توحيد الله في الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن

توحيد الله في الكتب السماوية: التوراة والإنجيل والقرآن

کپی کردن لینک

توحيد الله هو جوهر العقيدة في جميع الأديان السماوية، حيث يتجلى من خلال نصوص التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، وتبرز هذه الكتب الإله الواحد الذي لا شريك له، وتصفه بصفات الكمال والقدرة، مما يعكس عمق الفهم الإنساني لوحدانية الخالق، من خلال استعراض النصوص المختلفة من هذه الكتب، يتضح أن التوحيد ليس مجرد مفهوم ديني، بل هو أساس للعدالة والحق في المجتمعات المختلفة، في هذه المقالة، سنستكشف كيف عبرت التوراة والإنجيل والقرآن عن هذا المبدأ الأساسي، مسلطة الضوء على الآيات التي تدعم فكر التوحيد وتنفى التشبيه.

توحيد الله والكتب السماوية

اتّفقت الكتبُ السماويةُ على توحيد الله تعالى، ووصفِه بصفات الكمال، فهو الإلهُ الواحدُ الذي لا إله سواه، وهو الخالق لكل الخلائق، وهو الأزليّ الذي لا بدء له، وهذا أولُّ أصلٍ من أصول الاعتقاد في كافة الأديان السماوية.

ولا ريب أن العقلَ هو المرشدُ الأول لهذا الاعتقاد، وإن خفيَ عليه ذلك تأتي الكتبُ السماويةُ لتَنفُض عنه ما عَلِقَ به من غبار، وتزيل الستار عن الشعلة المكتومة الدالة على توحيد الله.

وكلمات الكتب السماوية الدالة على ذلك كثيرة جداً، نعرض لجملة منها من الكتب الثلاثة:

1ـ التوحيد في العهد القديم (التوراة)

نصوص توحيد الله في العهد القديم كثيرة جداً، وهي في غاية الصراحة، ونعرض طائفتين منها، الطائفة الأولى دلّت على وجود الله وتوحيده وألوهيته وخالقيّته، والطائفة الثانية دلّت على تنزيهه تعالى عن المشابهة لخلقه.

الطائفة الأولى: الله واحد

مما ورد في المزامير:

1ـ كُلُّ الأُمَمِ الَّذِينَ صَنَعْتَهُمْ يَأْتُونَ وَيَسْجُدُونَ أَمَامَكَ يَا رَبُّ، وَيُمَجِّدُونَ اسْمَكَ. لأَنَّكَ عَظِيمٌ أَنْتَ وَصَانِعٌ عَجَائِبَ، أَنْتَ الله وَحْدَكَ[1].

2ـ اُذْكُرُوا الأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ القَدِيمِ، لأَنِّي أَنَا الله وَلَيْسَ آخَرُ، الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي، مُخْبِرٌ مُنْذُ البَدْءِ بِالأَخِيرِ[2].

3ـ فَاعْلَمْ أَنَّ الرَّبَّ إِلهَكَ هُوَ الله، الإِلهُ الأَمِينُ[3].

4ـ لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ الله فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ[4].

5ـ قُومُوا بَارِكُوا الرَّبَّ إِلهَكُمْ مِنَ الأَزَلِ إِلَى الأَبَدِ، وَلْيَتَبَارَكِ اسْمُ جَلاَلِكَ المُتَعَالِي عَلَى كُلِّ بَرَكَةٍ وَتَسْبِيحٍ، أَنْتَ هُوَ الرَّبُّ وَحْدَكَ. أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَسَمَاءَ السَّمَاوَاتِ وَكُلَّ جُنْدِهَا، وَالأَرْضَ وَكُلَّ مَا عَلَيْهَا، وَالبِحَارَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَأَنْتَ تُحْيِيهَا كُلَّهَا، وَجُنْدُ السَّمَاءِ لَكَ يَسْجُدُ[5].

6ـ اعْلَمُوا أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الله، هُوَ صَنَعَنَا، وَلَهُ نَحْنُ شَعْبُهُ وَغَنَمُ مَرْعَاهُ[6].

7ـ الرَّبُّ هُوَ الله وَقَدْ أَنَارَ لَنَا. أَوْثِقُوا الذَّبِيحَةَ بِرُبُطٍ إِلَى قُرُونِ المَذْبَحِ[7].

