إن توظيف أسلوب التبشير والترغيب أو الإنذار والوعيد لا يختص بموضوع دعوة المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله، ولا يتعلق فقط بالقتال؛ بل هي طريقة عامة يستخدمها الأنبياء (ع) في مجالات متعددة؛ من أجل الوصول إلى أهداف ومقاصد سامية مختلفة، وفي ما نحن فيه نجد أن هناك العديد من المواضيع والواجبات ومنها موضوع تشجيع المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ودعوتهم للقتال.
فبالإضافة إلى استخدام هذه الطريقة العامة، وتسخير سبيل الترغيب والترهيب فيها، فإن هناك طرقاً خاصة استعملت لتحفيزهم على أداء تلك الواجبات وتطبيقها، وفي ما يأتي نعرض بعض الطرق الخاصة التي ذكرت في القرآن من أجل تعزيز اندفاع المسلمين للقتال، وتشجيعهم على المشاركة في الحرب والجهاد في سبيل الله.
أ) إثارة غريزة الانتقام وإحقاق الحق
من الأساليب والطرق التربوية الخاصة التي تناولها القرآن لترغيب المسلمين على الجهاد في سبيل الله هي إثارة غريزة الدفاع، وروح الاقتصاص، ونزعة الانتقام من العدو، والتعطش للدماء؛ وهي غرائز موجودة في أعماق الإنسان وفطرته.
إن طبيعة كل إنسان بالذات؛ بل سجية كل حيوان بالطبع هي الدفاع عن نفسه، والذود عن حقوقه أمام المعتدين والمتجاوزين، وجزء من ردود فعله أنه يجازي ويعاقب كل من يظلمه ويتعدى على حدوده وينتقم منه، من هنا جاءت بعض آيات الجهاد في سبيل الله بلسان إثارة تلك المكامن البشرية، وفي سياق تفعيل الغرائز المودعة في ذات الإنسان وتدعوه لإحقاق الحق والانتقام من الكفرة والمشركين، وبهذا الخصوص يخاطب الباري تعالى المسلمين بما يأتي: وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ[1].
إن هذه الآية الكريمة وظفت إحدى الحقائق النفسية، واستعملت واحدة من المكامن الباطنية للإنسان، فنجد أن الله تعالى يؤكد ويذكر بحقيقة مرة عاشها المسلمون، وهي أن العدو طالما قاتل المسلمين وهاجمهم، وألحق بهم ألوان العذاب، والغرض من ذلك هو إثارة حس الانتقام في نفوس المسلمين؛ حتى لا يترددوا في قتال الأعداء، أو يتباطؤوا في ذلك، ويسارعوا في الانتقام منهم، وإجراء القصاص بحقهم.
ومن الممكن جداً أن يستخدم الباري تعالى بعض التعابير الأخرى من أجل بيان أمر القتال والجهاد في سبيل الله، وبدلاً من أن يورد الآية المذكورة، يقول مثلا: قاتلوا في سبيل الله المشركين، أو يقول مثلا: قاتلوا في سبيل الله الذي اشركوا، أو يقول تبارك وتعالى: قاتلوا في سبيل الله الكفار، أو الذين كفروا؛ لكن كل من هذه الجمل والكلمات لا يمكن أن تؤدي الغرض والمعنى المراد إيضاحه، وهي النكتة النفسية التي أشرنا إليها آنفاً.
وفي هذه الآية يمكن القول أن جملة الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ تشعر – كما يعبرون – بالسببية والعلية، أي إنهم لما قاتلوكم وحاربوكم، فعليكم أن تقاتلوهم أيضاً، من هنا سيتحمس المسلمون للدفاع عن أنفسهم ويبادرون المقاتلة من قاتلهم، وفي آية أخرى يقول الله تبارك وتعالى: «وأخرجوهم… أخرجوكم»؛ ومن هنا وشيئاً فشيئاً تبدأ روح الانتقام بالتعاظم، وشعور الأخذ بالثأر بالتنامي والازدياد في نفوس المسلمين، حتى يصمموا ويمضوا لقتال الأعداء ومحاربتهم، وينهضوا بحزم لمواجهتهم، وألا يندموا على أي سعي أو جهد في هذا المجال.
ويقول في آية أخرى أيضاً: أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ[2].
إن الله تعالى في هذه الآية الكريمة – كي يحفز المؤمنين على الجهاد في سبيل الله ويشجعهم على المواجهة – نجده يذكرهم بأن هؤلاء المشركين هم الذين نقضوا العهد معكم، وخرقوا اتفاق عدم التجاوز عليكم والتعرض لكم، وهم الذين أخرجوا زعيمكم وقائدكم وهو النبي محمد المصطفى (ص)، وأجبروه على ترك موطنه مكة المكرمة، وبيته، ومحيطه، وأهله، وأقاربه؛ فاضطر للهجرة إلى المدينة، وهم الذين بادروا لقتالكم، وابتدؤوا بمحاربتكم، فهم أول من أعلن الحرب عليكم لا أنتم، لم يبق إذا أمامكم أي حل لمثل هؤلاء أو طريقة يحسم فيها الأمر سوى مقاتلتهم دون خوف أو خشية منهم، فالله وحده أحق بالخشية.
اللافت هنا أن الآيات التي تلت هذه الآية تتضمن كلاماً أكثر صراحة، وتحتوي على حديث أكثر وضوحاً من قبيل: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ[3]، و وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ[4]، ومثل هذه الآيات فيها إشارة واضحة إلى حقيقة نفسية لها تأثير بالغ في باطن الإنسان وجوانحه، إذ تشجع المؤمنين وتخاطبهم أن ارووا عطش الانتقام في نفوسكم عبر مقاتلتهم، وأذهبوا غيظ قلوبكم عبر مناجزتهم ومحاربتهم حتى تطمئن قلوبكم وتهدأ نفوسكم.
ب) إثارة العواطف الإنسانية
السبيل التربوي الآخر الذي يستخدمه القرآن في موضوع تحفيز المجاهدين، هو تحريك المشاعر والعواطف الإنسانية إزاء ما يصنع بالمستضعفين والمظلومين، وهنا ينبغي الالتفات إلى أنه لا يمكن تقييم العواطف البشرية والأحاسيس الباطنية للإنسان بذاتها وبنفسها، ولا يصح أن تكون إيجابية، أو سلبية بحد ذاتها، أو تكون موطناً للإطراء، أو الذم بمجردها؛ بل إن هذه الأمور تكون تابعة لمتعلقاتها، وطبيعة توظيفها، وطريقة الاستفادة منها.
وانطلاقاً من هذه النقطة المهمة فإن التعاطي مع هذه المشاعر والعواطف يمكن أن يكون في مساره الصحيح فيكون العمل بها في ضوء الأحكام الشرعية والعقل، ويمكن أن يتحقق العكس أيضاً، فتسخّر لمسالك خاطئة، وتستخدم في مضان غير صحيحة، فتبعد الإنسان وتقصيه عن السير في الصراط والخط المستقيم، وتنأى به عن نهج الأحكام الشرعية والعقل.
ومن العواطف الإنسان الصادقة هي مشاعره وأحاسيسه إزاء أهل نحلته وديانته ورغبته بالخير والسعادة لهم، والقرآن عبر توظيف هذه العاطفة وتحريكها وتقويتها وإثارتها رغب المسلمين وشجعهم على الحرب بوجه الظلمة والمستكبرين الذين ظلموا وقتلوا وعذبوا أهلهم وإخوانهم، وبذلك ألزمهم بحماية المستضعفين والمظلومين، وفي هذا السياق يقول تعالى:
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا[5].
وفي هذه الآيات تقريع ولوم صريح من الله تبارك وتعالى للمسلمين لعدم قتالهم المشركين، وهو تنديد بصمت المسلمين، وعندما يخاطبهم: ألم ينظروا إلى أهلهم وذويهم من النساء والرجال صغاراً وكباراً وهم يرزحون تحت ظلم العدو وقسوته، ألا تسمعون نداءاتهم وصرخاتهم واستغاثتهم، وطلباتهم الحثيثة بالنجدة، فهو يريد من كل ذلك في الواقع إثارة العاطفة الفطرية لدى الإنسان وتهييج طبيعة الحنو والرقة المودعة في أعماقه إزاء المسلمين.
من أجل تخليص أولئك المستضعفين من قبضة الجور والظلم، ويسارعون إلى إنقاذ الذين وقعوا الآن في طوق القهر والأذى، ويقصد بذلك تشجيعهم على تحرير الضعفاء الذين لا يملكون الحيلة، ولا يمكنهم وحدهم ومن دون مساعدة الآخرين الخروج من سطوة المشركين والكفار الظلمة.
ج) عرض الأهداف المقدسة للجهاد
من الأساليب التربوية الأخرى الخاصة التي يتناولها القرآن لإغراء المجاهدين، وحثهم على الجهاد في سبيل الله، هي بيان الأهداف النزيهة، والأغراض المقدسة السامية للحرب والجهاد الإسلامي المخلص، ذلك أن الاطلاع على هذه الأهداف والمقاصد، سوف يعزز روح الاستبسال والمواجهة ويدفع بالمسلمين للجهاد، ويكون ذلك سبباً لاطمئنانهم أكثر، ويجعلهم يصممون بحزم، فيقتحمون ساحة المعركة بقليل من القلق والخوف، ويقاتلون الأعداء بمعنويات عالية.
ومن جملة الآيات التي تناولت هذا الأسلوب، ووظفت هذه الطريقة هي في قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ[6].
وفي هذه الآية الشريفة يبين الله تعالى أن هدف الجهاد في سبيل الله هو استئصال الفتنة ومحوها، وإشاعة الإسلام، وتعزيز حاكمية دين الله في الأرض، حتى تقوى شهية المسلمين للقتال، وترغب نفوسهم في مواجهة العدو ومحاربته، فلو التفت المسلمون إلى حقيقة أن الحرب ضد أعداء الإسلام سيؤدي إلى هذه النتائج، وسوف تنتهي بهم إلى نتائج غاية في السمو والرفعة، سيسعون بحماس أكثر، وسيتحملون الصعاب والمحن التي تواجههم في الحرب كافة، وبأسلوب لافت.
د) المجاهدون بوابة لتحقيق الإرادة الإلهية
من الطرق الخاصة في التربية القرآنية المتعلقة بجهاد المسلمين هو ما يبينه القرآن من حقيقة عميقة عليا، وهي أن المجاهدين هم طريق الله وبابه، وهم في الواقع يد الله وأداته، وسبل تحقق الأهداف والأغراض الإلهية، ومعلوم أن الالتفات إلى هذه النقطة يؤدي إلى إدراك المجاهدين حساسية العمل، وإدراك حساسية موقعهم، وحقيقة المكانة التي هم فيها، وبذلك سوف يعلوهم الحماس أكثر للإقبال على الحرب، وتحمل شتى أنواع المتاعب والآلام الشاقة التي تقع على عاتقهم جرائها.
إن الوعي بهذا الموضوع سوف يؤثر تأثيراً إيجابياً عميقاً سيتجلى في نفوس المجاهدين، وبعد اطلاعهم على هذه الحقيقة سوف يشعرون في الواقع بحقانية ما يصنعون وقدسيته وسيدركون عظمة العمل الذي يبادرون إليه، وسوف يعتقدون جراء الوعي بتلك الحقيقة بسمو المنزلة، وعلو الدرجة التي هم فيها.
والآية الشريفة الآتية يمكن أن تكون إحدى مصاديق استخدام هذا اللون من التشجيع والترغيب لدعوة المجاهدين إلى القتال: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى[7]، أي إنكم بلغتم من السمو والرفعة بحيث إن قتلكم للعدو هو بمنزلة قتل الله لهم، وأن ما تفعلونه هو فعل الله تبارك وتعالى.
وفي آية أخرى يقول سبحانه في هذا السياق: قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ[8].
أي إنكم أدوات وسبل لتحقيق فعل الله تعالى وإجرائه، وأن الله يصيبهم ويضربهم بوساطتكم ويلحق بهم البلاء والعذاب عن طريقكم.
هـ) الوعي بالعوامل الرادعة والمثبطة
هناك العديد من العوامل والأسباب التي تلعب دوراً في الحيلولة دون المشاركة في مرحلة الجهاد والقتال، وتكون مانعة لكثير من الأفراد عن الحضور والمساهمة في هذه الوظيفة، وفي إطار التعاليم والدروس التربوية التي يعطيها القرآن للمجاهدين هي الانتباه والوعي بمثل هذه العوامل وعدم التغافل عنها، ويحاول من خلال بعض التعاليم الخاصة إبطال تلك العوامل وتسويفها.
ومما لاشك فيه أن كل حرب تلحقها العديد من المتاعب والأذى شئنا أم أبينا، كالخسائر، والصعاب، والخيبة والإخفاق، ونقص الأعضاء وفقدان الحياة أيضاً، إن طبيعة هذه الحوادث المرة، والتبعات الفادحة للحرب هي التي تقف عادة وراء امتناع كثير من الناس عن المشاركة في القتال والمعارك الضروس والقليل جداً من الناس يعتبرون كل هذه المصائب والمحن والآلام التي تنتظر المقاتل في المعركة، وحتى الموت في سبيل الله فوزاً وفلاحاً، فيواجهون العدو ويقاتلونه دون الالتفات إلى تبعاتها، هناك يتلاشى كل شيء في سبيل الله.
عندما يذكر القرآن هذه التعبات والآثار التي تلحق ظاهرة الحرب يأتي عليها ويسوفها، ويعتبر دورها دوراً سلبياً، ويعتبر دواعيها مثبطة وأنها ليست سوى جزء من إلقاءات ووساوس الشيطان فيبعدها عن المجاهدين، ليس ذلك فحسب؛ بل يصنف تلك الآثار ويدحضها، ويذكر بعض الملحوظات عن كل واحدة منها، حتى تبلغ كل واحدة منها درجة من الضعف والوهن بحيث لا تستطيع أي واحدة منها أن تقف حائلاً دون مشاركة المسلمين في الحرب، ولا يمكنها أن تمنعهم من أداء وظيفتهم وواجبهم في الحرب، وفي ما يأتي نتناول بعض هذه الملحوظات:
1- تعويض الخسائر الاقتصادية
إن الفقر والعوز المالي والضغوطات الاقتصادية الناشئة من الحرب؛ إذ تنقطع العلاقات الاقتصادية والتجارية ويبدأ الحضر الاقتصادي في زمان الحرب، وهذا الأمر يؤدي بكثير من الناس إلى مخالفة الحرب، وهذه المسألة استحوذت على أذهان العامة، واستشرت بين أفكارهم وقد تجاوزت حجمها الطبيعي، حتى بلغ الأمر أن الامم والشعوب باتت مستعدة للقبول والرضا بالذلة والهوان وتتحمل ظلم الطغاة والجبابرة، إذ تتجنب دخول الحرب مع المعتدين على مياههم وأرضهم.
وفي إطار إبطال هذه العوامل وإفسادها يعد الله تبارك وتعالى المسلمين والمؤمنين والمجاهدين بالتعويض، فيذكر أن مثل هذا الفقر والحرمان والضغوطات الاقتصادية الحاصلة جراء الحرب بجبرها وتعويضها لهم، وفي هذا السياق نشير إلى هذه الآية الكريمة: قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُواْ المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[9].
٢- الفهم العميق لموضوع القضاء والقدر
حتى لا تكون المصائب والمحن والشدائد وشتى أنواع الحرمان والمشاكل التي لابد من أن تقع على المجاهدين في سبيل الله والمشاركين في الحرب ضد العدو مانعة من المشاركة في القتال، فإن القرآن يعلم المسلمين ويربيهم على هذه الحقيقة، وهي أن جميع هذه الأمور والحوادث التي تقع في العالم إنما تجري وفق نظام التقدير والتدبير الإلهي، وإن المسلمين الذين تعلموا من مدرسة القرآن يعلمون جيداً أن الله تعالى جعل لكل الموجودات نظاماً حكيماً وتخطيطاً دقيقاً وعادلاً، وعبر هذا التخطيط لا تخرج أي واقعة أو حادثة عن الإطار والنظام الذي يدير الله سبحانه في ضوئه كل العالم، وعليه فإن كل ما يقدره الله تعالى سيقع ويكون.
إن الالتفات إلى هذه الحقيقة يجعلنا ندرك أن كل شيء يقع ويحدث في هذا الكون، ومن جملة ذلك المصائب والمحن والمشاكل التي تواجه المجاهدين، إنما هو من ضمن النظام العام للخليقة، وسيجري في ضوء الحكمة والعدل الإلهي، وأن حصول مثل هذه العقد والبلايا إنما هو حصول حتمي ووقوعها قطعي أيضاً، ومثل هذه الحقيقة وهذا الاعتقاد سوف يؤثر جداً في تقوية روح الاعتماد على النفس لدى المجاهدين وتعزيزها، وستبعث هذه الرؤية في الإنسان عدم المبالاة بعد الآن بفقدان المال والصحة والأمن والهدوء والسكينة، والراحة والاسترخاء، وسوف لا يعبأ بهجران الزوجة والأولاد؛ بل إن القلق والهاجس الذي يرافق المرء عادة بسبب هذه الأمور عندما يقدم على القتال لا يمنعه أبداً، ولا يشغله إطلاقاً عن المشاركة في الحرب.
لقد كان المجاهدون في بداية الدعوة الى الإسلام وبسبب إيمانهم وعنايتهم الخاصة بموضوع القضاء والقدر الرباني؛ ولأنهم يعلمون جيداً بأن كل ما قدره الله تعالى سيقع بنحو طبيعي حتماً ويحدث دون شك، فإنهم كانوا يعيشون حالات معنوية عالية جداً، ويستقبلون الحروب بروح عازمة، وقلب ملؤه القوة والشجاعة الكبيرة، ويسطرون في المعارك أروع صور الاستبسال والإقدام، لماذا؟ لأنه مع وجود هذه العقيدة سوف يضمحل أي لون من ألوان القلق، ويذوب كل هاجس أمام هدفهم.
3- الالتفات إلى شمولية البلايا والبعد الإيجابي لذلك
من جملة المسائل التي أوصى بها القرآن المؤمنين، وذكرهم بأهميتها هي أن المصائب والوقائع المرّة التي تحدث في ساحة القتال لا تحصل للمسلمين والمجاهدين فقط؛ بل يتفق حصول مثل هذا الأذى والألم للأعداء أيضاً؛ فيعذبهم ويرهقهم كذلك، من هنا إن الطرفين يشتركان في مواجهة صعاب وعقد الحرب وأذاها، ولكن هناك تفاوتاً مهماً وأساسياً بين عناء الطرفين؛ فيميز حالة المسلمين عن وضع الكفار وحالتهم، ويمكن أن يعود هذا التفاوت بين الطرفين إلى أمرين:
الأمر الأول
إن المسلمين يستمدون الدعم الغيبي، والنصر الإلهي؛ في حين يحرم العدو من هذا المدد والدعم الرباني، وعلى الرغم مما يتفق كثيراً من قلة العدة والعدد في جانب جيش المسلمين، وضعف القدرة والاستعداد الظاهري في صفوف العدو، ولكن في النهاية وبنحو لافت يكون النصر حليف المسلمين؛ فيأخذونهم على حين غرة ويلحقون بهم الهزيمة، ويفاجئون جيش العدو بالانكسار.
الأمر الآخر
هو أن المسلمين سيحظون في مقابل كل المحن والأذى التي تحصل جراء الحرب وحتى بلوغهم منزلة الشهادة، سيحظون بأجر عظيم عن هذا الجهاد في سبيل الله تعالى، في حين لا يحصل الأعداء إلا على العقاب والعذاب.
يقول تعالى في إحدى الآيات الكريمة ضمن هذا السياق: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ[10].
وعليه فليس من اللائق أن يخاطر السائرون في طريق الباطل، ويغامر الذين لا يملكون أي مصدر لأي قوة غير طبيعية، ولا أمل لهم وراء هذه الحياة، فتجدهم يخاطرون بكل ما يملكون، في حين يخشى المسلمون مع أنهم ينتظرون النصر الإلهي في الدنيا، ورغم أنهم يعتقدون بالرحمة الربانية التي ستدركهم في الآخرة، وأجر الجهاد العظيم هناك؛ لتعلّق أفئدتهم بالشهادة، رغم كل ذلك تجدهم يعجزون عن تحمل صعاب الحرب المرة ومحنهم، فيسلكون للهروب منها الحيل، ويلقون الأعذار تلو الأعذار من أجل الامتناع عن المشاركة في الحرب، ألا يجب أن تكون دواعي إقبال السائرين في درب الجهاد في سبيل الله على الحرب والقتال أقوى وأكثر حماسة من الباعث والحافز الذي يدفع أهل الباطل إلى مقاتلة المسلمين ومحاربتهم؟!
4- إدراك حقيقة الموت والشهادة
لاريب في أن أصعب مراحل الحرب والقتال وأشدها قلقاً واضطراباً هي مرحلة الموت والقتل؛ لذلك نجد أن القرآن الكريم يعتني بهذه المسألة التي تعد من المسائل المهمة والتي غالباً ما تشغل الذهن والقلب عناية خاصة.
ويحاول القرآن هنا أن يحد من قلق الإنسان من القتل في الحرب وينتزع خشيته من الموت في ساحة المعركة بالكامل، وطرح بهذا الخصوص العديد من التعاليم والإرشادات، وفي ما يأتي نتناول بعض تلك التعاليم وهي على النحو الآتي:
أ) قصر عمر الإنسان وحتمية الموت
أحد التوصيات المهمة التي يعرضها القرآن هي التوصية المتعلقة بموضوع القضاء والقدر، وطبيعة تعاطي هذا الموضوع مع الموت، فعند ملاحظة هذه القضية نعي جيداً أن كل امرئ له عمر وحياة محددة، وما إن ينتهي ذلك العمر ويبلغ الإنسان أجله سواء كان في ساحة الحرب والمناجزة، أم كان على فراش الموت سيموت حتماً، من جهة أخرى أيضاً إن كل إنسان ما لم يبلغ أجله ولم ينته عمره سيبقى حياً مهما كانت الظروف والأحوال.
من هنا إن الرؤية الإسلامية للموت والتعاليم الربانية لموضوع نهاية الحياة، تفضي إلى عدم جدوى الامتناع عن المشاركة في الحرب من أجل الحيلولة دون الوقوع في شراك الموت، ولا يمكنه بذلك إقصاء هذا الأمر وإبعاده لو بلغ العمر حده، ووصل أجله، وأسدل الستار على رحلته وحياته، وأما لو لم يصل العمر نهايته ولم يبلغ الأجل حينه، فعليه أن لا يخشى ولا يخاف من الذهاب إلى المعركة ولا يجعل القلق والاضراب يسري إلى قلبه.
يقول تعالى في هذا السياق: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلَاً[11].
ب) الموت رحيل وليس فناء
من التعاليم والتوصيات الأخرى التي يطرحها القرآن الكريم لمكافحة الخوف والحد من القلق من الموت هي تذكير المؤمنين والمجاهدين في سبيل الله بهذه الحقيقة؛ وهي أن الإنسان عندما يموت أو يُقتل لا يفنى، ويبين أن حقيقة الموت لا تعني العدم والزوال؛ بل هو بداية الحياة أخرى وعالم آخر، ذلك العالم الذي ينعم فيه المؤمنون والمجاهدون في سبيل الله باللذة، والسعادة، والخير، والنعم الإلهية الأبدية.
إن الكافر يعد الموت عدماً وفناء؛ فيلج أرض المعركة وهو خائف مرتعد وقلق مضطرب، في حين يسرع المؤمن إلى ساحة المعركة حباً وعشقاً في الحصول على وسام الشهادة الذي يلحقه بالحياة الأبدية، والفرح الخالد، يحدوه وَلَهُ عارم دون قلق أو خوف، ويواجه أعداء الله وحشودهم بصدره ومهجته، وقد صمد وثبت إلى حد استطاع فيه أن يهزم العدو ويلحق به أفدح الخسائر وينصر المسلمين، مثل هذا الإنسان الذي يُقتل في سبيل الله بأيدي العدو لا يشق الخوف طريقه إليه ؛ بل يعتبر ذلك شهادة، وهي أعظم هدية وجائزة إلهية حصل عليها، وحسبه ما ناله من منزلة عظيمة.
مثل هذا الاعتقاد وهذه الرؤية التي يتسلح بها المؤمن المجاهد في مقابل العدو، ويواجهه بمنطق واثق ومنهج رصين وعزم دفاق، تلك الرؤية التي يعبر عنها القرآن الكريم، بهذا النحو: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ[12].
وفي ضوء هذه الرؤية الواضحة إن أمام المجاهدين في سبيل الله أن يسلكوا أحد السبيلين، وكلاهما يشتمل على مصلحة ونفع لهم، الأول: هو نصر المؤمنين والتغلب على الأعداء، والأمر الذي يصب في صالح الإسلام والمسلمين والمجتمع الإسلامي على العموم، والسبيل الآخر: هو القتل في سبيل الله، وهو ليس إلا الشهادة في طريقه، ونيل السعادة الأبدية والحياة الهانئة السرمدية.
ج) مصير الشهيد
النكتة الأخرى التي يطرحها القرآن هي أن الشهداء والمقتولين في سبيل الله أساساً لا يموتون ولا يفنون؛ بل هم أحياء في حضرة الله، سعداء بنعمته فرحين بالحظوة التي منحهم إياها، وفي هذا السياق يقول تعالى: وَلَا تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لَّا تَشْعُرُونَ[13].
أجل، إن إطلاق كلمة (موتى) على القتلى في سبيل الله ليس صحيحاً؛ لأنهم أحياء، وفائزون بما تعنى هذه الكلمة من معنى.
الاستنتاج
إن هناك أساليب خاصة استعملها القرآن لتحفيز المجاهدين على الجهاد في سبيل الله، منها: إثارة غريزة الانتقام وإحقاق الحق، وإثارة العواطف الإنسانية، وعرض الأهداف المقدسة للجهاد، وأن المجاهدين بوابة لتحقيق الإرادة الإلهية، والانتباه والوعي بالعوامل الرادعة والمثبطة عن الجهاد.
الهوامش
[1] البقرة، ۱۹۰.
[2] التوبة، ١٣.
[3] التوبة، ١٤.
[4] التوبة، ١٥.
[5] النساء، ٧٥.
[6] البقرة، ۱۹۳.
[7] الأنفال، 17.
[8] التوبة، ١٤.
[9] التوبة، ۲۸.
[10] التوبة، ٥٢.
[11] آل عمران، ١٤٥.
[12] التوبة، ٥٢.
[13] البقرة، ١٥٤.
مصدر المقالة (مع تصرف)
مصباح اليزدي، محمّد تقي، الحرب والجهاد في القرآن الكريم، بغداد، مؤسّسة العرفان للثقافة الإسلامية، الطبعة الأُولى، 1436 ه، ص192ـ ص217.