تتناول هذه الدراسة آراء الأشاعرة حول مفهوم الحسن والقبح في الأفعال، حيث يبرز المبحث الأول موقفهم، ويركز المبحث الثاني على الأدلة التي قدمها الأشاعرة لإنكار الحسن والقبح العقليين، بالإضافة إلى مناقشتها وتحليلها للوقوف على نقاط قوتها وضعفها، كما يستعرض المبحث الثالث آراء بعض أهل السنة الذين يتفقون مع فكرة الحسن والقبح العقلي.
المبحث الأول: رأي الأشاعرة حول حسن وقبح الأفعال
أوّلا: رأي الأشاعرة حول الحسن والقبح الذاتي للأفعال:
1ـ إنّ الحسن والقبح صفات اعتبارية لجميع الأفعال لأنّ الأفعال كلّها سواسية، ليس شيء منها في نفسه بحيث يقتضي مدح فاعله وثوابه، ولا ذم فاعله وعقابه، وإنّما صارت كذلك بواسطة أمر الشارع بها ونهيه عنها.
2ـ لا حسن ولا قبح للأفعال قبل ورود الشرع.
3- ولو عكس الشارع القضية فحسّن ما قبّحه، وقبّح ما حسّنه لم يكن ممتنعاً.
4- لا يوجد أيُّ حسن أو قبح ذاتي للأفعال، بل إنّ الفعل أُمر به فَحسُن، ونُهي عنه فقَبُح.
5- ما ورد الأمر به فهو حسن، وما ورد النهي عنه فقبيح، من غير أن يكون للعقل جهة محسّنة أو مقبّحة في ذاته.
ثانياً: رأي الأشاعرة حول دور العقل في إدراكه وكشفه لحسن وقبح الأفعال من دون الاستعانة بالشرع:
1- لا يستطيع العقل أن يدرك أو يكشف حسن وقبح الأفعال في جميع الأحوال ولا حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، وينبغي الرجوع إلى الشرع من أجل معرفة حسن وقبح جميع الأفعال.
2- إنّ العقل لا يحكم [ولا يمكنه العلم] بأنّ الفعل [الفلاني] حسن أو قبيح في حكم اللّه تعالى.
المبحث الثاني: أدلّة الأشاعرة على إنكار الحسن والقبح العقليّين ومناقشتها
الدليل الأوّل: لو كان العقل هو الذي يحكم بحسن وقبح بعض الأفعال، لما حصل تفاوت: بين حكم العقل في مجال التحسين والتقبيح، وبين حكم العقل بأنّ الواحد نصف الاثنين، ولكن وقع الخلاف، وهذا ما يدل على نفي كون التحسين والتقبيح عقليين.
يرد عليه: إنّ هذا الاستدلال مبني على أصل خاطئ وهو عدم وجود التفاوت في حكم العقل، في حين ينقسم حكم العقل إلى عدّة أقسام تتفاوت فيما بينها، ولا يصح القول بأنّ اختلاف العقلاء وتفاوتهم في الحكم بحسن أو قبح شيء، يؤدّي إلى إخراج هذا الحكم عن كونه حكماً عقلياً.
بعبارة أُخرى: إنّ أحكام العقل تنقسم تبعاً لأقسام العلوم اليقينية إلى عدّة أقسام، وإنّ هذه الأحكام العقلية المتعدّدة ليست على نمط واحد، بل لها مراتب ودرجات بحيث تكون بعض أحكام العقل أوضح وأكثر بداهة من البعض الآخر.
أقسام العلوم اليقينية
1ـ الأوّليّات: وهي ما يحكم بها العقل من دون توسّط شيء آخر معها، المثال: حكم العقل بأنّ الواحد نصف الاثنين.
2ـ المشاهدات: وهي ما يحكم بها العقل بواسطة الحسّ، المثال: حكم العقل بوجود زيد في المسجد بعد رؤيته فيه.
