- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 12 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
هناك بعض الشبهات التي تطال الجانب العرفاني من خلال اتّهامه بالعزلة ، ومن خلال اتهامه بأنّ العارف ما إن يبدأ حتّى يصل إلى الجبل ، ويطلّ من الجبل على المجتمع ، وإلى غير ذلك من الكلام . . . ولكن تجربة الإمام الخميني قدس سره استطاعت أن تتجاوز كلّ هذه الإشكاليّات وذلك من خلال شخصيّته كعارف ربّاني والأبعاد العرفانيّة العملية التي جسّدها في حياته الاجتماعية والسياسية . ولعلّ هذا ما جعل البعض يذهب إلى القول بأنّ الإمام الخميني ليس من أهل العرفان ، واستدلّ على ذلك بمشروع الدولة الإسلاميّة الذي سعى إليه فقاد نهضة وأقام دولة بما لا يتلاءم ولا ينسجم مع مسلك العرفاء الذين يعتبرون مثل هذه القضايا والتصدّي لها من شؤون الدُّنيا التي لا يعتني بها العارف .
وهذا الأمر يقودنا إلى البحث والسؤال عن العرفان بأنّه هل هو فعلاً نظرية بلا تطبيق ؟ وهل العارف يقتصر بعرفانه على شخصيّته أم ينتقل إلى المجتمع بشكل عامّ ؟
ويكاد يكون هذا من أهمّ الأبحاث التي تدخل في صُلب البحث العرفاني ، لذا يقتضي الحال في الإجابة عن هذه الإشكاليات ، وتحديد الأبعاد العرفانيّة في شخصية الإمام الخميني وتمييزها عن غيرها الإشارة إلى الخصائص العامّة للعرفان عند الإمام وتوجيهاته ونصائحه وغيرها من الأمور .
خصائص العرفان العملي للإمام الخميني
من السِّمات البارزة في شخصيّة الإمام قدس سرّه البُعد العرفاني الذي تميّز به في كتبه وأحاديثه وخطاباته لدرجةً بات الكثيرون يشيرون إليه كواحد من أهل العرفان المميّزين في هذا العصر .
وطغت هذه الصبغة على سائر خصائصه كفقيه أو فيلسوف أو صاحب نهضة ثوريّة كبرى .
إلاّ أنّ الحقّ يقال بأنّه قدّس سرّه فضلاً عن كونه منتمياً إلى مدرسة العرفان النظري ، لكنّه في الجانب العملي من العرفان يعتبر من المؤسّسين في هذا المجال بحيث لم يسبقه أحد إلى ذلك .
فهو – كما تقدم – يتفوّق بمراحل كبرى في الجانب العملي والسلوكي على غيره من أهل العرفان ، ولم يسبقه إلى ذلك أحد منهم .
وتبرز خصائص العرفان العملي عند الإمام في جملة أمور نذكرها في ضوء ما ورد عنه في رسائله العرفانيّة منها :
أوّلا : التوجّه إلى الله الغني المطلق
وهذه أولى الخطوات بل الركيزة الأساس التي ينطلق منها الإنسان نحو الحقّ سبحانه وتعالى حينما يستشعر بذاته أنه الفقير المحتاج في وجوده وكماله إلى الغني المطلق بذاته ، ومن هنا ينطلق قدّس سره في وصيّته لولده بضرورة استشعار هذا المعنى واستحضاره دائماً في داخله « بُنيّ أحمد – رزقك الله هدايته – : إعلم ، أنّ العالم سواء كان أزليّاً وأبديّاً أو لا ، وسواء كانت سلاسل الموجودات غير متناهية أو لا ، فإنّها جميعاً محتاجةٌ ، لأنّ وجودها ليس ذاتيّاً لها ، ولو تفكّرت ، وأحطت عقليّاً بجميع السلاسل غير المتناهية فإنك ستدرك الفقر الذاتي والاحتياج في وجودها وكمالها إلى الموجود بذاته والذي تمثّل كمالاته عين ذاته » ( 1 ) ، وهذا الفقر والاحتياج هو أمر فطريّ موجود في داخل كلّ فرد ، ويلهج لسانه بذلك دون أيّ تردّد « ولو تمكّنت من مخاطبة سلاسل الموجودات المحتاجة بذاتها خطاباً عقليّاً وسألتها : أيتّها الموجودات الفقيرة ، من يستطيع تأمين احتياجاتكم ؟ فإنّها ستردُّ جميعاً بلسان الفطرة : « إنّنا محتاجون إلى من ليس محتاجاً بوجوده مثلنا إلى الوجود والذي هو كمال الوجود » ( 2 ) .
