- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
محن وآلام صاحب الزمان (ع)
هذه الولادة یمكن أن نقول عنها: ولادة الفرح الكبیر، بل ولادة الفرح الأكبر، لأنها ولادة العدل لكشف الظلم، ولأنها ولادة الحق لإزهاق الباطل، ولأنها ولادة سیدنا ومولانا الحجة بن الحسن المعد لتحقیق آمال الأنبیاء، وكل الرسالات السماویة التی جاءت وهدفها أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا یتحقق هذا الهدف إلاّ على یده صلوات الله علیه.
الحمد لله رب العالمین وصلى الله على محمد وآله الطیبین الطاهرین.
قال الله تعالى فی كتابه الحكیم ((وَنُرِیدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِینَ اسْتُضْعِفُوا فِی الأَْرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِینَ))(1) صدق الله العلی العظیم.
نبارك لكم هذا الیوم الأغر وهذه المناسبة السعیدة التی نحتفل فیها بمیلاد إمام زماننا وسیدنا ومولانا الحجة بن الحسن صلوات الله علیه وعلى آبائه الطاهرین.
هذه الولادة یمكن أن نقول عنها: ولادة الفرح الكبیر، بل ولادة الفرح الأكبر، لأنها ولادة العدل لكشف الظلم، ولأنها ولادة الحق لإزهاق الباطل، ولأنها ولادة سیدنا ومولانا الحجة بن الحسن المعد لتحقیق آمال الأنبیاء، وكل الرسالات السماویة التی جاءت وهدفها أن تمتلئ الأرض قسطاً وعدلاً. ولا یتحقق هذا الهدف إلاّ على یده صلوات الله علیه.
ولكن هذا الفرح حینما نحتفل به فی زمان الغیبة یكون فرحاً مشوباً بالحزن.
لماذا؟ لأننا نحتفل بولادة ولیدها غائب. ذكرى ولادة مولود سعید، مولود عظیم مولود هو الفرح بعینه، ولكن أین هو هذا المولود أین استقرت به النوى؟ هذا الفرح فرح مشوب بالحزن واقعاً.
والقلب الشیعی والقلب العراقی بالخصوص قلب مفعم، یبحث دائماً عن مواطن الأسى لیعبر عما فی قلبه من آلام وأحزان قد أحاطت بالعراقیین من كل جانب.
ولنتحدث فی هذا الیوم السعید، وفی هذه المناسبة المباركة العطرة عن أحزاننا وعن شجوننا وعمّا یمر بنا، ارتباطنا وعلاقتنا تحدیداً بإمامنا، إمام زماننا، وعن غیبته التی كانت سبباً لهذا الحزن، ففراق الحبیب من أشد ما ابتلى الله به عباده.
ولكن حینما نمر على مكامن الأسى فی هذا الحزن لابد أن نتذكر، ولابد أن نستحضر أن إمامنا وحبیب قلوبنا صلوات الله علیه وعلى آبائه الطاهرین هو الذی یسبقنا حتى فی حزننا.
فتعالوا لنتأمل ولنتحسس بأحزانه، إذا كنا نحب ولینا وإمامنا وسیدنا صاحب العصر لابد أن نعیش أو نحاول أن نقترب مما یحمله ذلك القلب من حزن.
نحن نعیش حزن الغیبة، وهو علیه السلام مع كونه قائداً إلا أنه یعیش حزن الغیبة أیضاً، ولكن عندما یلتقی حزننا بحزنه، وعندما یكتوی یومنا بجمره، یزداد الجمر اتقاداً وتزداد العواطف التهاباً.
نحن نحزن ونحن نتألم لأن إمامنا وسیدنا غائب عنا ومفارق لنا. ولكن هو أیضاً یحزن لأننا نحن مفارقون له.
