- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 12 دقیقة
- بواسطة : امین نجف
- 0 تعليق
إذا تتبّعنا المرحلة الاُولى من حياة الاُمّة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه و آله نجد أنّ اتّجاهين رئيسيين مختلفين قد رافقا نشوء الاُمّة وبداية التجربة الإسلامية منذ السنوات الاُولى ، وكانا يعيشان معاً داخل إطار الاُمّة الوليدة التي أنشأها الرسول القائد ، وقد أدّى هذا الاختلاف بين الاتّجاهين إلى انقسام عقائدي عقيب وفاة الرسول صلى الله عليه و آله مباشرةً شطَر الاُمّة الإسلامية إلى شطرين ، قدّر لأحدهما أن يحكم ، فاستطاع أن يمتدّ ويستوعب أكثريّة المسلمين ، بينما اُقصي الشطر الآخر عن الحكم وقدّر له أن يمارس وجوده كأقلّية معارضة ضمن الإطار الإسلامي العام ، وكانت هذه الأقلّية هي ( الشيعة ) .
والاتّجاهان الرئيسيّان اللذان رافقا نشوء الاُمّة الإسلامية في حياة النبي صلى الله عليه و آله منذ البدء هما :
أوّلاً – الاتجاه الذي يؤمن بالتعبّد بالدين وتحكيمه والتسليم المطلق للنص الديني في كلّ جوانب الحياة .
وثانياً – الاتّجاه الذي لا يرى أنّ إيمانه بالدين يتطلّب منه التعبّد إلّافي نطاق خاصّ من العبادات والغيبيّات ، ويؤمن بإمكانيّة الاجتهاد وجواز التصرّف على أساسه بالتغيير والتعديل في النصّ الديني وفقاً للمصالح في غير ذلك النطاق من مجالات الحياة .
وبالرغم من أنّ الصحابة – بوصفهم الطليعة المؤمنة والمستنيرة – كانوا أفضل وأصلح بذرة لنشوء اُمّة رساليّة ، حتّى أنّ تاريخ الإنسان لم يشهد جيلاً عقائدياً أروع وأطهر وأنبل من الجيل الذي أنشأه الرسول القائد … وبالرغم من ذلك نجد من الضروري التسليم بوجود اتّجاه واسع منذ كان النبي صلى الله عليه و آله على قيد الحياة ، يميل إلى تقديم الاجتهاد في تقدير المصلحة واستنتاجها من الظروف على التعبّد بحرفيّة النصّ الديني ، وقد تحمّل الرسول صلى الله عليه و آله المرارة في كثير من الحالات بسبب هذا الاتّجاه حتّى وهو على فراش الموت في ساعاته الأخيرة على ما يأتي . كما كان هناك اتّجاهٌ آخر يؤمن بتحكيم الدين والتسليم له والتعبّد بكلّ نصوصه في جميع جوانب الحياة .
وقد يكون من عوامل انتشار الاتّجاه الثاني ( الاجتهادي ) في صفوف المسلمين أ نّه يتّفق مع ميل الإنسان بطبيعته إلى التصرّف وفقاً لمصلحة يدركها ويقدّرها ، بدلاً عن التصرّف وفقاً لقرار لا يفهم مغزاه .
وقد قدّر لهذا الاتّجاه ممثّلون جريئون من كبار الصحابة ، من قبيل عمر ابن الخطّاب الذي ناقش الرسول صلى الله عليه و آله واجتهد في مواضع عديدة خلافاً للنصّ ، إيماناً منه بأنّ له مثل هذا الحق ما دام يرى أ نّه لم يخطئ المصلحة في اجتهاده.
وبهذا الصدد يمكن أن نلاحظ موقفه من « صلح الحديبية »(1)
واحتجاجه على هذا الصلح ، وموقفه من الأذان وتصرّفه فيه بإسقاط ( حيّ على خير العمل ) ، وموقفه من النبي صلى الله عليه و آله حين شرّع ( متعة الحج )(2)
إلى غير ذلك من مواقفه الاجتهادية(3).
وقد انعكس كلا الاتّجاهين في مجلس الرسول صلى الله عليه و آله في آخر يوم من أيّام حياته ؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس ، قال : « لمّا حضر رسول اللَه صلى الله عليه و آله الوفاة وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطّاب ، قال النبي : هلمّ أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده . فقال عمر : إنّ النبي صلى الله عليه و آله قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب اللَه .
فاختلف أهل البيت فاختصموا ، منهم مَن يقول : قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلّوا بعده ، ومنهم مَن يقول ما قال عمر ، فلمّا أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي قال لهم : قوموا »(4) .
وهذه الواقعة وحدها كافية للتدليل على عمق الاتّجاهين ومدى التناقض والصراع بينهما .
ويمكن أن نضيف إليها – لتصوير عمق الاتجاه الاجتهادي ورسوخه – ما حصل من نزاع وخلاف بين الصحابة حول تأمير « اُسامة بن زيد » على الجيش ، بالرغم من النصّ النبوي الصريح على ذلك ، حتّى خرج الرسول صلى الله عليه و آله وهو مريض ، فخطب الناس وقال : « يا أ يّها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير اُسامة ، ولئن طعنتم في تأميري اُسامة لقد طعنتم في تأمير أبيه من قبل ، وأيم اللَّه إنّه كان لخليقاً بالإمارة ، وإنّ ابنه من بعده لخليق بها »(5) .
وهذان الاتّجاهان اللذان بدأ الصراع بينهما في حياة النبي صلى الله عليه و آله قد انعكسا على موقف المسلمين من اُطروحة زعامة الإمام للدعوة بعد النبي صلى الله عليه و آله .
فالممثّلون للاتّجاه التعبّدي وجدوا في النصّ النبوي على هذه الاُطروحة سبباً ملزماً لقبولها دون توقّف أو تعديل ، وأمّا الاتّجاه الثاني فقد رأى أ نّه بإمكانه أن يتحرّر من الصيغة المطروحة من قِبل النبي صلى الله عليه و آله إذا أدّى اجتهاده إلى صيغة اُخرى أكثر انسجاماً – في تصوّره – مع الظروف .
وهكذا نرى أنّ الشيعة ولِدوا منذ وفاة الرسول صلى الله عليه و آله مباشرة ، متمثّلين في المسلمين الذين خضعوا عمليّاً لاُطروحة زعامة الإمام عليّ عليه السلام وقيادته التي فرض النبي الابتداء بتنفيذها من حين وفاته مباشرة .
وقد تجسّد الاتّجاه الشيعي منذ اللحظة الاُولى في إنكار ما اتّجهت إليه السقيفة من تجميد لاُطروحة زعامة الإمام عليّ عليه السلام وإسناد السلطة إلى غيره .
ذكر الطبرسي في الاحتجاج عن أبان بن تغلب ، قال : « قلت لجعفر بن محمّد الصادق عليه السلام : جعلت فداك هل كان أحد في أصحاب رسول اللَه أنكر على أبي بكر فعله ؟ قال : نعم كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلاً ، من المهاجرين : خالد بن سعيد بن أبي العاص ، وسلمان الفارسي ، وأبو ذرّ الغفاري ، والمقداد بن الأسود ، وعمّار بن ياسر ، وبريدة الأسلمي .
ومن الأنصار : أبو الهيثم بن التيهان ، وسهل وعثمان ابنا حنيف ، وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، واُبيّ بن كعب ، وأبو أيّوب الأنصاري»(6).
وقد تقول : إذا كان الاتّجاه الشيعي يمثّل التعبّد بالنصّ ، والاتّجاه الآخر المقابل له يمثّل الاجتهاد فهذا يعني أنّ الشيعة يرفضون الاجتهاد ولا يسمحون لأنفسهم به ، مع أ نّا نجد أنّ الشيعة يمارسون عمليّة الاجتهاد في الشريعة دائماً !
والجواب : إنّ الاجتهاد الذي يمارسه الشيعة ويرونه جائزاً بل واجباً وجوباً كفائيّاً هو الاجتهاد في استنباط الحكم من النصّ الشرعي ، لا الاجتهاد في رفض النصّ الشرعي لرأي يراه المجتهد أو لمصلحة يخمّنها ؛ فإنّ هذا غير جائز ، والاتّجاه الشيعي يرفض أيّ ممارسة للاجتهاد بهذا المعنى .
ونحن حينما نتحدّث عن قيام اتّجاهين منذ صدر الإسلام : أحدهما اتّجاه التعبّد بالنصّ ، والآخر اتّجاه الاجتهاد ، نعني بالاجتهاد الاجتهاد في رفض النصّ أو قبوله .
وقيام هذين الاتّجاهين شيء طبيعي في ظلّ كلّ رسالة تغييرية شاملة تحاول تغيير الواقع الفاسد من الجذور ؛ فإنّها تتّخذ درجات مختلفة من التأثير حسب حجم الرواسب المسبقة ومدى انصهار الفرد بقيم الرسالة الجديدة ودرجة ولائه لها .
وهكذا نعرف أنّ الاتّجاه الذي يمثّل التعبّد بالنصّ يمثّل الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها ، وهو لا يرفض الاجتهاد ضمن إطار النصّ وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي منه .
ومن المهمّ أن نشير بهذا الصدد أيضاً إلى أنّ التعبّد بالنصّ لا يعني الجمود والتصلّب الذي يتعارض مع متطلّبات التطوّر وعوامل التجديد المختلفة في حياة الإنسان ، فإنّ التعبّد بالنصّ معناه – كما عرفنا – التعبّد بالدين والأخذ به كاملاً دون تبعيض .
وهذا الدين نفسه يحمل في أحشائه كلّ عناصر المرونة والقدرة على مسايرة الزمن واستيعابه بكلّ ما يحمل من ألوان التجديد والتطوّر ، فالتعبّد به وبنصّه تعبّد بكلّ تلك العناصر وبكلّ ما فيها من قدرة على الخلق والإبداع والتجديد .
هذه خطوط عامّة عن تفسير التشيّع بوصفه ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الإسلامية وتفسير ظهور الشيعة كاستجابة لتلك الظاهرة الطبيعية .
المرجعيّة الفكريّة والقياديّة لأهل البيت عليهم السلام :
وإمامة أهل البيت والإمام علي عليه السلام التي تمثّلها تلك الظاهرة الطبيعية تعبّر عن مرجعيتين : إحداهما المرجعيّة الفكرية ، والاُخرى المرجعيّة في العمل القيادي والاجتماعي ، وكلتا المرجعيتين كانتا تتمثّلان في شخص النبي صلى الله عليه و آله وكان لابدّ – في ضوء ما درسنا من ظروف – أن يصمّم الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله الامتداد الصالح له لتحمّل كلتا المرجعيتين ، لكي تقوم المرجعيّة الفكرية بملء الفراغات التي قد تواجهها ذهنية المسلمين ، وتقديم المفهوم المناسب ووجهة النظر الإسلامية فيما يستجدّ من قضايا الفكر والحياة ، وتفسير ما يشكل ويغمض من معطيات الكتاب الكريم الذي يشكّل المصدر الأوّل للمرجعيّة الفكرية في ـ الإسلام ، ولكي تقوم المرجعيّة القيادية الاجتماعية بمواصلة المسيرة وقيادة التجربة الإسلامية في خطّها الاجتماعي .
وقد جمعت كلتا المرجعيتين لأهل البيت عليهم السلام بحكم الظروف التي درسناها ، وجاءت النصوص النبويّة الشريفة تؤكّد ذلك باستمرار .
والمثال الرئيسي للنصّ النبوي على المرجعيّة الفكرية حديث الثقلين ؛ إذ قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله : « إنّي أوشك أن اُدعى فاُجيب ، وإنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب اللَه حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، وإنّ اللطيف الخبير أخبرني أ نّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(7).
والمثال الرئيسي للنصّ النبوي على المرجعيّة في العمل القيادي الاجتماعي حديث الغدير ، حيث أخرج الطبراني – بسند مجمع على صحّته – عن زيد بن أرقم قال : « خطب رسول اللَه صلى الله عليه و آله بغدير خم تحت شجرات فقال : أيّها الناس يوشك أن اُدعى فاُجيب ، وإنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أ نّك قد بلّغت وجاهدت ونصحت ، فجزاك اللَه خيراً .
فقال : أليس تشهدون أن لا إله إلّااللَّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأنّ جنّته حقّ وأنّ ناره حقّ وأنّ الموت حقّ وأنّ البعث حقّ بعد الموت وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللَّه يبعث مَن في القبور ؟ فقالوا : بلى نشهد بذلك . قال : اللهمّ اشهد .
ثمّ قال : يا أيّها الناس إنّ اللَّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم ، فمن كنتُ مولاه فهذا مولاه – يعني عليّاً – اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه »( وحديث الغدير مستفيض في كتب الحديث عند الشيعة والسنّة معاً ، وقد أحصى بعض المحقّقين عدد رواة الحديث من الصحابة فكانوا أكثر من مائة ، وعددهم من التابعين فكانوا أكثر من ثمانين تابعيّاً ، وعددهم من حفّاظ القرن الثاني فكانوا قرابة ستّين شخصاً من حفّاظ الحديث ورجالاته ، وهكذا .
لاحظ كتاب الغدير للشيخ الأميني المؤلّف قدس سره)(8) .
وهكذا جسّد هذان النصّان النبويّان الشريفان – في عدد كبير من أمثالهما – كلتا المرجعيّتين في أهل البيت عليهم السلام.
وقد أخذ الاتّجاه الإسلامي القائم على التعبّد بنصوص النبي صلى الله عليه و آله بكلا النصّين ، وآمن بكلتا المرجعيّتين ، وهو اتّجاه المسلمين الموالين لأهل البيت .
ولئن كانت المرجعيّة القيادية الاجتماعية لكلّ إمام تعني ممارسته للسلطة خلال حياته فإنّ المرجعيّة الفكرية حقيقة ثابتة مطلقة لا تتقيّد بزمان حياة الإمام .
ومن هنا كان لها مدلولها العملي الحي في كلّ وقت ، فمادام المسلمون بحاجة إلى فهم محدّد للإسلام وتعرّف على أحكامه وحلاله وحرامه ومفاهيمه وقيمه فهم بحاجة إلى المرجعيّة الفكرية المحدّدة ربّانياً المتمثّلة أوّلاً في كتاب اللَه تعالى وثانياً في سنّة رسوله صلى الله عليه و آله والعترة المعصومة من أهل البيت التي لا تفترق ولن تفترق عن الكتاب كما نصّ الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله .
وأمّا الاتّجاه الآخر في المسلمين الذي قام على الاجتهاد بدلاً عن التعبّد بالنصّ ، فقد قرّر في البدء عند وفاة الرسول الأعظم صلى الله عليه و آله تسليم المرجعيّة القيادية التي تمارس السلطة إلى رجالات من المهاجرين وفقاً لاعتبارات متغيّرةومتحرّكة ومرنة ، وعلى هذا الأساس تسلّم أبو بكر السلطة بعد وفاة النبي مباشرة على أساس ما تمّ من تشاور محدود في مجلس السقيفة(9)
ثمّ تولّى الخلافة عمر بنصّ محدَّد من أبي بكر(10)
وخلفهما عثمان بنصّ غير محدّد من عمر(11)
وأدّت المرونة بعد ثلث قرن من وفاة الرسول القائد إلى تسلّل أبناء الطلقاء – الذين حاربوا الإسلام بالأمس – إلى مراكز السلطة .
هذا في ما يتّصل بالمرجعيّة القيادية التي تمارس السلطة ، وأمّا بالنسبة إلى المرجعيّة الفكرية فقد كان من الصعب إقرارها في أهل البيت بعد أن أدّى الاجتهاد إلى انتزاع المرجعيّة القيادية منهم ؛ لأنّ إقرارها كان يعني خلق الظروف الموضوعيّة التي تمكّنهم من تسلّم السلطة والجمع بين المرجعيّتين ، كما أ نّه كان من الصعب أيضاً من الناحية الاُخرى الاعتراف بالمرجعيّة الفكرية لشخص الخليفة الذي يمارس السلطة ؛ لأنّ متطلّبات المرجعيّة الفكرية تختلف عن متطلّبات ممارسة السلطة ، فالإحساس بجدارة الشخص لممارسة السلطة والتطبيق لا يعني بحالٍ الشعور بإمكانية نصبه إماماً فكريّاً ومرجعاً أعلى بعد القرآن والسنّة النبويّة لفهم النظرية ؛ لأنّ هذه الإمامة الفكرية تتطلّب درجة عالية من الثقافة والإحاطة واستيعاب النظرية ، وكان من الواضح أنّ هذا لم يكن متوفّراً في أيّ صحابي بمفرده إذا قطع النظر عن أهل البيت .
ولهذا ظلّ ميزان المرجعيّة الفكرية يتأرجح فترة من الزمن ، وظلّ الخلفاء في كثير من الحالات يتعاملون مع الإمام علي عليه السلام على أساس إمامته الفكرية ، أو على أساس قريب من ذلك حتّى قال الخليفة الثاني مرّات عديدة : « لولا عليّ لهلك عمر » ، و « لا أبقاني اللَه لمعضلة ليس لها أبو حسن »(12) .
ولكن بمرور الزمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله وتعوّد المسلمين تدريجاً على النظر إلى أهل البيت والإمام عليّ عليه السلام بوصفهم أشخاصاً اعتياديين ومحكومين أمكن الاستغناء عن مرجعيّتهم الفكرية أساساً وإسنادها إلى بديل معقول ، وهذا البديل ليس هو شخص الخليفة ، بل الصحابة ، وهكذا وضع بالتدريج مبدأ مرجعيّة الصحابة ككلّ بدلاً عن مرجعيّة أهل البيت ، وهو بديل يستسيغه النظر بعد تجاوز المرجعيّة المنصوصة ؛ لأنّ هؤلاء هم الجيل الذي رافق النبي صلى الله عليه و آله وعاش حياته وتجربته ووعى حديثه وسنّته .
وبهذا فقد أهل البيت عمليّاً امتيازهم الربّاني وأصبحوا يشكّلون جزءاً من المرجعيّة الفكرية بوصفهم صحابة . وبحكم ما قدّر أن عاشه الصحابة أنفسهم من اختلافات حادّة وتناقضات شديدة بلغت في كثير من الأحيان إلى مستوى القتال ، وهدر كلّ فريق دم الفريق الآخر وكرامته واتّهامه بالانحراف والخيانة(13) .
أقول : بحكم هذه الاختلافات والاتّهامات بين صفوف الإمامة الفكريّة والمرجعيّة العقائدية نفسها ، نشأت ألوان من التناقض العقائدي والفكري في جسم الاُمّة الإسلامية ، كانعكاسات لأوجه التناقض في داخل تلك الإمامة الفكريّة التي قرّرها الاجتهاد .
الجانب الروحي والسياسي في اُطروحة التشيّع :
وأودّ أن اُشير قبل ختام الحديث إلى نقطة ، وأعتبر توضيحها على درجة كبيرة من الأهميّة ؛ فإنّ بعض الباحثين يحاول التمييز بين نحوين من التشيّع : أحدهما التشيّع الروحي ، والآخر التشيّع السياسي ، ويعتقد أنّ أئمّة الشيعة الإمامية من أبناء الحسين عليه السلام قد اعتزلوا بعد مذبحة كربلاء السياسة وانصرفوا إلى الإرشاد والعبادة والانقطاع عن الدنيا .
والحقيقة أنّ التشيّع لم يكن في يوم من الأيام منذ ولادته مجرّد اتّجاه روحي بحت ، وإنّما ولد التشيّع في أحضان الإسلام بوصفه اُطروحة مواصلة الإمام عليّ للقيادة بعد النبي صلى الله عليه و آله فكريّاً واجتماعيّاً على السواء ، كما أوضحنا سابقاً عند استعراض الظروف التي أدّت إلى ولادة التشيّع .
ولم يكن بالإمكان – بحكم هذه الظروف التي استعرضناها – أن يفصل الجانب الروحي عن الجانب السياسي في اُطروحة التشيّع ؛ تبعاً لعدم انفصال أحدهما عن الآخر في الإسلام نفسه .
فالتشيّع إذن لا يمكن أن يتجزّأ إلّاإذا فقد معناه كاُطروحة لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي صلى الله عليه و آله ، وهو مستقبل بحاجة إلى المرجعيّة الفكريّة والزعامة الاجتماعية للتجربة الإسلامية معاً .
وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للإمام عليّ عليه السلام في صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء الثلاثة في الحكم ، وهذا الولاء هو الذي جاء به إلى السلطة عقيب قتل عثمان(14)
وهذا الولاء ليس تشيّعاً روحياً ولا سياسيّاً ؛ لأنّ التشيّع يؤمن بعليّ كبديل عن الخلفاء الثلاثة وخليفة مباشر للرسول صلى الله عليه و آله ، فالولاء الواسع للإمام في صفوف المسلمين أوسع نطاقاً من التشيّع الحقيقي الكامل ، وإن نما التشيّع الروحي والسياسي الكامل داخل إطار هذا الولاء فلا يمكن أن نعتبره مثالاً على التشيّع المجزّأ .
كما أنّ الإمام عليه السلام كان يتمتّع بولاء روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر ، من قبيل سلمان وأبي ذرّ وعمّار وغيرهم ، ولكن هذا لا يعني أيضاً تشيّعاً روحيّاً منفصلاً عن الجانب السياسي ، بل إنّه تعبير عن إيمان اُولئك الصحابة بقيادة الإمام عليّ عليه السلام للدعوة بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله فكريّاً وسياسيّاً .
وقد انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي المتقدّم . وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة أبي بكر(15)
وللاتّجاه الذي أدّى إلى صرف السلطة عن الإمام عليه السلام إلى غيره .
ولم تنشأ في الواقع النظرة التجزيئية للتشيّع الروحي بصورة منفصلة عن التشيّع السياسي ، ولم تولد في ذهن الإنسان الشيعي إلّابعد أن استسلم إلى الواقع وانطفأت جذوة التشيّع في نفسه كصيغة محدّدة لمواصلة القيادة الإسلامية في بناء الاُمّة وإنجاز عمليّة التغيير الكبيرة التي بدأها الرسول الكبير صلى الله عليه و آله وتحوّلت إلى مجرّد عقيدة يطوي الإنسان عليها قلبه ويستمدّ منها سلوته وأمله .
وهنا نصل إلى ما يقال من أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام من أبناء الحسين عليه السلام اعتزلوا الحياة السياسيّة وانقطعوا عن الدنيا ، فنلاحظ أنّ التشيّع بعد أن فهمناه كصيغة لمواصلة القيادة الإسلامية ، والقيادة الإسلامية لا تعني إلّاممارسة عمليّة التغيير التي بدأها الرسول الكريم صلى الله عليه و آله لتكميل بناء الاُمّة على أساس الإسلام ، فليس من الممكن أن نتصوّر تنازل الأئمّة عليهم السلام عن الجانب السياسي إلّاإذا تنازلوا عن التشيّع .
غير أنّ الذي ساعد على تصوّر اعتزال الأئمّة عليهم السلام وتخلّيهم عن الجانب السياسي من قيادتهم ما بدا من عدم إقدامهم على عمل مسلح ضدّ الوضع القائم وإعطاء الجانب السياسي من القيادة معنى ضيّقاً لا ينطبق إلّاعلى عمل مسلّح من هذا القبيل .
ولدينا نصوص عديدة عن الأئمّة عليهم السلام توضّح أنّ إمام الوقت دائماً كان مستعدّاً لخوض عمل مسلّح إذا وجدت لديه القناعة بوجود الأنصار والقدرة على تحقيق الأهداف الإسلامية من وراء ذلك العمل المسلّح(16) .
ونحن إذا تتبّعنا سير الحركة الشيعيّة نلاحظ أنّ القيادة الشيعيّة المتمثّلة في أئمّة أهل البيت عليهم السلام كانت تؤمن بأنّ تسلّم السلطة وحده لا يكفي ولا يمكّن من تحقيق عمليّة التغيير إسلاماً ، ما لم تكن هذه السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية تعي أهداف تلك السلطة ، وتؤمن بنظريّتها في الحكم ، وتعمل في سبيل حمايتها وتفسير مواقفها للجماهير ، وتصمد في وجه الأعاصير .
وفي نصف القرن الأوّل بعد وفاة النبي صلى الله عليه و آله كانت القيادة الشيعية – بعد إقصائها عن الحكم – تحاول باستمرار استرجاع الحكم بالطرق التي تؤمن بها ؛ لأ نّها كانت تؤمن بوجود قواعد شعبيّة واعية أو في طريق التوعية من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان ، ولكن بعد نصف قرن – وبعد أن لم يبق من هذه القواعد الشعبيّة شيء مذكور ونشأت أجيال مائعة في ظلّ الإنحراف – لم يعد تسلّم الحركة الشيعيّة للسلطة محقّقاً للهدف الكبير ؛ لعدم وجود القواعد الشعبيّة المساندة بوعي وتضحية .
وأمام هذا الواقع كان لابدّ من عملين :
أحدهما : العمل من أجل بناء هذه القواعد الشعبيّة الواعية التي تهيّئ أرضية صالحة لتسلّم السلطة .
والآخر : تحريك ضمير الاُمّة الإسلامية وإرادتها ، والاحتفاظ بالضمير الإسلامي والارادة الإسلاميّة بدرجة من الحياة والصلابة تحصّن الاُمّة ضدّ التنازل المطلق عن شخصيّتها وكرامتها للحكّام المنحرفين .
والعمل الأوّل هو الذي مارسه الأئمّة عليهم السلام بأنفسهم ، والعمل الثاني هو الذي مارسه ثائرون علويّون كانوا يحاولون بتضحياتهم الباسلة أن يحافظوا على الضمير الإسلامي والارادة الإسلاميّة ، وكان الأئمّة عليهم السلام يسندون المخلصين منهم .
قال الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السلام للمأمون وهو يحدّثه عن زيد بن عليّ الشهيد : « إنّه كان من علماء آل محمّد صلى الله عليه و آله ، غضب للَّه فجاهد أعداءه حتّى قُتل في سبيله ، ولقد حدّثني أبي موسى بن جعفر عليه السلام أ نّه سمع أباه جعفر يقول : رحم اللَه عمّي زيداً ، إنّه دعا إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر لوفى [ بما دعا إليه … إنّ زيد ابن عليّ لم يدّع ما ليس له بحقّ ، وإنّه كان أتقى ] للَّهمن ذلك إنّه قال : أدعوكم إلى ـ الرضا من آل محمّد »(17) .
وفي رواية أ نّه ذكر بين يدي الإمام الصادق عليه السلام مَن خرج من آل محمّد صلى الله عليه و آله فقال : « لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد ، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله »(18) .
فترك الأئمّة عليهم السلام إذن العمل المسلّح بصورة مباشرة ضد الحكّام المنحرفين لم يكن يعني تخلّيهم عن الجانب السياسي من قيادتهم وانصرافهم إلى العبادة ، وإنّما كان يعبّر عن اختلاف صيغة العمل السياسي التي تحدّدها الظروف الموضوعيّة وعن إدراك معمّق لطبيعة العمل التغييري واُسلوب تحقيقه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- السيرة النبوية لابن هشام ( 3 – 4 ) : 316 – 317
2- التاج الجامع للاُصول 2 : 124 ، مسند أحمد 5 : 590 ، الحديث 19340
3- انظر المستدرك على الصحيحين 2 : 196 ، صحيح البخاري 2 : 252 . وراجع النصّ والاجتهاد : 208 وما بعدها
4- انظر صحيح البخاري 1 : 37 ، كتاب العلم ، و 5 : 137 – 138
5- راجع الطبقات الكبرى 2 : 249 – 250
6- الاحتجاج 1 : 186
7- كنز العمّال 1 : 186 ، الحديث 944 ، سنن الترمذي 5 : 622 ، الحديث 3788
8- راجع الغدير 1 : 31 – 36
9- تاريخ الطبري 3 : 203 وما بعدها
10- تاريخ الطبري: 428 وما بعدها
11- تاريخ الطبري 4 : 227 – 228
12- ذخائر العقبى : 82 ، مناقب الخوارزمي : 81 ، الطبقات الكبرى 2 : 339
13- راجع تاريخ الطبري 3 : 280
14- نهج البلاغة : 49 ، الخطبة 3 ، وراجع تاريخ الطبري 4 : 427 – 428
15- الاحتجاج 1 : 186
16- الكافي 1 : 242
17- الوسائل 15 : 53 ، الباب 13 من أبواب جهاد العدو ، الحديث 11
18- الوسائل: 54 ، الحديث 12
المصدر: نشأة الشيعة والتشيع / السيد محمد باقر الصدر