وهذه هي الفطرة التوحيديّة التي خلق الله تعالى الإنسان على أساسها ، لكن الإنسان بطبيعته المتكبّرة والمتجبّرة قد يظنّ في بعض الأحيان – كما لو كثُرت النعم عليه – بأنّه غنيّ غير محتاج ، فيحذّر الإمام من هذا الاعتقاد الفاسد « والمخلوقات الفقيرة بذاتها لن تتبدّل إلى غنيّة بذاتها ، فمثل هذا التبدّل غير ممكن الوقوع ، ولأنّها فقيرة بذاتها ومحتاجة فلن يستطيع سوى الغنيّ بذاته من رفع فقرها واحتياجها » ( 3 ).
ولكي تستغني عن ما سوى الله « ارتبط بالغنيّ المطلق حتّى تستغني عمّن سواه ، واطلب التوفيق منه حتّى يجذبك من نفسك ومن جميع من سواه » ( 4 ) .
ثانياً : القرآن الكريم المرجع الأساس للعرفان
القرآن الكريم بالنسبة إلى الإمام الخميني قدس سرّه « كتاب معرفة الله ومعرفة طريق السلوك إليه تعالى » ( 5 ) ، وأمّا من ناحية تضمّنه لحقائق العرفان « فإنّ القرآن الكريم اشتمل على حقائق ومعارف لم تكن معروفة آنذاك في العالم أجمع فضلاً عن المحيط الذي نزل فيه » ( 6 ).
ويذهب الإمام إلى ما هو أبعد من ذلك بحيث يعتبر العرفان ومسائله من معجزات القرآن « وإنّ من أعظم وأسمى معاجزه هي هذه المسائل العرفانيّة العظيمة التي لم تكن معروفة لدى فلاسفة اليونان ».
وفي إشارة منه إلى كون العرفان يأخذ منابعه من القرآن وليس من آثار السابقين يقول : « والحال أنّ عرفاء الإسلام العظام إنّما أخذوا ما قالوه منه ، فكلّ شيء أخذوه من الإسلام ومن القرآن . فالمسائل العرفانيّة الموجودة في القرآن الكريم ليست موجودة في أيّ كتاب آخر ».
وهذه المعارف التي تميّز بها القرآن الكريم وانفرد بها انعكست بدورها على شخصيّة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله حتّى صار ذلك من معجزاته الكبرى « وإنّها لمعجزة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله إذ كان على درجة عالية من المعرفة بالله تعالى بحيث إنّ الباري جلّ وعلا كان يوضح له أسرار الوجود ، وكان هو صلّى الله عليه وآله بدوره يرى الحقائق بوضوح ودون أيّ حجاب ، وذلك بعروجه وارتقائه قمّة كمال الإنسانية وفي ذات الوقت كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانيّة ومراحل الوجود » ( 7 ) .
ومن هنا يوجّه الإمام نصيحته إلى ابنه بضرورة التعرّف على كتاب الله المجيد ، ولو بالقراءة لأنّه الطريق إلى الله « بنّي : تعرّف إلى القرآن – كتاب المعرفة العظيم – ولو بمجرّد قراءته ، واجعل منه طريقاً إلى المحبوب ، ولا تتوهمنّ أنّ القراءة من غير معرفة لا أثر لها ، فهذه وساوس الشيطان ، فهذا الكتاب كتابٌ من المحبوب إليك وإلى الجميع – وكتاب المحبوب محبوبٌ وإن كان العاشق المحبّ لا يدرك معنى ما كُتب فيه . . . واعلم أنّنا لو أنفقنا أعمارنا بتمامها في سجدةِ شكر واحدة على أنّ القرآن كتابنا لما وفّينا هذه النعمة حقّها من الشكر » ( 8 ).
ثالثاً : الأدعية والمناجاة وسيلة السلوك
ليست الرياضات الروحية وحدها السبيل إلى سلوك الطريق إلى الله تعالى ، بل هناك ما هو أرفع شأناً منها وأسمى وأرقى في نظر الإمام الخميني ، ونعني بذلك الأدعية المأثورة عن أئمة أهل بيت العصمة عليهم السلام ، فهي أعظم دليل يرشد إلى معرفته سبحانه وتعالى « إنّ الأدعية والمناجاة التي وصلتنا عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام ، أعظم دليل يرشد إلى معرفة الله جلّ وعلا ، وأسمى وسيلة لسلوك طريق العبودية ، وأرفع رابطة بين الحقّ والخلق » ( 9 ) وهي بما تحتويه من مضامين عالية ومعارف كبرى تمثِّل أرقى وسيلة للأُنس بالله تعالى
« كما أنّها تشتمل في طيّاتها على مختلف المعارف الإلهيّة وتمثّل أيضاً وسيلة ابتكرها أهل بيت الوحي للأُنس بالله جلّت عظمته ، فضلاً عن أنّها تمثّل نموذجاً لحال أصحاب القلوب وأرباب السلوك » ( 10 ).
وكما هو الحال في نظره إلى القرآن الكريم واعتباره نعمة إلهيّة كبرى فكذلك الحال بالنسبة إلى الأدعية التي ينبغي النظر إليها بهذا المستوى وعدم الاكتراث بما يقوله البعض من الجاهلين بحقّ هذه الأدعية : « فلا تصدنّك وساوس الغافلين الجاهلين ، على التمسّك أو الأُنس . إننا لو أمضينا أعمارنا بتمامها نقدّم الشكر على أنّ هؤلاء المتحرّرين من قيود الدُّنيا والواصلين إلى الحقّ هم أئمّتنا ومرشدونا لما وفينا هذا الأمر حقّه » .
وفي نظرنا أنّه من الطبيعي جدّاً أن يعتبر الإمام الخميني أنّ الركيزة الأساس والمنطلق الصحيح للسلوك إلى الله إنّما يتمّ عن طريق القرآن وأهل بيت العصمة عليهم السلام وذلك عملاً بالوصيّة الكبرى التي استودعها فينا رسول الله صلّى الله عليه وآله عندما طلب من أُمّته اللجوء إليهما فيما روي عنه في حديث الثقلين .
رابعاً : الابتعاد عن حبّ الدُّنيا
قد يحاول الإنسان في عالم الدُّنيا السلوك في الطريق الصحيح الموصل إلى الله ولكنه سيواجه الكثير من العقبات التي تحول دون ذلك ، فالشيطان توعّد عباد الله الصالحين بأن يحرفهم عن الصراط المستقيم ، ورسم الإسلام في سبيل تحقيق المنهج السليم لعبادة الله سبحانه وتعالى جملة أمور على أنّها عقبات ووضع على رأسها حبّ الدُّنيا ، وفي وصيّته يؤكّد الإمام هذا المعنى واعتبار حبّ الدُّنيا رأس الموبقات ومصدر الخطيئات ومصدر الشقاء والعذاب « إنّ السبب الرئيس للندم وأساس ومنشأ جميع ألوان الشقاء والعذاب والمهالك ورأس جميع الخطايا والذنوب إنّما هو حبّ الدُّنيا الناشئ من حبّ النفس » ( 11 ) ، وإذا كان هنا تحذير من حبّ الدُّنيا فإنّ هذا لا يعني أنّ الدُّنيا مذمومة بالمطلق وإنّما هناك موازين على أساسها تكون الدُّنيا مبغوضة و إلاّ فإنّه « ينبغي القول أنّ عالم الملك ليس مبغوضاً ولا مذموماً في حدِّ ذاته ، فهو تجلّي الحقّ ومقام ربوبيّته تعالى ومهبط ملائكته ومسجد ومكان تربية الأنبياء والأولياء عليهم السلام ومحراب عبادة الصلحاء وموطن تجلّي الحقّ على قلوب عاشقي المحبوب الحقيقي .
إذن الدُّنيا المذمومة هي في داخلك أنت . . وجميع المخالفات لأوامر الله وجميع المعاصي والجرائم والجنايات التي يبتلي بها الإنسان ، كلها من « حبّ النفس » الذي يولّد « حبّ الدُّنيا » وزخارفها وحبّ المقام والجاه والمال ومختلف الأماني » .
خامساً : اجتناب العزلة
هل حقيقة العرفان والسلوك هي الانزواء والعزلة والتفرّغ لشؤون العبادة ، والابتعاد عن قضايا المجتمع ، والتخلّي عن واجب هداية الناس وإرشادهم وتعليمهم ، وعدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الأمور التي يعتبرها البعض أساسا في العرفان ؟
هذه الأسئلة أو الاشتباهات وغيرها أجاب عنها الإمام بمنتهى الوضوح والصراحة ، وأزال الالتباس عنها ، وكشف عن غوامضها .
فرسول الله صلّى الله عليه وآله وصل إلى مرتبة رأى فيها الحقائق بوضوح ودون أيّ حجاب ، وذلك بعروجه وارتقائه قمّة كمال الإنسانيّة ومع ذلك فإنّه « في ذات الوقت كان حاضراً في جميع أبعاد الإنسانية ، ومراحل الوجود ، فمثّل بذلك أسمى مظهر * ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ) * ( 12 ) ، كما سعى إلى رفع جميع الناس للوصول إلى تلك المرتبة ، وكان يتحمّل الآلام والمعاناة حينما كان يراهم عاجزين عن بلوغها » ( 13 ).
فالطريق إلى الله لا ينفصل عن واجب كبير أُلقي على كاهل الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وهو واجب الهداية للبشرية ، فكان المقام الذي وصل إليه أسمى وأرقى بسبب هذه الهداية : « إنّ أولئك الذين بلغوا هذا المقام أو ما يماثله ، لا يختارون العزلة عن الخلق أو الانزواء ، فهم مأمورون بإرشاد وهداية الضالّين إلى هذه التجلّيات » ، أمّا غير الأنبياء فإنّهم وإن وصلوا إلى ما وصلوا لكنهم لم يرتقوا إلى هذا المقام لأنّهم لم يقوموا بهذا الواجب العظيم « وإن كانوا قد حازوا مرتبة ومقاماً عظيماً إلاّ أنّهم لم يبلغوا الكمال المطلوب » ( 14 ) .
وللتأكيد على شرف وقداسة هذا الواجب ، فإنّه ذو فوائد جليّة منها « أنه سيُعينك – وأنت تسلك الطريق إليه – » . وما إغفال هذا الواجب وعدم الاكتراث به إلاّ نتيجة الجهل . لذلك عليك أن « تعلم بأنّ خدع النفس الأمّارة بالسوء وشيطان النفس والمحيط كثيرةٌ ، فما أكثر ما يبتعد الإنسان عن الله باسم الله واسم الخدمة لخلق الله ، ويُساق نحو نفسه وآمالها ; لذا كانت مراقبة النفس ومحاسبتها في تشخيص طريق الأنانيّة عن طريق الله من جملة منازل السالكين ( 15 ) . فإذن العزلة في نظر الإمام قد يكون منشأها الأنانيّة ، وهذا أخطر ما فيها من تداعيات على الإنسان .
وأخيراً فإنّ الإمام يخلُص إلى نتيجة يرى أنّه من الواجب أن يعتبرها هديّة يوجّهها كنصيحة لكلّ العارفين والسالكين « لا تتنصّل من مسؤوليتك الإنسانيّة في خدمة الحقّ في صورة خدمة الخلق » ( 16 ) .
سادساً : التصدّي للشأن السياسي والاجتماعي
من القضايا المتفرّعة عن مسألة موقف الإسلام والمدرسة العرفانيّة – من العزلة والانزواء ، قضيّة التصدّي للشأن السياسي وقضايا الدولة والحكومة وغيرها .
ولعلّ هذه القضيّة من الأمور والمميّزات التي اختصّ بها الإمام الخميني كعارف ربّاني استطاع أن يُدخل إلى المنهج أو المسلك العرفاني عملية الانخراط في هذه البيئة واعتبارها من الأمور التي توصل إلى مقام القُرب الإلهي « وما أكثر ما يرتقي المتصدّي لشؤون الحكومة فيحظى بلبِّ قُرب الحقّ لما يحمله من دافع إلهيّ كداود وسليمان عليهما السلام بل وأفضل منهما منزلة ، كالنبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وخليفته بالحقّ علي بن أبي طالب عليه السلام وكالمهديّ أرواحنا لمقدمه الفداء في عصر حكومته العالميّة » ( 17 ) ، فإذا كانت مهمّة الأنبياء والأوصياء يدُخل في نطاقها القيام والنهوض بأعباء إقامة حكم الله على الأرض ، فأيّ شرف بعد هذا الشرف ، وأيّ مرتبة أسمى من هذه المرتبة .
ثمّ إنّ الإمام يربط هذه المسؤولية بالدافع الذي يكمن وراءها والنوايا الكامنة في النفس الإنسانية « إنّّ الميزان في الأعمال هو النوايا التي تستند إليها ، فلا الاعتزال الصوفي دليلٌ على الارتباط بالحقّ ، و لا الدخول في خضمّ المجتمع وإقامة الحكومة شاهد على الانقطاع عن الحقّ . . فميزان العرفان والحرمان إذن هو الواقع . . . » ( 18 ) .
سابعاً : اختيار الأصدقاء ومعاشرة الصالحين
في تعاليم الإسلام وإرشاداته وتوجيهاته إلى الفرد المسلم السعي إلى معاشرة أهل الإيمان والصلاح وقد تواترت الأحاديث واستفاضت في هذا المجال والتي يجمعها محور أساس وهو كيفية اختيار الصديق لدرجة نجد معها تفصيلات في شروط العشرة وآدابها ومواصفات الصديق وغيرها من الأمور ، والإسلام إنّما يشدّد على هذه المسألة
نظراً لما يكتسبه الإنسان من عادات سواء كانت صالحة أم فاسدة من خلال المعاشرة ، ومن هنا فإنّ الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه لم يغفل عن التنبيه على ذلك في وصيته لولده السيد أحمد « بنّي : من الأمور التي أودّ أن أوصيك بها وأنا على شفا الموت ، أصعّد الأنفاس الأخيرة : أن تحرص – ما دمت متمتّعاً بنعمة الشباب – على دقّة اختيار من تعاشرهم وتصاحبهم ، فليكن انتخابك للأصحاب من بين أولئك المتحرِّرين من قيود المادّة ، والمتديّنين المهتمّين بالأمور المعنويّة ، ممّن لا يغرّهم زخارف الدُّنيا ولا يتعلّقون بها ، ولا يسعون في جمع المال وتحقيق الآمال في هذه الدُّنيا أكثر ممّا يلزم أو أكثر من حدّ الكفاية ، وممّن لا تلوّث الذنوب مجالسهم ومحافلهم ، ومن ذوي الخلق الكريم » ( 19 ) ، فهذه جملة مواصفات وشروط يضعها الإمام أمام كلّ مسلم في سبيل تحقيق وبناء العلاقات الاجتماعية السليمة بين الأفراد ، ويشير الإمام إلى الأسباب التي تقف وراء التركيز على هذه المسألة « فإنّ تأثير المعاشرة على الطرفين من صلاح وإفساد أمرٌ لا شكَّ في وقوعه » ( 20 ) .
وفي مجال آخر يوجّه الإمام عنايته إلى مجالس البطّالين وضرورة الابتعاد عنها « إسع أن تتجنّب المجالس التي تُوقع الإنسان في الغفلة عن الله فإنّ ارتياد مثل هذه المجالس قد يؤدّي إلى سلب الإنسان التوفيق » .
التصنيف التاريخي لمدرسة الإمام العرفانيّة
لا يمكن اعتبار الإمام الخميني في منهجه صاحب مدرسة عرفانية مستقلّة بل هو امتداد وحلقة على خطّ المدرسة العرفانيّة ، ولم يضف الإمام أيّ شيء على نفس المدرسة العرفانيّة التي وضع أُسسها محيي الدين بن عربي في كتاب فصوص الحكم ، وبحسب التسلسل التاريخي الذي نراه في الحكمة المتعالية فإن السيد الإمام الخميني يعتبر امتداداً لتلك المدرسة من الناحية الفلسفيّة سواء بالنسبة لمدرسة الحكمة المتعالية أم المدرسة العرفانيّة .
أمّا ما ورد من إشارات في كلمات الإمام الخميني في الرسائل التي بعث بها إلى بعض أقربائه أو قريباته وفيها ما مضمونه : « لا أسفار ملاّ صدرا ولا فصوص ابن عربي أوصلتني إلى الله . . . » ( 21 ) ، والتي يُفهم منها أنّه لا يدعو إلى هذه الكتب بعينها ، فإن مراد الإمام القول بأنّ الكمال المطلوب للإنسان والسلوك إلى الله لا يتحقّق من خلال حفظ اصطلاحات الحكمة المتعالية ، أو اصطلاحات العرفان النظري ، واصطلاحات الفصوص ، وكذا اصطلاحات كلّ العلوم ، وإنّما الكمال أن تبدأ المسيرة إلى الله سبحانه وتعالى ، أمّا معرفة الاصطلاح بلا سلوك ، وبلا عمل ، وبلا سير ، وبلا ارتباط بالشريعة في الناحية العملية فكلّ ذلك هباء منثور ، لأن العلم يدعو إلى العمل فإن أجابه و إلاّ ارتحل .
وإلاّ فإنّ الإمام كغيره من الكثيرين في عصرنا الحاضر يعتبر أنّ مدرسة صدر المتألهين أو مدرسة الحكمة المتعالية هي القاعدة التأسيسيّة للاتّجاهات الفلسفيّة المعاصرة ، لذلك فإنّ البحث أو الوقوف على المعالم الأساسيّة للرؤية الفلسفيّة والعرفانيّة للإمام الراحل ، وكذا لتلامذة الإمام إنّما تكمن في الغوص عمقاً في مدرسة صدر الدِّين الشيرازي وغيره من العلماء والعرفاء .
نصيحة الإمام إلى طلاّب العلم والعرفان
تنطوي كلمات العرفاء وأقوالهم على جملة من الاصطلاحات هي رموز وألفاظ لا يمكن التعرّف على حقائقها إلاّ من خلال دراسة مطالب العرفانيِّين والمعرفة التامّة والإحاطة الشاملة برموزهم واصطلاحاتهم ، وهذا الأمر سبَّب الكثير من الاتّهامات لأهل العرفان وصل بعضها إلى حدّ التكفير ، ومن هنا فإنّ الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه – وهو العارف والخبير والبصير بما يريده أهل المعرفة الصادقة – يوجّه بعض النصائح ؛ حذراً من الوقوع في الاتّهام الباطل ، ويجعل من الشيخ الرئيس أبي علي سينا مثالا لذلك .
وبعد أن يشير إلى بعض ما ورد في كلمات العارف القاضي سعيد القمّي رضوان الله عليه في جملة من كتبه ورسائله يقول الإمام الخميني : « وفي كلماته الشريفة ما يفيد مقصودنا ويشير إلى مطلوبنا فوق حدّ الإحصاء . . فمن أراد فليرجع إلى ذلك الكتاب الشريف ». .
ولكن الرجوع يجب أن يكون « بعد الفحص الكامل عن مرموزات القوم والرجوع إلى أهله فإنّ لكلّ علم أهلاً » . ، لأنّ قراءة مطالبهم من دون الاختصاص بها أو الفهم الكامل لها أو تفسيرها حسب الأهواء الشخصيّة يوقع في المحذور « وإيّاك والرجوع إليه وإلى مثله بأنانيّتك ونفسيّتك فإنّه لا يفيدك شيئاً بل لا يزيدك إلاّ حيرةً وضلالة » (22) . .
ثمّ يستشهد الإمام الخميني على مقولته بما جرى في سيرة حياة الشيخ الرئيس :
« ألا ترى أنّ الشيخ الرئيس أبا علي سينا يقول : إنّي ما قرأت على الأستاذ في الطبيعيّات والرياضيّات والطبّ إلاّ شيئاً يسيراً وتكفّلت بنفسي على جلّها في مدّة يسيرة بلا تكلّف وظفرت على حلّها بغير تعسّف ، وأمّا الإلهيات فما فهمت منها شيئاً إلاّ بعد الرياضات والتوسّل إلى مبدأ الحاجات والتضرّع الجبلي إلى قاضي السؤالات حتى أنّ في مسألة واحدة راجعت أربعين دفعة فما فهمت منها شيئاً حتى أيست في حلّ ذلك العلم إلى أن انكشف لي بالرجوع إلى مبدأ الكلّ ، مع أنّ خطاياه في ذلك العلم الأعلى أكثر بكثير ، كما يظهر بالمراجعة إلى كتبه .
فإذا كان هذا حال الشيخ الرئيس النابغة الكبرى والأعجوبة العظمى الذي لم يكن له في حدّة الذهن وجَودةِ القريحة كفو أحد فكيف بغيره من متعارف الناس .
وهذه نصيحة منّي إلى إخواني المؤمنين لئلاّ يهلكوا من حيث لا يعلمون » (23) . .
وإلى ضرورة عدم جواز التحامل على العرفاء بما يقولونه من غير فهم لمقاصدهم كما هو عادة ودأب البعض ، يشير الإمام الخميني في ختام كتابه « مصباح الهداية » بعد أن يذكر بعض مطالب القاضي سعيد القميّ إلى ذلك : « ولعلّك بتوفيق الله وحسن تأييده بعد الإحاطة بما في هذه الرسالة التي لا أظنّك أن سمعت به في غير تلك المقالة يمكنك فهم ما أرمزه ذلك العارف وتأويل ما أجمل ذلك المكاشف ، وإيّاك ثمّ إيّاك – والله حفيظك في أولاك وأخراك – أن تحمل أمثاله على ظاهرها من غير الغور الكامل إلى غامرها ؛ ولا تأخذ بيدك الطعن عليهم من غير فهم مقصدهم كما هو دأب بعض المنتسبين إلى العلم ، فإنّهم جعلوا ميزان عدم صحّة المطالب عدم اطلاّعهم عليها أو عدم فهمهم إيّاها ، فتراهم يتهّمون هؤلاء العظماء بكلّ تهمة ويغتابون هؤلاء المكاشفين كلّ الغيبة مع أنّها أشدّ من الزنية تعصّباً منهم تعصّب الجاهلية أعاذنا الله من شرّ الشيطان الذي هو قاطع عن طريق الرحمن » (24) . .
وكما هو معلوم فإنّ الإمام الخميني من أبرز أولئك الذين طالتهم سهام القوم ، وأصابته بليّتهم ، ولحقت به شرورهم ، حيث إنّهم حكموا بنجاسته ، وإلى هذا يشير الإمام بما حصل لولده الشهيد السيِّد مصطفى :
« في مدرسة « الفيضية » شرب ولدي المرحوم « مصطفى » – وكان طفلاً – ماءً بإناء في تلك المدرسة ، فأُريق الماء على الإناء لتطهيره ! ! لماذا ؟ ؟ . . لأنّني كنتُ أدرّس الفلسفة .
وإنّني على يقين من أنّ هذا المسار لو كان قد كُتب له الاستمرار لأصبح وضع الحوزات الدينيّة وعلمائِها كوضع كنائس القرون الوسطى ، ولكنّ الله تبارك وتعالى منّ متفضّلاً على المسلمين وعلمائهم بأن حفظ كيان الحوزات الدينيّة ومجدها الحقيقي » ( 25 ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 12 .
(2) المصدر نفسه : ص 12 .
(3) المصدر نفسه : ص 12 .
(4) المصدر نفسه : ص 13 .
(5) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 14 .
(6) المصدر نفسه : ص 15 .
(7) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 15 .
(8) المصدر نفسه : ص 16 .
(9) المصدر نفسه : ص 17 .
(10) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 17 .
(11)المظاهر العرفانية ، مصدر سابق : ص 20 .
(12) الحديد : 3 .
(13) المظاهر العرفانية ، مصدر سابق : ص 15 .
(14) المصدر نفسه : ص 16 .
( 15 ) المظاهر العرفانية ، مصدر سابق : ص 29 .
( 16 ) المصدر نفسه : ص 64 .
( 17 ) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 64 .
( 18 ) المصدر نفسه : ص 63 – 64 .
( 19 ) المظاهر العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 17 .
( 20 ) المصدر نفسه .
( 21 ) هذا المضمون ورد نصّه في رسالة الإمام إلى السيدة فاطمة ، وفيه « . . فقد حالت « الأسفار الأربعة » بطولها وعرضها بيني وبين السفر إلى المحبوب ، ولم أحصل على أيّ فتح من « الفتوحات » – إشارة إلى كتاب الفتوحات المكّية لمحي الدِّين ابن عربي – وحرمت أيّة حكمة من « فصوص الحكم » – إشارة إلى كتاب فصوص الحكم لابن عربي – ، فما بالك بما سوى ذلك مما له قصّةٌ محزنة لحاله » – رسائل الإمام العرفانيّة ، مصدر سابق : ص 98 .
( 22 ) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية ، مصدر سابق : ص 116 – 117 .
( 23 ) مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية ، مصدر سابق : ص 117 .
( 24 ) المصدر نفسه : ص 146.
(25) الخميني ، روح الله ، بيان الإمام الخميني الموجّه إلى علماء الإسلام ومراجعه ، الصادر بتاريخ 14 ، رجب ، 1409 ه – .
المصدر: العرفان الشيعي