قبل الخوض في لب البحث، نود أن نطرح سؤالا، فنقول: من هم المقصودون بأهل الذكر في روايات أهل البيت (ع)؟ للجواب عن هذا السؤال الهام، نستطيع القول بأنه في روايات أهل البيت (ع)، من مصادر مدرسة الشيعة الإمامية الإثني عشرية، يُقصد بأهل الذكر، المعصومون (ع). وهم النبي محمد صلى الله عليه وآله، والسيدة الزهراء سلام الله عليها، والأئمة الإثني عشر (ع).
وهذا البيان والتفسير يستند إلى دليل من القرآن الكريم، وهو: آية {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، حيث يرى الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، أن “الذكر” في الآية هو القرآن الكريم، وأن “أهل الذكر” هم النبي وأهل بيته (ع). ومن هنا سوف نتطرق لذكر الأدلة التي تثبت ذلك من المصادر المعتبرة من مدرسة أهل البيت (ع)، فنقول:
أهل الذكر في القرآن الكريم
في القرآن الكريم جاء ذكر عبارة ( أهل الذكر ) في موردين:
الأول: قوله تعالى في سورة النحل: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[1]. أي: وما أرسلنا في السابقين قبلك -أيها الرسول- إلا رسلا من الرجال لا من الملائكة، نوحي إليهم، وإن كنتم -يا مشركي قريش- لا تصدقون بذلك فاسألوا أهل الكتب السابقة، يخبروكم أن الأنبياء كانوا بشرًا، إن كنتم لا تعلمون أنهم بشر. والآية عامة في كل مسألة من مسائل الدين، إذا لم يكن عند الإنسان علم منها أن يسأل من يعلمها من العلماء الراسخين في العلم.
الثاني: قوله تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾[2]. أي: وما أرسلنا قبلك – أيها الرسول – إلا رجالا من البشر نوحي إليهم، ولم نرسل ملائكة، فاسألوا – يا كفار «مكة» – أهل العلم بالكتب المنزلة السابقة، إن كنتم تجهلون ذلك. {وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ} يا رسول الله، إلى الأمم الماضية {إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} فالمرسلون من قبلك يمتازون عن بقيّة البشر بالوحي، بمعنى أنّ إرسال الأنبياء (عليهم السلام) فعل عاديّ، وليس خرقاً لقوانين الطبيعة، بل هو من سنن الله في المجتمع البشريّ {فَسْئَلُوا} أيّها المنكرون لنبوّة الرسول (ص) {أَهْلَ الذِّكْرِ} أي أهل العلم والمعرفة الذين يُوثق بهم ويُطمأنّ لهم {إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
ولكنْ، من الواضح عدم إمكان قصر معنى الآية الكريمة على مورد نزولها؛ إذ لو قُصرِت الآية على ذلك لماتت الآية بموت مَن نزلت بشأنه، فالعبرة بعموم لفظ الآية الكريمة لا خصوص سببه، وينبغي ملاحظة النصوص الخاصّة عن المعصومين (ع) في معنى الآية.
دلالة أهل الذكر في الرّوايات
وذكرت الرّوايات الكثيرة المروية عن أهل البيت (ع) أنّ «أهل الذكر» هم الأئمّة المعصومون (ع)، ومن هذه الرّوايات: روي عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في جوابه عن معنى الآية أنّه قال: «نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون»[3]. وعن الإمام الباقر (ع) في تفسير الآية أنّه قال: «الذكر القرآن وآل الرّسول أهل الذكر وهم المسؤولون»[4]. وفي روايات أخرى: أنّ «الذكر» هو النّبي (ص)، و «أهل الذكر» هم أهل البيت (ع)[5].
وثمّة روايات متعددة أخرى تحمل نفس هذا المعنى. وفي تفاسير وكتب أهل السنّة روايات تحمل نفس المعنى أيضا، منها: ما في التّفسير الاثنى عشري – والمقصود من تفسير الاثنى عشر، هو تفاسير كل من: أبي يوسف، ابن حجر، مقاتل بن سليمان، وكيع بن جراح، يوسف بن موسى، قتادة، حرب الطائي، السدي، مجاهد، مقاتل بن حيان، أبي صالح ومحمد بن موسى الشيرازي. – : روي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية، قال: هو محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (ع) هم أهل الذكر والعقل والبيان[6].
