أبعاد معرفة الله: بين الوجوب والعجز وسبل الإدراك

أبعاد معرفة الله: بين الوجوب والعجز وسبل الإدراك

کپی کردن لینک

تعتبر معرفة الله تعالى من أهم المسائل التي تلامس عمق الوجود الإنساني، حيث تمثل الأساس الذي يبني عليه الإنسان إيمانه وعلاقته بالخالق، وفي هذا السياق يتناول البحث أدلة وجوب معرفة الله، بدءًا من ضرورة دفع الضرر والشكر للمنعم، وصولًا إلى عجز الحواس والعقل عن إدراك كنه الذات الإلهية، كما يستعرض الأحاديث الشريفة لأهل البيت (ع) التي تؤكد على أهمية معرفة الله من خلال صفاته وأسمائه، وكيفية الوصول إلى هذه المعرفة عبر مراحل متعددة.

المبحث الأوّل: أدلة وجوب معرفة الله

1ـ وجوب دفع الضرر

معرفة الله تعالى تزيل من الإنسان الخوف المحتمل والمُعتد به من استحقاق العقاب والحرمان من الثواب الذي بيّنه الأنبياء على مرّ العصور، وكلّ ما يؤمّل به زوال الخوف المُعتد به فهو واجب، فلهذا يثبت وجوب معرفة الله تعالى.

2ـ وجوب شكر المنعم

لا يأمن الإنسان ـ كما بيّن الأنبياء على مرّ العصور ـ أن يكون له صانعاً أخرجه من العدم إلى الوجود، وأنعم عليه بختلف النعم، وبما أنّ شكر المنعم واجب، فلهذا تجب معرفة هذا المنعم؛ لأنّه لا يتم هذا الشكر إلاّ بعد معرفة المنعم.

تنبيه: معرفة الله أمر فطري، أي: الدافع لمعرفة الله في وجود الإنسان غير شعوري، والإنسان يمتلك في أعماق وجوده دافعاً ذاتياً يحفّزه على معرفة الله عزّ وجلّ.

المبحث الثاني: عجز الحواس عن معرفة الله

المقدّمة الأولى: الحواس والأدوات التجريبية مختصة بمعرفة ما هو في دائرة عالم المادة فقط.

المقدّمة الثانية: الله تعالى ـ كما سنثبت ـ منزّه عن عالم المادة.

النتيجة: لا تستطيع الحواس والأدوات التجريبية أن توصل الإنسان مباشرة إلى معرفة الله تعالى[1].

أحاديث لأهل البيت (ع) حول عجز الحواس عن معرفة الله تعالى

1ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع): تعجز الحواس أن تدركه[2].

2ـ قال الإمام الحسين (ع): لا يدرك بالحواس… معروف بالآيات موصوف بالعلامات[3].

3ـ قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) حول الله تعالى: لا يدرك بالحواس… فكلّ شيء حسّته الحواس… فهو مخلوق[4].

4ـ جاء في حوار جرى بين الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) وأحد الزنادقة حول إثبات وجود الله تعالى: قال الزنديق: إنّي لا أرى حواسّي الخمس أدركته ـ أي: أدركت الله تعالى ـ، وما لم تدركه حواسّي فليس عندي بموجود! قال الإمام الصادق (ع): إنّه لمّا عجزت حواسّك عن إدراك الله أنكرته، وأنا لمّا عجزت حواسي عن إدراك الله تعالى صدّقت به، ثمّ بيّن الإمام الصادق (ع) بأنّ الحواس لا تدرك إلاّ الأشياء المركبّة، والمركّب من شأنه الاحتياج إلى أجزائه، وبما أنّ الله تعالى منزّه عن الاحتياج فهو غير مركّب، فلهذا لا تستطيع الحواس إدراكه.

تنبيه: ليس من حقّ المتمسّك بالأدوات المعرفية الحسية إنكار وجود الله، بل غاية ما يسعه ـ مع لحاظ كثرة المجهولات البشرية ـ هو الاعتراف بعدم العلم، والإذعان بعجز الحواس عن إثبات وجود الله تعالى، ولهذا جاء في حوار جرى بين الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) وأحد الزنادقة:

قال الإمام الصادق (ع) للزنديق: أتعلم أنّ للأرض تحتاً وفوقاً؟! قال الزنديق: نعم.

الإمام: فدخلت تحتها؟! الزنديق: لا.

الإمام: فما يدريك بما تحتها؟! الزنديق: لا أدرى إلاّ أنّي أظّن أن ليس تحتها شيء.

الإمام: فالظن عجز ما لم تستيقن، ثمّ سأل الإمام (ع) فصعدت السماء؟!

الزنديق: لا.

الإمام: فتدري ما فيها؟ الزنديق: لا.

الإمام: فأتيت المشرق والمغرب فنظرت ما خلفهما؟ الزنديق: لا.

الإمام: فعجباً لك، لم تبلغ المشرق، ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل تحت الأرض، ولم تصعد السماء، ولم تخبر هنالك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد ما فيهنّ، وهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟!

الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك!

الإمام: فأنت في شكّ من ذلك، فلعلّ هو أو لعلّ ليس هو، الزنديق: ولعلّ ذاك.

قال الإمام الصادق (ع): أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، فلا حجّة للجاهل على العالم، يا أخا أهل مصر تفهّم عنّي، فإنّا لا نشك في الله أبداً، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان ولا يشتبهان، يذهبان ويرجعان، قد اضطُرّا، ليس لهما مكان إلاّ مكانهما؟ فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلا يرجعان فلِمَ يرجعان؟! وإن لم يكونا مضطرين فلِمَ لا يصير الليل نهاراً والنهار ليلاً؟! اضطرّا والله يا أخا أهل مصر إلى دوامهما، والذي اضطرهما أحكم منهما وأكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.

قال الإمام الصادق (ع): يا أخا أهل مصر، الذي تذهبون إليه وتظنّونه بالوهم، فإن كان الدهر يذهب بهم لِمَ لا يردّهم؟! وإن كان يردهم لم لا يذهب بهم؟! القوم مضطرّون، يا أخا أهل مصر السماء مرفوعة والأرض موضوعة، لم لا تسقط السماء على الأرض؟ ولم لا تنحدر الأرض فوق طاقتها؟ فلا يتماسكان ولا يتماسك من عليهما، فآمن الزنديق بوجود الله تعالى، وأقرّ بأنّ الله تعالى هو المدبّر للعالم[5].

المبحث الثالث: عجز العقل عن معرفة كنه ذات الله

أدلة ذلك:

1ـ لا يعرف العقل الأشياء إلاّ بحدود وجودها، وبما أنّ الله منزّه عن الحدّ، فلهذا يستحيل على العقل معرفة كنه ذات الله تعالى.

2ـ لا يعرف العقل الأشياء إلاّ عن طريق مقايستها مع سائر الأشياء، والله تعالى لا يقاس بأحد؛ لأنّه لا مثيل له ولا شبيه، فلهذا يستحيل على العقل معرفة كنه ذات الله تعالى[6].

3ـ غاية ما يقدر عليه العقل هو معرفة الله عن طريق المفاهيم الذهنية، وبما أنّ هذه المفاهيم محدودة، والذات الإلهية غير محدودة، فلهذا يعجز العقل عن معرفة كنه الذات الإلهية.

تتمة: المفاهيم الذهنية، وإن كانت عاجزة عن تبيين كنه الذات الإلهية، ولكنّها قادرة على تبيين الذات الإلهية بصورة إجمالية، ومثال هذا التصوّر الإجمالي كمن يحس بحركة وراء جدار فيحكم بوجود شيء وراء ذلك الجدار.

أحاديث لأهل البيت (ع) حول عجز العقل عن معرفة كنه ذات الله تعالى

1ـ قال الإمام أمير المؤمنين (ع):… لا تحيط به الأفكار، ولا تقدّره العقول، ولا تقع عليه الأوهام، فكلّ ما قدّره عقل أو عرف له مثل فهو محدود[7].

2ـ قال الإمام الحسن بن علي (ع): لا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها، ولا الألباب وأذهانها صفته[8].

3ـ قال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع): إنّ الله تبارك وتعالى أجلّ وأعظم من أن… تحيط بصفته العقول[9].

4ـ قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع): أخطأ من اكتنهه[10].

النهي عن التفكير في ذات الله

عجز العقل عن معرفة كنه ذات الله هو الذي أدّى إلى تأكيد أهل البيت (ع) على التحذير من التفكير في ذات الله عزّ وجلّ، ومن هذه الأحاديث الشريفة:

1ـ قال الإمام محمّد الباقر (ع): اذكروا من عظمة الله ما شئتم ولا تذكروا ذاته…[11].

2ـ قال الإمام محمد الباقر (ع): تكلّموا في خلق الله، ولا تكلّموا في الله، فإنّ الكلام في الله لا يزيد صاحبه إلاّ تحيّراً[12].

3ـ قال الإمام محمد الباقر (ع): دعوا التفكير في الله، فإنّ التفكير في الله لا يزيد إلاّ تيهاً[13].

4ـ قال الإمام محمد الباقر (ع): إيّاكم والتفكّر في الله، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه[14].

5ـ قال الإمام جعفر الصادق (ع): من نظر في الله كيف هو هلك[15].

المبحث الرابع: كيفية معرفة الله

جعل الله تعالى لنفسه بعض الصفات والأسماء ليتعرّف العباد بها عليه، كما أنّه تعالى منح العقل البشري القدرة على معرفته بصورة إجمالية، وإضافة إلى ذلك، فإنّ في ما بيّنه الأنبياء والأوصياء في هذا الخصوص الكفاية لمعرفة الله تعالى.

مراحل معرفة الله تعالى

المرحلة الأولى: المعرفة الذهنية، وهي أن يتعرّف الإنسان على الله عن طريق المفاهيم الذهنية، سواء كانت هذه المفاهيم حصيلة الجهود العقلية أو كانت مما أرشد إليها الأنبياء والأوصياء.

المرحلة الثانية: المعرفة القلبية، وهي أن يلتزم الإنسان بتقوى الله والمجاهدة في سبيله وفق ما جاءت به الشريعة الحقّة، ليصل بعد ذلك إلى نوع من الشهود الباطني والقلبي الذي يتعرّف به على الله من دون توسّط المفاهيم الذهنية، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا[16]، أي: يجعل في قلوبكم نوراً تفرّقون به بين الحق والباطل، وبهذا النور يهتدي الإنسان إلى معرفة ربّه.

تنبيه: المرحلة الذهنية لمعرفة الله عبارة عن معرفة الله بالعقل عن طريق خلقه، ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع) مشيراً إلى هذه المرحلة من معرفة الله: الحمد لله المتجلّي لخلقه بخلقه[17]، ولكن إذا بلغ الإنسان في معرفته لله إلى المرحلة القلبية فإنّه سيستغني عن المعرفة الذهنية، وتكون المعرفة القلبية هي الأساس في معرفته لله تعالى، ولهذا قال الإمام الحسين (ع) مشيراً إلى هذه المرحلة الرفيعة من معرفة الله تعالى: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟! ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك، ولا تزال عليها رقيباً[18].

الاستنتاج

أن معرفة الله تعالى واجبة لعدة أدلة، أولًا، تؤكد أن معرفة الله تزيل الخوف من العقاب وتحث على شكر المنعم، ثم تشير إلى عجز الحواس والعقل عن إدراك كنه ذات الله، حيث لا يمكن للعقل أن يعرف الله إلا عبر المفاهيم الذهنية المحدودة، كما تحذر من التفكير في ذات الله، مشددةً على أهمية التعرف على الله من خلال صفاته وأسمائه، أخيرًا، توضح المقالة مراحل المعرفة الإلهية، بدءًا من المعرفة الذهنية إلى المعرفة القلبية، حيث يكون الالتزام بالتقوى هو الوسيلة للوصول إلى معرفة أعمق بالله عز وجل.

الهوامش

 [1] تنبيه: إنّ الحواس عاجزة عن إثبات وجود الله تعالى بصورة مباشرة، ولكن يمكن الاستعانة في هذا المجال بصورة غير مباشرة، وذلك عن طريق معرفة النظام المهيمن على هذا العالم عن طريق الحواس، ومن ثمّ الاستنتاج عن طريق العقل بوجود منظّم حكيم وراء هذا النظام الدقيق.

[2] الكليني، الكافي، ج1، كتاب التوحيد، باب جوامع التوحيد، ح3، ص138.

[3] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح35، ص78.

[4] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح17، ص59.

[5] الصدوق، التوحيد، باب 42، باب إثبات حدوث العالم، ح4، ص286.

[6] ولهذا قال الإمام أمير المؤمنين (ع): اعرفوا الله بالله، الكليني، الكافي، كتاب التوحيد، باب أنّه لا يعرف إلاّ به، ح1، ص85.

ومعنى قوله (ع): اعرفوا الله بالله، أي: إنّ الله لا يشبه جسماً ولا روحاً، فإذا نُفي عنه الشبهين: شبهُ الأبدان وشبهُ الأرواح، فقد عرف الله بالله، وإذا شبّهه بالروح أو البدن أو النور فلم يعرف الله بالله.

[7] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح34، ص76.

[8] الصدوق، التوحيد، ح5، ص46.

[9] الصدوق، التوحيد، ح30، ص73.

[10] الصدوق، التوحيد، ح2، ص38.

[11] الصدوق، التوحيد، باب 67، ح3، ص441.

[12] الكليني، الكافي، ج1، باب النهي عن الكلام في الكيفية، ح1، ص92.

[13] الصدوق، التوحيد، باب 67، ح13، ص443.

[14] الكليني، الكافي، ج1، باب النهي عن الكلام في الكيفية، ح7، ص93.

[15] المجلسي، بحار الأنوار، ج3، باب 9، ح24، ص264.

[16] الأنفال، 29.

[17] الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطبة 108، ص200.

[18] المجلسي، بحار الأنوار، ج67، باب 4، ذيل ح7، ص142.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه‍.

3ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

4ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

5ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه‍