8ـ هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ لِمَسِيحِهِ، لِكُورَشَ الَّذِي أَمْسَكْتُ بِيَمِينِهِ..: أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ، لاَ إِلهَ سِوَايَ، نَطَّقْتُكَ وَأَنْتَ لَمْ تَعْرِفْنِي، لِكَيْ يَعْلَمُوا مِنْ مَشْرِقِ الشَّمْسِ وَمِنْ مَغْرِبِهَا أَنْ لَيْسَ غَيْرِي، أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ، مُصَوِّرُ النُّورِ وَخَالِقُ الظُّلْمَةِ، صَانِعُ السَّلاَمِ وَخَالِقُ الشَّرِّ، أَنَا الرَّبُّ صَانِعُ كُلِّ هذِهِ[8].

9ـ هكَذَا يَقُولُ الرَّبُّ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ وَفَادِيهِ، رَبُّ الجُنُودِ: «أَنَا الأَوَّلُ وَأَنَا الآخِرُ، وَلاَ إِلهَ غَيْرِي، وَمَنْ مِثْلِي؟ يُنَادِي، فَلْيُخْبِرْ بِهِ وَيَعْرِضْهُ لِي مُنْذُ وَضَعْتُ الشَّعْبَ القَدِيمَ. وَالمُسْتَقْبِلاَتُ وَمَا سَيَأْتِي لِيُخْبِرُوهُمْ بِهَا، لاَ تَرْتَعِبُوا وَلاَ تَرْتَاعُوا، أَمَا أَعْلَمْتُكَ مُنْذُ القَدِيمِ وَأَخْبَرْتُكَ؟ فَأَنْتُمْ شُهُودِي، هَلْ يُوجَدُ إِلهٌ غَيْرِي؟ وَلاَ صَخْرَةَ لاَ أَعْلَمُ بِهَا؟»[9].

فأثبتَ أنّه لا إله غيره، وأنّه الأول والآخر، وأنّه ليس مثله شيء، وأنه يعلم كل شيء.

10ـ أَخْبِرُوا، قَدِّمُوا، وَلْيَتَشَاوَرُوا مَعاً، مَنْ أَعْلَمَ بِهذِهِ مُنْذُ القَدِيمِ، أَخْبَرَ بِهَا مُنْذُ زَمَانٍ؟ أَلَيْسَ أَنَا الرَّبُّ وَلاَ إِلهَ آخَرَ غَيْرِي؟ إِلهٌ بَارٌّ وَمُخَلِّصٌ. لَيْسَ سِوَايَ. التَفِتُوا إِلَيَّ وَاخْلُصُوا يَا جَمِيعَ أَقَاصِي الأَرْضِ، لأَنِّي أَنَا الله وَلَيْسَ آخَرَ[10].

11ـ من كلمات داود (ع): يَا رَبُّ، لَيْسَ مِثْلُكَ وَلاَ إِلهَ غَيْرُكَ حَسَبَ كُلِّ مَا سَمِعْنَاهُ بِآذَانِنَا.. وَالآنَ أَيُّهَا الرَّبُّ، أَنْتَ هُوَ الله، وَقَدْ وَعَدْتَ عَبْدَكَ بِهذَا الخَيْر[11].

12ـ «يَا رَبَّ الجُنُودِ، إِلهَ إِسْرَائِيلَ الجَالِسَ فَوْقَ الكَرُوبِيمِ، أَنْتَ هُوَ الإِلهُ وَحْدَكَ لِكُلِّ مَمَالِكِ الأَرْضِ، أَنْتَ صَنَعْتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ[12].

13ـ اُنْظُرُوا الآنَ! أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي، أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي[13].

14ـ ومن وحي الرب للكهنة على يد ملاخي: أَلَيْسَ أَبٌ وَاحِدٌ لِكُلِّنَا؟ أَلَيْسَ إِلهٌ وَاحِدٌ خَلَقَنَا؟ فَلِمَ نَغْدُرُ الرَّجُلُ بِأَخِيهِ لِتَدْنِيسِ عَهْدِ آبَائِنَا؟[14].

15ـ إِنَّكَ قَدْ أُرِيتَ لِتَعْلَمَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الإِلهُ، لَيْسَ آخَرَ سِوَاهُ.. فَاعْلَمِ اليَوْمَ وَرَدِّدْ فِي قَلْبِكَ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الإِلهُ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَعَلَى الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، لَيْسَ سِوَاهُ[15].

16ـ اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ[16].

17ـ أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ العُبُودِيَّةِ، لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي[17].

18ـ الرَّبَّ إِلهَكَ تَتَّقِي، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُ، وَبِاسْمِهِ تَحْلِفُ، لاَ تَسِيرُوا وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى مِنْ آلِهَةِ الأُمَمِ الَّتِي حَوْلَكُمْ[18].

19ـ لأَنَّ الرَّبَّ إِلهَكُمْ هُوَ إِلهُ الآلِهَةِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ، الإِلهُ العَظِيمُ الجَبَّارُ المَهِيبُ الَّذِي لاَ يَأْخُذُ بِالوُجُوهِ وَلاَ يَقْبَلُ رَشْوَةً[19].

20ـ احْمَدُوا إِلهَ الآلِهَةِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمتَهُ. احْمَدُوا رَبَّ الأَرْبَابِ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ[20].

دلّت هذه النصوص وسواها على توحيد الله إذاً، الإله إلهٌ واحدٌ، هو الذي صنع السماوات والأرض، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يصنع العجائب، وهو العالِمُ بكل شيء.

الطائفة الثانية: نفي التشبيه

وهناك نصوص أخرى سوى ما تقدم تنفي أن يكون لله مِثلٌ في السماء والأرض، وتذمّ من يشبهه ويمثّله بغيره، وهي نصوص في غاية الصراحة منها:

1ـ من كلام سليمان في العهد القديم: وَقَالَ: «أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، لاَ إِلهَ مِثْلُكَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، حَافِظُ العَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ السَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمُ[21].

2ـ اُذْكُرُوا الأَوَّلِيَّاتِ مُنْذُ القَدِيمِ، لأَنِّي أَنَا الله وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي، مُخْبِرٌ مُنْذُ البَدْءِ بِالأَخِيرِ[22].

لاَ مِثْلَ لَكَ يَا رَبُّ! عَظِيمٌ أَنْتَ، وَعَظِيمٌ اسْمُكَ فِي الجَبَرُوتِ[23].

4ـ لأَنَّهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ يُعَادِلُ الرَّبَّ، مَنْ يُشْبِهُ الرَّبَّ بَيْنَ أَبْنَاءِ الله؟[24].

5ـ بِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي وَتُسَوُّونَنِي وَتُمَثِّلُونَنِي لِنَتَشَابَهَ؟[25].

6ـ فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ الله، وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ؟ .. «فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي فَأُسَاوِيهِ؟» يَقُولُ القُدُّوسُ[26].

ويقرّ مفسرو التوراة بهذا المعنى لصراحته، فيقول ناشد حنا في شرحه مثلاً: هل لهذا الإله القدير العظيم من شبيه؟ هل يمكن أن يقارن بآلهة الأمم؟ حاشا.

فليس هناك بحسب التوراة من مجالٍ لتشبيه الخالق بسواه، ولا تمثيله بهم.

2ـ التوحيد في العهد الجديد (الإنجيل)

تبعَ الإنجيلُ التوراة، فدلّ صراحة وبشكل لا يقبل اللبس على أنّ هناك إلهاً واحداً لا إله سواه، وذلك في نصوصٍ مختلفة الصيغ والعبائر، منها ما دل على توحيد الله، ومنها ما دل على التنزيه ونفي التشبيه.

الطائفة الأولى: الله واحد

صرّح إنجيل مرقس بتوحيد الله تعالى: فَقَالَ لَهُ الكَاتِبُ:«جَيِّدًا يَا مُعَلِّمُ. بِالحَقِّ قُلْتَ، لأَنَّهُ الله وَاحِدٌ وَلَيْسَ آخَرُ سِوَاهُ[27].

وفي ترجمة الكليّة الأكليريكية: قد أصبت إذ قلتَ إنّ الله واحدٌ، وليس آخر سواه.