فهذه ليست هي المرّة الأولى في تفسير الرّوايات للآيات القرآنية ببيان أحد مصاديقها دون أن تقيد مفهوم الآية المطلق. وكما قلنا ف «الذكر» يعني كل أنواع العلم والمعرفة والاطلاع، و «أهل الذكر» هم العلماء والعارفون في مختلف المجالات، وباعتبار أن القرآن نموذج كامل وبارز للعلم والمعرفة أطلق عليه اسم «الذكر»، وكذلك شخص النّبي (ص) فهو مصداق واضح «للذكر» والأئمّة المعصومون باعتبارهم أهل بيت النّبوة ووارثو علمه (ص) فهم (ع) أفضل مصداق ل «أهل الذكر».
وهذا لا ينافي عمومية مفهوم الآية، ولا ينافي مورد نزولها أيضا (علماء أهل الكتاب) ولهذا اتجه علماؤنا في الفقه والأصول عند بحثهم موضوع الاجتهاد والتقليد إلى ضرورة ووجوب أتباع العلماء لمن ليست له القدرة على استنباط الأحكام الشرعية، ويستدلون بهذه الآية على صحة منحاهم. وقد يتساءل فيما ورد عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) في كتاب عيون أخبار الرضا (ع): أنّ علماء في مجلس المأمون قالوا في تفسير الآية: إنما عني بذلك اليهود والنصارى، فقال الرضا عليه السّلام: «سبحان اللّه وهل يجوز ذلك، إذا يدعونا إلى دينهم ويقولون: إنّه أفضل من الإسلام …» ثمّ قال: «الذكر رسول اللّه ونحن أهله»[7].
وتتخلص الإجابة بقولنا: إنّ الإمام قال ذلك لمن كان يعتقد أن تفسير الآية منحصر بمعنى الرجوع إلى علماء أهل الكتاب في كل عصر وزمان، وبدون شك أنّه خلاف الواقع، فليس المقصود بالرجوع إليهم أهل البيت (ع) على مر العصور والأيّام، بل لكل مقام مقال، ففي عصر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) لا بدّ من الرجوع إليه على أساس إنّه مرجع علماء الإسلام ورأسهم.
وبعبارة أخرى: إذا كانت وظيفة المشركين في صدر الإسلام لدى سؤالهم عن الأنبياء السابقين، وهل أنّهم من جنس البشر هي الرجوع إلى علماء أهل الكتاب لا إلى النّبي (ص)، فهذا لا يعني أن على جميع الناس في أي عصر ومصر أن يرجعوا إليهم، بل يجب الرجوع إلى علماء كل زمان. وعلى أية حال .. فالآية مبيّنة لأصل إسلامي يتعيّن الأخذ به في كل مجالات الحياة المادية والمعنوية، وتؤكّد على المسلمين ضرورة السؤال فيما لا يعلمونه ممن يعلمه، وأن لا يورطوا أنفسهم فيما لا يعلمون.
وعلى هذا فإنّ «مسألة التخصص» لم يقررها القرآن الكريم ويحصرها في المسائل الدينية بل هي شاملة لكل المواضيع والعلوم المختلفة، ويجب أن يكون من بين المسلمين علماء في كافة التخصصات للرجوع إليهم. وينبغي التنويه هنا إلى ضرورة الرجوع إلى المتخصص الثابت علمه وتمكنه في اختصاصه وهو ما يتمثل في أهل البيت (ع)، بالإضافة إلى توفر عنصر الإخلاص في عمله فهل يصح أن نراجع طبيبا متخصصا- على سبيل المثال- غير مخلص في علمه؟! ولهذا وضع شرط العدالة في مسائل التقليد إلى جانب الاجتهاد والأعلمية، أي لا بدّ لمرجع التقليد من أن يكون تقيا ورعا بالإضافة إلى علميته في المسائل الإسلامية[8].
أهل الذكر في أقوال النبي محمد وآل بيته (ع)
قال العلامة المجلسي في بحار الأنوار: المراد بأهل الذكر أهل العلم، وقيل: أهل الكتاب، وستعلم من الأخبار المستفيضة أنهم الأئمة عليهم السلام لوجهين:
الأول أنهم أهل علم القرآن لقوله تعالى بعد تلك الآية في سورة النحل: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم».
والثاني: أنهم أهل الرسول، وقد سماه الله ذكرا في قوله: “ذكرا رسولا” وهذا مما روته العامة أيضا روى الشهرستاني في تفسيره المسمى بمفاتيح الاسرار عن جعفر بن محمد عليهما السلام إن رجلا سأله فقال: من عندنا يقولون: قوله تعالى: “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون“: ان الذكر هو التوراة، و أهل الذكر هم علماء اليهود، فقال عليه السلام: والله إذا يدعوننا إلى دينهم، بل نحن والله أهل الذكر الذين أمر الله تعالى برد المسألة إلينا، قال: وكذا نقل عن علي عليه السلام أنه قال: نحن أهل الذكر[9].
1-عن الإمام الصادق (ع) في حديث طويل : قال جل ذكره: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» قال: الكتاب هو الذكر، وأهله آل محمد (ع)، أمر الله عز وجل بسؤالهم، ولم يؤمروا بسؤال الجهال[10].
وهذه الرواية واضحة الدلالة على أن المراد بأهل الذكر في روايات أهل البيت (ع) هم المعصومين (ع) أي: آل محمد (ص).
2-وعنه (ع) – في قول الله تعالى: «وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون» الذكر القرآن، ونحن قومه، ونحن المسؤولون[11].
كذلك هذه الرواية أيضا تثبت بأن الذين يجب السؤال منهم والرجوع إليهم هم أهل البيت وهم المقصودون بأهل الذكر في روايات أهل البيت (ع).
3- وعن الإمام الصادق (ع) في رسالة إلى أصحابه : أيتها العصابة المرحومة المفلحة، إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير، واعلموا أنه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق الله في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن، وجعل فيه تبيان كل شئ، وجعل للقرآن ولتعلم القرآن أهلا، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه، وخصهم به، ووضعه عندهم، كرامة من الله أكرمهم بها، وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذه الأمة بسؤالهم[12].
وكذلك هذه الرواية الشريفة التي يوصي الإمام الصادق (ع) أصحابه فيها، يشير إلى ما بيناه في هذا الصدد، من أن المراد بأهل الذكر هو أهل البيت (ع).
النتيجة:
هذا ولنا عشرات الآيات ومئات الروايات في هذا المجال من أهل البيت (ع)، إنّما نصفح عنها طلباً للاختصار، ونستنتج منها: إنّه أمرنا بطلب العلم النافع، والعلم خزائن، ومفتاحها السؤال، وإنّما نسأل من أهل الذكر، وبناءً على هذه الروايات، يعتبر الشيعة أن أهل الذكر هم أهل البيت (ع)، وأنهم المرجع في فهم الدين ومعرفة أحكامه، وأنهم مصادر العلم والمعرفة. وفي عصرنا هذا هم: علماء الآخرة، علماء الخير والصلاح، العاملون المخلصون الزاهدون الخاشعون المتواضعون، اُولئك الذين قذف الله العلم في قلوبهم، وناجاهم في سرّهم، الذين صانوا أنفسهم، وحافظوا على دينهم، وأطاعوا مولاهم، وخالفوا أهواءهم، وخافوا مقام ربّهم، رواة الأحاديث، فقهاء أهل البيت (ع) وآل محمد النبي (ص).
الهوامش
[1] – سورة النحل: 43.
[2] – سورة الأنبياء: 7.
[3] – الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص55.
[4] – الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص56.
[5] – الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص57.
[6] – المرعشي، إحقاق الحق، ج 3، ص 428.
[7] – الحويزي، نور الثقلين، ج3، ص57.
[8] – الشيرازي، تفسير الأمثل، ج8، ص198.
[9] – المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج23، ص172.
[10] – الكليني، الكافي، ج1، ص295.
[11] – الكليني، الكافي، ج1، ص211.
[12] – المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج23، ص174.
المصادر والمراجع:
- القرآن الكريم
- الحويزي، عبد علي بن جمعة، نور الثقلين، الناشر: اسماعيليان، قم، 1415ه.
- الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، قم، 1421ه.
- الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1388 هـ.
- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403 هـ.
- المرعشي، القاضي، نور الله، إحقاق الحق وإزهاق الباطل، الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم، 1409ه.