- الإسلام
- القرآن
- النبي وأهل بيته
- الشيعة
- الأسرة
- أسئلة وأجوبة
- الدعاء وشروط استجابته
- وقت المطالعة : 10 دقیقة
- بواسطة : المشرف
- 0 تعليق
تعتبر الجماعة الصالحة المحور الأهمّ الذي كان يشغل بال واهتمام الإمام العسكري (ع) لأنّها الأداة الوحيدة الصالحة لتحقيق الأهداف الرسالية الكبرى، وهي الوسط الحقيقي الذي يفهم ثقافة أهل البيت (ع) ورسالتهم ويستطيع التعاطي الإيجابي معهم وينقاد الى أوامرهم وتوجيهاتهم الرسالية.
من عصر الحضور الى عصر الغيبة
من هنا نجد أنّ الإمام العسكري (ع) يكثّف جهوده لفترة الانتقال من عصر الحضور الى عصر الغيبة، لخطورة المرحلة من شتى النواحي ولقصر الفترة الزمينة التي يعيشها الإمام (ع) وهو يرى سرعة التقلّبات السياسية على مستوى الحكّام والخلفاء، كما يرى سوء تعاملهم جميعاً مع أهل البيت (ع) وشيعتهم من جهة، ورصدهم للإمام (ع) وكل تحركاته من جهة اُخرى، وسعيهم الحثيث للبحث عن المهدي الموعود والمنتظر الذي بشّر الرسول (ص) بأنه القائم بالقسط والعدل، والمقارع لكل رموز الظلم والعدوان.
فمهمّة الإمام الحسن العسكري (ع) خطيرة جدّاً تجاه ولده المهدي، كما هي خطيرة تجاه شيعته الذين سيُصابون بهذه الأزمة والمصيبة الجديدة التي لم يألفوها مع أئمتهم وهم يعيشون معهم وبين ظهرانيهم خلال قرنين ونصف قرن ويتلقّون التعاليم والتربية المباشرة منهم.
إنّ الشعور بوجود إمام وقائد حي يرتبطون به ويرتبط بهم ـ رغم صعوبة الظروف ـ له آثاره النفسية الإيجابية، بينما يكون الشعور بوجود إمام لا يستطيعون الإرتباط به ولا يدرون متى سيظهر لهم وينفّس عنهم كرباتهم ويجيبهم على أسئلتهم يحمل معه آثاراً نفسية سلبية إلاّ إذا كانت الغيبة عندهم كالحضور، ويكون البديل قادراً على تلبية حوائجهم وسدّ خللهم.
إنّ هذه المهمّة قد اشترك في انجازها أهل البيت (ع) جميعاً غير أنّ دور الإمام العسكري (ع) خطير للغاية وصعب جدّاً لشدّة المراقبة وشمولها بحيث كان الإمام (ع) يتعمّد الاحتجاب والانقطاع عن كثير من شيعته، ويشهد لذلك أنّ أغلب ما روي عنه كان بواسطة المكاتبات دون أُسلوب المشافهة بالرغم من أنّ الإمام (ع) طيلة ست سنوات كان يخرج الى البلاط كل اثنين وخميس، ولكنه لم يكن ليتكلم أو ليرتبط حتى بمن كان يقصده من مكان بعيد، إلاّ في حالات نادرة وبشكل خاص وهو يتحفّظ في ذلك من كثير ممّا يحيط به.
على هذا الأساس نصنّف البحث عن متطلبات الجماعة الصالحة في عصر الإمام العسكري (ع) الى أربعة أبحاث، ونتطرق هنا إلى بحثين:
البحث الأوّل: الإمام (ع) والتمهيد لولادة وغيبة المهدي (ع)
إنّ أهم انجاز للإمام العسكري (ع) هو التخطيط الحاذق لصيانة ولده المهدي (ع) من الوقوع بأيدي العتاة العابثين الذين كانوا يتربصون به الدوائر منذ عقود قبل ولادته، ومن هنا كانت التمهيدات التي اتّخذها الإمام (ع) بفضل جهود آبائه السابقين (ع) وتحذيراتهم تنصب أوّلاً على إخفاء ولادته عن أعدائه وعملائهم من النساء والرجال الذين زرعتهم السلطة داخل بيت الإمام (ع)، الى جانب إتمام الحجّة به على شيعته ومحبّيه وأوليائه.
ففي مجال كتمان أمر الإمام المهدي المنتظر (ع) عن عيون أعدائه قد أشارت نصوص أهل البيت (ع) الى أنّه ابن سيدة الإماء[1]، وأنّه الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه[2].
وفي هذه النصوص ثلاث إرشادات أساسية تحقق هذا الكتمان، أوّلها أنّ اُمّه أمة وهي سيدة الإماء وقد مهّد الإمام الهادي (ع) لهذه المهمّة باختيار زوجة من سبايا الروم للإمام الحسن العسكري (ع) ولم تكن للزواج أية مراسم ولا أية علامة بل كل ما تحقق قد تحقق بعيداً عن أعين كثير من المقرّبين.
وقد خفيت الولادة حتى على أقرب القريبين من الإمام، فإنّ عمّة الإمام (ع) لم تتعرّف على حمل اُم الإمام المهدي (ع) فضلاً عن غيرها، ومن هنا كانت الولادة في ظروف سرّية جداً وبعد منتصف الليل، وعند طلوع الفجر[3] وهو وقت لا يستيقظ فيه إلاّ الخواصّ من المؤمنين فضلاً عن غيرهم.
وقد خطّط الإمام العسكري (ع) ليبقى الإمام المهدي (ع) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية ولم يطّلع عليه إلاّ الخواص أو أخصّ الخواص من شيعته.
وأما كيفية إتمام الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته فقد تحقّقت ضمن خطوات ومراحل دقيقة.
الخطوة الأُولى: النصوص التي جاءت عنه (ع) قبل ولادة المهدي (ع) تبشيراً بولادته
لقد جاءت النصوص المبشّرة بولادة المهدي (ع) عن أبيه الإمام العسكري تالية لنصوص الإمام الهادي (ع) وبقيّة أئمة أهل البيت (ع) التي ركّزت على أنّه حفيد الهادي (ع) وأنّه ابن الحسن (ع) وأنّ الناس سوف لا يرون شخصه ولا يحلّ لهم ذكره باسمه[4]، وأنّه الذي يقول الناس عنه أنّه لم يولد بعد[5]، وأنّه الذي يغيب عنهم[6] ويرفع من بين أظهرهم وأنّه الذي ستختلف شيعته الى أن[7] يقوم وعلى الشيعة أن تلتفّ حول العلماء الذين ينوبون عنه وينتظرون قيامه ودولته ويتمسّكون بأهل البيت (ع) ويظهرون لهم الولاء بالدعاء والزيارة[8] وانه الذي سيكون إماماً وهو ابن خمس سنين[9].
ومن هذه النصوص المبشّرة بولادته:
1ـ روي في إثبات الهداة عن الفضل بن شاذان أنّ محمّد بن عبد الجبار سأل الإمام العسكري (ع) عن الإمام والحجّة من بعده فأجابه: «إنّ الإمام وحجة الله من بعدي ابني سميُّ رسول الله (ص) وكنيّه، الذي هو خاتم حجج الله وآخر خلفائه. فسأله ممّن هو؟ فقال: من ابنة ابن قيصر ملك الروم، إلاّ أنّه سيولد ويغيب عن الناس غيبة طويلة ثم يظهر»[11].
2ـ روى الطوسي أنّ جماعة من شيعة الإمام العسكري (ع) وفدوا عليه بسرّ من رأى فعرّفهم على وكيله وثقته عثمان بن سعيد العمري ثم قال لهم: «واشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وانّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم»[12].
الخطوة الثانية: الإشهاد على الولادة
لقد قام الإمام العسكري (ع) بالإشهاد على الولادة فضلاً عن إخباره وإقراره بولادته وذلك إتماماً للحجّة بالرغم من حراجة الظروف وضرورة الكتمان التام عن أعين الجواسيس، الذين كانوا يرصدون دار الإمام وجواريه قبل الولادة وبعدها.
إنّ السيدة العلوية الطاهرة حكيمة بنت الإمام الجواد واُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام العسكري (ع) قد تولّت أمر نرجس اُم الإمام المهدي (ع) في ساعة الولادة[13].
وصرّحت بمشاهدة المهدي (ع) بعد مولده[14] كما شاهد الإمام حين الولادة بعض النسوة مثل جارية أبي عليّ الخيزراني التي أهداها الى الإمام العسكري (ع) ومارية ونسيم خادمة الإمام العسكري[15].
الخطوة الثالثة: الإخبار بالولادة ومداولة الخبر بين الشيعة بشكل خاص من دون رؤية الإمام (ع)
وتمثّلت هذه الخطوة بإخبار الإمام (ع) شيعته بأنّ المهدي (ع) قد وُلد، وحاول نشر هذا الخبر بين شيعته بكلّ تحفّظ.
ولدينا ثمانية عشر حديثاً يتضمّن كلّ منها سعي الإمام (ع) لنشر خبر الولادة بين شيعته وأوليائه، وهي ما بين صريح وغير صريح قد اكتفى فيه الإمام (ع) بالتلميح حسب ما يقتضيه الحال.
فمنها الخبر الذي صرّح فيه الإمام الحسن (ع) بعلّتين لوضع بني العباس سيوفهم على أهل البيت (ع) واغتيالهم من دون أن يكونوا قد تصدّوا للثورة العلنية عليهم حيث جاء فيه:
«فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله (ص) وإبادة نسله طمعاً منهم في الوصول الى منع تولّد القائم أو قتله، فأبى الله أن يكشف أمره لواحد منهم إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون»[16].
وقد تضمّن هذا الحديث الإخبار بولادته خفيةً ليتم الله نوره.
ومنها ما حدّث به سعد بن عبدالله عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي أنّه خرج توقيع من أبي محمّد العسكري (ع) جاء فيه: «زعموا أنّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذّب الله عزّ وجلّ قولهم والحمد لله»[17].
وحين قتل الزبيري قال الإمام (ع) في توقيع خرج عنه: «هذا جزاء من اجترأ على الله في أوليائه، يزعم أنّه يقتلني وليس لي عَقب، فكيف رأى قدرة الله فيه»؟![18].
وعن أحمد بن إسحاق بن سعد أنّه قال: سمعت أبا محمّد الحسن (ع) يقول: «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى أراني الخلف من بعدي، أشبه الناس برسول الله (ص) خَلقاً وخُلقاً، يحفظه الله تبارك وتعالى في غيبته ثم يُظهره الله فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلئت جوراً وظُلماً»[19].
وفي سنة سبع وخمسين ومائتين خرج عيسى بن مهدي الجوهري مع جماعة الى سامراء بعد أن كانوا قد زاروا قبر الحسين (ع) بكربلاء وقبر أبي الحسن وأبي جعفر الجواد في بغداد وبشّرهم إخوانهم المجاورون لأبي الحسن وأبي محمّد (ع) في سرّ من رأى بولادة المهدي (ع)، فدخلوا على أبي محمّد العسكري (ع) للتهنئة، وأجهروا بالبكاء بين يديه قبل التهنئة وهم نيّف وسبعون رجلاً من أهل السواد فقال لهم الإمام (ع) ـ من جملة ما قال: ـ «إنّ البكاء من السرور من نعم الله مثل الشكر لها… ثم أراد عيسى بن مهدي الجوهري أن يتكلم فبادرهم الإمام (ع) قبل أن يتكلّموا، فقال: فيكم من أضمر مسألتي عن ولدي المهدي (ع) وأين هو؟ وقد استودعته الله كما استودعت اُم موسى ابنها (ع)... فقالت طائفة منّا: إي والله يا سيّدنا لقد كانت هذه المسألة في أنفسنا»[20].
الخطوة الرابعة: الإشهاد الخاص والعام بعد الولادة ورؤية شخص المهدي (ع)
عن أبي غانم الخادم أنّه ولد لأبي محمّد العسكري ولد فسمّاه محمّداً فعرضه على أصحابه يوم الثالث وقال: «هذا صاحبكم من بعدي وخليفتي عليكم وهو القائم الذي تمتدّ إليه الأعناق بالإنتظار، فإذا إمتلأت الأرض جوراً وظلماً فملأها قِسطاً وعدلا»[21].
وعن معاوية بن حكيم ومحمّد بن أيّوب بن نوح ومحمّد بن عثمان العمري أنّهم قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن العسكري (ع) ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً فقال:
«هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أما إنّكم لا ترونه بعد يومكم هذا» قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلاّ أيام قلائل حتى مضى أبو محمّد (ع)[22].
الخطوة الخامسة: التمهيد لرؤية المهدي (ع) من قبل بعض خواصّ الشيعة
وممّا حدّث به أحمد بن إسحاق حين سأل الإمام العسكري (ع) عن علامة يطمئن إليها قلبه حول إمامة المهدي (ع) حين أراه إيّاه وقد كان غلاماً كأنّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء ثلاث سنين..: إنّ الغلام نطق بلسان عربيّ فصيح فقال: «أنا بقية الله في أرضه والمنتقم من أعدائه فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد ابن إسحاق»[23].
وقد حفلت مصادر الحديث الإمامي بكرامات الإمام المهدي (ع) مع سعد بن عبدالله القمي العالم الإمامي الذي كان قد احتار في أجوبة مسائل عويصة قد اُلقيت عليه حتى لحق بأحمد بن إسحاق صاحب أبي محمّد الحسن العسكري (ع) وذهبا معاً الى الإمام العسكري (ع) ودخلا عليه وابنه محمّد المهدي (ع) بين يديه وأمره بإخبار أحمد بن إسحاق بهدايا شيعته التي جاء بها ثم اُخبر سعد بن عبدالله بما كان قد جاء له من المسائل العويصة التي أشكلت عليه[24].
الخطوة السادسة
وهي تخطيطه (ع) لتسهيل الإرتباط بالإمام المهدي (ع) في غيبته الصغرى من خلال إعتماده وكلاء قد وثّقهم لدى شيعته فأصبحوا حلقة وصل مأمونة بين الإمام المهدي (ع) وأتباعه من دون أن يتجشّموا الأخطار والصعاب لذلك.
فقد حدّث محمّد بن إسماعيل وعليّ بن عبدالله الحسنيان أنّهما دخلا على أبي محمّد الحسن (ع) بسرّ من رأى وبين يديه جماعة من أوليائه وشيعته حتى دخل عليه بدر خادمه فقال: يا مولاي بالباب قوم شعث غبر، فقال لهم: «هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن».
ثم انتهى الحديث الى أنّ الحسن (ع) قال لبدر: فامض فأتنا بعثمان بن سعيد العمري، فما لبثنا إلاّ يسيراً حتى دخل عثمان فقال له سيدنا أبو محمّد (ع): «امض يا عثمان فإنّك الوكيل والثقة والمأمون على مال الله واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال، ثم ساق الحديث الى أن قالا: ثم قلنا بأجمعنا: يا سيّدنا والله إنّ عثمان لمن خيار شيعتك ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك وأنّه وكيلك وثقتك على مال الله تعالى، قال: نعم واشهدوا على أنّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي وأنّ ابنه محمّداً وكيل ابني مهديّكم»[25].
الخطوة السابعة
وتمثّلت في النصوص التي هيّأت أتباع أهل البيت (ع) لاستقبال الوضع الجديد الذي سيحلّ بهم عند غيبة الإمام المهدي (ع) لئلاّ يفاجأوا باُمور لا يعرفون كيفية التعامل معها مثل ما يحصل بعد الغيبة من الحيرة والاختلاف بين الشيعة، وما ينبغي لهم من الصبر والانتظار للفرج والثبات على الإيمان والدعاء للإمام (ع) ولتعجيل فرجه الشريف.
وتكفي هذه الخطوات السبعة للتمهيد اللازم لتصبح قضية الإمام المهدي (ع) قضية واقعية تعيشها الجماعة الصالحة بكل وجودها رغم الظروف الحرجة التي كانت تكتنف الإمام المهدي (ع).
البحث الثاني: الإعداد لعصر الغيبة
انتهينا في البحث السابق عن معرفة كيفية طرح الإمام لقضية ولادة المهدي (ع) وإمامته وأنّه الخلف الصالح الذي وعد الله به الاُمم أن يجمع به الكلم في أصعب الظروف التي كانت تكتنف ولادة الإمام (ع)، وقد لاحظنا مدى إنسجام تلك الإجراءات التي اتّخذها الإمام العسكري (ع) في هذا الصدد مع الظروف المحيطة بهما.
غير أنّ النقطة الأُخرى التي تتلوها في الأهمية هي مهمة إعداد الأُمّة المؤمنة بالإمام المهدي (ع) لتقبّل هذه الغيبة التي تتضمّن انفصال الأُمّة عن الإمام بحسب الظاهر وعدم إمكان ارتباطها به وإحساسها بالضياع والحرمان من أهم عنصر كانت تعتمد عليه وترجع إليه في قضاياها ومشكلاتها الفردية والاجتماعية، فقد كان الإمام حصناً منيعاً يذود عن أصحابه ويقوم بتلبية حاجاتهم الفكرية والروحية والمادية في كثير من الأحيان.
فهنا صدمة نفسية وإيمانية بالرغم من أنّ الإيمان بالغيب يشكّل عنصراً من عناصر الإيمان المصطلح، لأنّ المؤمنين كانوا قد اعتادوا على الإرتباط المباشر بالإمام (ع) ولو في السجن أو من وراء حجاب وكانوا يشعرون بحضوره وتواجده بين ظهرانيهم ويحسّون بتفاعله معهم، والآن يُراد لهم أن يبقى هذا الإيمان بالإمام حيّاً وفاعلاً وقويّاً بينما لا يجدون الإمام في متناول أيديهم وقريباً منهم بحيث يستطيعون الإرتباط به متى شاءوا.
إنّ هذه لصدمة يحتاج رأبها الى بذل جهد مضاعف لتخفيف آثارها وتذليل عقباتها. وقد مارس الإمام العسكري تبعاً للإمام الهادي (ع) نوعين من الإعداد لتذليل هذه العقبة ولكن بجهد مضاعف وفي وقت قصير جدّاً.
الأوّل: الإعداد الفكري والذهني
فقد قام الإمام تبعاً لآبائه (ع) باستعراض فكرة الغيبة على مدى التاريخ وطبّقها على ولده الإمام المهدي (ع) وطالبهم بالثبات على الإيمان باعتباره يتضمن عنصر الإيمان بالغيب وشجّع شيعته على الثبات والصبر وانتظار الفرج وبيّن لهم طبيعة هذه المرحلة ومستلزماتها وما سوف يتحقق فيها من امتحانات عسيرة يتمخّض عنها تبلور الإيمان والصبر والتقوى التي هي قوام الإنسان المؤمن برّبه وبدينه وبإمامه الذي يريد أن يحمل معه السلاح ليجاهد بين يديه.
فقد حدّث أبو عليّ بن همّام قائلاً: سمعت محمّد بن عثمان العمري قدس الله روحه يقول: سمعت أبي يقول: سئل أبو محمّد الحسن العسكري (2) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه (ع): «إنّ الأرض لا تخلو من حجة لله على خلقه الى يوم القيامة وأن من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية فقال (ع): إنّ هذا حقّ كما أنّ النهار حق، فقيل له: يا ابن رسول الله فمن الحجّة والإمام بعدك؟
فقال: ابني محمّد هو الإمام والحجّة بعدي. من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية، أما إنّ له غيبة يحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون ويكذب فيها الوقّاتون، ثم يخرج فكأني أنظر الى الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»[26].
وحدّث موسى بن جعفر بن وهب البغدادي فقال: سمعت أبا محمّد الحسن (ع) يقول: «كأني بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي، أما أنّ المقرّ بالأئمة بعد رسول الله (ص) المنكر لولدي كمن أقرّ بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة رسول الله (ص)، والمنكر لرسول الله (ص) كمن أنكر جميع الأنبياء، لأنّ طاعة آخرنا كطاعة أوّلنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأوّلنا، أما أنّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلاّ من عصمه الله عزّ وجلّ»[27].
الى غيرها من الأحاديث والأدعية التي تضمّنت بيان فكرة الغيبة وضرورة تحققها وضرورة الإيمان بها والصبر فيها والثبات على الطريق الحقّ مهما كانت الظروف صعبة وعسيرة.
الثاني: الإعداد النفسي والروحي
فقد مارسه الإمام (ع) منذ زمن أبيه الهادي (ع) فقد مارس الإمام علي الهادي (ع) سياسة الاحتجاب وتقليل الإرتباط بشيعته إعداداً للوضع المستقبلي الذي كانوا يستشرفونه وكان يُهيئهم له، كما انّه قد مارس عملية حجب الإمام العسكري (ع) عن شيعته فلم يعرفه كثير من الناس وحتى شيعته إلاّ بعد وفاة أخيه محمّد حيث أخذ يهتمّ بإتمام الحجّة على شيعته بالنسبة لإمامة الحسن من بعده واستمر الإمام الحسن (ع) في سياسة الاحتجاب وتقليل الإرتباط لضرورة تعويد الشيعة على عدم الإرتباط المباشر بالإمام ليألفوا الوضع الجديد ولا يشكّل صدمة نفسية لهم[28].
فضلاً عن أنّ الظروف الخاصة بالإمام العسكري (ع) كانت تفرض عليه تقليل الإرتباط حفظاً له ولشيعته من الإنكشاف أمام أعين الرقباء الذين زرعتهم السلطة هنا وهناك ليراقبوا نشاط الإمام وإرتباطاته مع شيعته.
وقد عوّض الإمام العسكري (ع) الأضرار الحاصلة من تقليل الإرتباط المباشر بأمرين:
أحدهما: إصدار البيانات والتوقيعات بشكل مكتوب الى حدٍّ يغطي الحاجات والمراجعات التي كانت تصل الى الإمام (ع) بشكل مكتوب. وأكثر الروايات عن الإمام العسكري (ع) هي مكاتباته مع الرواة والشيعة الذين كانوا يرتبطون به من خلال هذه المكاتبات.
ثانيهما: الأمر بالإرتباط بالإمام (ع) من خلال وكلائه الذين كان قد عيّنهم لشيعته في مختلف مناطق تواجد شيعته. فكانوا حلقة وصل قوية ومناسبة ويشكّلون عاملاً نفسيّاً ليشعر أتباع أهل البيت باستمرار الإرتباط بالإمام وإمكان طرح الأسئلة عليه وتلقي الأجوبة منه. فكان هذا الإرتباط غير المباشر كافياً لتقليل أثر الصدمة النفسية التي تحدثها الغيبة لشيعة الإمام (ع).
وهكذا تمّ الإعداد الخاص من قبل الإمام العسكري (ع) لشيعته ليستقبلوا عصر الغيبة بصدر رحب واستعداد يتلائم مع مقتضيات الإيمان بالله وبرسوله وبالأئمة وبقضية الإمام المهدي (ع) العالمية والتي تشكّل الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإنساني من أوحال الجاهلية في هذه الحياة.
الاستنتاج
أنّ الإمام العسكري (ع) كثّف جهوده لفترة الانتقال من عصر حضور الإمام الى عصر غيبة الإمام، فمهّد لولادة وغيبة الإمام المهدي (ع)، وخطّط (ع) أن يبقى المهدي (ع) بعيداً عن الأنظار كما ولد خفية، وأتمّ الحجّة في هذه الظروف الاستثنائية على شيعته من خلال سبع خطوات، لتصبح قضية المهدي (ع) قضية واقعية تعيشها الجماعة الصالحة بكل وجودها.
الهوامش
[1] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص316.
[2] انظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص44.
[3] انظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص424.
[4] انظر: الكليني، الكافي، ج1، ص328.
[5] انظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص322.
[6] انظر: الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص44.
[7] انظر: الراوندي، سعيد، الخرائج والجرائح، ج3، ص1153.
[8] انظر: الطبرسي، الاحتجاج، ج2، ص260.
[9] انظر: الكليني، الكافي، ج1، ص384.
[10] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص408.
[11] انظر: الحر العاملي، إثبات الهداة، ج3، ص569.
[12] الطوسي، الغيبة، ص356.
[13] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص424.
[14] الكليني، الكافي، ج1، ص330.
[15] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص430.
[16] الحر العاملي، إثبات الهداة، ج3، ص570.
[17] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص407.
[18] الكليني، الكافي، ج1، ص329.
[19] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص408.
[20] البحراني، مدينة المعاجز، ج7، ص673.
[21] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص431.
[22] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص435.
[23] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص384.
[24] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص454.
[25] الطوسي، الغيبة، ص355.
[26] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص409.
[27] الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص409.
[28] انظر: المسعودي، إثبات الوصية، ص272.
مصادر البحث
1ـ البحراني، هاشم، مدينة المعاجز الأئمة الاثني عشر ودلائل الحجج على البشر، تحقيق عزة الله المولائي الهمداني، قم، نشر مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1413 ه.
2ـ الحر العاملي، محمّد، إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1425 ه.
3ـ الراوندي، سعيد، الخرائج والجرائح، قم، مؤسّسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
4ـ الصدوق، محمّد، كمال الدين وتمام النعمة في إثبات الغيبة وكشف الحيرة، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1416ه.
5ـ الطبرسي، أحمد، الاحتجاج، النجف، دار النعمان، طبعة 1386 ه.
6ـ الطوسي، محمّد، الغيبة، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1425 ه.
7ـ الكليني، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
8ـ المسعودي، علي، إثبات الوصية للإمام علي بن أبي طالب، قم، انتشارات انصاريان، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف بسيط)
المجمع العالمي لأهل البيت، أعلام الهداية، قم، المجمع العالمي لأهل البيت، الطبعة الأُولى، 1422 ه.