- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
ولا شك ولا ريب أن أعلمية أئمة أهل البيت (ع) على بقية الصحابة والتابعين ثابت عند جميع علماء المسلمين من السنة والشيعة، لأن مرجعيتهم (ع) العلمية ثبتت بالقرآن والسنة، بالإضافة إلى الشهادات التي أدلى بها كبار الصحابة والتابعين بحقّهم (ع).
المرجعية العلمية للمسلمين في القرآن والسنّة
ونقصد بالمرجعية العلمية النقطة المشتركة التي يتّفق عليها المسلمون، وتنتهي عندها مسائل الاختلاف بين المسلمين، ولا سيّما في المجالين العقيدي والفقهي، وهي المرجعية التي تكشف عن حقائق القرآن والسنّة النبوّية، بالصورة التي تحسم خطوط التقاطع بين المسلمين.
ومن الطبيعي أن يترك الرسول الأعظم (ص) مرجعية علمية تتكفّل حل النزاع حول القرآن وتفسيره، والسنّة وتوضيحها خصوصاً وأنها لم تجمع على عصر الرسول وإنّما اُعطيت بشكل متفرق وبهذا يكفل القرآن أن تربى الاُمة وتوحّد مسيرتها لمواجهة المخاطر التي تكتنفها.
ومن خلال استقراء ما ورد في القرآن والسنّة من نصوص حول هذه المرجعية، وجدنا أن النصوص لا تشير الى مرجعية اُخرى غير مرجعية أهل البيت (ع).
المكانة العلمية لأهل البيت (ع) في الواقع الإسلامي
ظلّ المسلمون على مختلف تياراتهم ومدارسهم الكلامية والفقهية ينظرون لأهل البيت (ع)، نظرة خاصة تميّزهم عن غيرهم من الصحابة والتابعين والفقهاء، الأمر الذي تغصّ به كتب الحديث والفقه والتاريخ.
ولولا السياسة المزيّفة التي مارسها بعض الحكّام في العهدين الاُموي والعبّاسي، لبقيت مكانة أهل البيت راسخة في عقول المسلمين وقلوبهم، إذ سعت هذه السياسة المنحرفة الى تزييف الحقائق والتحايل على الواقع، من أجل صرف الأنظار عن أهل البيت ومرجعيتهم.
ولكي لا يطول بنا المقام نستعرض هنا جزءاً من الشهادات التي أدلى بها كبار الصحابة والتابعين الفقهاء بحقّ أهل البيت (ع) بالصورة التي تعكس تطابقاً كاملاً بين الواقع الذي جسّده أهل البيت عملياً، والنصوص الواردة في القرآن والسنّة، ونظرة المسلمين الموضوعية لأهل البيت (ع).
وإذا تجاوزنا عصر الرسول الأعظم (ص) الى عصر الخلفاء، فسنرى أن البداية كانت مع الخليفة الأوّل أبي بكر، برغم الملابسات المعقّدة التي شابت الواقع الإسلامي منذ وفاة رسول الله (ص)، فأبو بكر رجع الى الإمام عليّ (ع) في موضوع قتال أهل الردّة، وفي كثير من الأحكام الشرعية[1].
أما الخليفة الثاني عمر بن الخطاب فكان أكثر الخلفاء تعبيراً عن هذه الحقيقة، إذ كان دائم الرجوع إليه في المسائل العقائدية والفقهية والاجتماعية والسياسية، حتى أن مقولات عمر التاريخية في عليّ بن أبي طالب تظهر أن عمر كان من أكثر المسلمين إعجاباً بالإمام عليّ، وانبهاراً بشخصيته وعلمه، وإيماناً بدوره ومكانته وموقعه، يقول عمر: (أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن)[2]، (لولا عليّ لهلك عمر)[3]، (أنت ـ يا علي ـ خيرهم فتوىً)[4]، (اللهمّ لا تنزل بيّ شدّة إلاّ وأبو الحسن الى جنبي)[5]، (أباحسن! لا أبقاني الله لشدّة لست لها ولا في بلد لست فيه)[6]، (أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن)[7]، (لا أبقاني الله بعدك يا عليّ)[8]، وذلك لأنّ الإمام عليّ (ع) كان ينجد عمر في المشاكل العقائدية والفقهية التي تعترضه، أو التي يحرجه فيها المسلمون وغير المسلمين.
