو أن توكل المرجعيات الأمر الى الولي المنتخب للقيادة. وتبقى في إطار التقليد والاجتهاد الحرّ.
الملاحظة الرابعة
إنّ التفريع الفقهي المنظم والبحث الاُصولي العلمي بدأ بعد تحقّق الغيبة الكبرى لأنّ الشيعة لم يكونوا بحاجة ماسة إليهما في زمان الأئمة (ع) أو نوابهم الخاصّين الذين كانوا يتّصلون بهم باستمرار.
وبعد ذلك بدأ عصر التدوين ماراً بمرحلة تجميع المصادر والروايات الى الحدّ الممكن حيث صدر كتاب (الكافي) للمرحوم الكليني وكتاب (من لا يحضره الفقيه) للمرحوم الصدوق ـ وهي مرحلة تكرّرت بعد ذلك ـ حينما اكتشفت مصادر جديدة للروايات من جهة وتمّ التركيز على الإخبار وساد اتّجاه الإخباريين فتمّ إصدار موسوعات حديثية جامعة من أمثال (وسائل الشيعة) للشيخ الحرّ العاملي و (بحار الأنوار) للشيخ المجلسي و (الوافي) للفيض الكاشاني.
الملاحظة الخامسة
إنّ التفاعل بين المسيرتين السنيّة والشيعيّة مرّ بفترات قوة وضعف. فقد كان على أشدّه في عصر الأئمة الكبار، واستمر قوياً في عصر الفقيهين القديمين ابن عقيل وابن الجنيد ـ كما يسمّيها المرحوم ابن فهد الحلّي ـ حيث قبلا بعض المسلّمات لدى المذاهب السنيّة كالقياس، ولكنّ العلماء التالين كالشيخ المفيد والسيّد المرتضى وغيرهما رفضوا ذلك لأنّه لا ينسجم مع اتّجاهات فقه الإمام الصادق (ع) وناقشوه بشكل علمي.
فالتعامل العلمي هو المنهج، والحقّ هو المتّبع دون تعصّب أو تكفير. وقد ذكر بعض الكتّاب أن بعض علماء الشيعة الذين خلفوا الشيخ الطوسي كان يعمل بالإجماع الذي ينقله مالك عن أهل المدينة في موطئه لكشفه عن رأي المعصوم.
وهذا التعامل العلمي الموضوعي موروث من تعامل أئمة أهل البيت (ع) أنفسهم وهو الذي جعل أربعة آلاف طالب يلتفّون حول الإمام الصادق (ع) ينهلون من علومه وفيهم كثير من غير الشيعة، وقد روت كتب أهل السنّة ما يقرب من إثني عشر ألف حديث عن أهل البيت (ع).
الملاحظة السادسة
إنّ تحديد المصطلحات وعدم تحديدها لعبا دوراً مهماً في تكوين الاتّجاهات المختلفة والمتعارضة الى حد الطرد أحياناً. وهو آفة هذه النزاعات الفكرية دائماً. وكمثال على ذلك نجد أن مصطلحات الاجتهاد والعقل والإجماع وعدم وضوحها تركت آثاراً سلبية وربّما خلقت اتّجاهات متعارضة كان لها أن لا تحدث لو تمّ توضيحها بدقّة.
الملاحظة السابعة
وقد لعبت عوامل الزمان والمكان والسياسة دوراً كبيراً في تلوّن هذه المسيرة وتوحّدها أو تمزّقها ونجد بعض الأمثلة في:
1ـ نموّ علمي الفقه والاُصول بعد عصر الأئمة (ع).
2ـ تعاظم المرجعية الشيعيّة زمن البويهيين.
3ـ نكسة الشيخ الطوسي بعد مجيء السلاجقة وقائدهم (طغرل بك) ثم انتقال الشيخ الطوسي الى النجف.
4ـ دور القائد (خدابنده) في دعم العلاّمة الحلّي بعد أن أقنعه العلاّمة فاعتنق التشيّع.
5ـ دور الصفويّين في تقوية الفقه الشيعي ثم في تشجيع الحركة الإخبارية.
6ـ دور عامل المكان في تقوية الشيخ المفيد، وفي هزيمة الحركة الإخبارية على يد الوحيد البهبهاني.
الاستنتاج
أن للاجتهاد عند الشيعة مفهومان: عام وخاص، وأنه ضروري، ما دام في الأرض إنسان، يعمل الإسلام على قيادته نحو السعادة، وأن هناك عوامل اغلقت باب الاجتهاد، ولكن مراجع الشيعة سعوا ما بوسعهم أن يجتهدوا في استنباط الأحكام الشرعية وإعطاء الحكم الإلهي للمسألة المبتلى بها.
الهوامش
[1] الآخوند الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص347.
[2] الخضري، اُصول الفقه الجعفري، ص357.
[3] الواعظ الحسيني، مصباح الاُصول، ص434.
[4] التوبة، 121.
[5] البقرة، 279.
مصادر البحث
1ـ القرآن الکریم
2ـ الآخوند الخراساني، محمّد كاظم، كفاية الاُصول، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
3ـ الخضري، محمّد، اُصول الفقه، مصر، المكتبة التجارية الكبرى، الطبعة السادسة، 1389 ه.
4ـ الواعظ الحسيني، محمّد سرور، مصباح الاُصول، قم، مكتبة الداوري، الطبعة الخامسة، 1417 ه.
مصدر المقالة (مع تصريف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.