3- التجربيات: وهي التي يكون مبدأ الحكم بها التجربة التي يزول معها الشكّ، المثال: حكم العقل بوجود جاذبة في الأرض.
4- الحدسيات: وهي التي يكون مبدأ الحكم بها حدس في النفس يزول معه الشكّ، المثال: حكم العقل بأنّ نور القمر مستفاد من الشمس.
5- المتواترات: وهي التي تسكن إليها النفس سكوناً يزول معه الشكّ ويحصل الجزم القاطع بواسطة إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب، المثال: حكم العقل بوجود بلدة تسمى الهند.
مراتب العلوم اليقينية: إنّ الأوّليّات أكثر بداهة من المشاهدات، وإنّ المشاهدات أكثر بداهة من التجربيات، وإنّ التجربيات أكثر بداهة من الحدسيات، وإنّ الحدسيات أكثر بداهة من المتواترات.
ردّ الفلاسفة على دليل الأشاعرة: إنّ الأشاعرة قاسوا مسألة الحسن والقبح مع مسألة أنّ الواحد نصف الاثنين، وهذا قياس مع الفارق لأنّ: الحاكم في قضية الحسن والقبح هو العقل العملي، والحاكم في قضية الواحد نصف الاثنين هو العقل النظري.
الفرق بين العقل النظري والعقل العملي: إنّ الفرق بينهما يعود إلى تفاوت المدركات، فإذا كانت المدركات من الأُمور النظرية التي لا صلة لها بالعمل والفعل، سُمّي العقل عقلا نظرياً، وإذا كانت المدركات من الأُمور العملية التي ينبغي أو لا ينبغي أن تفعل، سُمّي العقل عقلا عملياً.
الدليل الثاني: لو كان الحسن والقبح ذاتيين، لما جاز أن ينقلب الحسن قبيحاً، ولما جاز أن ينقلب القبيح حسناً، لكنه ينقلب، وهذا ما يدل على عدم كون الحسن والقبح ذاتيين.
مثال: إنّ الكذب ـ كفعل قبيح عقلا ـ قد يحسن فيما لو اشتمل على مصلحة عامة من قبيل إنقاذ نبي من يد ظالم، وإنّ الصدق ـ كفعل حسن عقلا ـ قد يقبح فيما لو اشتمل على مفسدة عامة من قبيل هلاك نبي على يد ظالم.
النتيجة: لو كان حسن الصدق وقبح الكذب ذاتياً لما زال هذا الحسن والقبح، ولما حسن الكذب وقبح الصدق أبداً، ويرد عليه:
الرأي الأوّل: إنّ الكذب ـ في الصورتين المذكورتين ـ باق على قبحه، وإنّ الصدق ـ في الصورتين المذكورتين ـ باق على حسنه، إلاّ أنّ إنقاذ النبي أرجح من الصدق، وإنّ ترك إنقاذ النبي أقبح من الكذب، فيحكم العقل بارتكاب أقل القبيحين ـ وهو الكذب ـ تخلّصاً من ارتكاب الأقبح وهو هلاك النبي، وبعبارة أُخرى:
ألف ـ إنّ قبح الكذب لا يزول أبداً، وإنّ القول بحسن الكذب عند اشتماله على مصلحة عامة ليس لكونه كذباً، بل لاشتماله على المصلحة العامة، فيكون الحُسن للمصلحة العامة لا للكذب.
ب ـ إنّ حسن الصدق لا يزول أبداً، وإنّ القول بقبح الصدق عند اشتماله على مفسدة عامة ليس لكونه صدقاً، بل لاشتماله على المفسدة العامة، فيكون القبح للمفسدة العامة لا للصدق.
النتيجة: لا ينقلب الحسن قبيحاً، ولا ينقلب القبيح حسناً في هذا المقام، بل الحسن باق على حسنه، والقبيح باق على قبحه، ولهذا لا يدل مثال الأشاعرة على عدم كون الحسن والقبح ذاتيين.
