- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 11 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 1 تعليق
من أجل تثبيت مذهب التشيع في العالم الإسلامي قام الإمام الصادق (ع) بدورين مهمين الأول بناء الأمة الإسلامية وتقوية أواصرها، وحفظ كيانها وصيانة تراثها وتنمية وعيها العام، والثاني بناء الفئة الواعية، من خلال الشدّ العاطفي، والتركيز على تحلّي الأصحاب بالورع، والدعوة الى المنهج الأصيل عبر العمل والالتزام، والتربية على الصمود والثبات، والتحذير من التعاون من السلطة.
خطّان قياديّان في حياة الإمام الصادق (ع)
التشيّع لعليّ (ع) وجدت دوافعه في عصر الرسول (ص) نظراً لما تتمتّع به هذه الشخصية الفذّة من مؤهّلات، وما نالته من أوسمة ومديح من رسول الله (ص) فجعلت معياراً للحقّ وسفينة للنجاة وأحبّ الخلق إلى رسول الله (ص) وخير البرية.
ولكن التشيّع كمذهب واضح المعالم ـ العقائدية منها والتشريعية ـ إنّما تمّ على يد الإمام الصادق (ع)، والذي قاد خطّين رئيسيين هما خط بناء الاُمة وخط بناء الفئة الواعية.
بناء الاُمّة وصياغة الواعين
إنّ عملية صياغة الفئة الواعية إن لم تكن مقدّمة على عملية بناء الاُمة الواعية فهي مقارنة لها بلا ريب، ذلك أنّ الاستعدادات متفاوتة (فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا)[1]، وخصوصاً في المجال التربوي في إطار بناء إنساني متقدّم، لأنها تتوقّف على توفّر معرفة يقينية معمّقة، وانسجام عاطفي إحساسي كامل مع تلك العقيدة، وتلقٍّ تعليمي وتربوي حكيم، وكلّها اُمور لا تتوفّر بمستوى واحد للجميع، وما نراه طبيعياً هو أن تتربّى الفئة الواعية عقائدياً وعاطفياً وسلوكياً ثم تنتشر كالعافية في أوصال الاُمة وعروقها، فتبثّ فيها ما اكتسبته، وتحفظ الجسم العام من أي تآكل أو مرض بل تضعه على خط النمو والتكامل.
إلاّ أنّ القادة والمربّين لا يستطيعون التريّث حتى تتمّ عملية تربية الطليعة لأنّ تربية الاُمة وصيانتها حاجة ملحّة فعليّة قائمة، ومن هنا فإنّ من الطبيعي أن يتوازى هذان الخطّان ليؤثر كل منهما في الآخر، فجوّ الاُمة المناسب يترك أثره الإيجابي على تربية الطليعة، وتربية الطليعة بدورها لها أكبر الأثر في تحقّق الأهداف التربوية العامّة.
وعلى أيّ حال، فإنّنا نجد القرآن الكريم من خلال ما يحكيه من قصص ومن أمثال، يركّز على ذلك.
فهو يتحدّث عن السابقين السابقين، والحواريين، والمؤمنين العابدين الحامدين السائحين.
وتصفية النبيّ موسى (ع) لقومه واختيار مجموعة منتقاة، وقيام القائد طالوت بامتحان قومه واختيار الصفوة منهم ليكونوا هم الفئة القليلة التي غلبت فئة كثيرة بإذن الله تعالى.
هذا الى جانب قيام الأنبياء والشرائع بتربية الاُمم وهداية الناس جميعاً بشكل طبيعي. وعلى هذا النسق نجد الأنبياء والقادة الإلهيين يعملون على تحقيق هاتين العمليتين.
ولمّا كان أهل البيت (ع) قدوة الاُمم، وتلامذة رسول الله (ص) المخلصين وحاملي لواء التربية العقائدية فهم على هذا الخط سائرون وله عاملون، وها نحن نركّز فيما يلي على مظاهر ذلك في حياة الإمام الصادق (ع) سادس أئمة أهل البيت (ع) واُستاذ المذاهب والصادق القول البارّ الأمين على هذه الرسالة الخالدة.
الأجواء التي عاصرها الإمام الصادق (ع)
لن نستطيع أن نتبيّن معالم العملية التربوية للإمام إذا لم نُحِط ـ ولو أجمالاً ـ بالأجواء والظروف التي عاصرها الإمام (ع) وتفاعل معها، واستطاع أن يؤدي رسالته من خلالها.
وباستعراض هذه الأجواء نجد أمامنا ظواهر بارزة قد لا تحتاج منّا الاستلال على وجودها وهي:
أوّلاً: الخلل السياسي وصراع الأهواء
فلقد عاصر الإمام (ع) أكبر حادث في العصر الذي تلا عصر صدر الإسلام وهو انقراض الخلافة الاُموية وسيطرة الخلافة العبّاسية كما واجه الكثير من الأحداث الجسام.
وفي أيّامه قامت ثورة الرجل الصالح زيد بن عليّ بن الحسين (ع) ضد هشام ابن عبدالملك وحينما استشهد أبّنه الإمام بكلمات معبِّرة، ثم تلا ذلك خلل سياسي كبير أطاح بخلافة الاُمويين، واستطاع العبّاسيون من خلال شعار برّاق هو «الدعوة إلى الرضا من آل محمّد (ص)» أن يستغلّوا الموقف ويسيطروا على الساحة، وبُويع للسفّاح عام (132ه) حيث دامت خلافته أربع سنين قضاها في مطاردة الاُمويين متظاهراً بالثأر لقتلة الحسين (ع) ثم تلاه المنصور بسياسة ديكتاتورية قمعية تستخدم السيف والسمّ والاغتيال لتوطيد أركان حكم العبّاسيين.
ورغم ما حمله هذا الخلل وذلك الصراع من عواد ومصائبَ فإنّه وفّر للإمام فرصة ثمينة ليظهر فيها علمه الغزير وينزل الى الساحة الاجتماعية التربوية كأروع ما يكون.
ثانياً: تشكّل المذاهب
وفي هذه الفترة بالذات بدأت المذاهب الفقهية المعروفة تنطلق نتيجة عوامل كثيرة، منها: اتساع الحركة العلمية والفقهية، والحرية الطبيعية التي لاقاها العلماء نتيجة ذلك الخلل السياسي الذي أشرنا إليه، وكذلك نتيجة لعمل السلطة في كثير من الأحيان على إبعاد اتّجاه فقهي معيّن لا ينسجم معها وترجيح آراء فقهاء آخرين عليه، كما أننا لا ننسى الدور الذي تلعبه الشخصية العلمية لأئمة المذاهب في جلب الأتباع والتلامذة والتأثير القويّ على تصوراتهم واتجاهاتهم الفقهية، ولا ننسى أيضاً دور العامل الجغرافي في تعدد الاتجاهات فقد كان قويّاً.
كلّ هذا وغيره أثّر في إيجاد نواة المذاهب الكثيرة التي تنوّعت وتعدّدت قبل أن تنحصر بعد ذلك بزمن طويل تقريباً بمذاهب معيّنة، وذلك لعوامل اُخرى رافقت عملية غلق باب الاجتهاد.
ثالثاً: ظاهرة الإفراط في اتّباع الرأي أو رفضه
ونستطيع أن نؤكّد هنا أنّ الصراع حول (الرأي) بدأ عمليّاً وبشكل طبيعي، فهل للمجتهد أن يعمل برأيه في فهم الحديث والتعدّي عن مورده وتنقيح مناطه واستخراج قاعدة أوسع تنفعه في مجالات أكبر؟ أم أنّ عليه أن يتقيّد تمام التقيّد بملابسات النصّ دونما جرأة على تجاوز حدوده؟ ولكل اتجاه وجهة نظر واستدلال.
وربّما كان هذا النزاع العلمي سيثمر خيراً لولا تدخلّ الأهواء السياسية والعوامل الاُخرى التي قادته الى عواقب لا تحمد.
فراح هذا يركّز على أهمية الرأي والقياس والاستحسان واتّباع المصلحة الى حدّ قد يتجاوز كلّ نصّ ويؤدي ـ أحياناً ـ الى دخول الفكر الإنساني الى ساحة التشريع الإلهي، وهو خطر كبير، في حين راح الآخر يركّز ـ احتياطاً لدينه ـ على حدود النصّ والحديث الى حد أدّى أحياناً الى جمود خطير في الفكر.
أمّا دور الإمام الصادق (ع) في هذا الالتحام العلمي فقد كان ـ كما نرى ـ الدور الحكيم المربّي، إذ رفض حالات الرأي المفرطة، مستدلاًّ بأروع استدلال، كما لم يرض للفكر الفقهي أن يجمد على حدود ضيّقة دونما مسوّغ.
وقد أدّى موقفه الفقهي الرائع الى أن تتمّ عملية التقيّد والاحتياط من استعمال القياسات الباطلة، ممّا خفّف الوطأة بل ربّما أزالها كما في قضية «الاستحسان» إذ تحوّل من عملية قول يستحسنه المجتهد فيفتي الى عملية «تقديم الأهم على المهم عند التزاحم» وهو اُسلوب عقلاني مقبول تماماً لدى الشرع.
كما بدرت ظواهر جيّدة للفقيه والانطلاق لآفاق أوسع من حددو النصّ الظاهرية لدى مدرسة الحديث، ممّا ساعدها على الثبات أمام الحوادث المستجدّة التي اتّسعت باتّساع التمدّن وتعقّد المجتمعات.
رابعاً: شيوع الانحرافات الفكرية الخطيرة
والذي يطالع الفترة التي عاصرها الإمام الصادق (ع) يجد أمامه بعض أنماط الانحراف الفكري العقائدي الخطير وربّما الطارئ على حياة المسلمين، وربّما كان ذلك معلولاً للخلل السياسي الآنف الذكر ـ من جهة ـ وشيوع الأفكار المعادية للإسلام ـ من جهة اُخرى ـ وانفساح المجال لذوي الأهواء والنزعات الفردية أو التحللية ـ من جهة ثالثة ـ ليدلوا بدلوهم وينضجوا اُكُلهم ويحصدوا ما يشاؤون.
ومن تلك الأنماط:
ـ مسألة انتشار الزندقة والتشكيك في المعتقدات الإسلامية والغريب أن ذلك كان يتمّ أحياناً في البيت الحرام والمسجد النبويّ الشريف ـ كما تُحدّثنا الروايات ـ مما شكّل ظاهرة واسعة خطيرة.
ـ ومنها موضوع الغلوّ في الشخصيات العلمية كأهل البيت (ع).
ـ كما إنّ منها ظاهرة التحلّل من الواجبات بحجج واهية ككفاية حبّ أهل البيت (ع) عن العمل الصالح… وأمثال ذلك.
خامساً: اتّساع ظاهرة الوضع في الأحاديث الشريفة
وظاهرة الوضع لم تكن جديدة في الأصل على المجتمع الإسلامي، وذلك بعد أن لعبت يد الأهواء منذ عصر الرسول (ص) فأوجدت فئةٌ من الوضّاعين المستأكلين بالحديث إرضاءً لأهوائهم ولسلطاتهم، أو اتّجاهاتهم، إلاّ أننا نجدها في هذا العصر ظاهرة متفشيةٌ تستخدمها السلطة، أو من هم في طريق التسلّط، لتحقيق المآرب الضيّقة الخبيثة.
سادساً: إنتشار المفاسد الخُلُقية وظواهر الترف، أو الزهد الكاذب
وهذه أيضاً ظاهرة يلمحها المرء في مثل العصر المشار إليه، ذلك أنّ خلفاء بني اُمية انحرفوا عن المسير الإسلامي الرشيد، من خلال ترفهم وقصورهم، ممّا أدّى الى إنتشار الكثير من الأوبئة الخُلُقية في المجتمع الإسلامي، وربّما ساعدت فترة الخلل السياسي على أن يستغل ذوو الأطماع ذلك لإظهار عبثهم ومجونهم.
الإمام الصادق (ع) في مواجهة هذه الظواهر
لقد كانت كلّ تصرفات الإمام جعفر الصادق (ع) وتصريحاته تنبئ عن شعوره بالمهام القيادية المُلقاة على عاتقه باعتباره أحد أئمة أهل البيت (ع) وعترة الرسول (ص) التي جُعلت أماناً للاُمة وسفينةً للنجاة ومتمسّكاً يعصمها من الضلال.
ولقد كانت هذه الأهليّة القيادية موضع عناية الأئمة من أهل البيت (ع) واحداً بعد الآخر، يوصي كلّ منهم الى من يليه ويعلّم أصحابه بخصائصه. وكمثال على ذلك نلاحظ النصّ التالي: دخل يزيد بن سليط ـ وهو من أهل الورع والعلم ـ على أبي عبدالله الصادق (ع) فبادره يسأله عن الحجة من بعده قائلاً:
«بأبي أنت واُمّي، أنتم الأئمة المطهّرون، والموت لا يعرى منه أحد فمن القائم من بعدك؟ فأشار الى ولده موسى وراح يصفه: فعنده علم الحكمة، الفهم، والسخاء، والمعرفة بما يحتاج الناس إليه فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم، وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله، وفيه اُخرى هي خير من هذا كلّه…
فيسأل الراوي قائلاً: بأبي أنت واُمّي ما هي؟
فيردّ الإمام الصادق (ع): يخرج الله تعالى منه غوث هذه الاُمّة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكيمها، خير مولود وخير ناشئ يحقن الله به الدماء، ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث، ويشعب به الصدع، ويكسو به العاري، ويشبع به الجائع، ويؤمن به الخائف وينزل به القطر، ويأتمر له العباد خير كهل، وخير ناشئ، قوله حكم، وصمته علم، يبيّن للناس ما يختلفون فيه…»[2].
وهي كلّها صفات قيادية يتمتع بها الإمام ويعمل على تحقيقها، فما هي الخطة التي سلكها الإمام الصادق (ع) لمواجهة هذه الظواهر والقيام بالواجب القيادي العام؟
انّنا نجد الإمام يعمل على نفس الخطّين الآنفين بكلّ دقّة، فهو ـ من جهة ـ وبشكل عام يؤكد على بناء الاُمة الإسلامية وتقوية أواصرها، وحفظ كيانها وصيانة تراثها وتنمية وعيها العام، وبالتالي على امتلاكها للخصائص التي ذكرها القرآن الكريم والسنّة الشريفة للاُمّة.. وهو من جهة اُخرى ـ يعمل بشكل خاص على تربية الفئة الواعية لأهدافه المتفاعلة تماماً مع خطّته، والمتحملة بكلّ جدارة للمهام الصعبة التي يلقيها عليها، ممّا يجعلها تشكّل شعاعاً من نوره ونماذج لسيرته ومظاهر لقيادته.
من مظاهر الخطّ التربوي العام
ويمكننا أن نلخّص أهمّ مظاهر هذا الخطّ عبر النقاط التالية:
أـ العمل على ايجاد حركة علمية واسعة جدّاً
وبدأت هذه الحركة تنشر الحقائق بين الناس وتنمّي معلوماتهم، وتدفعهم نحو الكمال العلمي المنشود.
يقول الشيخ القرشي: «وفجّر الإمام الصادق (ع) ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل، وقد ملأ الدنيا بعلمه ـ كما قال الجاحظ ـ ونقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان ـ كما أدلى بذلك ابن حجر ـ»[3].
وقد شملت هذه المدرسة الواسعة دراسات في مختلف العلوم كالفلسفة وعلم الكلام، والفقه واُصوله، والتفسير، في حين تجاوزت ذلك الى العلوم الطبيعية كالكيمياء وغيرها.
وألّف تلامذته مئات الكتب والرسائل، حتى أنّ المرحوم الشيخ آقا بزرك الطهراني ترجم لمئتي رجل من مصنّفي تلامذة الإمام (ع)[4].
وهكذا أوجد الإمام هذه الحركة العلمية الواسعة الأبعاد، واستطاع أن ينشر الوعي على أوسع نطاق.
ب ـ تبيين الموقف الصائب في مسألة «الرأي»
وهذا الجانب ركّز عليه الإمام كثيراً ليلغي الإفراط والتفريط حول هذه المسألة.
فقد يعني العمل بالرأي: التماس العلل الواقعية للأحكام الشرعية من طريق العقل وجعلها مقياساً لصحّة النصوص الشرعية، فما وافقها فهو حكم الله الذي يؤخذ به، وما خالفها كان موضعاً للرفض والتشكيك. وقد يعني الاستحسان: ما استحسنه المجتهد بعقله فأفتى به، وهي معان لو دقّقنا فيها النظر لوجدناها منفذاً للآراء البشرية الناقصة الى التشريع.
في حين قد يعني العمل بالرأي استنباط علل الأحكام من النصوص الشرعية خلال الظواهر الكلامية التي تشكّل حجّة شرعيّة ثم تعميم الحكم على الحالات الاُخرى.
أوَ يعني تقديم الأهم على المهم.
أوَ يعني قيام الحاكم المجتهد في مجال الحكم والإدارة باتّباع المصلحة الاجتماعية، في إصدار الأحكام الولائية.
فهذه اُمور يقبلها التشريع الإسلامي ويؤكد عليها. وبهذا تعرف أن «الرأي» على بعض المعاني مرفوض، وعلى بعضها الآخر مقبول، وهو ما وضّحته مدرسة الإمام الصادق (ع)، في روايات مفصّلة[5].
والذي نعتقده بصراحة هو أن لولا وقوف مدرسة الإمام الصادق (ع) أمام هذه الظاهرة وتبيانها الموقف الصحيح منها لكنّا نرى الكثير من الإفراط والتفريط الأمر الذي يكاد يعصف بالتشريع كلّه.
ج ـ القيام بحملة احتجاج واسعة ضد المشكّكين والملحدين
وللحديث في هذا الصدد مجال واسع، فقد أشرنا الى انتشار أفكار مشكّكة وآراء متزندقة وعلى مدى كبير، وقد قام الإمام وأصحابه وتلامذته بمناقشة هؤلاء بكلّ قوة ومتانة كشفتا من جهة عن قوّة العقيدة الإسلامية، ومن جهة اُخرى عن روح التسامح واُسلوب الجدال بالتي هي أحسن والتي تطبع أساليب الجدال الإسلامي القويم.
د ـ التركيز على الحفاظ على الخلق العام
وهنا أيضاً تواجهنا مجموعة ضخمة من الأحاديث الأخلاقية، التي يحمل كلّ منها ثروة من الإرشادات والتوجيهات، وقد انتشرت هذه الأحاديث بين أبناء الاُمة، وتناقلتها الركبان، وتهذّبت بها الجموع الغفيرة، وعادت منهلاً من مناهل الخلق القويم، فلنطالع مثلاً الأحاديث القصار التالية لنكشف بعض جوانب العظمة:
«العلم جُنّة، والصدق عزّ، والجهل ذلّ، وحسن الخُلُق مجلبة للمودّة، والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس، والحزم مشكاة الظن، والله لمن عرفه، والعاقل غفور، والجاهل ختور، وإن شئت أن تُكرَم فَلِنْ، وإن شئت أن تُهان فاخشَنْ، ومن كَرُم أصله لانَ قلبُه، ومن خَشُنَ عُنصره غلُظَ كبده، ومن فرّط تورّط، ومن خاف العاقبة تثبَت فيما لا يعلم، ومن هجم من غير علم جدع أنف نفسه»[6].
ولن نستطيع هنا الإشارة الى أكثر من هذا، وبحر العلم أمامنا زخّار بالمعارف الأخلاقية التي تركت ـ كما قلنا ـ أثرها الكبير في ايجاد نهضة أخلاقية في المجتمع آنذاك.
ه ـ توضيح الموقف السليم من الحاكمين وذوي الأهواء التسلّطية
لقد أدرك الإمام الصادق (ع) أبعاد الموقف السياسي الذي أحاط به تماماً، وعلم بأنّ جلّ الصراع حول الحكم إنّما هو صراع أهواء ونزاع نزعات، قبل أن يكون صراعاً على المبادئ.
وقد أثبت التاريخ بعد ذلك هذه الحقيقية بوضوح، فلم يكن العهد العبّاسي للمسلمين بأفضل من العهد الاُموي، من حيث الاستبداد والترف والانحراف.
وإنّ المرء ليشعر تماماً بعظم الخسائر التي ترتّبت ـ دونما أية إضافة حضاريّة أو إنسانية ـ على المسيرة الإسلامية.
نعم، شعر الإمام بذلك، ولم يفرّط بطاقاته في نزاع من هذا القبيل، وإنّما استغلّ الموقف ـ كما قلنا ـ لينشر الحقائق العلمية الواسعة، إلاّ أن ذلك لا يعني عدم توضيح الموقف السياسي، فقد كان موقفه واضحاً تماماً سواء تجاه الاُمويين أو العبّاسيين أو قادة الثورة فيما بين العهدين، إذ لم يستطع هؤلاء أن يجرّوه لتحقيق مآربهم أو تأييد مواقفهم مطلقاً، فكان مغضوباً عليه من قبل هؤلاء الطغاة الى نهاية حياته.
فكم هدّدوه بالقتل، وأحرقوا عليه داره، وجلبوه أسيراً، وأشاعوا الإشاعات حوله، إلاّ أنه بقي رغم كلّ ذلك صامداً لا تهزّه عواصفهم، وبقيت له مواقفه الخالدة وتعليقاته اللاذعة ضدهم.
من مظاهر الخط التربوي الخاص
وهنا نستطيع أن نلحظ حركة منظمة واسعة الأبعاد لتربية الطليعة الواعية التي تبث العافية في أوصال الاُمة، وهي ما حملت العناوين المختلفة من قبيل «شيعتنا، أصحابنا، غرر الأصحاب» وأمثالها من التعبيرات.
وها نحن نشير الى بعض مظاهر هذه التربية:
الشدّ العاطفي
وقبل أي شيء نلحظ الشدّ العاطفي لهؤلاء الواعين بخط أهل البيت (ع) ولا ريب في أن الشدّ العاطفي بالقائد أمر ركّزت عليه التعاليم الإسلامية بدءاً من التذكير بالعلاقة التي يملكها القائد بالله العظيم محل الحبّ الرفيع ومنبع الفيض والحنان على الأرض، ومروراً بالآيات الكريمة والأحاديث الشريفة المركّزة على حبّ أهل البيت (ع) ومودّتهم، وانتهاءً بالعطاء الفعلي الذي يلمسه المحبّون لهذه الشخصيات العظيمة العطاء.
دخل المفضّل بن عمر على الصادق (ع) فلمّا بصر به ضحك إليه ثم قال: «إليَّ يا مفضل فوربّي إني لأحبّك وأحبّ من يحبّك، يا مفضل، لو عرف جميع أصحابي ما تعرف ما اختلف اثنان… فنحن نحنُّ إليكم وأنتم تحنّون إلينا»[7].
التركيز على تحلّي الأصحاب بالورع
يقول (ع): «عليكم بالورع فإنّه لا ينال ما عند الله إلاّ بالورع»[8].
ويقول (ع): «وعليكم بتقوى الله والورع، والاجتهاد، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الخلق، وحسن الجوار، وكونوا دُعاة الى أنفسكم بغير ألسنتكم وكونوا زيناً ولا تكونوا شيْناً»[9].
وقد قال لجميل بن درّاج: «من صالح الأعمال: البرّ بالإخوان، والسعي في حوائجهم وذلك مرغمة للشيطان، وتزحزح عن النيران، ودخول في الجنان، يا جميل، أخبر بهذا الحديث غرر أصحابك».
فقال: جعلت فداك ومن غرر أصحابي؟
فقال الإمام: «هم البارّون بالإخوان في العسر واليسر»[10].
التعريف بفضل أصحابه السابقين ليُتّخذوا قدوة
يقول (ع): «ما أحد أحيا ذكرنا وأحاديث أبي إلاّ زرارة وأبو بصير المرادي، ومحمّد بن مسلم، ويزيد بن معاوية، ولولا هؤلاء ما كان أحد يستنبط هدى، هؤلاء حفّاظ الدين واُمناء أبي على حلال الله وحرامه، وهم السابقون إلينا في الدنيا وفي الآخرة»[11].
الدعوة الى المنهج الأصيل عبر العمل والالتزام
يقول (ع) لأصحابه: «اُوصيكم بتقوى الله وأداء الأمانة لمن ائتمنكم وحسن الصحبة لمن صحبتموه وأن تكونوا لنا دُعاة صامتين».
قالوا: يا ابن رسول الله وكيف ندعوا ونحن صامتون؟
قال (ع): «تعملون بما أمرناكم به من العمل بطاعة الله، وتعاملون الناس بالصدق والعدل، وتؤدّون الأمانة، وتأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، ولا يطّلع الناس منكم إلاّ على خير فإذا رأوا ما أنتم عليه علموا فضل ما عندنا فتنازعوا إليه»[12].
التربية على الصمود والثبات
يقول لأحد أصحابه: «قد كان قبلكم قوم يُقتلون ويُحرقون وينشرون بالمناشير، وتضيق عليهم الأرض برحبها فما يردّهم عمّا هم عليه شيء ممّا هم فيه، من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى، بل ما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد فاسألوا درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم…»[13].
ويقول (ع): «صبّروا النفس على البلاء في الدنيا، وأن يتابع البلاء فيها، والشدّة في طاعة الله وولايته، وولاية من أمر الله بولايته… فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام، وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحقّ حتى يتوفّاكم وأنتم على ذلك، وأنّ يجعل منقلبكم منقلب الصالحين».
التحذير من التعاون من السلطة
يقول لأحد كتّاب بني اُمية: «لولا أن بني اُمية وجدوا من يكتب لهم ويجبي لهم الفيء ويقاتل عنهم ويشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا»[14].
الاستنتاج
أن الإمام الصادق (ع) قام بدورين مهمين الأول بناء الأمة الإسلامية والثاني بناء الفئة الواعية، بسبب الأجواء التي عاصرها (ع)، من الخلل السياسي وصراع الأهواء وشيوع الانحرافات الفكرية الخطيرة و اتّساع ظاهرة الوضع في الأحاديث الشريفة وغير ذلك.
الهوامش
[1] الرعد، 17.
[2] المجلسي، بحار الأنوار، ج11، ص234.
[3] ابن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، ص120.
[4] آقا بزرك الطهراني، الذريعة الى تصانيف الشيعة.
[5] الحكيم، الاُصول العامة للفقه المقارن، ص303.
[6] أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ص136.
[7] المجلسي، بحار الأنوار، ج47، ص395.
[8] الكليني، الكافي، ج2، ص76.
[9] الكليني، الكافي، ج2، ص76.
[10] الصدوق، الخصال، ص97، ح42.
[11] المفيد، الاختصاص، ص66.
[12] أسد حيدر، الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، ج4، ص322.
[13] الكليني، الكافي، ج8، ص248، ح347.
[14] الكليني، الكافي، ج5، ص106، ح4.
[15] الكليني، الكافي، ج5، ص108، ح9.
مصادر البحث
1ـ ابن حجر الهيثمي، أحمد، الصواعق المحرقة في الرد على أهل البدع والزندقة، بيروت، دار الكتب العلمية، طبعة 1414 ه.
2ـ آقا بزرك الطهراني، محمّد محسن، الذريعة إلى تصانيف الشيعة، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الثالثة، 1403 ه.
3ـ الحكيم، محمّد تقي، الأُصول العامّة للفقه المقارن، مؤسّسة آل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1979م.
4ـ حيدر، أسد، الإمام الصادق (ع) والمذاهب الأربعة، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الأُولى، 1425 ه.
5ـ الصدوق، محمّد، الخصال، تصحيح وتعليق علي أكبر الغفاري، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، طبعة 1403 ه.
6ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
7ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
8ـ المفيد، محمّد، الاختصاص، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه.
جميل