وقد یغفل البعض عن هذه السنخیة، عندما یكون شخص ما فی ظروف معینة تستدعی منه الاختفاء عن بعض الرقباء، بحیث لا یرید لأحد أن یطلع على مكانه، حتى أقرب الناس إلیه. ویمر من بعید أحد أعزائه، أو أحد أولاده، أو أحد أعوانه وهو یراه ولكن لا یتمكن من أن یخاطبه، وأن یحادثه، وأن یكاشفه بما یعتلج فی قلبه. هذا ألم قد یكون أشد ألماً من ذلك المفارق وأشد ألماً من ذلك الذی لا یعلم من أمر هذه الحقیقة شیئاً.
والقلب العراقی یفهم الألم، ویدركه أكثر من غیره بلا مبالغة.
نعود مرة أخرى لغیبته صلوات الله علیه وعلى آبائه، فنجده أیضاً إماماً لنا فی ذلك الألم. عندما نجد هذا الظلم، وعندما نجد هذه القیم التی ضاعت من دنیانا، وعندما نجد الشریعة التی انتهكت حرمتها فی دنیانا، نتألم، لأنه هو المعد لإعادة الحق إلى نصابه. ولكن هو یتألم أكثر منا. صحیح قد یخاطبه بلسان حالنا شاعرن(2) الذی ینطق باسمنا یقول له:
الله یا حامی الشریعة *** أتقرّ وهی كذا مروعة
كم ذا القعود ودینكم ** هدمت قواعده الرفیعة
تنعى الفروع أصوله ** وأصوله تنعى فروعه
ولكن حینما نعیش هذا الألم، وحینما نكتوی بهذا الجمر. هو أیضاً صلوات الله علیه یتحسس بهذا الألم أكثر منا أضعافاً مضاعفة، ولكن نحن بحدودنا، بضعفنا، بعجزنا تضیق صدورنا عن تحمل الألم فنبث هذه الشكوى التی یكون هو علیه السلام صاحبها الحقیقی، فهو منشأ الشكوى الحقیقیة ولیس نحن، یخاطبه شعراؤنا، وحق لهم أن یخاطبوه، فإلى من یشتكی المهموم إلا إلى إمامه؟
أصبراً وكادت تموت السنن ** لطول انتظارك یا بن الحسن
نحن نتضرر صحیح ونحن نتألم لأن السنن ضاعت، ولأن القیم اندثرت. ولكن هو یعیش هذا الألم أكثر منا.
رفقاً بإمامنا عندما نعاتبه. رفقاً بذلك القلب الممتلئ بالحزن والألم. صحیح نحن نعاتبه. إذ لا ملجأ لنا إلا إلیه. صحیح هو إمامنا ولكن لا ننكأ الجراح التی فی قلبه صلوات الله علیه.
لنعرف نحن لمن نخاطب. هذا إمامنا وهذا حبیب قلوبنا وهذا المتألم أكثر منا سلام الله علیه.
نحن نتألم مرة أخرى عندما نجد الثأر معطلاً. والذی عنده ثأر لا یقر له قرار حتى یأخذ بثأره، لا یتحمل تأخیر الثأر یوماً أو شهراً أو سنة. هذه ثاراتكم یا أئمتنا، وهذه ثارات جدتكم الزهراء. وهذه ثارات الحسین، وآل الحسین. هذه ثارات زینب وأطفال زینب تؤلمنا وتؤرقنا ونحن نتمنى أن نخرج معك وبقیادتك یا سیدی وقد طالت علینا غیبتك.
ولكن بربكم من الذی یعیش ألم تأخیر الثأر حقیقة؟ نحن نعیش ألم الثأر أكثر أم هو الذی یعیش ألم الثأر؟ الثأر ثأره ونحن إذا نغضب نغضب من أجله ومن أجل أهل بیته. نحن إذا نغضب نغضب من أجل أجداده من أجل جدته الزهراء، من أجل ضلعها المكسور، ولكن عین الزهراء الحمراء ما زالت لحد الآن شابحة تنتظر الأخذ بثأرها. وأضلاع الإمام الحسین المكسرة المهشمة ما زالت تنتظر وأسر زینب وعبرات زینب تنتظر، وأول ما تنتظر صاحب العصر. هو یعلم بهذا جیداً.
لكن مع ذلك حینما یأتی موسم الحزن، وحینما یهل علینا عاشوراء، نجد أننا نطالبه بأخذ الثأر، البدار یا صاحب الأمر البدار البدار، طال على شیعتك الانتظار. نحن نخاطبه وكأن قلبه فارغ، وكأننا نحن الذین نعیش الألم وهو الخلی من الألم، لقد صدق السید حیدر الحلی رحمه الله حینما یقول: كأنّ قلبك خالٍ وهو محتدم وإنّ أعجب شیءٍ أن أبثكها یقول له: سیدی أعجب شیء أن هذه الشكوى التی أبثك إیاها، والتی أعبر بها لك عما یعتلج فی صدری مع كون قلبك محتدماً بالأحزان، ولكن أنا أبثك الشكوى لضیق صدری لضیق قلبی.
ولكن ساعد الله قلبك یا سیدی یا صاحب الزمان، نحن نتألم بسبب طول المدة، وبسبب الثأر المعطل. ولكن هو یتقدمنا فی هذا الألم.
إذا كنا نحب صاحب العصر حقیقة لابد أن نفكر ولو سویعة فی هذا القلب الكبیر، هذا قلب الإمام الذی هو إمام القلوب، هذا القلب ماذا یحمل فی داخله من عذاب، ومن أحزان، ومن شجى؟
نتألم حینما نقول له: سیدی أحاطت بنا الأعداء من كل جانب، فحاصرونا وأعادوا لنا تأریخكم، وأعادوا لنا كربلاء كم. ونحن محاصرون من الداخل والخارج، ونحن مهددون فی كل مكان. ولكن هل یغیب هذا عنه؟ هل هو بعید عن هذا الأمر؟ إذا نحن نعیش غربة فهو یعیش غربة أكثر من أی منا. وإذا نحن نعیش حزناً ونعیش وحشة فهو یعیش وحشة أكثر منا، صلوات الله علیه وعلى آبائه الطاهرین، وإذا نحن نطل من جانب على الانتفاضة الشعبانیة وما جرى فیها من مجازر وانتهاك للحرمات، فهو محیط بكل تفاصیلها ودقائقها، ویتحسّس كل أناتها وآهاتها الصغیر منها والكبیر.
هو یعیش هذا الألم، وهو یعیش ألم الزنزانات التی یهزأ بنا أعداؤه مرة أخرى من خلال الهزء به.
صدقونی أیها الاخوة كان أحد مدراء الأمن یستهزئ أمام المعذبین وهم معلقون بالسقف یستهزئ ویردد أمامهم وهو یضحك: (اظهر یالمهدی وصفّیهه وشوف الشیعة اشصایر بیهه) یهزأ بنا، یستهزئ بآلامنا، یسخر من آهاتنا. ولكنه یسخر بإمامنا، ویسخر بنا من خلال سخریته بإمامنا صلوات الله علیه.
هذه الآلام إذا نحن اطلعنا على شیء بسیط ومحدود وضئیل منها، فإنّ إمامنا یحیط بها كلها، ویعلم بدقائقها وتفاصیلها.
فرفقاً به ثم رفقاً حینما نبث شكوانا. هو یعیش آلامنا، یعیش فجائعنا، یعیش أحزان أیتامنا وأراملنا.
نقرأ فی بعض الروایات عن الإمام زین العابدین علیه السلام -والأئمة عموماً فی محبتهم، ولطفهم، وارتباطهم بشیعتهم على حد سواء- أن أحداً من شیعتهم جاءه یشكو إلیه الفقر. الإمام زین العابدین محاصر وما كان یتمكن شیعته من الوصول إلیه، ولم یتمكن الإمام أن یعتذر منه. تعلمون ماذا ورد فی الروایة؟ إن الإمام زین العابدین بكى حتى سالت دموعه من عینیه، لأن هذا الإنسان من شیعته ویطلب عوناً ولا یملك الإمام ما یدفع به فقره، هناك مصلحة للإعجاز ولإظهار الكرامة، الإمام لم یكن یملك شیئاً وهذا إنسان محتاج جاد له بدموع عینه، هذه الدموع التی كانت تسیل من خشیة الله أو تسیل لمصاب أبی عبد الله لأن الإمام لن یجد نفسه قادراً على مواساة هذا الرجل من شیعته بكى حتى أن هذا الإنسان الشیعی المؤمن الموالی تألم كثیراً قال: سیدی لماذا تبكی؟ أخیراً عرف سبب البكاء فزاد ألمه.
الآن لنتصوركم ذرف إمامنا وسیدنا صاحب الأمر من الدموع؟ وكم اختلجت فی صدره من الآهات لما یشهده من العذابات التی أحاطت بشیعته من كل مكان. یتحسّس هذه الأمور، یعلم بها وكلها تجعله یشتاق أشد الشوق لذلك الیوم الذی یقف فیه بین الركن والمقام وینادی بأصحابه فیخرجون ویلتحقون به من بقاع الأرض. ولكن ماذا بیده؟
بعض الناس یرون صاحب الأمر فی المنام أو یتشرفون به. أغلب الروایات والأخبار توصینا نحن الشیعة بالدعاء له بالفرج، هو فی بلاء عظیم، هو فی ضیق، هو فی غربة، هو فی وحشة. یطالبنا بالدعاء له بأن یعجل الله فرجه.
حینما نقول: اللهم عجل فرجه، فلا تحسب أن المعنى: اللهم عجل فرجنا. صحیح اللهم اجعل فرجه فرجنا، ولكن الفرج الحقیقی له. فهو المظلوم الحقیقی.
بعض أساتذتنا من العلماء الموجودین الآن فی النجف دفع الله عنهم كل مكروه یقول: الظلامة الكبرى والمصیبة العظمى من مصائب أئمتنا هی مصیبة صاحب الأمر علیه السلام، هذه المدة الطویلة المدیدة التی مرّت علیه هو بهذا الحال، عندما تشتد الفتن بنا، وعندما تعصف بساحتنا الخلافات فأول ما نتذكر حاجتنا الماسّة والحقیقیة والأساسیة لولینا الأول، لولینا الحقیقی، لإمامنا لقائدنا لسیدنا ومولانا.
عندما نختلف فیما بیننا ونتألم من اختلافنا ومن شدة اختلافنا، ومن تحارب بعضنا مع بعض من كید بعضنا لبعض، ومن اعتداء بعضنا على بعض، ومن تهجم بعضنا على بعض، نتألم كثیراً ولكن إمامنا یتألم أكثر. قد نتألم لأن هذا التحارب یمسنا، ویمس مشاعرنا بحدود معینة. ولكن هو یتألم لنا جمیعاً، وهو یتألم لاختلافنا جمیعاً، یتألم لكل فردٍ فرد منا.
یتألم إذا رأى أحداً منا یظلم أخاه، لماذا هذا من شیعتی. أو یتمنى أن یكون من أنصاره، لماذا یتجاوز، لماذا لا یتمكن أن یقدر للاختلافات قدرها؟ لماذا لا یتمكن أن یهضم أن الاختلافات فی الرؤى فقط أو بالقناعات أو أن الاختلافات بالفتاوى أو بالتشخیص، أو بالتحلیل السیاسی أو غیر السیاسی؟
حینما نجد أننا نؤمن أو نقلد أو نتبع أو نقتنع بأحد من العلماء فنحن فی ذلك لابد أن نلتزم الحجة الشرعیة دائماً. ولا یعنی هذا أن كل من یختلف مع هذا الإنسان الذی نعیش الاقتناع به ویكون خارج دائرتنا فنتعامل معه كما نتعامل مع غیر المؤمن بأهل البیت، لیبقى الثابت الأول والأساس الذی لا محیص عنه هو الإیمان بأئمتنا، وما عداهم فلا یشكل إلا حكماً ظاهریاً لطریقه إلیهم، هم الواقع الصحیح الصافی الخالص وكل ما عداه اجتهادات.
حینما نختلف فی الاجتهادات، أو نختلف بالتحلیل، أو نختلف بالقناعات، فإن ذلك لا یعنی أن نختلف فیما بیننا فی الشخصیات، أو فیما بیننا من جماعات فهذا الأمر كله بنظره صلوات الله علیه، وبمعرفته وباطلاعه وهو یتألم أكثر منا.
وقد یكون هدفنا حینما نختلف فی أمر جزئی قد نقول ونتكلم ونرفع الشعارات، نحن نتألم من أجل أصل الاختلاف ولكننا فی كثیر من الأحیان نتألم لما یصیبنا من هذا الجانب أو ذلك، لما یمسنا من هذا الكلام أو ذلك، لما نتعرض له من هذا الظلم أو ذلك. أما الإمام صلوات الله علیه فهو یتألم لنا جمیعاً، ویعیش آلامنا جمیعاً، ویعیش معاناتنا جمیعاً.
فلنلتق عنده، ولنجدد العهد معه مرة أخرى فی أخوّتنا، فی صفاء قلوبنا، فی حسن ظنوننا بالآخرین، وعدم التسرع بإلقاء التهم وتوزیعها فی كل مكان، وعلى أنفسنا.
إذا أردنا أن نعیش الارتباط بإمام زماننا حقیقة فلابد أن نفهم هذه الحقیقة لابد أن نعیش هذا الأمر. أنا لا أتمكن أن أقول بأن المختلفین دائماً أحدهما على باطل، بل نحاول أن نحمل حتى من یخالفنا على حسن الظن، على المحمل الحسن (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ)(3) وإن لم نعمل على ذلك فنحن نقطع أنفسنا بأنفسنا، ونحن نقتل أنفسنا بأنفسنا، ونحن نسقط أنفسنا بأنفسنا، ونحن نضعف مرجعیتنا وعلماءنا وكل هذا یكون تحت شعار الإسلام، أو تحت شعار الأمر بالمعروف، وتحت شعار النهی عن المنكر، وتحت شعار نصرة العرب، وتحت شعار نصرة المظلومین.
إذا كان هذا الشعار بهذه السعة فلماذا لا یكون واسعاً حتى یجمعنا؟ لماذا یكون واسعاً فقط للتمزیق والتفریق فیما بیننا؟ وإذا بنا مع كل الأسف نجد أن بعض الناس مشغول بمقارعة الظالمین والتصدی لهم، والبعض الآخر مشغول بالتصدی لمقارعة من یقارع الظالمین، وبالتهجم على أولئك الذین یحملون لواء التشیع، ویحملون لواء العراق، ویحملون لواء الحق، الذی نتمنى كلنا من أعماقنا أن یرتفع.
فالساحة لیست ملك أحد، والعراق لیس ملك أحد، والتصدی واجب على الجمیع، ولا یعنی هذا أنی إذا أردت أن أتصدى لابد أن أزیح كل المتصدین، بل بالعكس لابد أن أتعاون معهم.
لابد لنا حینما نأمر بحسن الظن، وندعو إلى حسن الظن، لابد أن نكون أول المبادرین لحسن الظن، وحتى لو تجاوز علینا الآخرون، واعتدى علینا الآخرون، لابد أن تكون عندنا سعة قلب، ولابد أن نتأسى بإمام زماننا فی استیعاب هذا الاعتداء ومقابلته بالصفح والتجاوز عمّا قد یحدث هنا أو هناك من قصور أو تقصیر.
ولكن نجد أننا نشترك مع إمامنا ونواسیه فی هذه الآلام التی مررنا علیها واحداً واحداً.
هو غائب الآن عنا ونحن غائبون عنه، هو یعیش الهم لشریعة جدّه، ونحن نعیش الهم شیئاً ما لشریعة جدّه. هو یتألم لما یصیبنا، ونحن نتألم أیضاً. هو یتألم للظلم والبلاء الذی یعصف بنا، هو یتألم لنا حینما نختلف، هو یشاركنا الألم، بل هو دائماً یتقدّمنا فی الألم. إمامنا فی آلامنا كما هو إمام آمالنا صلوات الله علیه، كعبة آمالنا.
ولكن یبقى ألم واحد فی قلب صاحب الأمر، وهذا لا نشترك نحن معه فیه، وهذا الألم وهذا العذاب الذی یتعذب به ویتألم به إمامنا صاحب الأمر قد نكون نحن سبباً فی زیادته، ما هو هذا الألم؟ حینما تعرض أعمالنا علیه.
ونحن نقرأ فی روایات أهل البیت أن الأعمال تعرض على إمام الزمان، فی بعض الروایات فی كل لیلة جمعة.(4)
إنّ الإمام عجل الله فرجه یفرح لله. والإمام یغضب لله. والإمام یحزن لله، والإمام یحب فی الله ویبغض فی الله. فإذا وجد فی صحیفة أحدنا سیئة أو ذنباً ارتكبه فكیف به وهو یعیش تلك الأكداس والجبال من الآلام. هذا الألم یأتی إضافیاً، ولسان حاله یقول: أنتم لماذا؟! فهمنا أن أعداء الزهراء یحقدون على الزهراء ویزید وابن سعد یحقدون على الحسین، والظالمون لكم والمعادون لی ولكم یكونون سبباً فی آلامی وأحزانی. أنتم شیعتی أنا أرید أن أفرح بكم، لماذا أنتم تزیدون ألمی ألماً آخر؟
هذا ألم ذوی القربى، هذا ألم المقربین الأحبة الأعزة، لماذا هذه الذنوب؟ لماذا هذه الجرأة على المعاصی؟ لماذا لم نرأف لذلك القلب الذی أفعمته الآلام وملأته الجراح؟
لماذا لا نكون السبب فی إدخال السرور علیه؟ لماذا لا نكون سبباً حینما یطّلع على بعض الأعمال لأن یقول: الحمد لله شیعتی شیعة حقیقیون، هؤلاء الذین یدعون أنی أنا إمامهم ویقولون: رضیت بالله رباً وبمحمد صلى الله علیه وآله وسلم نبیاً وبعلی إماماً ثم یذكروننی ویعتبروننی أنا آخر أئمتهم وإمام زمانهم، هؤلاء أفعالهم متطابقة مع شعارهم وعقیدتهم وكلامهم ودعائهم وخطابهم لله سبحانه وتعالى، حینما یقولون: رضیت بهم أئمة، هؤلاء حقیقة أتباع لی.
لعل أشد ما یؤلم، بل یمكن أن نقول: إن أشد ما یؤلم أولیاء الله، ما یجترح وینتهك من حرمات الله سبحانه وتعالى، لأنهم یعرفون عظمة الله. نحن حینما نعرف عظمة الله شیئاً ما ونجد أن حرمة من حرمات الله تنتهك نتألم ونغضب أكثر مما نكون نعرف الله بهذا المقدار من المعرفة. أما أهل البیت صلوات الله علیهم، الذین ما عرف الله أحد من العباد كما عرفوه سبحانه وتعالى، یغضبون لحرمات الله أكثر منا، یتألمون أكثر منا.
لماذا..لماذا نشارك فی هذه الكربلاء التی فی قلبه، وهی كربلاء كبیرة؟ لماذا نشترك فی زیادة ألمه صلوات الله علیه وعلى آبائه الطاهرین؟
فلنجدد فی هذه اللیلة العهد معه، ولنتب على یدیه حباً له، ونعقد العزم من هذا المكان المبارك، وهو مرقد هذا العبد الصالح المقرب من صاحب الأمر (ابن بابویه)(5) الرجل العظیم الذی ورد كثیر من الروایات الدالة على أنه ممن حظی برؤیة إمام زمانه، فطوبى له ثم طوبى له. لنجدد العهد، لنعقد العزم على أن نقاطع ونهجر كل الذنوب، ونتمنى من الله سبحانه وتعالى أن یعصمنا ببركة إمام زماننا من كل ذنب، حباً وشفقة وحناناً لسیدنا صاحب الأمر ومحبة له.
التوبة لا تكون دائماً خوفاً من النار، وإن كان الخوف حقیقیاً، والنار حقیقة فلابد أن نخشاها، والجنة حقیقة من الحقائق فلابد أن نطمع فیها. ولكن شفعاءنا إلى الجنة، ومنقذینا من النارهم أهل البیت علیهم السلام، فلنؤكد ارتباطنا وانتماءنا وتلاحمنا واهتمامنا بأئمتنا صلوات الله علیهم فی طاعتنا لله حباً لهم، من أجل أن یفرح مهدی هذا العصر.
نحن نعمل بعض الأعمال من أجل إدخال السرور على أحبتنا. أنت تأتی بالهدیة الصغیرة لأولادك حتى تدخل السرور على قلوبهم. أنت ألا تفعل بعض المستحبات، وتأتی ببعض الأمور من أجل إدخال السرور على قلب المؤمن؟ ورد فی روایات تكاد تكون متواترة، لعل عشرات الروایات ترجع إلى هذا المضمون: أن العبد فی القبر فی اللحظة الأولى فی أول ما یطل على عالم الآخرة ویفارق هذه الدنیا، فی تلك الساعة العصیبة یرى مثالاً كأجمل ما خلق الله یهدئ من روعه ویسكن روعاته، ثم عند الحساب یجد أن هذا المثال معه عند الصراط، یجد أن هذا المثال معه عند تطایر الكتب، فی كل مراحل الخوف والفزع، یجد أن هذا المثال معه یهدئ من روعه، فیسأله المؤمن یقول له: من أنت جزاك الله عنی خیر الجزاء، فإنی لم أمر بمحنة، ولم أمر فی خطر، ومرحلة من مراحل الآخرة إلا وأنت تهدئ من روعی؟
یقول له: أنا السرور الذی أدخلته على قلب المؤمن فی الیوم الفلانی، فی الساعة الفلانیة.(6)
إدخال السرور على قلب مؤمن -إنسان عادی- له هذا الأثر.
إذا نتوب ونعیش فی هذه اللحظة التوبة الحقیقیة ونجدد التوبة، فإنّ التوبة مراتب وهی یمكن تجدیدها، ویمكن تأكیدها، ویمكن الإسراع إلیها، ویمكن تجدید عهد التوبة مع الله سبحانه وتعالى.
وأهم ما یفرح إمام زماننا أن نعترف له بالتقصیر لتشرق قلوبنا بنور التوبة، قبل أن تشرق أزقتنا من أنوار المصابیح التی نعبر بها عن احتفالیتنا بالنصف من شعبان.
لنجدد هذه التوبة حباً له، إخلاصاً له، من أجل إدخال السرور على قلبه الشریف صلوات الله علیه وعلى آبائه.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن یؤكد هذه التوبة فی قلوبنا، لنطل على شهره الكریم ونكون أهلاً لضیافته سبحانه وتعالى، ونكون ممن یستجیب الله دعاءهم فی كشف هذه الغمة عن هذه الأمة، وتعجیل الفرج، ودفع البلاء وجمع الشمل، تحت تلك القباب الشاهقات العلیات فی مراقد أئمتنا فی عراق أهل البیت صلوات الله علیهم.
واستغفر الله لی ولكم. والحمد لله رب العالمین، وصلى الله على سیدنا محمد وآله الطیبین الطاهرین.
والحمد لله رب العالمین.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة القصص، الآیة 5.
(2) هو الشاعر المرحوم السید حیدر الحلی قدس سره.
(3) الحجرات: الآیة 12.
(4) راجع مستدرك الوسائل للنوری ج 12 ص 165، وكتاب الغیبة للشیخ الطوسی ص 387.
(5) أبو الحسن علی بن الحسین بن موسى بن بابویه القمی، كان شیخ القمیین فی عصره وفقیههم وثقتهم، وكفى فی فضله ما فی التوقیع الشریف المنقول عن
الإمام العسكری علیه السلام: (أوصیك یا شیخی ومعتمدی وفقیهی یا أبا الحسن…إلخ).
توفی سنة 329 ودفن فی قم، وقبره الآن یزار ویتبرك به. راجع: الكنى والألقاب: 1/ 222.
(6) لاحظ: الكافی: 2 / 188 باب إدخال السرور على المؤمنین / الأحادیث 8 و10 و12.
الكاتب: السید حسین الحكیم