وفي رسائل بولس: أَمِ الله لِلْيَهُودِ فَقَطْ؟ أَلَيْسَ لِلأُمَمِ أَيْضًا؟ بَلَى، لِلأُمَمِ أَيْضًا، لأَنَّ الله وَاحِدٌ، هُوَ الَّذِي سَيُبَرِّرُ الخِتَانَ بِالإِيمَانِ وَالغُرْلَةَ بِالإِيمَانِ[28].

وفي رسائله أيضاً: وَأَنْوَاعُ أَعْمَال مَوْجُودَةٌ، وَلكِنَّ الله وَاحِدٌ، الَّذِي يَعْمَلُ الكُلَّ فِي الكُلِّ[29].

وفي رسالة أخرى: وَأَمَّا الوَسِيطُ فَلاَ يَكُونُ لِوَاحِدٍ، وَلكِنَّ الله وَاحِدٌ[30].

وفي رسائل يعقوب: أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ الله وَاحِدٌ، حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ![31].

وفي إنجيل يوحنا: كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تُؤْمِنُوا وَأَنْتُمْ تَقْبَلُونَ مَجْدًا بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَالمَجْدُ الَّذِي مِنَ الإِلهِ الوَاحِدِ لَسْتُمْ تَطْلُبُونَهُ؟[32].

وفي الترجمة المشتركة: والمَجدُ الّذي هوَ مِنَ الله الواحدِ لا تَطلُبونَهُ؟

وفي الإنجيل نسخة روما 1951م: ولا تطلبون المجد من الله الواحد.

في رسائل بولس: فَمِنْ جِهَةِ أَكْلِ مَا ذُبحَ لِلأَوْثَانِ: نَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ وَثَنٌ فِي العَالَمِ، وَأَنْ لَيْسَ إِلهٌ آخَرُ إِلاَّ وَاحِدًا[33].

أما في ترجمة (الحياة) فكان النص: وأنه لا وجود إلا لإله واحد.

وفي ترجمة (الأخبار السارة) و(اليسوعية) (وترجمة بين السطور يوناني عربي) كان النص: وأن لا إله إلا الله الأحد.

وفي الترجمة السهلة: وَأنَّهُ لا إلَهَ آخَرَ إلّا الله وَحدَهُ.

وفي إنجيل مرقس: فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «إِنَّ أَوَّلَ كُلِّ الوَصَايَا هِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ، الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، هذِهِ هِيَ الوَصِيَّةُ الأُولَى[34].

وفي إنجيل يوحنا يخاطب عيسى (ع) الله تعالى بقوله: وَهذِهِ هِيَ الحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ المَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ[35].

وقد وافَقَت الأناجيل التي لم تعترف بها الكنيسة على هذه العقيدة، ففي إنجيل برنابا مثلاً: فتكلم الله قائلا: أنا الله أحدٌ، ولا إله غيري، أضرِبُ وأشفى، أُميتُ وأحيي.

الطائفة الثانية: نفي التشبيه

تذكر أعمالُ الرسل أن بولس وبرنابا أخذا يبشران اليهود بتعاليم المسيح، وفي إحدى رحلاتهم التبشيرية ظهرت معاجز على يد بولس بحيث شفى مُقعَداً لم يمش قطّ، فحصلت شُبهة عند الجموع الحاضرة وظنوا أن الآلهة تشبّهت بالناس، وأن بولس وبرنابا إلهين، إلا أن هذان الرسولان استنكرا عليهم ذلك وأمراهم بالرجوع إلى الإله الحي، وفي ذلك تعنيفٌ لهم لاعتقادهم بتشبُّه الإله بالناس ولاعتقادهم بتعدد الآلهة: فَالجُمُوعُ لمَّا رَأَوْا مَا فَعَلَ بُولُسُ، رَفَعُوا صَوْتَهُمْ بِلُغَةِ لِيكَأُونِيَّةَ[36] قَائِلِينَ:«إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا».

فَلَمَّا سَمِعَ الرَّسُولاَنِ، بَرْنَابَا وَبُولُسُ، مَزَّقَا ثِيَابَهُمَا، وَانْدَفَعَا إِلَى الجَمْعِ صَارِخَيْنِ وَقَائِلِينَ: «أَيُّهَا الرِّجَالُ، لِمَاذَا تَفْعَلُونَ هذَا؟ نَحْنُ أَيْضًا بَشَرٌ تَحْتَ آلاَمٍ مِثْلُكُمْ، نُبَشِّرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا مِنْ هذِهِ الأَبَاطِيلِ إِلَى الإِلهِ الحَيِّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، الَّذِي فِي الأَجْيَالِ المَاضِيَةِ تَرَكَ جَمِيعَ الأُمَمِ يَسْلُكُونَ فِي طُرُقِهِمْ[37].

الإله الواحد الأزليّ الخالق لكل شيء إذاً مُنَزَّهٌ عن التشبُّه بمخلوقاته بحسب الإنجيل كما كان الأمر بحسب التوراة.

وورد ما يشبه ذلك في بعض الكتب التي لم تقبلها الكنيسة وأسمتها الكتب المنحولة، كأعمال الرسول شمعون الصفا، ففيه خاطب شمعون (أي بطرس) المسيح بقوله: يا أيشع المسيح، تجلى بنفسك إلى عبدك شمعون الصفا الذي توجه بالدعاء إليك.. ولمس شمعون الصفا جنب الرجل وقال: انهض، وقام الرجل.. ونزل من النعش.. ومنذ تلك الساعة فصاعداً عبدوه مثل رب، والمرضى الذين كانوا لديهم في البيوت، أحضروهم إلى عند قدميه لكي ينالوا الشفاء من قبله[38].

فإنّ الإنجيل كما تقدّم يردّ ما زعمه الناس من دعوى تشبُّه الآلهة بالناس أو كون الناس آلهةً، سواءٌ في ذلك بطرس أو بولس أو برنابا أو سواهم بما يشمل المسيح جزماً.

كذلك ورد في إنجيل توما الإسرائيلي غير المعترف به، حيث رأى الشيخُ المعلِّمُ للمسيح في صغره منه أشياء أثارت عجبه، ففيه: عندما سمع زكا الطفلَ يعرض أشياء بهذه الكثرة لبث خَجِلاً بعلمه.. وقال: .. يا أخي يوسف انني لا استطيع الصمود أمام قوة براهينه.. ان هذا الطفل لم يولد على الأرض، ويمكنه التسلط على النار، رُبما وُلد قبل خلق العالم.. أنا الشيخ هُزمت على يد طفل، وستكون نفسي في قنوط وسأموت بسببه.. انه ذو شأن عظيم، إنه إله أو ملاك، لا أدري[39].

ويلاحَظُ أن ظهور القدرات العلميّة العالية عند عيسى (ع) في طفولته كانت سبباً لأن يتردد هذا المعلم في نسبته بين كونه إلهاً أو ملاكاً، ما يعني أنه كان منقدحاً في ذهن الناس أو كاتب هذا الإنجيل أن صاحب القدرات العالية إما أن يكون إلهاً أو ملاكاً مرسلاً من إله.

ولما كانت عقيدته في تمييز الإله عن غيره ضعيفة بقي على تردده، وإلا كان يلزم منه الجزم بأن عيسى مرسَلٌ من الإله لأن الإله لا يتجسد.

وقد تكرّر الأمر لما شفى (ع) في طفولته أكثر من طفل: حين رأى الشعب الذي كان هناك هذه الآية، قال: هذا الطفل هو حقاً إله، أو ملاك الله، فكلّ ما يأمر به يُنفَّذ على الفور[40].

وقد كان جواب عيسى واضحاً حيث ينص هذا الإنجيل على قوله: هذا هو الأمر الذي أعطاني إياه من أرسلني لأجلكم[41]، فهو مُرسَلٌ لا مرسِلٌ ولا إله.

وهو موافقٌ للأناجيل المعتبرة عند الكنيسة، فهي تنصُّ على كون عيسى مرسَلاً من الله في موارد عديدة، منها قوله (ع): وَمَنْ يَقْبَلُني يَقْبَلُ الَّذِي أَرْسَلَنِي[42].

ويلاحَظُ أن للاعتقاد الفرديّ تأثيرٌ كبيرٌ في العقيدة وتحديد الموقف الحق من أيّ واقعة، ففي إنجيل الطفولة العربي المنقول من السريانية للعربية شفاءٌ لحالتين، اختلف الناس في الموقف منهما، ففي حين قالت المرأة في الحالة الأولى أن الذي شفاها هو يسوع وجعلته الله، قالت الثانية أن يسوع من جنس البشر وإنما شُفيَ أبناءُ جنسه بالماء الذي رُشَّ به جسده، أما المرأة التي شُفيت فكان نصُّ كلامها: أنا ايضا أصبت بالبرص، لكنني شفيت بفضلٍ من الله الذي هو يسوع ابن مريم.

أما الأم التي شفي ابنها فلم تقل أنه إله إنما قالت: طوبى للأم التي ولدتك يا يسوع، إن الماء الذي رُشّ به جسدك يشفي البشر الذين هم من أبناء جنسك[43].

3ـ التوحيد في القرآن

نصوص توحيد الله في القرآن الكريم أكثر من أن تحصى، ونعرضها في طائفتين كما تقدم في الكتب السابقة، توحيده ثم تنزيهه عن كل شبيهٍ ومثل.

الطائفة الأولى: توحيد الله

1. قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ[44].

2. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ[45].

3. وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الالبَابِ[46].

4. وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ[47].

5. الله لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ[48].

6. شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ العِلْمِ قَآئِمَاً بِالقِسْطِ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ[49].

7. ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ[50].

8. الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاء الحُسْنَى[51].

9. إِنَّمَا إِلَهُكُمُ الله الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً[52].

10. وَلَا تَدْعُ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[53].

والقرآن الكريم مليء بالنصوص التي تثبت توحيد الله وتذم الشرك والمشركين، وتصف الله تعالى بكل صفات الكمال والقدرة.

الطائفة الثانية: نفي التشبيه

قال الله تعالى: فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[54].

وقد عدّ الإمام محمد الباقر (ع) نفيَ تشبيه الله بأيّ شيءٍ مما لا يُجتزأ في المعرفة دونه: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ (ع) عَنِ الَّذِي لَا يُجْتَزَأُ بِدُونِ ذَلِكَ مِنْ مَعْرِفَةِ الخَالِقِ؟ فَقَالَ الباقر (ع): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ، وَلَا يُشْبِهُهُ شَيْ‏ءٌ، لَمْ يَزَلْ عَالِماً سَمِيعاً بَصِيراً[55].

وعنه الإمام الباقر (ع): يَا جَابِرُ إِنَّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ، تَعَالَى عَنْ صِفَةِ الوَاصِفِينَ، وَجَلَّ عَنْ أَوْهَامِ المُتَوَهِّمِينَ، وَاحْتَجَبَ عَنْ أَعْيُنِ النَّاظِرِينَ، لَا يَزُولُ مَعَ الزَّائِلِينَ وَلَا يَأْفِلُ مَعَ الآفِلِينَ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾[56].

وأن الله سبحانه وتعالى منزّه عن أن تدركه الأبصار: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِير[57].

الثمرة

تبيّن من هذا البحث دلالة النصوص التي تعرّضنا لبعضها من التوراة والإنجيل والقرآن على عقيدة التوحيد بشكل لا لبس فيه، وأن الله سبحانه وتعالى هو الإله الواحد الذي لا إله سواه، وأنه هو الخالق والمحيي والمميت، وأنّه منزّه عن كل مشابهةٍ لخلقه، فليس كمثله شيء، وأنه السميع البصير العالم بكل شيء.

وهذه عقيدةٌ يدل عليها قبل هذه الكتب العقلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الهَوَى وَسَلِمَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا، فالاعتقادُ بتوحيد الله وبنفي التشبيه عن الخالق عزّ وجل يرجع في حقيقته إلى مُدرَكات العقل الذي يجزم بهذه العقيدة، تُعينُه عليها هذه النصوص الصريحة وتُرشِدُه إليها إن خَفيت عليه، فتكونُ عقيدة توحيد الله ونفي الآلهة الأخرى وحصر الألوهية والربوبية بالله تعالى من العقائد القطعية التي لا يمكن المصير إلى سواها، وكل ما قد نظنّه مخالفاً لها من أدلة ينبغي توجيهه بما يتناسب معها.

كذلك لا بدّ من الاعتقاد بنبوة عيسى (ع) وبأنه نبيٌّ من الأنبياء، ففي التوراة: يُقِيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِنْ وَسَطِكَ مِنْ إِخْوَتِكَ مِثْلِي، لَهُ تَسْمَعُونَ[58].

وفي الإنجيل: فَإِنَّ مُوسَى قَالَ لِلآبَاءِ: إِنَّ نَبِيًّا مِثْلِي سَيُقِيمُ لَكُمُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ إِخْوَتِكُمْ، لَهُ تَسْمَعُونَ فِي كُلِّ مَا يُكَلِّمُكُمْ بِهِ[59].

فكلّ ما تعارض مع نبوة عيسى (ع) كذلك كان مخالفاً للقطعي الثابت، ولَزِمَ توجيهه بما يتوافق مع نبوّته (ع).

الاستنتاج

أن توحيد الله هو المبدأ الأساسي المشترك بين الكتب السماوية الثلاث: التوراة والإنجيل والقرآن، جميع هذه الكتب تؤكد على وحدانية الله، وتنفي أي تشبيه له بمخلوقاته، مما يعكس صفاته الكمالية كالإله الخالق والمحيي، كما تؤكد النصوص المقدسة على أن الإله هو واحد لا شريك له، وأن العقل البشري هو الدليل الأول على هذا الاعتقاد.

الهوامش

[1] المزامير 86: 9.

[2] أشعياء، 46، 9.

[3] التثنية، 7، 9.

[4] يشوع، 2، 11.

[5] نحميا، 9، 5.

[6] المزامير، 100، 3.

[7] المزامير، 118، 27.

[8] أشعياء، 45، 1.

[9] أشعياء، 44، 6.

[10] أشعياء، 45، 21.

[11] أخبار الأيام الأول، 17، 20.

[12] أشعياء، 37، 16.

[13] التثنية، 32، 39.

[14] ملاخي، 2، 10.

[15] التثنية، 4، 35.

[16] التثنية، 6، 4.

[17] التثنية، 5، 6.

[18] التثنية 6، 13.

[19] التثنية 10، 17.

[20] المزامير، 136، 2.

[21] أخبار الأيام الثاني، 6، 14.

[22] أشعياء، 46، 9.

[23] أرمياء، 10، 6.

[24] المزامير، 89، 6.

[25] أشعياء، 46، 5.

[26] أشعياء، 40، 18.

[27] مرقس، 12، 32.

[28] رومية، 3، 29.

[29] كورنثوس الأولى، 12، 6.

[30] غلاطية، 3، 20.

[31] يعقوب، 2، 19.

[32] يوحنا، 5، 44.

[33] كورنثوس الأولى، 8، 4.

[34] مرقس، 12، 29.

[35] يوحنا، 17، 3.

[36] اسم لغةٍ ومنطقةٍ، ترجع إلى اسم شخص كان يدعى ليكاؤن يقال أنّه أكرَمَ زوجين، تقول الأساطير أن الآلهة تشبّهت بهما!

[37] أعمال الرسل، 14، 11.

[38] زكار، الأناجيل النصوص الكاملة، ص710.

[39] الأناجيل المنحولة، ص25.

[40] الأناجيل المنحولة، ص26.

[41] الأناجيل المنحولة، ص25.

[42] متى، 10، 40.

[43] الأناجيل المنحولة، ص59.

[44] الأنبياء، 108.

[45] النحل، 22.

[46] إبراهيم، 52.

[47] النحل، 51.

[48] آل عمران، 2.

[49] آل عمران، 18.

[50] الأنعام، 102.

[51] طه، 8.

[52] طه، 98.

[53] القصص، 88.

[54] الشورى، 11.

[55] الكافي، ج1، ص86.

[56] الصدوق، التوحيد، ص179.

[57] الأنعام، 103.

[58] التثنية، 18، 15.

[59] أعمال الرسل، 3، 22.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الأناجيل المنحولة، دار ومكتبة بيبليون، طبعة 2004م.

3ـ زكار، سهيل، الأناجيل النصوص الكاملة، دمشق، دار قتيبة، طبعة 1428 ه‍.

4ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

5ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

6ـ المزامير، بيروت، المطبعة الأميركانية، 1903م.

الكاتب: الشيخ محمد مصطفى العاملي

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *