- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
يمكننا القول بكلّ تأكيد بأنّ الشيعة لم تشهد خلال عهودها الماضية انفتاحاً عليها بهذا المستوى الذي تشهده اليوم، صحيح أنّ التشيّع بمعناه العام الشامل لكلّ المذاهب المنتسبة إليه ربّما كان يسيطر على مجمل العالم الإسلامي في القرن الرابع الهجري وقد إنحسر بعد ذلك، إلاّ أنّ الانفتاح عليه اليوم يمتلك بعداً عالمياً واسعاً.
أهم أسباب الانفتاح على التشيع
لعلّ أهم أسباب هذه الظاهرة يتمثّل في الإنفجار الهائل الذي أحدثته الثورة الإسلامية في إيران، بشكل لم يكن له مثيل. إذ وقف العالم كلّه الى جانب نظام الشاه، يدعمه عسكرياً وسياسياً وإعلامياً واقتصادياً، ومع ذلك لم يستطع المقاومة وانهار أمام ضربات الشعب المسلم في إيران، وكان أن أقام هذا الشعب أوّل حكومة إسلامية تحاول أن تطبّق الإسلام على جنبات الحياة.
وبدأ التحام رهيب بين الثورة الإسلامية وأعدائها وفي طليعتهم الدول الغربية والشرقية، وحدث ما حدث من حصار شامل على المستوى الإعلامي والاقتصادي والسياسي والعسكري وغير ذلك ممّا لا مجال لشرحه هنا.
والمهمّ في الأمر أنّ الالتحام كان ثقافياً قبل كلّ شيء راحت الثورة معه تعلن أن الكثير من المفاهيم الشائعة هي أساطير يجب العمل على فضحها ومحوها.
فهناك اُسطورة النظامين اللّذين لا ثالث لهما، والمعكسرين اللّذين لا ثالث لهما، والتفوّق الغربي حتى في المجال العنصري، والإنسحاق الشرقي أمام الحضارة الغربية، وما الى ذلك.
ولم تنحصر آثار هذه الثورة في الحدود الإيرانية بل تعدّتها الى كلّ نقاط العالم الإسلامي، ممّا عجّل في إيجاد صحوة إسلامية على مستوى هذا العالم، تمثّلت في عودة الأمل من جديد الى كلّ القلوب، بعد أن غاب نجم الخلافة، وضاع هذا العالم في خضمّ التقسيم والنهب والاستعمار وفقدان الشخصية الإسلامية.
كما تمثّلت الصحوة في مطالبة الجماهير الإسلامية في كلّ مكان بتطبيق أحكام الشريعة على كلّ جوانب الحياة. ولسنا بصدد الحديث عن الصحوة الإسلامية ومظاهرها، ولكنّا أردنا القول إن سعة هذه الأبعاد بلغت الى الحدّ الذي صرّح معه بعض أركان النظام الصهيوني، بأنها كانت تهديداً لكلّ العالم[1].
عوامل ظاهرة التركيز الواسع على التشيّع
ومن هنا يمكننا أن نعزو ظاهرة التركيز الواسع على التشيّع دراسةً وبحثاً الى عوامل رئيسية:
الأوّل
إقبال الجماهير الإسلامية بحقّ على دراسة التشيّع ومعرفة جذور فكر الإمام الخميني، والعناصر التي منحته مثل هذه القوّة الثورية.
الثاني
سعي الأعداء لمعرفة نقاط القوّة والضعف في هذا المذهب محاولة منهم لضربه.
الثالث
هذا الهجوم المتجنّي الواسع على التشيّع من قبل المفرطين والمتعصبين، بحيث لم تبق لغة لم تترجم إليها كتب أمثال إحسان إلهي ظهير الباكستاني وغيره، ولم تترك شاردة ولا واردة إلاّ وذكرت فيها، ولم تمرّ على رأي مهما كان شاذاً إلاّ وطرحته واعتبرته الرأي الأصيل، حتى أنها مثلاً اعتبرت عبارة يترحّم بها أحد العلماء على آخر دليلاً على قبول آرائه كلّها.
وطبيعي أنّ هذا الهجوم وخصوصاً إذا كان منبعثاً من فئة مشكوكة ومشبوهة تثير أحياناً الشكوك وحبّ الاستطلاع، ممّا يدفع البعض للتحقيق والتنقيب لمعرفة الحقيقة، فإذا بهم يكتشفون آفاقاً جديدة لم يكونوا قد ارتادوها من ذي قبل.
فرق الشيعة في العصر الحديث
وإذا أردنا أن نتحدّث عن الشيعة ككلّ وجب علينا أن نلاحظ أنّ الفرق الشيعية الحيّة اليوم هي كالآتي:
1ـ الشيعة الإثنا عشرية
وهم الذين يؤمنون بالأئمة الإثني عشر المعروفين (أوّلهم الإمام علي (ع) وآخرهم المهدي«عج») وهم الأكثرية الساحقة كما سيأتي.
2ـ الشيعة الزيدية
وهم الذين يجتمعون مع الإثني عشرية في أربعة من الأئمة، هم: (عليّ والحسن والحسين وعليّ بن الحسين (ع))، ويفترقون عنهم في الإيمان بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين فمن بعده، وربّما جاءوا في الدرجة الثانية من حيث العدد رغم بُعد المسافة بين العددين.
3ـ الشيعة البُهرة
وهي فرقة من الإسماعيلية وهم يتفقون مع الإثني عشرية حتى الإمام السادس (الإمام الصادق (ع)) ثم يؤمنون بابنه إسماعيل فمن بعده، في حين يؤمن الإثنا عشرية بابنه موسى الكاظم (ع) فمن بعده.
4ـ الشيعة الأغاخانية
وهم فرقة اُخرى من الإسماعيلية.
هؤلاء هم أهمّ الفرق الشيعية المعروفة اليوم، أما العلويون وهم فرقة كبيرة العدد فهم في الواقع إثنا عشرية رغم وجود بعض الخلط في المفاهيم والانحراف في السلوك عن خطّ التشيّع الإثني عشري المعروف، ومن هنا فنحن ندرجهم في خط التشيّع الإثني عشري العام. وسوف نركّز على خصوص الشيعة الإثني عشرية.
الشيعة الإثنا عشرية
وإذا أردنا أن نستعرض الوضع العام لهم كان علينا أن نلاحظه من الجواب التالية:
1ـ الوضع الفكري.
2ـ الوضع السياسي.
3ـ الوضع العقيدي.
4ـ الوضع الاجتماعي والأخلاقي.
5ـ الوضع الاقتصادي.
ولكنّنا سنقتصر على الأوضاع الفكرية والسياسية فقط.
القسم الأوّل: الوضع الفكري
يمكننا أن نقول إن أكبر مظهر فكري لهم يتجلّى في إيران أيضاً، وذلك تبعاً لما مرّ من كثافة سكانية وشيوع للثقافة الشيعية في أغلب الأرجاء، وبشكل رئيس يمكن أن نعتبر الحوزات العلمية والجامعات الحديثة مهدَ الحركة الفكرية ومحلّ نموّها، ففي أحضانها تربّى المفكّرون وتمّت الدراسات ووضعت النظريات الحياتية.
أما الحوزات العلمية: فتقوم على اُسس ركينة لدى الشيعة مما يميّزها عن باقي الجامعات الدينية وأهمها:
1ـ نظام المرجعية الدينية المستقلة.
2ـ استقلالية الموارد الاقتصادية.
3ـ حريّة الدراسة والاعتماد على النبوغ الذاتي.
4ـ الارتباط الوثيق بطبقات الشعب.
ولنشرح هذه الاُسس بإيجاز:
1ـ نظام المرجعية الدينية المستقلة
يقوم هذا النظام أساساً على فكرة الاجتهاد والتقليد، وإذا فسّرنا الاجتهاد بعملية استفراغ الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية، أو الوظائف العملية (شرعية أو عقلية) من أدلّتها التفصيلية، أو أنه عملية إرجاع الفروع الى الاُصول المعتمدة شرعاً، أو ما يقرب من هذه المعاني.
طبعاً دونما نظر الى الاجتهاد بمعنى العمل بالآراء الظنيّة التي لم يقم عليها دليل قطعي، إذا فسّرناه كذلك فإنّا لا تجدنا بحاجة للاستدلال على أنّ الإسلام شرّع مثل هذا المنهج لمعرفة أحكامه والتفقّه فيها، خصوصاً بعد وضوح قيام الشريعة بوضعه إنسجاماً مع خلودها، فهو واجب كفائي ـ بلا ريب ـ، حفاظاً على أحكام الإسلام من الإندراس والضياع، حيث حثّت الشريعة على تحصيل العلوم الشرعية في مثل قوله تعالى: (فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَة مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)[2].
ولا ريب في أنّ القيام بعملية الاجتهاد ليس ممّا يستطيعه الجميع. يقول الشهيد السيد محمّد باقر الصدر بهذا الصدد: (ولو كانت أحكام الشريعة قد اُعطيت كلّها من خلال الكتاب والسنّة ضمن صيغ وعبارات واضحة صريحة لا يشوبها أيّ شك أو غموض لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة ميسورة لكثير من الناس.
ولكنها في الحقيقة لم تعطَ بهذه الصورة المحدّدة المتميزة الصريحة، وإنّما اُعطيت منثورة في المجموع الكلي للكتاب والسنّة وبصورة تفرض الحاجة الى جهد علمي في دراستها، والمقارنة بينها واستخراج النتائج النهائية منها، ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة وتتنوع وتتعمق أكثر فأكثر متطلّباته وحاجاته كلّما ابتعد الشخص عن زمن صدور النصّ)[3].
وقد عبّر صاحب كفاية الاُصول الآخوند الخراساني عن التقليد بأنه (حالة فطرية جِبلية)[4]. وقد قامت عليه السيرة العقلائية الممضاة من قبل الشارع.
ولا يجوز للمجتهد (في الرأي السائد بين العلماء) الرجوع الى غيره، وذلك لما قيل من أن العلماء اتّفقوا عليه، لأنّ الأدلّة الدالة على جواز التقليد لا تشمله، وهناك تفصيلات لا مجال لذكرها هنا.
وبعكس نظرة أهل السنّة الى أئمتهم بأنهم مجتهدون ممتازون، فإن الشيعة ينظرون الى أئمتهم الإثني عشر بأنهم اُناس مطهّرون لا يقولون ولا يروون ولا يعبّرون إلاّ عن الواقع الذي عبّرت عنه السنّة النبوية ومن هنا فليسوا بمجتهدين وإنّما هم يطرحون واقع الشريعة نقلاً معصوماً عن الرسول الأكرم (ص)، وبعد ذلك تبدأ عملية اجتهاد مفتوحة لدى علماء الشيعة لم ينغلق بابها مطلقاً، وإن كانت أحياناً مهدّدة بالإنغلاق لعاملين:
أحدهما
قوّة شخصية بعض المجتهدين كالشيخ الطوسي الذي هيمنت أفكاره على الحوزات العلمية فكاد الاجتهاد يُغلق جرّاء ذلك.
الثاني
سيطرة بعض الاتجاهات الإخبارية المعادية لأيّ نوع من أنواع الاجتهاد، وهي ظاهرة وُجدت لدى الفريقين، وسيطرت على الفكر الشيعي بشتّى مناحيه، وربّما مازالت مسيطره في بعض المجالات كالوعظية والأخلاقية، إلاّ أنها على الصعيد الفقهي والاُصولي منيت بهزيمة ساحقة على يد الشيخ الوحيد البهبهاني، في أواخر القرن الثاني عشر الهجري، وبعد مرحلة الحكم الصفوي في إيران، حيث هاجر الى العراق وربّى علماءً كباراً.
ولمّا كان الرأي السائد أخيراً لدى الشيعة هو الإيمان باشتراط (الأعلمية) في المجتهد المقلّد، وذلك اعتماداً على أدلّة قويّة، فإن من الطبيعي أن تتكوّن لديهم فكرة (المرجعية) العامّة، والتي يرجع إليها أكثر الناس في تقليدهم، ويصبح المرجع زعيماً لكلّ الحوزات العلمية، يوجّهها علمياً بل وحتى إدارياً، ثم كانت المرجعية بعد ذلك هي المموّلة للحوزات العلمية.
2ـ استقلالية الموارد الاقتصادية
وإذا لاحظنا أنّ الشيعة لم يكونوا يؤمنون بالحكومات المنحرفة التي استمرّت منذ عهد الاُمويين الى العصور التالية، وخصوصاً الحكومات التي تولّت الأمر في عصور التمزّق والاستعمار وعملائه، فمن الطبيعي أن ينشأ لديهم نظام مستقل لتوزيع الضرائب المالية الإسلامية الثابتة. فإذا ضممنا الى هذا حقيقة مهمة وهي أنهم يؤمنون بلزوم دفع الخمس من خالص الأرباح التي يجمعونها في العام، عرفنا الأهمية البالغة التي يكتسبها هذا النظام.
والأصل في هذا النظام أنه يسلّم الى وليّ الأمر باعتباره (وجه الأمارة) كما جاء في الرواية[5]. ولكن لما لم تكن هناك حكومية إسلامية (كما يتصوّرون)، فإنّ الأمر كان يترك أوّل الأمر بيد من تستحق عليهم هذه الضرائب يوزّعونها وفق ما يصلون إليه، ورّبما شكّلت لذلك هيئات توزيعية.
إلاّ أنّ الأمر استقرّ على أن يقوم المرجع الديني باستلام الزكوات والأخماس ثم توزيعها على مواردها ومصارفها. ودعماً لهذه العملية فقد أصدر المراجع أحكاماً بمقتضى ولايتهم لإرسال هذه الأموال، يسمّونها الحقوق الشرعية، الى المرجعيات لتقوم بصرفها في مواردها.
وحينئذ إنهالت الأموال (حسب الظروف) ولم يعد مقام المرجع فتوائياً فحسب، بل عاد قيادة اجتماعية واسعة النفوذ، وراح العلماء المراجع يهتمّون أوّل ما يهتمّون بالحوزات العلمية وتنميتها.
هذا الأمر هو الذي وفّر استقلالية كبيرة للحوزات العلمية عن الحكومات، وأعطاها القدرة على إدارة نفسها، وهذا على العكس ممّا اُبتليت به الحوزات العلمية الاُخرى، من تبعية سياسة فرضتها عليها التبعية الاقتصادية بشكل طبيعي. ورغم قيام الحكومة الإسلامية في إيران فإنّ هذا النظام مازال معمولاً به لضمان هذه الاستقلالية المطلوبة.
3ـ الحرية الدراسية
ورغم أنّ هذه الخصيصة ليست مختصة بدراسات مذهب معين، إلاّ أنها تكاد تنحصر في الحوزات العلمية الشيعية، بعد أن تحولت المعاهد العلمية الاُخرى الى معاهد جامعية، الأمر الذي يتطلب إحياءها من جديد لأنها أقرب الى الأصالة الإسلامية من غيرها.
وعلى أيّ حال فإنّ الطالب حرّ في انتخاب الحلقة التي يريدها، والاُستاذ حرّ في اختيار نوع الدرس، أو الكتاب الذي يريد تدريسه، كما إنّ المناقشة حرّة في أي مرحلة من مراحل الدرس.
4ـ الارتباط الوثيق بالفئات الاجتماعية
وهذه صفة رائدة للحوزات العلمية ذلك أنها غير منعزلة مطلقاً عن المسيرة الاجتماعية، بل لا تستطيع الانعزال نظراً لتركيبتها التي أشرنا إليها.
ويمكننا أن نوضّح العلائق في النقاط التالية:
الاُولى
ما قلناه من ارتباط الاُمة بمراجعها عبر عملية التقليد الحياتية، الأمر الذي يجعل الحوزات العلمية مطمح الأنظار في صياغة القرار الديني.
الثانية
ما رأيناه من أنّ الأمر استقرّ أخيراً على أن يقوم مراجع الدين باستلام الضرائب الإسلامية الثابتة وتوزيعها، ممّا يؤدي بالتالي الى أن يتم ارتباط اقتصادي متين مع الحوزات العلمية.
الثالثة
ما تدعو إليه تعاليم الإسلام في مجال لزوم تعليم الجاهل، ودور العلماء في توجيه الحياة الاجتماعية باعتبارهم ورثة الأنبياء، ورفع تأويلات المبطلين وصيانة حمى الدين من الشبهات وغير ذلك، ممّا يجعل كلّ فرد من طلاب الحوزات وأساتذتها مشروع مبلغ وداعية لتعاليم الإسلام.
ولذلك ينتهز الجميع الفُرَص المتاحة للتوغل في أعماق المجتمعات، وإعلان كلمة الإسلام والتبليغ لتعاليمه ورائدهم في ذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)[6].
الرابعة
مسألة ولاية الفقيه: حيث إنّ التعليمات الفقهية الشيعية أكدت على أنّ من يمتلك أزمّة الاُمور في الحياة الاجتماعية يجب أن يكون فقيهاً بتعاليم الدين، باعتباره اُطروحة حياتية تربوية، ولا يمكن أن يقوم عليها إلاّ المؤمنون العالمون بها علماً جماً. وهذا المبدأ يعني انتخاب قائد الاُمة من بين الفقهاء.
ولا أتصور أنه يختص به الشيعة بعد أن اشترط أغلب علماء السنّة ذلك في قائد الاُمة. إلاّ أنّ إنعدام تطبيقه على مرّ العصور جعله من الاُمور المنسية.
فهذا المبدأ أصيل في التعاليم الإسلامية، ولكنّي أرى أنه لا يعني الإطلاق في دليل الولاية ليشمل كلّ فقيه. وعلي أيّ حال، فقد لعب هذا المبدأ دوره في إيجاد حالة قيادية للمراجع الدينيين وانتهت بالتالي الى تشكيل الحكومة الإسلامية، وعلى أساس من هذا المبدأ، ممّا يكشف عن عمق العلاقة التي تشدّ الاُمة بالحوزة عبره.
هذا بالإضافة الى أنّ أبواب الحوزات العلمية مفتوحة عادة لكلّ الطبقات، لتنهل فيها من علوم أهل البيت (ع) ممّا لا يجعلها حوزات مقفلة ومنعزلة.
القسم الثاني: الوضع السياسي
لعلّ من نافلة القول أنّ نذكر أن الشيعة شكّلوا خطّ المعارضة السياسية على مرّ التاريخ، خصوصاً حين كانت السلطات الحاكمة تمعن في البعد عن الإسلام، أو ضرب القواعد الثورية المؤمنة.
وفي صدر صفحات تاريخهم الثوري تأتي نهضة الإمام الحسين (ع) ضدّ يزيد بن معاوية الرجل الطاغية، الذي سوّد وجه التاريخ الإسلامي بأعماله.
ثم تأتي الثورات الكبرى من قبيل: (ثورة التوّابين، وثوره زيد بن عليّ بن الحسين، وثورة المختار الثقفي، وثورة مطرف بن المغيرة، وثورة ابن الأشعث، وثورة يحيى بن زيد بن عليّ ابن الحسين (ع)، وثورة أبي السرايا، وثورة الحسين بن عليّ صاحب فخ) وغيرها.
يقول العلاّمة شمس الدين في كتابه (ثورة الحسين): «لقد أجّجت ثورة الحسين تلك الروح التي حاول الاُمويين إخمادها، وبقيت مستترة تعبّر عن نفسها دائماً في إنفجارات ثورية عاصفة ضّد الحاكمين، مرّة هنا ومرّة هناك، وكانت الثورات تفشل دائماً، ولكنها لم تخمد أبداً، لأنّ الروح النضالية كانت باقية، تدفع الشعب المسلم الى التمرّد، والى التعبير عن نفسه قائلاً للطغاة إني هنا.
حتى جاء العصر الحديث وتعدّدت وسائل إخضاع الشعوب، وحكم الشعب المسلم بطغمة لا تستوحي مصالحه وإنّما تخدم مصالح آخرين، ومع ذلك لم يهدأ الشعب، ولم يستكن، ولم تفلح في اخضاعه وسائل القمع الحديثة، وإنّما بقي ثائراً مُعبّراً عن إنسانيته دائماً بالثورة، بالدم المسفوح، وهكذا أثبتت الاُمة الإسلامية وجودها، ولم يجرفها التاريخ، وإنّما بقيت لتصنع التاريخ، هذا صنيع ثورة الحسين»[7].
ولا يسعنا المجال لو رحنا نستعرض الآثار الكبرى التي تركتها هذه الروح على الفقه والكلام والأدب ومجمل الثقافة الشيعية عبر العصور.
وقد مرّت فترات قامت فيها حكومات شيعية، إما إمامية كحكومة آل بويه والصفويين، أو هي شيعة بالمعنى الأعم كحكومات الفاطميين والأدارسة، ولكنها جميعاً لم تشبع نهم الاتّجاه الشيعي نحو حكومة علوية إسلامية خالصة.
بل كان أكثرها وأكثر حكّامها طغاة كغيرهم لا يختلفون عنهم في الجور في كثير من الأحيان، ولذلك نستطيع أن نقول بشكل قاطع إنّه لم تتحقق الصورة المطلوبة شيعياً إلاّ في العصر الحديث بانتصار الثورة الإسلامية في إيران، والتي أعلنت ضرورة تطبيق الإسلام على كلّ مراحل الحياة، وأنها تسير نحو هذا الهدف.
وعندما نريد أن نحيط إجمالاً بمعالم الوضع السياسي للشيعة اليوم تبرز أمامنا ظواهر كبرى تمثّل مجمل هذا الوجود، بل وربّما تعدّ عللاً لحصول واستمراريته، وهي:
أوّلاً
الانتشار العددي وفي المناطق الاستراتيجية: ونستطيع القول إنّ الشيعة يتجاوزون المئتي مليون مسلم وهم ينتشرون في شتّى أنحاء العالم. فهناك بلدان يشكّلون فيها الأكثرية الساحقة، أو المطلقة كإيران والعراق والبحرين وآذربايجان.
وهناك بلدان يملكون فيها وجوداً قوياً وفاعلاً على مختلف الأصعدة من قبيل الباكستان والهند ولبنان ودول الخليج وتركية.
كما أنهم يشكّلون أقليات نشطة في شتى أنحاء اُوربا وأميركا وأفريقيا وجنوب شرق آسيا.
ويتضمّن هذا الوجود الكثير من الطاقات الفعّالة في شتّى الميادين، الأمر الذي لا يدع المجال لأيّ شخص، أو دولة أن تستهين به.
ثانياً
التلاحم الوثيق بين الاُسس الفكرية والعقيدية والتحرّك السياسي: فالتحرّك السياسي لديهم شكّل جزءاً من كلّ كيانهم الفكري، لا ظاهرة من ظواهر التمتّع بالحرية السلوكية.
والمقولة المعروفة عن الشهيد السيّد حسن المدرّس: (سياستنا عين ديانتنا وديانتنا عين سياسيتنا) إنّما هي ظاهرة لدى كلّ من وعى حقيقة الإسلام وفق منبع أهل البيت (ع)، وعلى هذا الأساس نستطيع أن نفسّر المفاهيم الشيعية المخلتفة.
ذلك أننا درجنا على الاستماع الى الكثير من التصورّات الخاطئة عن التقية مثلاً باعتبارها لوناً من ألوان النفاق، وعن ترك صلاة الجمعة عند عدم وجود الحاكم العادل باعتباره لوناً من ألوان الاستهانة بحكم إسلامي ثابت، وعن الولاية باعتبارها تطرّفاً في الحبّ لأهل البيت، والبراءة باعتبارها جنوحاً سلبياً لرفض الآخرين وهكذا.
في حين أننا لو لاحظنا هذه المفاهيم في الإطار السياسي الإسلامي الذي أعطاه أهل البيت لوجدنا نوعاً من التلاحم بين العقيدة والجهاد، والدين والحياة.
فالإيمان بالحاكمية الإلهية المطلقة يستتبع الإيمان بضرورة تطبيق الشريعة على كل الحياة، وهو بدوره يستتبع تسليم التجربة لأيد أمينة تستطيع تأمين متطلّبات التطبيق السليم، وهي أيضاً تستدعي التحام الشعب مع القيادة الإسلامية بلحمة الولاء الكامل والنفور من كلّ من يعادي التجربة وقيادتها.
فإذا ما صادفت التجربة نكسة مريعة تحاول القضاء عليها فالتقية هي التكتيك المناسب للحفاظ على عناصر التجربة. وهكذا نستطيع التأكيد على أن كلّ المفاهيم العامّة تتحول الى عناصر حركية في اُطروحة منسجمة لتطبيق حكم الله في الأرض.
أما الدعوة الى طاعة الحاكم مهما كان وأيّاً فعل، والتسليم المطلق لأهوائه فلا مجال لها في المنطق الشيعي.
وأما الإنعزال عن الحياة، أو عزل المسجد عن الحياة، فلا محلّ له أيضاً، ومن هنا قلنا بأن التلاحم بين الاُصول العقائدية والسلوك الجهادي يمثّل ظاهرة إسلامية أصيلة في النفسية الشيعية.
ومن هنا أيضاً نستطيع أن ندرك السرّ الذي دعا الجماهير الإسلامية في كلّ مكان للاستجابة للنداءات الإسلامية الثورية للإمام الخميني، والتفاعل معه لأنّه جسّد حركية الإسلام، وأثبت لها وحدة الدين والحياة، وفتح أمامها الأمل الكبير لغد إسلامي مشرق.
وإذا رأينا القرّاء في العالم الإسلامي ينهالون على كتب الشهيد الصدر من قبيل: (اقتصادنا، وفلسفتنا، والاُسس المنطقية للاستقراء)، وكتب الشهيد المطهري من قبيل: (العدل الإلهي، والإنسان والقدر، والدوافع نحو المادية) وكتب العلاّمة الطباطبائي وغيرهم فإنّما ذلك لما تحمله هذه الكتب من الروح الثورية التغييرية.
إنّ هذا الفكر يركّز على الاُممية في التفكير، والإلهية في السلوك الحياتي، والتغيير المستمر في المنهج، والفطرية في التعامل مع الآخرين.
ثالثاً
الوجود الفاعل على الساحة السياسية: وربّما كانت هذه الظاهرة نتيجة منطقية للظاهرة السابقة، فما يمتاز به الوجود الشيعي في أكثر المناطق هو التحرّك الفاعل على الساحة السياسية وخصوصاً بعد أن أعطته الثورة الإسلامية في إيران زخمه الحقيقي تماماً، كما أعطت كلّ الحركات الإسلامية دفعه ضخمة للإمام فراحت تطوي طريق تكاملها الثوري، إننا نشهد في الساحة اللبنانية تحرّكاً إسلامياً مقاوماً، ويقف التحرّك الشيعي في المقدّمة، فيتحدّى كلّ السلاح الإسرائيلي وكل التآمر الدولي وكلّ الاستسلام الخياني، ويعلن بكلّ صمود تصميمه على مواصلة الكفاح، حتى يكلّله النصر وقد تحقّق.
وهكذا الحال بالنسبة للساحة العراقية حيث الإنتفاضة البطلة ضد النظام الحاكم في العراق، وحيث عشرات الاُلوف من الشهداء يقدّمون على مذبح التحرّر من النظام المنحرف، وقد انتهت بزوال نظام البعث.
ولسنا نريد أن نبيّن هنا نوعاً من الانحصارية الثورية، كلاّ فإن هناك الكثير من الحركات الثورية الاُخرى لا تقلّ عن مثل هذا النمط. ولكننا نريد التأكيد على وجود هذه الظاهرة بقوّة في الوسط الشيعي.
الاستنتاج
أن هناك أسباب لانفتاح العالم على التشيع، وأن هناك عوامل لظاهرة التركيز الواسع على التشيّع، وأنّ الفرق الشيعية الحيّة اليوم هي أربعة: الشيعة الإثنا عشرية، الشيعة الزيدية، الشيعة البُهرة، الشيعة الأغاخانية، واستعراض الوضع العام للشيعة الإثني عشرية تم من خلال الوضع الفكري، والوضع السياسي.
الهوامش
[1] من تصريح لرابين بتاريخ آب 1993.
[2] التوبة، 122.
[3] الصدر، الفتاوى الواضحة، ص4.
[4] الآخوند الخراساني، كفاية الاُصول، ج2، ص259.
[5] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج6، ص341، ح12.
[6] الأحزاب، 39.
[7] شمس الدين، ثورة الحسين، ص29.
مصادر البحث
1ـ الآخوند الخراساني، محمّد كاظم، كفاية الاُصول، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
2ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الرباني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
3ـ شمس الدين، محمّد مهدي، ثورة الحسين (ع) في الواقع التاريخي والوجدان الشعبي، بيروت، الدار الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1400 ه.
4ـ الصدر، محمّد باقر، الفتاوى الواضحة، النجف، مطبعة الآداب، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصريف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.