قصّة عشق زليخا مع يوسف الصديق (ع) من أحسن القصص

قصّة عشق زليخا مع يوسف الصديق (ع) من أحسن القصص

کپی کردن لینک

إن عشق زليخا الذي ظهر في صفحات التاريخ، يظل من أحسن القصص التي تروى عبر الزمن، ليعلمنا كيف يمكن للعشق الإنساني أن يتحوّل إلي العشق الإلهي الحقيقي. لذلك فإن الحديث عن قصة عشق زليخا مع يوسف (ع) هو من أحسن القصص القرآنية التي لايسئم الإنسان من قرائتها. فعشق زليخا يعلمنا كيف يمكن للإنسان المؤمن أن يجاهد نفسه الأمّارة كي لا تهلكه، و كيف يمكن له أن يستجيب نداء النفس اللوّامة لكي ينجى.

بين عشق الإنسان و عشق الله تعالى

لم يأسر جمال يوسف الملكوتي عزيز مصر فحسب، بل أسر قلب امرأة العزيز كذلك وأصبح متيّما بجماله!. وامتدّت مخالب العشق الى أعماق قلبها، وبمرور الزمن كان هذا العشق يتجذّر يوما بعد يوم ويزداد اشتعالا. لكنّ يوسف هذا الشابّ الطاهر التقي، لم يفكّر بغير اللّه، ولم يتعلّق قلبه بغير عشق اللّه سبحانه.

وهناك أمور أخرى زادت من عشق امرأة العزيز ليوسف، فمن جهة لم تُرزَق الولد، ومن جهة أخرى انغمارها في حياة مترفة مفعمة بالبذخ، ومن جهة ثالثة عدم ابتلائها بأيّ نوع من البلاء كما هي حال المتنعّمين، وعدم الرقابة الشديدة على هذا القصر من قبل العزيز من جهة رابعة، كلّ ذلك ترك امرأة العزيز- الفارغة من الإيمان و التقوى- تهوي في وساوسها الشيطانية إلى الحضيض، بحيث أفضت ليوسف أخيرا عمّا في قلبها وراودته عن نفسه. واتّبعت جميع الأساليب والطرق للوصول إلى هدفها، وسعت لكي تلقي في قلبه أثرا من هواها وترغيبها وطلبها.[1]

بداية عشق زليخا الجنوني: {وَقٰالَ اَلَّذِي اِشْتَرٰاهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ}.‌[2]، و اسمها: راعيل أو زليخا {أَكْرِمِي مَثْوٰاهُ عَسىٰ أَنْ يَنْفَعَنٰا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}. أي نتبناه و كان عقيما، و تفرس الرشد فيه، و لذلك قيل أفرس الناس ثلاثة: عزيز مصر، وابنة شعيب التي قالت: يا أبت استأجره، و أبو بكر لما استخلف عمر، و الحق أنّ الثالث رسول اللّه (ص) لمّا قال: “أنا مدينة العلم وعليّ بابها“.

عشق زلیخا الانحرافي جرّها إلی تغليق الأبواب: {وَرٰاوَدَتْهُ اَلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهٰا عَنْ نَفْسِهِ‌}، أي طلبت منه امرأة العزيز أن يواقعها {وَغَلَّقَتِ اَلْأَبْوٰابَ‌}، عليهما بابا بعد باب، و كانت سبعة أبواب {وَقٰالَتْ هَيْتَ لَكَ}‌، أي أقبل و بادر: تهيأت لك {قٰالَ مَعٰاذَ اَللّٰهِ إِنَّهُ رَبِّي}، أي أعوذ باللّه من ذلك أنّه خالقي فلا أعصيه، و قيل الضمير في أنه عائد إلى زوجها: أي أنّه سيدي {أَحْسَنَ مَثْوٰايَ‌}، فلا أخونه {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِهٰا} همّت بالمعصية، وهمّ بدفعها، وقيل: قصدت مخالطته وقصد مخالطتها {لَوْ لاٰ أَنْ رَأىٰ بُرْهٰانَ رَبِّهِ}‌، في قبح الزنا و سوء مغبته، و قيل: رأى جبرئيل، و قيل: تمثل له يعقوب عاضا على أنامله،  قيل: نودي يا يوسف أنت مكتوب في ديوان الأنبياء وتعمل عمل السفهاء؟! ردّ يوسف (ع) عشق زليخا الشيطاني لما رأى برهان ربه.

{وَاِسْتَبَقَا اَلْبٰابَ‌}، أي مسابقا إليه يوسف هاربا و امرأة العزيز طالبته فجذبته من ورائه، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيٰا سَيِّدَهٰا لَدَى اَلْبٰابِ‌}، أي صادفا زوجها جالسا عنده، فلمّا رأته {قٰالَتْ مٰا جَزٰاءُ مَنْ أَرٰادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاّٰ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ}،‌ تبرئة لساحتها عند زوجها، و تغرية على يوسف {قٰالَ هِيَ رٰاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} قال: ذلك دفعا لما عرضه له من السجن أو العذاب. المسابقة بين عشق زليخا الجنوني وعشق الله الخالق.

براءة يوسف (ع) من عشق زليخا الشيطاني: {وشَهِدَ شٰاهِدٌ مِنْ أَهْلِهٰا}، صبيّ في المهد، قيل: هو ابن عمها، و قيل: هو ابن خالها، فأنطقه اللّه لفصل القضاء، فقال: أيّها العزيز انظر إلى يوسف {إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلْكٰاذِبِينَ}‌، لأنّه يدلّ على أنّها قدّته بالدفع عن نفسها {وَ إِنْ كٰانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ اَلصّٰادِقِينَ‌}، لأنّه يدل على أنّها الطالبة له و هو الهارب عنها، {فَلَمّٰا رَأىٰ قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قٰالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ‌}، فانّ كيد النساء ألطف و أعلق بالقلب و الخطاب لها و لأمثالها و قال: ليوسف {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا}، أي اكتمه و لا تذكره لأحد. {وَ اِسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ‌} أيّتها المرأة، فكتمه يوسف و أذاعه اللّه في المصر.

خبرعشق زلیخا وصل إلی نسوة المدينة: {وَقٰالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ‌}، أي في مصر و كنّ خمسا زوجة الحاجب، و السّاقي، و الجنّاز، و السجّان، و صاحب الدواب، {اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُرٰاوِدُ فَتٰاهٰا عَنْ نَفْسِهِ‌}، ليفجر بها {فَلَمّٰا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ}‌، فدعتهن للضيافة، وهيّأت لهن طعاما و مجلسا، قيل: دعت أربعين امرأة فيهن الخمس، ثم أتتهن بأترج و فاكهة {وَآتَتْ كُلَّ وٰاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً}، لقطع الفواكه، و قالت ليوسف: {اُخْرُجْ عَلَيْهِنَّ‌}، فخرج و هو كالبدر في تمامه، و الغصن في قوامها {فَلَمّٰا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ‌} أي عظّمنه و هبن حسنه الفائق، و قدّه الرائق، و حضن له من شدة الشبق {وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ‌}، بأن جرحنها بالسكاكين! من فرط الدهشة {وَقُلْنَ حٰاشَ لِلّٰهِ مٰا هٰذٰا بَشَراً إِنْ هٰذٰا إِلاّٰ مَلَكٌ كَرِيمٌ‌}.

انتقل عشق زلیخا إلی کل نسوة المدينة: فإنّ الجمع بين الجمال الرائق، و الكمال الفائق، و العصمة البالغة، من خواص الملائكة {قٰالَتْ فَذٰلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ}‌، أي في الافتتان به، فقد أصابكنّ من رؤيته ذهاب العقل {وَلَقَدْ رٰاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ‌}، أي فامتنع طالبا للعصمة أقرت لهنّ‌؛ حين عرفت أنّهن يعذرنها كي يعاونها على إلانة عريكته، قيل: إنهنّ قلن له أطع مولاتك، و اقض حاجتها فإنّها المظلومة و أنت الظالم. قال علي ابن الحسين (ع): «إنّ النسّوة لمّا خرجن من عندها، أرسلت كل واحدة منهنّ إلى يوسف سرا من صاحبتها، تسأله الزيارة، فأبى عليهنّ‌».

السجن أحب علي يوسف من عشق زليخا ونسوة المدينة. ثم بدا لهم من بعد ما رأوا آلايات، أي ثم ظهر للعزيز و أهله بعد ما رأوا الشهادة الدالّة على براءة يوسف، كشهادة الصبيّ‌، و قدّ القميص، و قطع النساء أيديهنّ‌، واستعصامه عنهنّ ليسجننّه حتى حين، و ذلك إنّها خدعت زوجها و حملته على سجنه زمانا حتى تبصّر ما يكون منه، أو يحسب الناس أنّه المجرم فيسجنه. [3] {فَلَبِثَ فِي اَلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}. [4]

يوسف (ع) صامد على رفض عشق زليخا

{وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ}‏ لم يوافق يوسف على الخروج من السجن دون ان يثبت براءته، فالتفت الى رسول الملك و {قالَ ارْجِعْ إِلى‏ رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ‏} اذن، فيوسف لم يرغب ان يكون كأي مجرم، او على الأقل كأي متّهم يعيش مشمولا ب «عفو الملك» .. لقد كان يرغب اوّلا ان يحقّق في سبب حبسه، و ان تثبت براءته وطهارة ذيله، و يخرج من السجن مرفوع الراس، كما يثبت ضمنا تلوّث النظام الحكومي و ما يجري في قصر وزيره!.اجل لقد اهتمّ بكرامة شخصيته و شرفه قبل خروجه من السجن، و هذا هو نهج الأحرار.

الطريف هنا انّ يوسف في عبارته هذه أبدى سموا في شخصيته الى درجة انّه لم يكن مستعدّا لانّ يصرّح باسم امراة العزيز التي كانت السبب المباشر في اتّهامه و حبسه، بل اكتفى بالاشارة الى جماعة النسوة اللاتي لهنّ علاقة بهذا الموضوع فحسب. ثمّ يضيف يوسف: إذا لم يعلم سبب سجني شعب مصر و لا جهازه الحكومي و بأي سبب وصلت السجن، فاللّه مطّلع على ذلك‏ {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ‏}.[5]

عاد المبعوث من قبل الملك الى يوسف مرّة ثانية الى الملك، و أخبره بما طلبه يوسف مع ما كان من إبائه وعلوّ همّته، لذا عظم يوسف في نفس الملك و بادر مسرعا الى إحضار النسوة اللائي شاركن في الحادثة، والتفت اليهنّ‏ {قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}‏ يجب ان تقلن الحقّ .. هل ارتكب‏ يوسف خطيئة او ذنبا؟ فتيقّظ فجأة الوجدان النائم في نفوسهنّ، و أجبنه جميعا بكلام واحد- متّفق على طهارته و {قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ}.

نهاية عشق زليخا المجازي: امّا امراة العزيز التي كانت حاضرة ايضا، و كانت تصغي بدقّة الى حديث الملك و نسوة مصر، فلم تجد في نفسها القدرة على السكوت، و دون ان تسأل احسّت بأنّ الوقت قد حان لانّ تنزّه يوسف و ان تعوّض عن تبكيت وجدانها و حيائها و ذنبها بشهادتها القاطعة في حقّه، و خاصّة انّها رأت كرم يوسف المنقطع النظير من خلال رسالته الى الملك، إذ لم يعرّض فيها بالطعن في شخصيتها و كان كلامه عامّا و مغلقا تحت عنوان “نسوة مصر”.

عشق زليخا المجازي يجبرها من ذكر الحقيقية: فكأنّما حدث انفجار في داخلها فجأة و صرخت و {قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}‏. ثمّ واصلت امراة العزيز كلامها {ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ}‏ لانّي عرفت بعد هذه المدّة الطويلة و ما عندي من التجارب‏ {أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ}‏. في الحقيقة (بناء على انّ الجملة المتقدّمة لامراة العزيز كما يقتضيه ظاهر العبارة) فانّها و من اجل اعترافها الصريح بنزاهة يوسف وما اخطأته في حقّه، تقيم دليلين:

الاوّل: انّ وجدانها، و يحتمل بقايا علاقتها بيوسف، لا تسمح لها ان تستر الحقّ اكثر من هذا، و ان تخون هذا الشاب الطاهر في غيابه. الثّاني: انّ من مشاهدة الدروس المليئة بالعبر على مرور الزمن تجلّت لها هذه الحقيقة، و هي انّ اللّه يرعى الصالحين و لا يوفّق الخائنين في مرادهم ابدا. و بهذا بدأت الحجب تنقشع عن عينيها قليلا قليلا .. وتلمس حقيقة الحياة و لا سيّما في هزيمة عشقها الذي صنع غرورها و شخصيتها الخياليّة، و انفتحت‏ عيناها على الواقع اكثر، فلا عجب ان تعترف هذا الاعتراف الصريح. و تواصل امراة العزيز القول: {وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي‏} و بحفظه واعانته نبقى مصونين، و انا أرجو ان يغفر لي ربّي هذا الذنب‏ إ{إنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}[6].

قال بعض المفسّرين: انّ الآيتين الأخيرتين من كلام يوسف، و قالوا: انّهما في الحقيقة تعقيب لما قاله يوسف لرسول الملك و معنى الكلام يكون هكذا. «إذا قلت حقّقوا عن شأن النسوة اللائي قطّعن أيديهن، فمن اجل ان يعلم الملك او عزيز مصر الذي هو وزيره، انّي لم اخنه في غيابه و اللّه لا يهدي كيد الخائنين كما لا أبرئ نفسي لانّ النفس امّارة بالسوء الّا ما رحم ربّي انّ ربّي غفور رحيم».[7]

لا مجال لعشق زليخا عند المخلصين: إن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، و إن الله سبحانه يصرف كل سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصية و لا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهية. و يظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.[8]

الجهاد الأكبر هو جهاد النفس

بجهاد النفس قاوم يوسف (ع) عشق زليخا: نحن نعرف انّ أعظم الجهاد في الإسلام هو جهاد النفس، الذي عبّر عنه في حديث عن النّبي الأكرم (ص) ب «الجهاد الأكبر» اي هو جهاد أعظم من جهاد العدوّ الذي عبّر عنه بالجهاد الأصغر. وإذا لم يتوفّر في الإنسان الجهاد الأكبر بالمعنى الواقعي- أساسا- فلن ينتصر في جهاده على أعدائه. و في القرآن المجيد ترتسم صور شتّى في ميادين الجهاد، و تتجلّى فيها علاقة الأنبياء و اولياء اللّه الصالحين.

و قصّة يوسف و ما كان من عشق زليخا امراة العزيز الملتهب واحدة من هذه الصور، و بالرغم من انّ القرآن لم يوضّح جميع ما في القصّة من خفايا و زوايا، الّا انّه أجملها بصورة موجزة في جملة قصيرة هي‏ {وَ هَمَ‏ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى‏ بُرْهانَ رَبِّهِ‏} و بيّن شدّة هذا الطوفان. لقد خرج يوسف من هذا الصراع منتصرا بوجه مشرق لثلاثة اسباب: الاوّل: انّه التجأ الى اللّه و استعاذ به، و قال: {مَعاذَ اللَّهِ‏}. الثّاني: التفاته الى الإحسان الذي اسداه اليه عزيز مصر، و ما تناوله في بيته فأثّر فيه، فلم ينس فضله طيلة حياته، و مع ملاحظة نعم اللّه التي لا تحصى و انقاذه له من غيابة الجبّ الموحشة الى محيط الامان و الهدوء جعلته يفكّر في ماضيه و مستقبله، ولا يستسلم للتيارات العابرة.

الثّالث: بناء شخصيّته و عبوديّته المقرونة بالإخلاص التي عبّر عنها القرآن‏ {إنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ‏} يستفاد منها انّها منحته القوّة و القدرة ليخرج من ميادين الوسوسة التي تهجم عليه من الداخل و الخارج بانتصار. وهذا درس كبير لجميع الناس الأحرار الذين يريدون ان ينتصروا على عدوّهم الخطر في ميادين جهاد النفس. يقول الامام علي (ع) في دعاء الصباح، بأسلوب جميل رائق: «وان خذلني نصرك عند محاربة النفس والشيطان، فقد وكلني خذلانك الى حيث النصب و الحرمان». و نقرا في بعض الأحاديث‏ انّ النّبي (ص) بعث سرية فلمّا رجعوا قال: «مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر، و بقي عليهم الجهاد الأكبر» فقيل: يا رسول اللّه، و ما الجهاد الأكبر قال: «جهاد النفس» و يقول الامام علي (ع)  ايضا: «المجاهد من جاهد نفسه» كما ينقل‏ عن الامام الصادق (ع) انّه قال: «من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضي حرّم اللّه جسده على النار».[9]

أنواع النفس الإنسانية

سبب عشق زليخا الشيطاني هو النفس الأمّارة: يقسّم علماء النفس و الأخلاق النفس «و هي الإحساسات و الغرائز و العواطف الانسانية» الى ثلاثة مراحل، وقد أشار إليها القرآن المجيد:

المرحلة الاولى: «النفس الامّارة» و هي النفس التي تأمر الإنسان بالذنب وتجرّه الى كلّ جانب، و لذا سمّوها «امّارة» و في هذه المرحلة لا يكون العقل و الايمان قد بلغا مرحلة من القدرة ليكبحا جماحها، بل في كثير من المواقع يستسلمان للنفس الامّارة، و إذا تصارعت النفس الامّارة مع العقل في هذه المرحلة فإنّها ستهزمه و تطرحه أرضا. و هذه المرحلة هي التي أشير إليها في الآية المتقدّمة، و جرت على لسان امراة العزيز بمصر، و جميع شقاء الإنسان أساسه النفس الامّارة بالسوء.

المرحلة الثّانية: «النفس اللوّامة» و هي التي ترتقي بالإنسان بعد التعلّم و التربية و المجاهدة، وفي هذه المرحلة ربّما يخطئ الإنسان نتيجة طغيان الغرائز، لكن سرعان ما يندم و تلومه هذه النفس، و يصمّم على تجاوز هذا الخطأ و التعويض عنه، و يغسل قلبه و روحه بماء التوبة. و بعبارة اخرى: في المواجهة بين النفس و العقل، قد ينتصر العقل أحيانا و قد تنتصر النفس، الّا انّ النتيجة و الكفّة الراجحة هي للعقل و الايمان. و من اجل الوصول الى هذه المرحلة لا بدّ من الجهاد الأكبر، و التمرين الكافي، و التربية في مدرسة الأستاذ، و الاستلهام من كلام اللّه و سنن الأنبياء و الائمّة عليهم السّلام. و هذه المرحلة هي التي اقسم اللّه بها في سورة القيامة قسما يدلّ على عظمتها (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ).

المرحلة الثّالثة: «النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» و هي المرحلة التي توصل الإنسان بعد التصفية و التهذيب الكامل الى ان يسيطر على غرائزه و يروّضها فلا تجد القدرة للمواجهة مع العقل و الايمان، لانّ العقل و الايمان بلغا درجة من القوّة بحيث لا تقف امامهما الغرائز الحيوانية. و هذه هي مرحلة الاطمئنان و السكينة. الاطمئنان الذي يحكم المحيطات و البحار حيث لا يظهر عليها الانهزام امام اشدّ الأعاصير. و هذا هو مقام الأنبياء والأولياء و اتباعهم الصادقين، أولئك الذين تدارسوا الايمان و التقوى في مدرسة رجال اللّه، و هذّبوا أنفسهم سنين طوالا، و واصلوا الجهاد الأكبر الى آخر مرحلة. و إليهم و الى أمثالهم يشير القرآن الكريم في سورة الفجر {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي}‏.[10]

النتيجة

إن قصة عشق زليخا مع يوسف الصديق (ع) تبرز أن العشق الحقيقي يُختبر بالصبر والإيمان، لا مع هوى النفس الأمّارة. وأن عشق زليخا، الذي يعد من أحسن القصص القرآنية، لا ينتهي إلا بإظهار أسمى مظاهر التضحيات. فما أروع أن نستلهم من هذه القصة دروسًا عن الصبر من يوسف (ع) وعن قبول فعل الكيد من زليخا.

الهوامش

[1] – مكارم الشيرازى، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج7، ص175 – 176.

[2] – يوسف: ٢١.

[3] – الحر العاملی،  الدر المسلوک في أحوال الأنبياء و الأوصياء و الملوك، ج1، ص50 – 52.

[4]  سورة يوسف: ٤٢.

[5] – يوسف: 50.

[6] – یوسف: 53.

[7] – مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج7، ص227 -230.

[8] – الطباطبايى، الميزان في تفسير القرآن، ج11، ض130.

[9] – مكارم الشيرازى، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج7، ص183 – 184.

[10] – مكارم الشيرازى، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج7، ص232 – 234.

المصادر

  1. القرآن الكريم
  2. الحر العاملی احمد بن حسن. الدر المسلوک في أحوال الأنبياء و الأوصياء و الملوک. مؤسسة التاريخ العربي، 1430.
  3. الطباطبايى، محمدحسين، الميزان في تفسير القرآن، 20جلد، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات – لبنان – بيروت، چاپ: 2، 1390 ه.ق.
  4. مكارم الشيرازى، ناصر، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) – ايران – قم، چاپ: 1، 1421 ه.ق.

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *