خطبة الغدير دعوة للتمسك بأهل البيت كسبيل للهدى ومنع الفتن

خطبة الغدير دعوة للتمسك بأهل البيت كسبيل للهدى ومنع الفتن

کپی کردن لینک

تضمنت خطبة الغدير الإعلان عن انفراد أهل البيت (ع) عن سائر الأمة في الهدى، مما يعني اصطفاءهم في الإسلام، وفرض هذا المبدأ اعتقادا واتباعا، وقد تجلى هذا الأمر في فقرة الثقلين التي وردت في الخطبة، حيث جاء فيها:

فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين، فنادى مناد: وما الثقلان يا رسول الله؟ قال:

کتاب الله طرف بيد الله عز وجل وطرف بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلوا، والآخر عترتي، وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، وسألت ذلك لهما ربي، فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تتأخروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم.

وفي الواقع أنه يمكن القول أن دلالة هذه الفقرة على مكانة أهل البيت (ع) دلالة واضحة وبيّنة جداً، فالتمسك بأهل البيت (ع) للأمن من الضلالة يعني أنهم قد نُصبوا أعلاماً للهداية في هذه الأمة، فهم قادة الأمة إلى الحق والهدى والرشد في أمور دينها وفي جميع شؤون حياتها، وإن المرء ليعجب من إهمال هذه الفقرة أو التوقف في دلالتها ومن تصحيح السيرة الجارية على غير مقتضاها من قبل أهل الحل والعقد بعد النبي محمد المصطفى (ص).

لكن الحاجب الأساس عن فهم دلالتها هذه في الحقيقة هو جريان هذه السيرة نفسها التي لم تجعل أهل البيت (ع) محوراً للهداية، واستبدلت بهم آخرین ممن تصدوا للخلافة أو كانوا من أنصارها ومواليها، فاستوجب ذلك التنكر لهذا المدلول رغم وضوحه جداً.

ولتوضيح ثبوت هذه الفقرة ودلالتها نذكر هذه النقاط:

1ـ التأكيد في الخطبة على التمسك بأهل البيت

إن خطبة الغدير اشتملت على مؤكدات بالغة وأكيدة للغاية على التمسك بأهل البيت (ع) من بعده (ص)، ومن جملة تلك الأدوات والأساليب المؤكدة في هذه الخطبة:

1ـ قرن العترة بالقرآن الكريم مع موقعه العظيم في الدين، وذلك أن التمسك بالقرآن لم يذكر في الخطبة لذاته، فإن الخطبة كما يرشد سياقها معقودة لبيان استخلاف أهل البيت (ع) في الأمة كهداة واستخلاف الإمام علي (ع) كمولى للأمة.

وينبه على ذلك سياق الخطبة فإنه يرشد إلى أنها مسوقة لذلك، وساعد على ذلك وضوح مبدأ وجوب التمسك بالقرآن للأمن من الضلالة، فلم يكن مثله غرضاً لعقد الاجتماع بنحو مفاجئ في الطريق، وعليه فلم يكن ذكر القرآن وضمه إلى العترة إلا لبيان أن التمسك بالقرآن وحده لن يغني في ضمان الهدى والأمن من الضلالة في الدين، بل الضامن لذلك التمسك بالقرآن وبالعترة معاً.

2ـ إنه (ص) أكد تأكيداً بالغاً على عدم افتراق الكتاب والعترة أبداً حتى يوم القيامة وورود الأمة عليه الحوض ليسقيهم من معينه، وقد أسند ذلك إلى الله تعالى كي لا يتوهم متوهم أن ذلك انحياز منه لعترته فقال: وإن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض، وسألت ذلك لهما ربي.

وقوله (ص): وسألت ذلك لهما ربي تأكيد على أنه (ص) يتمسك بموقفه هذا حتى يوم القيامة، فلا يقبل الإعراض عن أهل بيته (ع) بتاتاً، ولن يشفع (ص) لأحد في هذا الشأن أبداً؛ لأنه هو الذي سأل ذلك ربه من قبل.

3ـ إنه (ص) فصّل أنحاء الانفصال عن العترة والذي يقع في مقابل التمسك بهم، وذلك اهتماماً منه بالموضوع، وهما اثنان:

الأول: التقدم عليهم

ومعنى ذلك أن تسبق الأمة أهل البيت (ع) في اتخاذ موقف أو اتجاه في شيء من الأحوال، بل لا بد أن يكونوا تابعين لأهل البيت (ع) في الأمور كلها، وفي حادثة السقيفة مثال واضح من التقدم على أهل البيت (ع) في القرار.

والتقدم تعبير قرآني في أدب التعامل مع الله تعالى ونبيه (ص) حيث قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[1].

الثاني: التقصير عنهم

ومعناه أن يتركوا الأخذ بقول العترة فيما علموه.

4ـ إنه (ص) عبّر في شأن الكتاب والعترة بالتمسك بهما، دون طاعتهما أو ولائهما، والتمسك هو أخذ الشيء بقوة فهو أقوى تعبير لغوي عن التعلق بشيء ما، ويدل على الحذر الأكيد من الإفلات منه، ومثله الاعتصام بهما في لفظ آخر للحديث.

5ـ إنه (ص) شبه أهل البيت (ع) والقرآن الكريم بالأمانة التي يودعها عند وفاته لدى الأمة والتي سوف يسأل (ص) عنها يوم القيامة، إذ يجب حفظ الأمانة وردها إلى صاحبها، حيث قال: فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين، وحفظ الأمانة في الكتاب والعترة إنما يكون بالتمسك بهما، وإلا كان ذلك تضييعا لهما.

فهذه بعض الأساليب المؤكدة التي استعملت في الخطبة للتعبير عن خطورة هذا الأمر والضرورة القصوى فيه وارتهان أمر دين المسلمين ودنياهم بذلك.

2ـ دلالة الخطبة على وقوع الفتن

إن خطبة الغدير تدلّ على أن وقوع الفتن التي أخبر بها النبي (ص) في الأمة من بعده – وقد وقعت فعلاً – كانت جراء عدم التمسك بأهل بيته.

بيان ذلك: أنه قد تواتر عن النبي (ص) إخباره عن مخافته على أمته الفتن التي تقع بينهم، وأخبر عن أن أصحابه سوف يرتدون القهقرى إلا مثل همل النعم، بل تضمنت الروايات الواردة عنه – فضلاً عن خوفه عليهم من الفتن – التنبؤ بوقوعها، كما أنه أخبر عن فتن بخصوصها بوجوه مختلفة، أغلبها يتعلق بما وقع في زمن الإمام (ع) مثل قوله (ص) المشهور: ويح عمار تقتله الفئة الباغية[2].

وقوله (ص) لنسائه: أيتكن تنبحها كلاب الحواب[3]، وقوله (ص) إشارة إلى ذي الثدية ـ وكان من الخوارج على الإمام (ع) في النهروان ـ: إنه يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية[4].

والفتنة تتقوم بعنصرين:

أحدهما: سبب، وهو ضلالة بعض الناس عن الحق، وقبولهم بالباطل.

والآخر: مسبّب، وهو هلاك الناس في أثر الاختلاف في الرأي وتمسك كل فريق برأيه.

وخطبة الغدير في فقرة حديث الثقلين ذكرت كلا من الضلالة والهلاك، فهي تدل على أن الضلالة التي كان يخافها النبي (ص) على الأمة والهلاك الذي كان يخشاه ينشأان عن عدم التمسك بأهل بيته (ع)، لأن الأمة لو تمسكت بأهل البيت (ع) لم تقع في الضلالة والهلاك.

وهذا المعنى يرشد إلى تحليل أساس الفتن التي حدثت بعد النبي (ص) في المجتمع الإسلامي لعدم التمسك بأهل البيت (ع).

وقد ابتدأت هذه الفتن بشكل واضح من أواخر زمان عثمان عندما ثار عليه الناس بسبب إيثاره قومه (بني أمية) بالأموال والمناصب وتقريبهم ليكونوا خاصته وأعوانه ومستشاريه حتى وإن كانوا فساقاً ومطرودين من قبل النبي (ص)، فأدى ذلك كله إلى مقتله.

ثم تلت ذلك الفتن الثلاث التي وقعت في عهد الإمام علي بن أبي طالب (ع) وقتل فيها الآلاف من المسلمين، ثم سائر الفتن المتعاقبة بعد ذلك التي استمرت بشكل دائم تقريباً في زمان بني أمية ثم في زمان بني العباس وما بعده كما جاء في التاريخ.

فالمنشأ لهذه الفتن وفق حديث النبي (ص) هذا هو عدم التمسك بأهل البيت (ع) من بعده، فلو أن الأمة تمسكت بأهل البيت (ص) بعد وفاته (ص) لضمنت الهدى ووقيت الفتنة وسلمت من الضلالة، وعليه فحيث إنها وقعت في الفتنة دل ذلك على أنها لم تتمسك بأهل البيت (ع) بعد النبي (ص).

وهذا التحليل هو صادق ومشهود بالفعل بأدنى نظر في التاريخ، فلو أن الأمة تمسكت بأهل البيت (ع) لبايعت الإمام علياً (ع) الذي يتفق الجميع على أنه صرح بأنه كان أولى بهذا الأمر وبخطأ ما وقع في السقيفة، ولم يبايع أبا بكر لعدة أشهر، ثم بايع خوفاً على الإسلام، ولو بايعوا الإمام (ع) لعدل بين الناس كما فعل أيام خلافته وفعله الرسول (ص) في أيامه، فلم ينتفض الناس ضد الاستئثار بالأموال والمناصب كما وقع في آخر زمان عثمان.

ولا قتل الخليفة حتى تقع الفتنة بين مواليه وبين الثائرين عليه، ولم يكن حينئذ محل لفتنة طلحة والزبير وعائشة الذين رفعوا راية مظلومية الخليفة المقتول ولا فتنة معاوية – الذي ولّاه وأطلق يده عمر ثم عثمان – رافعاً شعار المطالبة بقتلة عثمان، لأن الإمام (ع) لم يكن يولّي معاوية بتاتاً، ولم تقع فتنة الخوارج في أثر ما نشؤوا عليه من الجهل مع العبادة في زمان الخلفاء.

فكفّروا الإمام (ع) من جهة موافقته – بإكراههم إياه – على التحكيم في حرب صفين، ولا سقط الإمام (ع) شهيداً بسيف الخوارج، ولا تولى الأمر معاوية من بعده حتى يقتل شيعة الإمام (ع) ويشرّع سبّه على المنابر، ثم يستخلف يزيد المستهتر بفسقه، والذي لم يستسغ الإمام الحسين (ع) مبايعته بحال فأدى إلى شهادته (ع) في فاجعة أليمة مهولة، فهذه أصول الفتن التي وقعت في المجتمع الإسلامي، وقد ولدت الفتن التي بعدها بطبيعة آثارها.

وكل ذلك لم يكن يقع لو تمسك الناس بأهل بيت النبي (ص) بعد وفاته، بأن استدعى الأنصار في اجتماعهم في السقيفة الإمام علياً (ع)، وسألوه ـ مثلاً ـ عن الرأي والموقف بعد هذه الحادثة الأليمة وغياب النبي (ص) عن الأمة، بدلاً من أن يسعوا لعقد الأمر لأحدهم من غير إطلاع الإمام (ع)، ولو أخبر المهاجرون الثلاثة (أبو بكر وعمر وأبو عبيدة) الذين علموا باجتماع السقيفة الإمام (ع) بالأمر، وقالوا للأنصار: إننا لن نبت في هذا الأمر الذي يؤسس لما بعده.

ويكون عرضة لإيجاد الفتنة إلا بالرجوع إلى أهل بيت النبي (ع) والأخذ بقولهم كما أمر به النبي (ص) في خطبة الغدير، ولو فعلوا ذلك لسقطت حجة الأنصار، ولم يستطيعوا أن يبرموا الأمر من دون قوم النبي (ص) وأهل بيته (ع)، وعند رجوعهم إلى الإمام (ع) فإنه يرشدهم إلى أنه الأولى بالأمر فيطيعه الجميع.

فيقوم (ع) فيهم بالعدل والتعليم والتزكية بسيرته المعروفة وخطبه المأثورة، ولعمّر (ع) فيهم ما شاء الله، ثم ولي بعده ذريته الذين هم على مثاله ومثال رسول الله (ص) في الشرف والعلم والأخلاق والنبل والزهد والعبادة.

إذاً ما تضمّنته فقرة الثقلين – من خطبة الغدير من أن الأمة لو تمسكت بأهل البيت (ع) وقيت من الضلالة والهلاك – يطابق المشهود.

وبذلك تدل خطبة الغدير دلالة ذكية على عدم مشروعية ما جرى عليه الأمر بعد النبي (ص) من الإعراض عن أهل البيت (ع).

3ـ عدم تمسك الأمة بعد النبي بأهل البيت

إن الأمة لم تتمسك بأهل البيت (ع) بعد النبي (ص) وفق ما وجّه إليه (ص) في خطبة الغدير التي صدرت منه قبيل وفاته بشهرين وأيام، كما بيّنا ذلك بمناسبة النقطة السابقة.

ومزيد توضيح ذلك: أن الذي يدل على ذلك وجهان:

الوجه الأول

– دليل غير مباشر – من باب استكشاف المؤثر من أثره مثل استكشاف النار من رؤية الدخان، وذلك أن هذا الحديث اشتمل على أن الأمة إن تمسكت بأهل البيت (ع) لن تضل أبداً ولم تتعرض للهلاك.

وحيث إننا لاحظنا أن الأمة تعرضت للضلال والهلاك منذ أواخر زمان عثمان – بعد عقدين من خطبة الغدير ووفاة النبي (ص) – دل ذلك على أنها لم تتمسك بأهل البيت (ع) بعد النبي (ص)، وإلا وقيت تلك الفتن.

وقد يقول قائل: إن وقوع الفتنة أواخر زمان عثمان يدل على أنها لم تتمسك آنذاك بأهل البيت (ع) فوقعت في الفتنة، ولا يدل على عدم وقوع التمسك بأهل البيت (ع) منذ وفاة النبي (ص).

والجواب: أن الفتنة في أواخر زمان عثمان كانت نتيجة للأمور من قبل، ولم يكن معنى للتمسك بأهل البيت (ع) حين ذاك بعد أن لم يكونوا أصحاب قرار في المشهد، فقد انتهى ترتيب الأمور بعد النبي (ص) إلى تولي عثمان ـ الذي كان من بني أمية وهم أهل دهاء ومكر وسياسة وطموح بالغ للجاه ـ، وقد كان عثمان عند اعتراض الناس عليه بإيثاره عشيرته بالأموال والمناصب هو صاحب القرار في الأمة.

وكان الثوار يبلغون رسائلهم إليه من خلال الإمام أمير المؤمنين (ع)، فيبلغها الإمام (ع) لعثمان فلا يستجيب عثمان لمطالب الثوار، فلو كان هناك التزام من الأمة بوظيفتها من التمسك بأهل البيت (ع) لكان ذلك منذ بداية الأمر عند وفاة النبي (ص)، ولا معنى لتوصيتها – أي الأمة – بالتمسك بهم بعد أن تأسست الأمور على اتجاه مختلف وأصبحت القيادة الشرعية – وفق موازين الاتجاه السائد – بيد شخص آخر وفئة أخرى، فلا معنى التوصية الأمة إذ ذاك بالتمسك بأهل البيت (ع).

الوجه الثاني

أن من الظاهر أنه لم يكن هناك تمسك بعد النبي (ص) بأهل البيت (ع)، إذ كانت أهم قضية وقعت بعد النبي (ص) – والذي كان تأسيساً لمنهج الحكم في المجتمع الإسلامي إلى الأبد – هو مسألة تعيين الخليفة بعد النبي (ص)، ومن الواضح باتفاق جميع المؤرخين والمحدثين أن الإمام (ع) لم يكن مطلعاً على مجريات تعيين الخليفة في سقيفة الأنصار.

بل كان الأنصار قد اجتمعوا اجتماعاً داخلياً سرياً لتعيين الخليفة منهم، فاطلع المهاجرون الثلاثة (أبو بكر وعمر وأبو عبيدة)، فسارعوا إلى الاجتماع من غير إخبار الإمام علي (ع) وبني هاشم بتاتاً، وانتزعوا الخلافة على أساس أولوية قوم النبي (ص)، حيث بادر عمر إلى الصفق على يد أبي بكر على أنه الخليفة إلى آخر ما وقع فيها.

كما أن من الواضح بالاتفاق أيضاً أن الإمام علياً (ع) امتنع من مبايعة أبي بكر لمدة ربما بلغت أشهراً، رغم الضغوط عليه، وقال إنه أولى بالأمر، كما روى ذلك البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين[5]، وهو دليل في العرف العربي والعام على أنه لم يكن يقر بخلافة أبي بكر، ثم بايع لاحقاً بعد وفاة زوجته فاطمة (ع) خوفاً على الإسلام.

فأي تمسك في ذلك بأهل البيت (ع)؟!

ثم أوصى أبو بكر إلى عمر مستبداً في ذلك من غير استشارة للإمام (ع) ولا غيره، ويتضح عدم قبول الإمام (ع) لهذا التعيين أيضاً من موقفه من بيعة أبي بكر، وهكذا عيّن عمر ستة الشورى للأمر من بعده دون مشورة للإمام (ع) وخطط فيها لرجحان كفة عثمان، فأي تمسك وقع بأهل البيت (ع)؟

على أن الإمام (ع) كان معترضاً على سنن الخلفاء في العطاء والخمس وأمور أخرى كثيرة كما يتضح بملاحظة سيرته ومواقفه وما أثر عنه في التاريخ.

كما أن الخليفتين منعا فاطمة (س) ـ وهي من أهل البيت (ع) بالاتفاق ـ ميراثها من الرسول (ص)، وردّا قولها بأن النبي (ص) نحلها فدكا[6]، كما ردا شهادة الإمام (ع) في ذلك حتى ماتت وهي غاضبة عليهما، وأمرت أن لا يُمكّنا من الصلاة على جنازتها وأن يخفى قبرها، ولم يزل مجهولاً شاهداً على مباغضتها.

نعم، ربما استشار الخلفاء الإمام (ع) في بعض الأمور العسكرية أو غيرها من جهة ما علموه من خبرته وليس على أساس اعتقادي في شأن أهل البيت (ع)، فأشار الإمام (ع) عليهم في ذلك ناصحاً لله سبحانه، ووقاهم بذلك من الضلال فيما استشير فيه خاصةً، وليس في ذلك ما يصدق عليه التمسك بأهل البيت (ع) بعد مخالفته في القضية الأم التي هي نظام الخلافة بعد الرسول (ع)، وفي قضايا كبرى قد سُن فيها ما يخالف العدل والدين، وألغيت فيها نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

إذاً من الواضح جداً عدم وقوع التمسك بأهل البيت (ع) بعد النبي (ص) بتاتاً.

وقد يقول قائل: إن هذا المعنى لخطبة الغدير يجعلها معارضة لما رواه أهل السنة من أحاديث كثيرة في فضل أهل الحل والعقد من الصحابة من الخلفاء وغيرهم، فكيف تحصل الثقة بها؟

والجواب: أن مستوى ثبوت خطبة الغدير التي اشتملت على حديث الثقلين وحديث الولاء لهو فوق مستوى ثبوت عشرات بل مئات الأحاديث التي حكيت عن آحاد الصحابة في تزكية بعضهم، وذلك لأن واقعة الغدير هي حدث اجتماعي تاريخي كبير حضره عشرات الآلاف من الناس، ونقلها العديد من الصحابة في محضر الإمام علي (ع) بالرحبة وفيما بعد ذلك.

فهي من جملة الأحداث الكبار في السيرة النبوية على حد الغزوات المهمة مثل غزوة بدر وأحد وغيرهما، ومن ثم فهي بطبيعتها عصية على التزوير في أصلها وما ألقي فيها بشأن مكانة أهل البيت (ع) والولاء للإمام (ع)، وهذا ظاهر بالتأمل في مجموع نصوصها مهما تحذر بعضهم من ذكرها أو سعى إلى تحجيمها.

فلا يقاس مستوى ثبوت خطبة الغدير بأحاديث وردت عن آحاد من الصحابة أو التابعين أو من بعدهم رويت فيها أقوال عن النبي (ص) في شأن بعض الصحابة ادعي أنه (ص) قد خاطب بها هذا الصحابي أو ذاك، أو تفرد الراوي بزعم أنه قاله بين جماعة من أصحابه، فإن كل هذه الأحاديث يمكن أن تكون موضوعة من قبل الصحابة أو التابعين.

لأن المجتمع أصبح منذ زمان عثمان مفتونا استحل فيه الصحابة ومن تبعهم حرمات بعضهم بعضاً من دماء وأموال فما بالك بوضع الحديث، فلا يؤمن على هذه الأحاديث بتاتاً أن تكون وليدة الفتن واتجاهات أهلها، فلا يقاس وزنها، بل وزن العشرات والمئات منها بمثل حادثة الغدير عند التأمل.

فالنبي (ص) بتدبيره لهذه الحادثة نظر إلى آفاق المستقبل والتزوير المتوقع للتاريخ من بعده فألقى مكانة أهل البيت (ع) والولاء للإمام (ع) في مجتمع يعد حضوره بالآلاف استيثاقاً له ومنعاً عن تزويره أو تزوير ما يعارضه.

ولقد لاحظت بسبر السيرة النبوية وسيرة أهل البيت (ع) في مواقفه (ص) وكلماته وكذلك مواقف أهل البيت (ع) دائماً النظر إلى صياغة الأحداث والأقوال على وجه يكون عصياً على الإنكار والمعارضة.

كما في موقف فاطمة (ص) من الشيخين، والذي يسعى بعض المسلمين من مدرسة الخلافة إلى إنكار ثباتها عليه، وإثبات رضاها عن الشيخين نفياً للصدام بين أهل الحل والعقد من الصحابة وبين أهل البيت (ع) لما ثبت من أنها سيدة نساء العالمين، لكن لم يكن لهذا الإنكار قيمة.

لأنها (س) خلدت موقفها بالوصية بدفنها سراً وإخفاء قبرها وعدم صلاتهما عليها، فكان ذلك معلماً تاريخياً لا يقبل الترقيع والتزوير، ونظير ذلك استشهاد الإمام (ع) في اجتماع أهل الكوفة بالرحبة وفيهم وجوه من الأنصار ورجال من المهاجرين وقد حضره المئات أو الآلاف حيث استشهد بحديث الغدير، فكان ذلك كقنبلة تنفجر في الكوفة بعد طول كتمان لهذه الواقعة في عصر الخلفاء، فكان من المتعذر محو هذا الحدث ومسح آثاره في المجتمع الكوفي، ولا يسع هذا المقام توضيح لذلك.

الاستنتاج

أن خطبة الغدير تمثل نقطة محورية في التأكيد على أهمية التمسك بأهل البيت (ع) كضمانة للهدى ودرع ضد الفتن، ويتضح من الخطبة أن النبي محمد (ص) حذر من الفتن التي ستحدث في الأمة نتيجة الابتعاد عن أهل بيته، مشدداً على عدم انفصال القرآن عن العترة، وأن الأمة لم تتمسك بأهل البيت بعد وفاة النبي (ص) مما أدى إلى الفتن والصراعات السياسية، بدءا من حادثة السقيفة وما تلاها من أحداث تاريخية، كما أن التمسك بالعترة يجب أن يكون أساساً لقيادة الأمة، وأن عدم الالتزام بذلك كان سبباً في الضلال والهلاك.

الهوامش

[1] الحجرات، 1.

[2] البخاري، صحيح البخاري، ج1، ص115.

[3] ابن حنبل، مسند أحمد، ج6، ص52.

[4] البخاري، صحيح البخاري، ج4، 179.

[5] لاحظ: البخاري، صحيح البخاري، ج5، ص82.

[6] لاحظ: السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص177.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ ابن حنبل، أحمد، مسند أحمد، بيروت، مؤسّسة الرسالة، الطبعة الأُولى، 1416 ه‍.

3ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه‍.

4ـ السيوطي، عبد الرحمن، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت، دار الفكر، بلا تاريخ.

مصدر المقالة (مع تصرف)

السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 ه‍، بلا تاريخ، ص252 ـ ص265.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *