الأثر الروحي :
۱ – الصوم يعدُّ النفس للتقوى، لأنّه يميت الشهوات، فتترفع الإرادة عن المحظورات، وبالتالي يكون الإنسان أقرب إلى تقوى الله وطاعته.
كما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلكُم تَتقُونَ﴾.
ويقول الإمام الرضا : “علة الصوم لعرفان مسّ الجوع والعطش، ليكون العبد ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتسباً صابراً، ويكون ذلك دليلاً له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات، واعظاً له في العاجل، دليلاً على الآجل”.
۲ – الصوم يعدُّ النفس لقهر الطبع وكسر الشهوة؛ لأنّ النفس إذا شبعت تمنت الشهوات، وإذا جاعت امتنعت عما تهوى، ولذا قال النبي : “يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء” .. فكان الصوم ذريعة إلى الامتناع عن المعاصي.
۳ – الصوم يعدُّ النفس على وأد الشره الذي يقف حاجزاً أمام تقدم الآثار الروحية عند الإنسان، فالشره يؤدي إلى طغيان النفس، وابتعادها عن النقاء فإنّ “أقرب ما يكون العبد من الله إذا ما خفّ بطنه”.
۴ – الصوم يعدُّ النفس على أن تعيش واقعيتها مع الله عز وجل من دون لذة قاهرة تتحكم في معانيه الروحية، يقول الإمام الصادق : “إنّي أكره أن أخلط صومي بلذة”. ولذا جاءت التوصيات المهمة عن أهل البيت بأن يترسم المؤمن في صومه غير يوم فطره، يقول الإمام الصادق : “وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك”.
۵ – إنّ الإنسان كلما استغرق في ذكر الآخرة أكثر كلما انضبط في ما يقبل عليه من النتائج في أعماله بين يدي الله تعالى أكثر، لأنّ الغالب منا أننا نغفل عن ذكر الآخرة، ولذلك فإننا نستعجل أرباح الدنيا ونتفادى خسائرها ونعطيها كل اهتماماتنا العقلية والشعورية والعملية، أما مكاسب الآخرة وخسائرها فإننا نواجهها باللامبالاة.
ولذلك، فإنّ الغالب منا أمام غفلاتنا هو أنه إذا دار الأمر بين أن يخسر أحدنا شيئاً في الآخرة أو يخسر شيئاً في الدنيا فإنه يغلّب خسارة الآخرة على خسارة الدنيا، أو إذا دار الأمر بين أن يربح شيئاً في الآخرة وشيئاً في الدنيا فإنه يقدّم ربح الدنيا على ربح الآخرة. ولذلك، نجد أن الله تعالى اهتم في القرآن الكريم بالحديث عن الآخرة وأهوالها وحساباتها حتى يظل الإنسان واعياً للآخرة، لأنه كلما ازداد وعي الآخرة في مشاعره أكثر كلما انضبط في الدنيا بما يريد الله تعالى له أن ينضبط أكثر.
والجانب الآخر هو الجانب الاجتماعي الذي يتصل بعلاقة الإنسان بالفئات المحرومة. في الجانب الأول نقرأ في الخطبة المروية عن النبي في آخر جمعة من شعبان: “اذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه”، وكأنه ينبغي للإنسان أن لا يتملّى من الطعام والشراب كثيراً، بل أن يتناول في سحوره ما يتحسس به بعض الجوع والعطش، حتى إذا أحسّ بالجوع والعطش ذكر الموقف يوم القيامة، ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ﴿يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ﴾، وفي الآخرة لا يوجد مطاعم أو سبيل ماء، ليس هناك إلا رحمة الله عزّ وجلّ.. ويوم القيامة قد يطول الحساب فيه وقد يقصر، ولذلك فالذين عملوا السيئات ولم يتوبوا فإن حسابهم سوف يطول، وبذلك سوف يطول جوعهم وعطشهم، أما الذين تابوا إلى الله تعالى توبة نصوحا وعملوا الصالحات في موقع الإيمان، فإن موقفهم لن يكون طويلاً.
ولذا جاءت التوصيات المهمة عن أهل البيت بأن يترسم المؤمن في صومه غير يوم فطره، يقول الإمام الصادق : “وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك”.
۶ – لقد جاءت توصيات أئمة أهل البيت(عليهم السلام)في الإمساك عن بعض الأشياء التي تتنافى وروحية الصوم؛ لأجل أن لا تؤثّر سلباً على نمط التدريب الذي أعدّه الله عز وجل للمؤمنين الصائمين، ومن هذه الأشياء:
أ – كراهة شمّ النرجس: عن محمد بن الفيض، قال: سمعت أبا عبد الله ينهى عن النرجس. فقلت: جعلت فداك، لمَ ذاك؟ فقال: “لأنّه ريحان الأعاجم”.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله) – تعليقاً على الرواية -: “إنّ ملوك الفرس كان لهم يوم في السنة يصومونه، وكانوا في ذلك اليوم يعدّون النرجس، ويكثرون من شمّه، ليذهب عنهم العطش، فصار كالسنّة لهم، فنهى آل محمد صلوات الله عليهم عن شمّه، خلافاً على القوم، وإن كان شمّه لا يفسد الصيام”.
ب – كراهة شمّ الرياحين: عن الحسن بن راشد: قلت لأبي عبد الله : الصائم، يشمّ الريحان؟ قال: “لا، لأنّه لذة ويكره له أن يتلذذ”.
ج – كراهة استخدام المسك: عن الإمام الصادق، عن أبيه : “إنّ علياً كره المسك أن يتطيب به الصائم”. ومع أنّ هذه الروايات وغيرها صرحت بكراهة شمّ الرياحين والنرجس واستخدام المسك أيضاً، إلاّ أنّ هناك توصيات أخرى بعدم البأس من استخدام الطيب معللة ذلك: “لأنّ الطيب سنّة، والريحان بدعة للصائم”.
حيث إنّ الطيب يستحب في موارد كثيرة وأهمها الصلاة التي هي معراج المؤمن وقربان كل تقي.
د – كراهة لبس الثوب المبلل: يقول الإمام الصادق : “لا تلزق ثوبك إلى جسدك وهو رطب وأنت صائم حتى تعصره”.
هـ – كراهة إنشاد الشعر: قال حمّاد بن عثمان: سمعت أبا عبد الله يقول: “تكره رواية الشعر للصائم وللمحرم، وفي الحرم، وفي يوم الجمعة،…”.
إنّ هذه الأمور وإن ورد فيها نهي تنزيهي فقط، إلاّ أنّها تحرص على أن يقف الإنسان على تعبد مثالي وزهد حقيقي بعيداً عن الاسفافات الحسية التي تصيّر الإنسان آلة لها، فهذا الموقف ما هو إلا إثبات عملي ليخرج الإنسان من أسر المادة – لمدة زمنية محدودة – ليدرب روحه أن تنتصر في معتركات الحياة الصاخبة.
الأثر التربوي:
۱ – شكر المنعم: إنّ الصوم وسيلة إلى شكر النعمة؛ إذ هو كف النفس عن الأكل والشرب والجماع، وإنها من أجلّ النعم وأعلاها، والامتناع عنها زماناً معتبرا يعرف قدرها، إذ النعم مجهولة، فإذا فقدت عرفت، فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر، وشكر النعم فرض عقلا وشرعا، وإليه أشار الرب سبحانه وتعالى بقوله في آية الصيام : ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
۲ – تقوية الإرادة: الإنسان الذي يعيش دائماً إلى جوار الأطعمة والأشربة واللذائذ لا يكاد يحسّ بجوع ولا عطش، فهذا الشخص كمثل الشجرة المنزلية التي تعيش إلى جوار جدول ماء وفير، ما إن ينقطع عنها الماء يوماً حتى تشعر بذبولها واصفرارها.
وأما الأشجار التي تنبت في الصحراء أو بين الصخور، والتي تتعرض إلى مناخات مختلفة، فإنّها أشجار قوية تقاوم الحياة.
يقول أمير المؤمنين : “ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عوداً، والرواتع الخضرة أرق جلوداً”. ويقول أمير المؤمنين : “والصيامَ ابتلاء لإخلاص الحق”.
إنّ استمرار هذا التدريب على ضبط الشهوات والسيطرة عليها مدة شهر كل عام، لا شك سيؤدي إلى تعليم الإنسان قوة الإرادة، وصلابة العزيمة، والسيطرة على الدوافع والانفعالات، لا في التحكم في شهواته والترفع على لذاته فقط، وإنما في سلوكه العام في الحياة. وقد وضع العالم الألماني جيهاردت كتاباً في تقوية الإرادة جعل أساسه الصوم، وذهب فيه إلى أنّ الصوم هو الوسيلة الفعّالة لتحقيق سلطان الروح على الجسد، فيعيش الإنسان مالكاً زمام نفسه لا أسير ميوله المادية.
۳ – تربية الضمير في النفس: يربي في النفس الخشية من الله تعالى في السر والعلن، إذ لا رقيب على الصائم إلا ربه، فإذا شعر بالجوع أو العطش، أو شمّ رائحة الأطعمة الشهية، أو ترقرق أمام ناظريه برودة الماء وعذوبته، وأحجم عن تناول المفطر بدافع من إيمانه، وخشية ربه، حقّق معنى الخوف من الله.
وإذا أزينت الشهوات ترفّع عنها خوفاً من انتهاك حرمة الصوم فقد استحيا من الله. وإذا استبدت الأهواء بالنفس كان سريع التذكر قريب الرجوع بالتوبة ﴿إنّ الذِينَ اتقَوا إذَا مَسهُم طَائِف مِنَ الشيطَانِ تَذَكرُوا فَإذَا هُم مُبصِرُونَ﴾. وفي كل ذلك أيضاً تربية لضمير الإنسان، فيصبح الإنسان ملتزماً دائماً بالسلوك الإسلامي بوازع من ضميره من غير حاجة إلى رقابة أحد عليه.
۴ – تربية التنظيم النفسي: الصوم يعوّد على تنظيم الشخصية من خلال تنظيم المعيشة مما يحقق الوفر والاقتصاد إذا التزم الصائم بآداب الصيام، يقول الإمام الصادق : “ليس بدّ لابن آدم من أكلة يقيم بها صلبه، فيجعل ثلث بطنه للطعام، وثلث بطنه للشراب، وثلث بطنه للنَفَس”.
الأثر الاجتماعي :
۱ – إنّ ظاهرة الانسحاب ليست ظاهرة جديدة في الساحة الإسلامية، بل يحدثنا التاريخ عن حركة المتصوفة الذين اعتزلوا حركة الحياة لكي يتفرغوا إلى العبادة بمعناها الحرفي.
وقد ذمّ أهل البيت(عليهم السلام)هذا الاتجاه الخاطئ. وقد تُطرح انحرافاتهم تحت شعارات محببة لدى الشارع المقدس كعنوان الزهد في الدنيا، أو مجاهدة النفس ومحاسبتها، وغير ذلك مما تجعل من الشخصية المسلمة إنساناً مشلولاً في حركته الواقعية في الحياة، ولهذا يذم الله عز وجل هذا الطريق بقوله: ﴿وَرَهبَانِيةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبنَاهَا عَليهِم﴾.
۲ – التشريع الإسلامي صاغ الجانب الاجتماعي بطريقة يفهم منها أنّ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان تعتبر في حدّ ذاتها محوراً عبادياً.
وإنّ حركة الصوم تجعل من هموم الفقراء والبؤساء تجربة حيّة يعانيها الأغنياء بأنفسهم لتتحرك المأساة في إحساسهم وضمائرهم، ولأهل البيت خطّان في مسألة الجوع:
أ – خط تحريك عملية المأساة: لا شك أن الصوم يمنح هذا الأمر المهم لوناً حسياً نظراً لأهمية موقعه في الأمة، يقول الإمام الصادق(ع) : “إنّما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك أنّ الغني لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير، لأنّ الغني كلما أراد شيئاً قدر عليه، فأراد الله تعالى أن يسوّي بين خلقه، وأن يذيق الغني مسّ الجوع والألم ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع”.
ب – خط التضامن: وهذا ما جسّده أمير المؤمنين في قوله: “ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أوأبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى”.
ففلسفة الإمساك لم تُحد بحدود الطعام والفرج، إذ الصوم سلاح الإيمان لقتل شيطان النفس، وتهذيب الروح، وهي عبادة تورث الوقاية، وتعمّق محاسبة الإنسان لذاته من منطلق مسؤوليتها أمام الله عز وجل. إنّه صيام الحاكم عن الظلم والطغيان، وصيام العالم عن التحريف والتشويه، وصيام الجاهل عن الانحراف، وصيام المجاهد عن الإحباط …
الأثر الصحي :
لم يعد هناك أي شك لدى الباحثين المنصفين من أنّ الصوم هو ضرورة من ضرورات الحياة. وقد أثبتت الحقائق التاريخية والدينية والعلمية هذه المقولة.
لقد عرف الإنسان الصوم ومارسه منذ فجر البشرية. وأقدم الوثائق التاريخية ما نقش في معابد الفراعنة وما كتب في أوراق البردي من أن المصريين القدماء مارسوا الصوم وخاصة أيام الفتن حسب ما تمليه شعائرهم الدينية. وللهنود والبراهمة والبوذيين تقاليدهم الخاصة في الصوم حددتها كتبهم المقدسة. آمن الأقدمون بفائدة الصوم للصحة.
ولعل أبوقراط (القرن الخامس قبل الميلاد) أول من قام بتدوين طرق الصيام وأهميته العلاجية. وفي عهد البطالسة كان أطباء الإسكندرية ينصحون مرضاهم بالصوم تعجيلاً للشفاء. كما أنّ كافة الأديان السماوية قد فرضت الصيام على أتباعها كما يتبين لنا من النص القرآني فيقوله تعالى: ﴿يَا أيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلكُم تَتقُونَ﴾.
والحقيقة أنّ الإنسان لا يصوم بمفرده، فقد تبين لعلماء الطبيعة أنّ جميع المخلوقات الحية تمر بفترة صوم اختياري مهما توفر الغذاء من حولها، فالحيوانات تصوم وتحجز نفسها أياماً وربما شهوراً متوالية في جحورها تمتنع فيها عن الحركة والطعام، والطيور والأسماك والحشرات كلها تصوم. ومن المعروف أنّ كل حشرة تمر أثناء تطورها بمرحلة الشرنقة التي تصوم فيها تماماً معتزلة ضمن شرنقتها. وقد لاحظ العلماء أنّ هذه المخلوقات تخرج من فترة صيامها هذه وهي أكثر نشاطاً وحيوية. كما أنّ معظمها يزداد نمواً وصحة بعد فترة الصوم هذه.
ويعتبر العلماء الصوم ظاهرة حيوية فطرية لا تستمر الحياة السوية والصحة الكاملة بدونها. وأنّ أي مخلوق لا بد وأن يصاب بالأمراض التي يعاف فيها الطعام إذا لم يصم من تلقاء نفسه، وهنا تتجلى المعجزة الإلهية بتشريع هذه العبادة. فالصيام يساعد العضو على التكيف مع أقل ما يمكن من الغذاء مع مزاولة حياة طبيعية، كما أنّ العلوم الطبية العصرية أثبتت أنّ الصوم وقاية وشفاء لكثير من أخطر أمراض العصر.
فمع قلة كمية الطعام الوارد إلى الأمعاء، يل ضغط البطن على الصدر، فينتظم التنفس ويعمل بصورة أكثر راحةً وانسجاماً، إذ تتمدد الرئتان دون عوائق، ويقل العبء الملقى على القلب فتقل ضرباته لعدم الحاجة إلى بذل ذلك الجهد الكبير لدفع الدم إلى الجهاز الهضمي للعمل على هضم تلك الكميات الهائلة من الطعام.
وقبل كل شيء فإنّ الجهاز الهضمي يحصل على الراحة اللازمة لتجديد أنسجته التالفة، وحيويته التامة، كما أنّ قلة نواتج التمثيل الغذائي وفضلاته تسمح بفترة راحة لجهاز الإفراغ – الكلي – تجدد بها نشاطها وتجبر ضعفها، وبذا يكون الصوم فرصة ذهبية للعضوية لاستعادة توازنها الحيوي وتجديد نفسها بنفسها.
وقد أكد البروفيسور نيكولايف بيلوي من موسكو في كتابه “الجوع من أجل الصحة” أنّ على كل إنسان – وخاصة سكان المدن الكبرى أن يمارس الصوم بالامتناع عن الطعام لمدة ۳ – ۴ أسابيع كل سنة كي يتمتع بالصحة الكاملة طيلة حياته.
أما ماك فادون من علماء الصحة الأمريكيين فيقول: “إنّ كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضاً؛ لأنّ سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقل نشاطه فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه وتذهب عنه حتى يصفو صفاء تاماً ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد خلاياه في مدة لا تزيد عن ۲۰ يوماً بعد الإفطار. لكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل”.
وقد كان ماك فادون يعالج مرضاه بالصوم وخاصة المصابين بأمراض المعدة وكان يقول: “الصوم لها مثل العصا السحرية، يسارع في شفائها، وتليها أمراض الدم والعروق فالروماتيزم…”.
أما الكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل في الطب فيقول في كتابه الإنسان ذلك المجهول: “إنّ كثرة وجبات الطعام ووفرتها تعطل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس الحيوانية وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يصومون على مر العصور، وإنّ الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصيام والحرمان من الطعام لفترات محدودة، إذ يحدث في أول الأمر شعور بالجوع ويحدث أحياناً تهيج عصبي ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد أنّه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير، فإنّ سكر الكبد يتحرك ويتحرك معه أيضاً الدهن المخزون تحت الجلد.
وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة من أجل الإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب. وإنّ الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا”، والصوم الذي يقول به كاريل يطابق تماماً الصوم الإسلامي من حيث الإمساك فهو يغير من نظام الوجبات الغذائية ويقلل كميتها. وقد سئل أحد المعمرين وهو ميشيل أنجلو عن سر صحته الجيدة وتمتعه بنشاط غير عادي بعد أن تجاوز الستين من عمره فقال: إنّ السبب في احتفاظي بالصحة والقوة والنشاط إلى اليوم هو أني كنت أمارس الصوم من حين لآخر.
و يرى الدكتور محمد سعيد السيوطي أنّ الصيام الحق يمنع تراكم المواد السمّية الضارة كحمض البول والبولة وفوسفات الأمونياك والمنغنيزا في الدم وما تؤهب إليه من تراكمات مؤذية في المفاصل، الكلى – الحصى البولية – ويقي من داء الملوك – النقرس – وينقل أبحاث الغرب أنّ الصيام ليوم واحد يطهر الجسم من فضلات عشرة أيام، وهكذا فإنّ شهر الصيام يطهر الجسم من فضلات وسموم عشرة أشهر على الأقل.
ويكتب الدكتور إبراهيم الراوي عن أثر الصيام على القدرات الفكرية عند الإنسان: يؤثر الصيام في تنشيط الخلايا الدماغية التي تضاعف حيويتها لتوقف نشاط الجهاز الهضمي فيندفع الدم بغزارة إلى أنسجة المخ لتغذية تلافيفه، وتزويد الحجر الدماغية بالغذاء الأمثل لعملها. نعم، إنّ المخ البشري يحتوي على ۱۵ ألف مليون خلية ألهمتها القدرة الإلهية قابليات خارقة على التفكير والتعمق في المسائل المعقدة وحلها.
وتزداد هذه القابليات مع زيادة ورود الدم إليها. وهكذا نرى أصحاب العقول المفكرة يصومون كل فترة لتجديد نشاط أدمغتهم. ويتفق الباحثون على أهمية الصوم الحيوية من ناحية أنّ تخزين المواد الضرورية في البدن من فيتامينات وحوامض أمينية يجب ألا يستمر زمناً طويلاً، فهي مواد تفقد حيويتها مع طول مدة التخزين.
لذا يجب إخراجها من المخزن ومن ثمَ استخدامها قبل أن تفسد. وهكذا فإنّ الجسم بحاجة من فترة لأخرى إلى فرصة لإخراج مخزونه من المواد الحيوية قبل تفككها وتلفها. وهذه الفرصة لا تتاح إلا في الصوم، وبالصوم وحده يتمكن الجسم من تحريك مخزونه الحيوي واستهلاكه قبل فوات أوانه، ومن ثم يقوم بتجديده بعد الإفطار وقد بين ألن سوري Alain Saury قيمة الصوم في تجديد حيوية الجسم ونشاطه ولو كان في حالة المرض، وأورد حالات عدد من المسنين، تجاوزت أعمارهم السبعين، استطاعوا بفضل الصوم استرجاع نشاطهم وحيويتهم الجسمانية والنفسانية حتى أنّ عدداً منهم استطاع العودة غلى مزاولة عمله الصناعي أو الزراعي كما كان يفعل في السابق نسبياً. لمحة غريزية عن الصيام: الصيام هو حرمان البدن من المواد الغذائية ليوم أو أكثر.
وقد دلت التجارب على أنّ حرمان الماء أشد تأثيراً من حرمان الغذاء، فالإنسان يعيش حوالي ۴۰ يوماً إذا أعطي الماء فقط. ويحصل الجسم على الطاقة أثناء الصيام من مدخراته السكرية أولاً والتي تكون على شكل غليكوجين مدخرة في الكبد والعضلات.
وهذه تصرف خلال الأولى من الصيام. وبعد ذلك يلجأ البدن إلى مدخراته الشحمية، إلا أنّه لا يستهلك الداخل منها في تركيب الخلايا الأساسية مطلقاً مهما طال أمد الصيام، ثم يعمد الجسم بعد ذلك إلى تجميع المواد الناجمة عن هذه العملية ويعيد استعمالها لاستخراج الطاقة ولصيانة الأعضاء والأنسجة الحيوية أثناء الصوم.
وفي الصيام المديد، وبعد أن يستهلك البدن مدخراته من الغليوكوجين والشحوم، عند ذلك يلجأ إلى أكسدة المواد البروتينية ويحولها إلى سكر لتأمين ما يلزمه من الطاقة، وهذا يعني تخريبه للنسج البروتينية المكونة للحم العضلات وما يلحق من جراء ذلك من أذى بيّن يلحق الأعضاء المعنية، ويدعو العلماء عملية إذابة المدخرات الدهنية ومن ثم بوتينات الجسم بعملية الانحلال الذاتي Autolyze ويستخدم فيها البدن العديد من الخمائر. وإنّ الحرمان الشديد يؤدي إلى ظهور اضطربات غذائية عصبية في الدماغ المتوسط مما يؤثر على الغدد الصم وعلى السلوك والانفعال النفسي.
ومن هنا نرى أهمية كون الصيام الإسلامي مؤقتاً من الفجر إلى الغروب دون تحريم لنوع ما من الأغذية مع طلب الاعتدال وعدم الإسراف في الطعام في فترة الإفطار. وقد سجل درينيك Dreanik ومساعدوه (عام ۱۹۶۴) عدداً من المضاعفات الخطيرة من جراء استمرار الصيام لأكثر من ۳۱ – ۴۰ يوماً.
صوموا تصحّوا : قال النبي : “صوموا تصحوا”. يقول صاحب الظلال في معرض تفسيره لآيات الصوم: “وذلك كله إلى جانب ما ينكشف على مدار الزمن من آثار نافعة للصيام في وظائف الأبدان، ومع أنني لا أميل إلى تعليق الفرائض والتوجيهات الإلهية بما يظهر للعين من فوائد حسية، إذ الحكمة الأصلية فيها هي إعداد الكائن البشري لدوره على الأرض، وتهيئته للكمال المقدر له في الحياة الآخرة…
مع هذا فإنّي لا أحب أن أنفي ما تكشف عنه الملاحظة أو يكشف عنه العلم من فوائد لهذه الفرائض، وذلك ارتكازاً إلى المفهوم من مراعاة التدبير الإلهي بهذا الذي ينكشف عنه العلم البشري. فمجال هذا العلم محدود لا يرتقي إلى اتساع حكمة الله في كل ما يروض به هذا الكائن البشري… فنحن حينما نصوم، إنّما نتعبد بهذا الصوم خالقنا العظيم جل جلاله، الذي أمرنا بالصيام، امتثالاً لأمره سبحانه وخضوعاً لإرادته.
وإنّ ما يكشفه العلم لنا من فوائد صحية لهذا الصوم فما هي إلا عظات، تزيد المؤمن إيماناً بصدق مبلغ الشريعة وحباً بالخالق البارئ منزل هذا التشريع. لقد قام عدد من الباحثين الغربيين، ومنذ أواخر القرن الماضي، بدراسة آثار الصوم على البدن منهم هالبروك Holbrook الذي قال: “ليس الصوم بلعبة سحرية عابرة، بل هو اليقين والضمان الوحيد من أجل صحة جيدة”.
وفي أوائل هذا القرن قام الدكتور دووي Dewey بأبحاث موضوعية عن الصوم لخصها في كتابه (الصوم الذي يشفي). كما قامت مناظرات عديدة تناقش هذا الموضوع لعل أهمها مناظرة Ecosse التي جمعت مشاهير الأطباء الريطانيين والمهتمين بتقويم الصحة وتدبير الطعام، كان على رأسهم طبيب الملك ويلكوكس Wilcoxوقد أجمع الحاضرون على أهمية تأثير الصوم الصحي على عضوية الإنسان.
والصوم الصحي أو الصوم الطبي كما يسموه والذي قامت عليه دراسات الغرب يمكن أن تعرفه بأنّه الإقلاع عن الطعام كلياً أثناء النهار ولا يسمح له إلا ببعض جرعات من الماء إذا ما أحس بعطش شديد ودعت الضرورة القصوى إليه.
وفي المساء يعطى وجبة واحدة تتألف من كوب من الحليب أو شوربة خضار و۱۰۰ غرام من اللحم أو الدجاج أو السمك ثم بعض الفواكه وتكون هذه الوجبة الوحيدة خلال يوم وليلة. وكما رأينا فهو أقرب ما يكون إلى (صومنا الإسلامي) لذا رأينا أن نورد خلاصة لأهم الدراسات، منها: دراسة شلتون Shelton في كتابه عن الصوم، ودراسة لوتزنر H. Lutznerفي كتابه “العودة إلى حياة سليمة بالصوم”، ترجمة الدكتور طاهر إسماعيل.
وإليكم أهم هذه الفوائد للصيام:
۱- الصوم راحة للجسم يمكنه من إصلاح أعطابه ومراجعة ذاته.
۲- الصوم يوقف عملية امتصاص المواد المتبقية في الأمعاء ويعمل على طرحها والتي يمكن أن يؤدي طول مكثها إلى تحولها لنفايات سامة. كما أنّه الوسيلة الوحيدة الفعالة التي يسمح بطرد السموم المتراكمة في البدن والآتية من المحيط الملوث.
۳- بفضل الصوم تستعيد أجهزة الإطراح والإفراغ نشاطها وقوتها ويتحسن أداؤها الوظيفي في تنقية الجسم، مما يؤدي إلى ضبط الثوابت الحيوية في الدم وسوائل البدن.
ولذا نرى الإجماع الطبي على ضرورة إجراء الفحوص الدموية على الريق، أي يكون المفحوص صائماً. فإذا حصل أن عاملاً من هذه الثوابت في غير مستواه فإنه يكون دليلاً على أن هناك خللاً ما.
۴- بفضل الصوم يستطيع البدن تحليل المواد الزائدة والترسبات المختلفة داخل الأنسجة المريضة.
۵- الصوم أداة يمكن أن تعيد الشباب والحيوية إلى الخلايا والأنسجة المختلفة في البدن.
ولقد أكدت أبحاث مورغوليس Morgulis أنّ الصوم وحده قادر على إعادة شباب حقيقي للجسد.
۶- الصوم يضمن الحفاظ على الطاقة الجسدية ويعمل على ترشيد توزيعها حسب حاجة الجسم.
۷- الصوم يحسن وظيفة الهضم، ويسهل الامتصاص ويسمح بتصحيح فرط التغذية.
۸- الصوم يفتح الذهن ويقوي الإدراك.
۹- للصوم تأثيرات هامة على الجلد، تماماً كما يفعل مرهم التجميل، يُجَمل وينظف الجلد.
۱۰- الصوم علاج شاف، هو الأكثر فعالية والأقل خطراً لكثير من أمراض العصر المتنامية. فهو يخفف العبء عن جهاز الدوران، وتهبط نسبة الدسم وحمض البول في الدم أثناء الصيام، فيقي البدين من الإصابة بتصلب الشرايين، وداء النقرس، وغيرها من أمراض التغذية والدوران وآفات القلب.
وهكذا وبعد أن ينظف الجسم من سمومه وتأخذ أجهزته الراحة الفيزيولوجية الكاملة بسبب الصوم، يتفرغ إلى لأم جروحه وإصلاح ما تلف من أنسجته وتنظيم الخلل الحاصل في وظائفها.
إذ يسترجع الجسد أنفاسه ويستجمع قواه لمواجهة الطوارئ بفضل الراحة والاستجمام اللذان أتيحا له بفضل الصوم. يقول الدكتور ليك Liek: يوفر الجسم بفضل الصوم الجهد، والطاقة المخصصة للهضم، ويدخرها لنشاطات أخرى، ذات أولوية وأهمية قصوى: كالتئام الجروح، ومحاربة الأمراض.
وليعلم أن الصائم قد يشعر ببعض المضايقات في أيام صومه الأولى، كالصداع والوهن والنرفزة وانقلاب المزاج، وهذه تفسر بأنّ الجسم عندما يتخلص من رواسبه المتبقية داخل الأنسجة، ينتج عن تذويبها سموم تتدفق في الدم قبل أن يلقى بها خارج الجسم، وهي إذ تمر بالدم، تمر عبر الجسد وأجهزته كلها من قلب ودماغ وأعصاب مما يؤدي إلى تخريشها أول الأمر وظهور هذه الأعراض، والتي تزول بعد أيام من بدء الصيام.
وأخيراً فإنّ للصوم آثاره الرائعة على النفس البشرية، ونظراً للعلاقة الوثيقة بين الاطمئنان النفسي وصحة الجسد عموماً، فإن الآثار والفوائد النفسية التي يجنيها الصائم لها مردودها الإيجابي في حسن سير الوظائف العضوية لكل أجهزة البدن.
ومن وصايا لقمان لابنه قوله: “يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة”. ويقول الإمام الغزالي: الصيام زكاة النفس ورياضة للجسم، فهو للإنسان وقاية وللجماعة صيانة. في جوع الجسم صفاء القلب وإنقاذ البصيرة لأنّ الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر الشجار فيتبلّد الذهن.
أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق. فالصيام ينمي الإخلاص للخالق سبحانه وتعالى، فهو سرٌ بين العبد وربه لا رقيب على تنفيذه إلا ضميره ورغبته الصادقة في رضا الله سبحانه، وعند الجوع يزول البطر وتنكسر حدة الشهوات.
وإنّ البطر والأشر هما مبدأ الطغيان والغفلة عن الله، فلا تنكسر النفس ولا تذل كما تذل بالجوع، فعنده تسكن لربها وتخشع له. وهذه أمور كلها تخفف من توتر الجهاز العصبي وتهدئه. والجوع يساعد الصائم على السيطرة على نفسه.
ويدعم الجوع في كسر حدة الشهوات، مراقبة الصائم الله واستشعاره أنه في عبادة له، مما يصرفه عن التفكير بالمعاصي والفواحش.
والصيام يؤدي إلى صفاء الذهن وتقوية الإرادة وترويض النفس على الصبر. يقول النبي : “الصوم نصف الصبر”. وأخيراً فإنّ الصوم يعمل على إيقاظ الشعور المشترك في صفوف الأمة حيث يذوق الجميع غنيهم وفقيرهم آلام الجوع ومرارة العطش.