الرأي الثاني: إنّ هذا الاستدلال مبني على اعتبار قبح الكذب وحسن الصدق كقبح الظلم وحسن العدل ذاتيّان لا يتغيّران، ولكن قبح الكذب وحسن الصدق ـ في الواقع ـ ليسا ذاتيين، بل هما من الأُمور التي تتغيّر بتغيّر العوارض التي تطرأ عليها.
بعبارة أُخرى: إنّ الحُسن و القُبح ليسا ذاتيين لعنواني الصدق والكذب، لأنّ الصدق والكذب من الأُمور التي يختلف حسنها وقبحها بالوجوه والاعتبارات، فلا يوصف الصدق و الكذب بالحسن والقبح إلاّ بتوسيط عنوان آخر بحيث يكون الحسن أو القبح ذاتيّاً لهذا العنوان[1]، وعرضيّاً لعنوان الصدق والكذب، وتوضيح ذلك:
1- إنّ ما يحكم به العقل هو حسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار فقط، وأمّا الصدق والكذب المذكوران في مثال الأشاعرة خارجان عن البحث.
2ـ إنّ عنوان الكذب ليس علّة تامة للقبح، بل مقتضياً له، وإنّ وصف الكذب بالقبح مشروط بأن لا يطرء عليه عنوان آخر أقبح منه كهلاك النبي ونحوه.
الدليل الثالث: لو كان الحُسن والقبح ذاتيين لزم اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد وهو قول القائل: لأكذبن غداً لأنّ هذا القائل:
ألف ـ إذا وفى بوعده غداً وكذب، فسيكون فاعلا ـ في نفس الوقت ـ للفعل: 1 ـ الحسن، وهو الوفاء بالوعد، 2 ـ القبيح، وهو الكذب.
ب ـ إذا أخلف بوعده غداً وترك الكذب، فسيكون فاعلا ـ في نفس الوقت ـ للفعل: 1ـ الحسن، وهو ترك الكذب، 2ـ القبيح، وهو خلف الوعد، فيكون هذا القول متضمّناً للحسن والقبح في آن واحد، وهذا ما يدل على أنّ الحسن والقبح أمران اعتباريان وغير ذاتيين، لأنّهما لو كانا ذاتيين لما اجتمعا في شيء واحد، ويرد عليه:
الرأي الأوّل: إنّ اجتماع الحسن والقبيح في الشيء الواحد لا يدل على كون الحسن والقبح غير ذاتيين إلاّ إذا كان هذا الاجتماع من جهة واحدة، ولكن اجتماع الحسن والقبح في قول القائل: لأكذبنّ غداً ليس من جهة واحدة ليثبت به مدّعى الأشاعرة، بل هو من جهتين، فلا يثبت به نفي ذاتية الحسن والقبح، توضيح ذلك: إنّ عدم عمل هذا الشخص بقوله لأكذبن غداً يشتمل على جهتين:
1ـ حسن، من حيث إنّه ترك الكذب، 2ـ قبيح، من حيث إنّه أخلف الوعد، وإنّ عمل هذا الشخص بقوله لأكذبن غداً يشتمل على جهتين:
1ـ حسن، من حيث إنّه وفى بوعده، 2ـ قبيح، من حيث إنّه كذب، فالحسن والقبح ـ في هذا المقام ـ يختلفان من ناحية الجهة، ولهذا لا يكون وصف الحسن والقبح ـ هنا ـ للشيء الواحد من جهة واحدة، ليستلزم القول بأنّ الحسن والقبح أمران اعتباريان وغير ذاتيين.
الموقف الصحيح: إنّ هذا الشخص يجب عليه ـ بحكم العقل ـ ترك الكذب غداً، لأنّه:
1ـ إذا كذب غداً، فقد فعل فعلين قبيحين وفعل حسناً واحداً: الفعل القبيح الأوّل: العزم على الكذب، الفعل القبيح الثاني: الكذب، الفعل الحسن: الوفاء بالوعد.
2ـ إذا ترك الكذب غداً، فقد فعل فعلين حسنين وفعل قبيحاً واحداً: الفعل الحسن الأوّل: ترك العزم على الكذب، الفعل الحسن الثاني: ترك الكذب، الفعل القبيح: خلف الوعد، ويحكم العقل ـ في هذه الحالة ـ باجتناب أكثر هذين الموردين قبحاً، فيتعيّن على هذا الشخص القائل: لأكذبن غداً أن يترك الكذب غداً، لأنّ ذلك أقل قبحاً من المورد الآخر.
النتيجة: لا يكون اجتماع الحسن والقبح ـ في هذا المقام ـ من جهة واحدة ليستلزم الدلالة على أنّ الحسن والقبح غير ذاتيين، بل هو اجتماع من عدّة جهات وعدّة حيثيّات، ويكون حكم العقل ـ في مثل هذه الموارد ـ لزوم اجتناب أكثر الموارد قبحاً.
الرأي الثاني: لا يستلزم قول: لأكذبن غداً اجتماع الحسن والقبح في شيء واحد، بل هو كلام قبيح مطلقاً، وينبغي لقائله أن يترك الكذب غداً.
وأمّا مسألة خلف الوعد: فليس الوفاء بالوعد ـ في هذا المقام ـ حسناً ليكون تركه قبيحاً، لأنّ الحسن إنّما يحسن فيمالو لم يستلزم القبيح، وإنّ الوفاء بالوعد ـ هنا ـ يستلزم القبيح ـ وهو الكذب ـ، فيكون قبيحاً وينبغي الاجتناب عنه.
تنبيه: إنّ استدلال الأشاعرة في هذا المقام مبني ـ كاستدلالهم السابق ـ على كون: حسن الصدق وحسن الوفاء بالوعد مثل حسن العدل، وقبح الكذب وقبح خلف الوعد مثل قبح الظلم، ولكن هذين الحسنين والقبيحين يختلفان، لأنّ حسن العدل وقبح الظلم يجب الالتزام بهما دائماً، ولكن حسن وقبح الموارد المذكورة في هذا الاستدلال لا يجب الالتزام بهما فيما لو تعارضا مع حسن وقبح النوع الأوّل ـ أي: إذا تعارضا مع العدل والظلم ـ.
توضيح: إنّ العدل حسن دائماً، ولهذا ينبغي الالتزام به في جميع الأحوال، وإنّ الظلم قبيح دائماً، ولهذا ينبغي الاجتناب عنه في جميع الأحوال، وأمّا الصدق فهو حسن، ولكنه إذا أدّى إلى الظلم فيجب الاجتناب عنه، وأيضاً الكذب فهو قبيح، ولكن إذا استوجبه العدل فيجب العمل به.
الدليل الرابع: لو كان حُسن بعض الأفعال وقبحها ثابتاً بالعقل قبل الشرع لزم القول: باستحقاق العقاب لتارك ما يستوجبه العقل، واستحقاق العقاب لمرتكب ما يستقبحه العقل، ولكن اللّه تعالى نفى استحقاق العقاب والتعذيب قبل بعثه للرسل بقوله تعالى:
الآية الأُولى: وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً [2]، والرد على تفسير الأشاعرة:
1- يدل ظاهر سياق هذه الآية على أنّ المراد من التعذيب في هذه الآية هو التعذيب الدنيوي المتمثّل بعذاب الاستئصال، وليس المقصود منه العذاب الأُخروي.
2- إنّ هذه الآية لا تدل على نفي حجية تحسين وتقبيح العقل، بل تكشف عن امتنان من اللّه تعالى على العباد واقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذّب قوماً ـ سواء كان هذا العذاب من نوع العذاب الاستئصالي أو العذاب الأخروي ـ إلاّ بعد أن يبعث إليهم رسولا يؤكّد عليهم الحجّة إضافة إلى الحجّة العقلية التي تمّت عليهم قبل مجيء الشرع.
الآية الثانية: وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً[3]، والردّ على تفسير الأشاعرة:
إنّ هذه الآية أيضاً ـ كالآية السابقة ـ يدل سياقها على بيان السنّة الإلهية في عذاب الاستئصال. وقد بيّنت هذه الآية بأنّ عذاب الاستئصال لا يقع امتناناً منه تعالى إلاّ بعد تأكيد الحجّة على أهل القرى بإرسال الرسل.
الآية الثالثة: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[4]، والردّ على تفسير الأشاعرة:
1- لا تدل هذه الآية على نفي حجية تحسين وتقبيح العقل، بل تدل على أنّ في إرسال الرسل إتماماً لالزام الحجّة لئلا يقول الناس: لولا أرسلت إلينا رسولا يوصل إلى المحجّة وينبّه على الحجّة ويوقظ من سنة الغفلة.
2- إنّ الاعتقاد بالرسول لا يتم إلاّ عن طريق العقل، لأنّ صدق الرسول لا يمكن الاعتقاد به إلاّ عن طريق حكم العقل.
بعبارة أُخرى: لو كانت الحجّة الإلهية لا تتم إلاّ بالرسول لاحتاج هذا الرسول لإثبات لزوم اتّباعه إلى رسول آخر، والكلام في رسوله كالكلام فيه حتّى يتسلسل وهو باطل. ولهذا لا سبيل لإثبات لزوم اتّباع الرسول الإلهي إلاّ عن طريق حجية العقل، ولهذا قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): حجّة اللّه على العباد النبي، والحجّة فيما بين العباد وبين اللّه العقل[5].
وقال الإمام الكاظم (ع): إنّ للّه على الناس حجّتين: حجّة ظاهرة وحجة باطنة، فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة(عليهم السلام)، وأمّا الباطنة فالعقول[6].
الدليل الخامس للأشاعرة على إنكار الحسن والقبح العقليّين
1ـ لو كان الحُسن أمراً ذاتياً لبعض الأفعال، وهو الداعي للعمل بها: فسيكون الداعي ـ وهو حُسن الفعل ـ سابقاً على الفعل، أي: يكون المعدوم ـ وهو الحُسن الذي سيحقّقه هذا الفعل ـ هو الذي يدفع الإنسان إلى تحقّق هذا الفعل، فيلزم ذلك قيام الموجود بالمعدوم وهو باطل، فيثبت بطلان كون الحسن أمراً ذاتياً للفعل.
2- لو كان القبح أمراً ذاتياً لبعض الأفعال، وهو الصارف عن العمل بها: فسيكون الصارف (وهو قبح الفعل) سابقاً على الفعل، أي: يكون المعدوم (وهو القبح الذي سيحقّقه هذا الفعل) هو الذي يردع الإنسان عن تحقّق هذا الفعل، فيلزم ذلك قيام الموجود بالمعدوم وهو باطل، فيثبت بطلان كون القبح أمراً ذاتياً للفعل، ويرد عليه:
1- ليس الداعي ـ في هذه الحالة ـ هو الحُسن بنفسه ليقال: يلزم ذلك قيام الموجود بالمعدوم، بل:
إنّ الداعي هو علم الشخص بأنّه إذا فعل هذا الفعل فإنّه سيفعل ما هو حسن، وسيستحق بذلك المدح، وهذا العلم أمر وجودي.
2- ليس الصارف ـ في هذه الحالة ـ هو القبح بنفسه ليقال: يلزم ذلك قيام الموجود بالمعدوم، بل: إنّ الصارف هو علم الشخص بأنّه إذا فعل هذا الفعل فإنّه سيفعل ما هو قبيح، وسيستحق بذلك الذم، وهذا العلم أمر وجودي.
الدليل السادس للأشاعرة على إنكار الحسن والقبح العقلي
إنّ الذي عقلناه من معنى الحسن، ما يكون نفعاً أو مؤدّياً إليه، والذي عقلناه من معنى القبح ما يكون ضرراً أو مؤدياً إليه، والرغبة في المنفعة، والرهبة عن المضرّة إنّما يعقل حصولهما في حقّ من يصح عليه النفع والضرر، ولمّا كان ذلك في حقّ اللّه تعالى محالا، كان القول بثبوت الحسن والقبح في حقّ اللّه محالا.
يرد عليه: لا يعني حسن وقبح أفعال اللّه تعالى حصول المنفعة والمضرّة له تعالى، لأنّ اللّه عزّ وجلّ منزّه عن ذلك، وإنّما المنفعة والمضرّة متوجّهة لغيره من مخلوقاته، ومن هذا المنطلق:
إنّ الفعل الإلهي الذي فيه المنفعة لغيره يوصف بالحسن، وإنّ الفعل الإلهي الذي فيه مضرّة لغيره يوصف بالقبح، ويحكم العقل بأنّه تعالى حكيم: وأنّ كلّ أفعال اللّه تعالى فيها منفعة لمخلوقاته، وأنّ كلّ أفعال اللّه تعالى منزّهة عن المضرّة لمخلوقاته، فيثبت بذلك الحسن والقبح للفعل الإلهي.
المبحث الثالث: أقوال بعض أهل السنة الموافقين للحسن والقبح العقلي
1- قال سعد الدين التفتازاني: ذهب بعض أهل السنة وهم الحنفية إلى أنّ حسن بعض الأشياء وقبحها مما يدرك بالعقل … كوجوب أوّل الواجبات، ووجوب تصديق النبي، وحرمة تكذيبه دفعاً للتسلسل …[7].
2ـ الماتريدي، ومن أقواله الدالة على موافقته للحسن والقبح العقلي: أوّلا: ما حسّنه العقل وقبّحه ليس له زوال ولا تغيّر من حال إلى حال[8]، ثانياً: ما يدرك حسنه بالعقل وقبحه، فلا يزال يزداد على ما فيه إدراكه ببديهة الأحوال، ولذلك جعل اللّه العقول حجّة، ثالثاً: وبعد، فإنّه قد حسن في العقول الصدق والعدل، وقبح فيها الجور والكذب…، العقول آمرة بكسب ما يعلي شرف من رزق منها، وناهية عما فيه هوان صاحبها، فيجب الأمر والنهي بضرورة العقل[9].
3 ـ ابن قيم الجوزية: ومن أقواله الدالة على موافقته للحسن والقبح العقلي: أوّلا: فإن قيل: فما جوابكم عن الأدلة التي ذكرها نفاة التحسين والتقبيح على كثرتها؟ قيل: قد كفونا بحمد اللّه مؤونة إبطالها بقدحهم فيها، وقد أبطلها كلّها واعترض عليها فضلاء أتباعها وأصحابها …[10]، ثانياً: إنّ الكذب لا يكون قط إلاّ قبيحاً … إنّ تخلّف القبح عن الكذب لفوات شرط أو قيام مانع يقتضي مصلحة راجحة على الصدق لا تخرجه عن كونه قبيحاً لذاته[11].
4- قال فخر الدين الرازي: المختار عندنا: أنّ تحسين العقل وتقبيحه بالنسبة إلى العباد معتبر، وأمّا بالنسبة إلى اللّه تعالى فهو باطل، أمّا إثباته في حقّ العباد فيدل عليه وجوه:
الأوّل: إنّا نرى أنّ العقلاء قبل علمهم بالشرائع والنبوّات مطبقون على حسن مدح المحسن، وحسن ذم المسيء.. وهذا الحكم حاصل، سواء كان ذلك الإنسان مؤمناً يصدّق بالأنبياء أو لم يكن كذلك، فعلمنا أنّ هذا الحسن مقرّر في عقولهم.
الثاني: لا معنى للقبح الشرعي إلاّ أن ينهى الشرع عن ذلك الفعل، فيقول العقل: هل يجب الانتهاء عما نهى الشرع؟ فإن قضى بذلك فالحسن والقبح العقليان قد ثبتا، وإن لم يقض العقل بذلك فيحتاج الأمر حينئذ إلى إيجاب آخر، فإن كان هذا الإيجاب من الشرع، فالكلام فيه كما في الأوّل، فيلزم التسلسل وهو محال، فيثبت ضرورة الاعتقاد بالحسن والقبح العقليين.
الثالث: لابدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاته، ولابدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مكروهاً لذاته، وهذا الحكم ثابت في محض العقول سواء حصلت الشريعة أو لم تحصل.
5- إنّ الأمر الملفت للنظر من عضد الدين الإيجي أنّه ذكر في كتابه المواقف حول دليل الأشاعرة على امتناع صدور الكذب من اللّه عزّ وجلّ: إنّه ـ أي: الكذب منه تعالى ـ نقص، والنقص على اللّه تعالى محال[12].
ثمّ علّق الإيجي بنفسه على كلامه هذا، وقال: واعلم أنّه لم يظهر لي فرق بين النقص في الفعل وبين القبح العقلي، فإنّ النقص في الأفعال هو القبح العقلي بعينه، وإنّما تختلف العبارة!، ثمّ علّق شارح كتاب المواقف الشريف الجرجاني على هذه العبارة، وقال: فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي كيف يتمسّكون في دفع الكذب … عن اللّه تعالى بلزوم النقص في أفعاله تعالى؟
للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابط التالي: 1ـ الحسن والقبح العقلي: آراء العدلية وأدلتها في القرآن، 2ـ الحسن والقبح، معناه، أقسامه، منشأه، اطلاقاته، والخلاف فيه.
الاستنتاج
أن الأشاعرة يرون أن الحسن والقبح أمور اعتبارية تعتمد على الشارع، وليس لهما وجود ذاتي مستقل، ويعتقدون أن الأفعال تكون حسنة أو قبيحة بناءً على أوامر الشرع ونواهيه، ولا يمكن للعقل أن يدرك حسن أو قبح الأفعال بشكل مستقل عن الشرع، ويطرح الأشاعرة عدة أدلة لنفي الحسن والقبح العقليين، في المقابل يناقش الفلاسفة هذه الأفكار، معتبرين أن العقل يمكن أن يدرك الحسن والقبح، وأن الأحكام العقلية ليست متساوية ولا تخضع لنفس المعايير.
الهوامش
[1] من أمثلة العناوين التي تمتلك الحسن والقبح الذاتي: العدل والظلم.
[2] الإسراء، 15.
[3] القصص، 59.
[4] النساء، 165.
[5] الكليني، الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل، ح22، ص25.
[6] الكليني، الكافي، ج1، كتاب العقل والجهل، ح12، ص16.
[7] التفتازاني، شرح المقاصد، ج4، فصل 5، مبحث 3، ص293.
[8] الماتريدي، كتاب التوحيد، مسألة في أفعال الخلق وإثباتها، ص223.
[9] الماتريدي، كتاب التوحيد، مسألة إثبات الرسالة وبيان الحاجة إليها، ص178.
[10] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة، ج2، ص342.
[11] ابن قيم الجوزية، مفتاح دار السعادة، ج2، ص354.
[12] القاضي الإيجي، كتاب المواقف، ج3، موقف 5، مرصد 4، مقصد 7، ص140.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن قيم الجوزية، محمّد، مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، تحقيق حسّان عبد المنّان الطيبي، بيروت، دار الجيل، طبعة 1414 ه.
3ـ التفتازاني، سعد الدين، شرح المقاصد، تحقيق عبد الرحمن عميرة، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
4ـ القاضي الايجي، عبد الرحمن، المواقف، بشرح الشريف الجرجاني، قم، انتشارات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، بلا تاريخ.
5ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
6ـ الماتريدي، أبو منصور محمّد، كتاب التوحيد، تحقيق بكر طوبال اوغلي، بيروت، دار صادر، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الحسون، علاء، العدل عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، طبعة 1432ه.