وهذا من جملة ما يردُّ به على مَن يزعم أن عليّاً اعتزل الاُمة والسلطة، إذ أن تعدّد الروايات التي يعجب عمر بعليّ الى العشرات يكشف عن تدخّله في القضايا المختلفة وإفتائه فيها.
ومن الأحداث الجديرة بالذكر في هذا المجال، حادثة كتابة التاريخ، إذ أنّ عليّ بن أبي طالب هو الذي أشار على الخليفة عمر بن الخطّاب أن يبدأ بكتابة التاريخ من اليوم الذي هاجر رسول الله (ص) الى المدينة، ففعل ذلك عمر[9].
وكذلك رجع إليه في أن يقود الجيش الذي يفتح إيران والجيش الذي قاتل الروم.
وكذا الحال مع عثمان بن عفّان الذي رجع إليه في كثير من المسائل العقائدية والفقهية بالصورة التي نصّت عليها كتب الحديث والفقه والتاريخ[10].
وكانت عائشة أيضاً تحيل كثيراً ممّن يسألها في الأحكام الشرعية الى الإمام عليّ، ومن أقوالها المأثورة في هذا المجال: (عليك بابن أبي طالب لتسأله)[11]، (إئت عليّاً فإنّه أعلم بذلك منّي)[12].
وروى الحاكم بسنده عن قيس بن أبي حازم أن الصحابي سعد بن أبي وقاص نَهَرَ رجلاً تعرّض للإمام عليّ (ع) فقال عنه: (ألم يكن أوّل من أسلم؟! ألم يكن أوّل من صلّى مع رسول الله (ص)؟! ألم يكن أعلم الناس؟!)[13].
وإن التاريخ ليشهد أن لقب الإمام صار من أشهر الألقاب لعليّ، وهناك العديد من الشهادات أيضاً في الإمام الحسن والإمام الحسين، وعليّ بن الحسين، وباقي الأئمة أيضاً، ولعلّ من المناسب هنا ذكر أبيات من ميمية الفرزدق في مدح أهل البيت (ع)، وتحديداً الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين:
من معشر حبّهم دين وبغضهم ** كفر وقربهم منجى ومعتصم
مُقدّم بعد ذكر الله ذكرهم ** في كلّ بدء ومختوم به الكلم
إن عُدّ أهل التُّقى كانوا أئمتهم ** أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل هم[14]
وكذلك رائية أبي نؤاس التي يمتدح فيها أهل البيت (ع)، إذ يقول:
مطهّرون نقيّات ثيابهم ** تجري الصّلاة عليهم أينما ذُكِرُوا
فالله لما برى خلقاً فأتقنه ** صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم ** علم الكتاب وما جاءت به السور[15]
وهذا التعبير يكشف ـ في حقيقته ـ عن اتّجاه الرأي العام الإسلامي في ما يرتبط بالمكانة التي يختصّ بها أهل بيت النبوة (ص). بل إنّ هذا الاتّجاه لم يقتصر على الشعراء وعموم الناس، بل عمّ حتى الفقهاء وأئمة المذاهب الإسلامية، فالشافعي أنشد يقول:
آل النبيّ ذريعتي ** وهم إليه وسيلتي
أرجو بهم اُعطى غداً ** بيدي اليمين صحيفتي[16]
وكان عدد كبير من أئمة المذاهب الإسلامية وكبار الفقهاء قد درسوا على أئمة أهل البيت (ع)، ولا سيّما الإمام جعفر الصادق، إذ جمع الحافظ ابن عقدة أسماء أربعة آلاف رجل من الفقهاء والمحدثين، رووا ودرسوا على الإمام الصادق، وذكر ابن عقدة مصنّفات كثير من هؤلاء[17].
ولعلّ مقولة مالك بن أنس: (ما رأت عين ولا سمعت اُذن ولا خطر على قلب بشر أفضل من جعفر بن محمّد الصادق (ع) علماً وعبادة وورعاً)[18]، تشير الى عمق التأثير العلمي لأئمة أهل البيت (ع) في الواقع الإسلامي.
اُسلوب المناظرة يكشف عن علم أهل البيت (ع)
كانت حياة أهل البيت مليئة بالحوار العلمي، فهم رجال الحوار الذين تمثّلوا آدابه وأساليبه الصحيحة بالشكل والمضمون اللّذين أوضحهما القرآن الكريم، فكانت مجالسهم أو المجالس التي يحضرونها ساحة للمناظرات ومواقف للاحتجاج.
وتختلف هذه المناظرات في دوافعها باختلاف الأحداث التي أدّت إليها، فهناك مناظرات كان بعض الحكّام يهدفون الى إحراج أهل البيت فيها، واُخرى كانت تجري في جوّ علمي صرف هدفه إظهار الحقيقة، وثالثة كانت بطلب من آخرين، حكّاماً أم رواة وفقهاء، بعد أن عجزوا عن مجاراة الخصم.
والمهمّ في هذه المناظرات، وبكلمة أدق ما يفيدنا في هذا البحث، هو أن أئمة أهل البيت (ع) لم يخصموا أو يحرجوا أو يتردّدوا في أي من هذه المناظرات، برغم أن بعضهم (كالإمام محمّد الجواد) أقحم في مناظرة علمية رفيعة المستوى وهو دون التاسعة من عمره فضلاً عن المستوى العلمي الفريد الذي كانت تكشفه هذه المناظرات، ممّا يجعلها دليلاً آخر من الواقع العملي على مرجعية أهل البيت التي لا ينافسهم عليها أحد.
وللحؤول دون الإطالة في هذا المجال، سنقتصر على ذكر حوار معروف للإمام الرضا (ع)، وثّقه كثير من المؤرّخين مع علماء ومتكلّمي النصارى واليهود والصابئة والمجوس، إذ جمعهم الفضل بأمر من الخليفة المأمون. وطلب منهم أن ينتاظروا أمامه، وكانت النتيجة أن أسلم كثير من هؤلاء العلماء والمتكلّمين على يد الإمام الرضا (ع).
وقد استمر المأمون ـ بعد إنتهاء المناظرة ـ في طرح أسئلته على الإمام الرضا (ع) في مختلف العلوم[19]، فكان المأمون يزداد بعد كل جواب دهشة وذهولاً من مستوى علم الإمام، وهي دهشة كانت مشوبة بالخوف من هذا الرجل الذي قد يشكل إجماع الناس عليه خطراً على الدولة العبّاسية.
أما المناظرة الأكثر إثارة ودهشة، فهي مناظرة الإمام محمد الجواد (ع) مع يحيى بن أكثم (قاضي القضاة في عهد المأمون). وكان الإمام الجواد حينها دون التاسعة من عمره، وكانت هذه المناظرة عبارة عن رهان بين المأمون وبطانته حول علم الإمام الجواد، وهي في الواقع امتحان أرادوا إحراج الإمام الجواد فيه مستغلين صغر سنّه()، وحين احتمل المجلس بحضور المأمون وعدد كبير من قادة الدولة والعلماء والرواة وزعماء الاُسرة العبّاسية، طرح يحيى بن أكثم سؤالاً قصيراً على الإمام الجواد حول حكم: (محرم قتل صيداً). فأجابه الإمام الجواد (ع) بصيغة سؤال:
«هل قتله في حلّ أو حرم؟ عالماً كان المحرم أو جاهلاً؟ قتله عمداً أو خطأً؟ حرّاً كان المحرم أو عبداً؟ صغيراً كان أو كبيراً؟ مبتدئاً بالقتل أو معيداً؟ من ذوات الطير كان أم من غيرها؟ من صغار الصيد أم من كباره؟ مصرّاً على ما فعل أو نادماً؟ في الليل كان قتله للصيد أم بالنهار؟ محرماً كان بالعمرة إذ قتله أو بالحجّ كان محرماً؟».
فتحيّر يحيى بن أكثم وعجز عن مجاراة الإمام.
حينها طلب المأمون من الإمام الجواد أن يفصّل أحكام كلّ تشقيق من التشقيقات، التي وضعها الإمام للسؤال. فأجاب عليها الإمام الجواد بالتفصيل واحدة تلو الاُخرى. ممّا أسقط في يد يحيى وبطانة المأمون ما كانوا يضمرونه للإمام الجواد (ابن السنوات التسع فقط)[20].
ولعلّ هذه المناظرة وما أسفر عنها من نتائج تكفي وحدها للدلالة على أهمية اُسلوب المناظرات وفاعليته في الكشف عن مرجعية أهل البيت (ع) دون أن يؤثر في ذلك سنّ أو زمان أو مكان، فلا يمكن أن يكون النجاج الدائم والمطلق في المناظرات ـ التي كان كثير منها يأخذ طابع الامتحان ـ مجرّد صدفة ـ فالصدفة هنا مستحيلة ـ كما يقول أحد الفقهاء[21].
الإنتاج العلمي لأهل البيت (ع)
ترك أهل البيت (ع) للاُمة إنتاجاً علمياً ضخماً، استثمرته في ماضيها، وستبقى تنتفع به في حاضرها ومستقبلها، فهذا الإنتاج لم يكن لزمانه وحسب، بل هو خالد على مرّ العصور.
وتمثل إنتاج أهل البيت في أحاديثهم وخطبهم وكتاباتهم ودروسهم، وما تضمّنته من مناهج وقواعد وتعليمات وعلوم، فضلاً عن الجامعات العلمية التي أسّسوها، والطاقات العلمية التي ربوها ورعوها وغذّوها بالعلم والمعرفة.
فعلى مستوى التأليف والتصنيف، كان الإمام عليّ (ع) نقطة الإنطلاق في تاريخ الإسلام، وكانت اُولى أعماله جمع القرآن الكريم مرتّباً حسب النزول، وبين أسباب نزول آياته، عامّها وخاصّها، مطلقها ومقيّدها، محكمها ومتشابهها، ناسخها ومنسوخها، عزائمها ورخصها، وسننها وآدابها حتى أن ابن سيرين قال: لو أصبت ذلك الكتاب لكان فيه العلم[22].
والمصنّف الآخر للإمام عليّ هو (الصحيفة)، وهو كتاب في الديّات، أي الأموال المفروضة على الجنايات التي ترتكب خطأً أو شبيهاً بالعمد أي في ما لا يكون القصاص فيه.
وكتاب (الجامعة) هو مصنّف آخر للإمام عليّ (ع)، وهي أمالي للرسول كتبها الإمام، وتضمّنت ما يحتاجه الناس من أحكام شرعية وتفصيل لما جاء في القرآن الكريم.
أما الكتب التي جمعت إنتاجه فهي كثيرة، وأهمها (نهج البلاغة) الذي يشتمل على منتخب من خطب للإمام عليّ (ع) وكتبه ورسائله وحكمه ومواعظه، وقد جمعها الشريف الرضي.
والكتاب الآخر هو (غرر الحكم ودرّر الكلم)، ويتضمن كلماته القصار وحكمه، وقد جمعه عبد الواحد الآمدي.
وإلى جانب مصنفات الإمام عليّ، فإن بعض الموالين لمدرسته، كسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري ورافع مولى رسول الله (ص) والأصبع بن نباتة، مارسوا التأليف والتصنيف أيضاً بتوجيه من الإمام نفسه[23].
وقد ترك الإمام زين العابدين رسالة رائعة هي (رسالة الحقوق) والتي تتضمّن بياناً لأنواع الحقوق وما يترتّب عليها.
والفرصة التاريخية نفسها فسحت المجال للإمام الصادق بأن يبني جامعة إسلامية في تاريخ الإسلام، كان تلامذتها كبار محدثي وفقهاء وعلماء الاُمة، ومن مختلف البلدان، كالعراق والحجاز وفارس وبلاد الشام، وقد تمكّن تلامذة الإمامين محمّد الباقر وجعفر الصادق من تصنيف وتأليف كمّ كبير من الرسائل والبحوث والكتب، ومنهم أبان بن تغلب إذ روى (30000) حديث عن الإمام الصادق، وأبو حمزة الثمالي وبريد بن معاوية وأبو بصير وزرارة بن أعين ومحمّد بن مسلم وهشام بن الحكم، أشتهر من كتبه (29) كتاباً.
وقد بادر بعض تلاميذ الإمام الصادق الى تدوين روايات وأقوال الإمام الصادق (ع) وجمعوها في (400) مصنف، عرفت بالاُصول الأربعمئة.
ثم برع تلامذة الأئمة الآخرين: موسى الكاظم، وعليّ الرضا، ومحمّد الجواد، وعليّ الهادي، والحسن العسكري، في التصنيف والتأليف، عبر نقل روايات هؤلاء الأئمة وآرائهم وتحويل توجيهاتهم الى مصنفات مدوّنة في مختلف المجالات والاختصاصات، ولا سيّما علوم الدين.
ومن هؤلاء أحمد بن خالد البرقي الذي ألّف نحو (100) كتاب، والحسين بن سعيد الذي ألّف (30) كتاباً، والفضل بن شاذان صاحب أكثر من (200) مؤلف، ومحمّد العيّاشي الذي كتب أيضاً ما يقرب من (200) كتاب وبحث[24].
ولم يقتصر تعليم أهل البيت وتلامذتهم على علوم الدين، بل تعدّوها إلى العلوم الاُخرى أيضاً، كما هو الحال مع علم النحو الذي علّمه الإمام عليّ أبا الأسود الدؤلي، أو علم الكيمياء الذي برز فيه جابر بن حيان الكوفي تلميذ الإمام الصادق (ع) وغيرهما.
وقد أوضح أئمة أهل البيت (ع) كلّ ما كانت الاُمة تحتاجه من اُصول عقيدية وفقهية وأخلاقية، وكانت آراؤهم تمثل فصل الخطاب لكلّ اختلاف علمي ديني يحدث بين العلماء المسلمين ومذاهبهم الكلامية والفقهية، ولا سيّما في قضايا التوحيد وصفات الخالق تعالى ووصف ذاته مع صفاته، وقضايا العدل الإلهي وما يتربط بذلك من أفعال الإنسان، ومسائل القضاء والقدر، والوسطية بين الجبر والتفويض، والبداء والتّقية، وكذا القواعد الاُصولية والفقهية التي أقام عليها فقهاء مذهب أهل البيت مدرستهم. وقد كتب في هذه المجالات الآلاف من الكتب[25].
علم أهل البيت (ع) في خدمة مصالح الاُمّة
برغم المحن القاسية التي مرّت على أهل البيت (ع) في مختلف المراحل والعهود، إلاّ أنهم ظلّوا يضحّون من أجل رعاية مصالح الاُمّة ووحدتها وتغليب هذه المصالح على أي شيء آخر، من منطلق الرسالة التي كُلّفوا بحملها، كما ظلّت علومهم هي المنار الذي يهدي الاُمّة الى الطريق القويم.
وكانت القضية الاُولى هي قضية الخلافة، إذ صمت الإمام عليّ (ع) حيالها، برغم تصريحه بأحقيّته فيها، وذلك حرصاً على مصلحة الاُمّة التي كانت تعيش مرحلة تثبيت الأقدام والفتوحات وتوسيع رقعة الدولة الإسلامية، ولم يسمح لمن أراد أن يلوّح بورقة الخلافة لتفريق الاُمّة، بتمرير مخططه، وهو ما حدث مع أبي سفيان، الذي دعاه عقيب السقيفة بأن يتصدّى للخلافة، فنهره الإمام عليّ وفضح أمره، بل إن الإمام عليّ لم يبخل بأيّة مشورة للخلفاء الراشدين.
ويكفي أن نراجع الخطبة الشقشقية وكتابه الى أهل مصر الذي بعثه مع مالك الأشتر، لنقف على مجمل هذه الحقائق.
وفي السياق نفسه تأتي مواقفه في مرحلة خلافة عمر، فحين استشاره الخليفة في أن يخرج بنفسه لغزو الروم، أشار على عمر بعدم الخروج بنفسه، لأنه خليفة المسلمين ومحور وحدتهم[26].
وفي السياق نفسه جاء صلح الإمام الحسن (ع) مع معاوية في إطار الظروف الاستثنائية التي مرّ بها الإمام وعانت منها الاُمّة، ثم ثورة الإمام الحسين (ع) إذ ضحّى الحسين (ع) بنفسه وبصحبه وأهل بيته من أجل مصلحة الاُمّة والحيلولة دون استشراء الانحراف في جسدها.
ويلفت الإمام السجاد (ع) الأنظار بدعائه للجيش الإسلامي برغم خضوع هذا الجيش لقيادة الاُمويين الذين أذاقوا أهل البيت الأمرّين، وهو دعاؤه المعروف بدعاء (أهل الثغور).
كذا الحال مع الإمام الباقر (ع) الذي كان يضع علمه وخبرته تحت تصرف الدولة الإسلامية، ومن ذلك حلّه مشكلة السكّة (ضرب النقود)، حين قنّنها الروم على المسلمين فأشار الإمام الباقر (ع) على عبدالملك بن مروان بأن يضرب السكّة باسمه.
ثم مواقف الإمام جعفر الصادق (ع) من قضايا الخلاف الكبرى بين الفِرق الإسلامية في العهد العبّاسي، فكان يوجه أصحابه وشيعته بشأن سلوكهم مع أتباع المذاهب الاُخرى، فيقول: «صلّوا في جماعتهم، وعودوا مرضاهم، واحضروا جنائزهم وموتاهم، حتّى يقولوا: رحم الله جعفر بن محمّد، فلقد أدّب أصحابه، كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا»[27].
والأمر نفسه كان يحدث مع الأئمة الآخرين، وبالإمكان مراجعة مواقفهم كما جاءت في المصادر التاريخية وفي كتب التراجم الموثّقة.
الاستنتاج
أنّ القرآن والسنّة أكّدا مرجعية أهل البيت العلمية العامّة لكلّ المسلمين، أنّ السنّة كشفت عن المقصود بأهل البيت بصفاتهم وعددهم، وأنّهم لم يحتاجوا الى أحد في حياتهم العلمية، سوى المعصوم الذي سبقهم، وأنّ أعلام الاُمّة ورجالات المسلمين، شهدوا بأعلمية أهل البيت، وبحاجة المسلمين الى مرجعيتهم العلمية، وأنّ أهل البيت وظّفوا علمهم لخدمة الاُمّة ومصالحها، برغم قساوة الظروف التي واجهتهم، وبناء على ما سبق فإن لأهل البيت (ع) مرجعية علمية عامّة للمسلمين، دون أن يؤثر في ذلك زمان أو مكان، وهو الحد الأدنى الذي يتّفق عليه المسلمون بشأن محورية أهل البيت في الوحدة الإسلامية.
فإذا كانت الإمامة السياسية لأهل البيت موضع جدل بين المسلمين، فإنّ المرجعية العلمية هي ـ وفقاً لما سبق ـ نقطة التقاء بين المسلمين[28].
واتّفاق المسلمين على هذه الحقيقة أمر في غاية الأهمية، لأنّ من شأنه تقرير مصير الاُمّة في قضية طالما حاول الحكّام وحاولت السياسة التعتيم عليها طيلة مئات من السنين.
الهوامش
[1] انظر: المحب الطبري، الرياض النضرة، ج2، ص224.
[2] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج1، ص457.
[3] الخوارزمي، المناقب، ص81، ح65.
[4] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج2، ص102، ق2.
[5] المتّقي الهندي، كنز العمال، ج3، ص53.
[6] المتّقي الهندي، كنز العمال، ج3، ص179.
[7] الشبلنجي، نور الأبصار، ص171.
[8] المحب الطبري، الرياض النضرة، ج2، ص197.
[9] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص14.
[10] انظر: مالك بن أنس، الموطأ، ص36 وص176.
[11] انظر: النسائي، سنن النسائي، ج1، ص32.
[12] انظر: النسائي، سنن النسائي، ج1، ص32.
[13] الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج3، ص499.
[14] ابن خلكان، وفيات الأعيان،ج6، ص96.
[15] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص143.
[16] انظر: الشبلنجي، نور الأبصار، ص105.
[17] الأمين، أعيان الشيعة، ج1، ص661.
[18] ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج2، ص104.
[19] الطبرسي، الاحتجاج، ص425.
[20] انظر: الطبرسي، الاحتجاج، ص444.
[21] الحكيم، الاُصول العامّة في الفقه المقارن، ص184.
[22] انظر: شرف الدين، المراجعات، المراجعة 110.
[23] انظر: شرف الدين، المراجعات، ص412.
[24] ابن شهرآشوب، المناقب، ج4، ص422.
[25] انظر: الكشي، اختيار معرفة الرجال.
[26] الشريف الرضي، نهج البلاغة، رسالة 134.
[27] شرف الدين، الفصول المهمة في تأليف الأُمّة.
[28] لا يعني هذا ذوبان المذاهب الإسلامية في مذهب واحد، بل يعني تحديد مساحة مرجعية عامّة يلتقي عندها كلّ أتباع المذاهب الإسلامية، مع احتفاظ كلّ مذهب وفريق بخصوصياته.
مصادر البحث
1ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، تهذيب التهذيب، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
2ـ ابن خلكان، أحمد، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، بلا تاريخ.
3ـ ابن سعد، محمّد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
4ـ ابن شهرآشوب، محمّد، مناقب آل أبي طالب، النجف، المكتبة الحيدرية، طبعة 1376 ه.
5ـ الأمين، محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، بيروت، دار التعارف، بلا تاريخ.
6ـ الحاكم النيسابوري، محمّد، المستدرك على الصحيحين، بيروت، دار التأصيل، طبعة 1435 ه.
7ـ الحكيم، محمّد تقي، الأُصول العامّة للفقه المقارن، مؤسّسة آل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1979م.
8ـ الخوارزمي، الموفّق، المناقب، تحقيق مالك المحمودي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثانية، 1411ه.
9ـ الشبلنجي، مؤمن، نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار (ص)، قم، منشورات الشريف الرضي، الطبعة الأُولى، 1380 ه.
10ـ شرف الدين، عبد الحسين، المراجعات، تحقيق حسين الراضي، بيروت، الطبعة الثانية، 1402 ه.
11ـ شرف الدين، عبد الحسين، الفصول المهمّة في تأليف الأُمّة، طهران، مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، بلا تاريخ.
12ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
13ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
14ـ الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه.
15ـ الكشي، محمّد، اختيار معرفة الرجال، مشهد، جامعة مشهد، الطبعة الأُولى، 1348 ش.
16ـ مالك بن أنس، الموطأ، بيروت، دار إحياء التراث العربي، طبعة 1406 ه.
17ـ المتّقي الهندي، علي، كنز العمّال، بيروت، مؤسّسة الرسالة، طبعة 1409 ه.
18ـ المحب الطبري، أحمد، الرياض النضرة في مناقب العشرة، بيروت، دار الكتب العلمية، بلا تاريخ.
19ـ النسائي، أحمد، سنن النسائي، بيروت، دار الفكر، الطبعة الأُولى، 1348 ه.
مصدر المقالة (مع تصرّف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.