أبو طالب، حامي الإسلام ورمز الإيمان، هو الرصيد الأعظم للدعوة الإسلامية منذ انبلاج نورها، لقد كان القوة الضاربة التي وقفت في وجه طغاة قريش وعتاة الجاهلية، حاميةً بذلك شعلة التوحيد من محاولات الإطفاء، في زمن عصيب، حيث كانت قوى الظلام تسعى لإخماد نور الله، كان أبو طالب السند الذي لا يلين، المدافع الذي لا يتراجع، مستمراً في دعم الدعوة وحمايتها بكل ما أوتي من قوة وعزيمة.
ومن المؤكد أنه لولا حماية أبي طالب لرسول الله (ص) لما استطاع أن يبلغ رسالة ربه، ويقف بعزم وشموخ أمام تلك الوحوش الكاسرة مستهيناً بها محتقراً لأصنامها ساخراً من تقاليدها وعاداتها. ونعرض – بإيجاز – إلى بعض مواقف أبي طالب (ره) البطولية في نصرة الإسلام، والذب عن حمى رسول الله (ص) التي سجلت له بمداد من النور والفخر، وفيما يلي ذلك:
رعايته للنبي محمد (ص)
وعنى أبو طالب (ره) عناية بالغة بالنبي الأكرم (ص)، وقام بجميع خدماته وشؤونه، وتولى رعايته منذ نعومة أظفاره، فكان المربي والحارس له، فقد علم بما سيكون في مستقبل حياته من السمو والعظمة، وأنه سيملأ الدنيا نوراً ووعياً، وأنه رسول رب العالمين، وخاتم المرسلين، وسيد النبيين، وقد أحاطه الكهّان علماً بذلك، وحذروه من فتك اليهود واغتيالهم له.
يقول الرواة: إن أبا طالب (ره) سافر للتجارة إلى الشام مع رسول الله (ص) فسارع إليه الراهب فقال له: إني: أنصحك أن ترجع بابن أخيك من مكانك هذا وإن أدى ذلك إلى ذهاب أموالك وخسارتك في تجارتك، فإنّي لا أمن عليه من دسائس الشرك ومكائد اليهود؛ فإنّهم إن عرفوا الذي عرفته فلا يولوا حتى يلحقوا به الأذى، بل يغتالونه بكل نشاط وقوة[1].
وقفل أبو طالب (ره) راجعاً إلى مكة، ولم يمض في تجارته إلى الشام حفظاً لابن أخيه، وبلغ من رعايته له أنه كان يصحبه معه في فراشه خوفاً عليه[2]، كما كان ينقله في غلس الليل من مكان إلى مكان، ويمضي ليله ساهراً على حراسته لئلا يغتاله أحد.
حمايته للإسلام
ولما أعلن النبي محمد (ص) دعوته الخالدة الهادفة لتحرير الإنسان وإنقاذه من ظلمات الجهل وعبادة الأوثان هبت قريش عن بكرة أبيها فزعة أشدّ ما يكون الفزع له لإطفاء شعلة التوحيد.
لقد أوجدت الدعوة الإسلامية في المجتمع الجاهلي انقلاباً فكرياً وتحولاً اجتماعياً مهيباً، فقد خافت قريش على مصالحها وتقاليدها، وخافت على نسائها وأبنائها من الانجراف بالشعارات والمبادئ التي أعلنها النبي (ص)، لقد خافوا على آلهتهم وأصنامهم التي سخر منها النبي (ص) ودعا إلى تحطيمها وتدميرها، فورمت آنافهم، وانتفخ سَحْرُهم، وأجمعوا اكتعين على مناجزته وإطفاء نور رسالته، إلا أن أبا طالب، بطل الإسلام وقف سداً منيعاً لحمايته، وكان يبعث النشاط والحماس في نفس ابن أخيه لإشاعة مبادئه، وقد خاطبه (ره) بهذه الأبيات:
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ** وابشر بذاكَ وَقَرَّ مِنْكَ عُيونا
وَدَعَوْتَنِي وَعَلِمْتُ أَنَّكَ نَاصِحِي ** وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أَمِينا
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ** مِنْ خَيْرٍ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينا
وَاللهِ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ بِجَمْعِهِمْ ** حَتَّى أُوَسَّدَ فِي التُّرَابِ دَفِينَا[3]
وحكت هذه الأبيات إيمان أبي طالب العميق بالإسلام ووقوفه إلى جانب رسول الله (ص) وحمايته لدعوته، وأن القوى المعادية له مهما بذلت من جهد فإنها لا تستطيع أن تصده عن إشاعة مبادئه وتبليغ رسالة ربه.
وقد صمم أبو طالب (ره) على حماية النبي محمد (ص) والذب عنه بجميع طاقاته، وقد خاطب القرشيين قائلاً:
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نُخْلِي مُحَمَّداً ** وَلَمَّا نُطَاعِنْ دُونَهُ وَنُنَاضِلِ
ونَنْصُرُهُ حَتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ **وَنُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالحَلَائِلِ[4]
ومعنى ذلك أنه لا يخلي عن رسول الله (ص) ولا يترك قريشاً تعتدي عليه، وسيدافع عنه حتى يصرع هو وأهل بيته دونه.
لقد هام أبو طالب في ولائه للنبي (ص)، وملك عواطفه ومشاعره، وهو القائل فيه:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ** ثمالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
وقد وقع هذا البيت في نفس رسول الله (ص) موقعاً عظيماً، ويقول الرواة: إن أهل المدينة أصابهم قحط شديد فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص)، فصعد المنبر فاستسقى، فما لبث أن جاء من المطر ما خشى منه أهل المدينة من الغرق، فشكوا ذلك إلى رسول الله (ص) فقال: اللَّهُمَّ حَوالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فانجاب السحاب عن المدينة وصار حواليها، فقال النبي (ص): لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَسَرَّهُ.
فالتفت الإمام أمير المؤمنين (ع) إلى النبي محمد (ص) فقال له: كَأَنَّكَ أَرَدْتَ قَوْلَهُ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ** ثمالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ[5]
كما كان لهذا البيت وقع خاص عند الأسرة النبوية، فقد أنشدته سيدة نساء العالمين في الساعات الأخيرة من حياة أبيها فقال لها أبوها بلطف: هذا قَوْلُ عَمِّي أَبِي طَالِبٍ، وتلا قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ… الآية[6].
وعلى أي حال، فقد خفّ جماعة من رؤساء قريش إلى أبي طالب وعرضوا عليه أن يسلّم لهم نبي الله (ص) لتصفيته جسدياً ويعطوه عوض ذلك عمارة وهو من أنبل فتیان قریش، ومن أصبحهم وجهاً.
فسخر منهم أبو طالب (ره) وصاح بهم: والله ما أنصفتموني أيها الحمقى، تباً لكم وسحقاً! أتريدون مني أن أعطيكم روحي وولدي لتقتلوه، وتعطوني ابنكم أُربيه لكم!
ما لكم كيف تحكمون، أترجون منّي أن أستبدل محمداً بعمارة بن الوليد، فوالذي نفسي بيده لو أعطيتموني العالم كله لما استبدلته بظفر من رجل محمد، فإليكم عني، لا تكلموني، وإلا علوت رؤوسكم بالسيف، وانصرفوا خائبين خاسرين، قد خيّب آمالهم وسخر منهم أبو طالب ووقف بصلابة لحماية النبي (ص).
لقد وقف أبو طالب (ره) منافحاً عن رسول الله (ص)، ولولا حمايته له لما أبقى القرشيون للنبي (ص) ولا لدعوته أي ظل.
مع النبي محمد (ص) في الشعب
وضاق القرشيون ذرعاً من دعوة رسول الله (ص)، واشتد فزعهم منها، وزادهم أسئ وحزناً إيمان بعض أبنائهم وغلمانهم ونسائهم وعبيدهم، وهم يسخرون بالهتهم ويعيبون عليهم تقاليدهم وعاداتهم، ويحكمون بنجاستهم فأجمع رأي الطغاة والرؤساء منهم على اعتقال النبي (ص)، وسائر بني هاشم وبني عبد المطلب، وحبسهم في شعب أبي طالب خارج مكة، وكتبوا فيهم صحيفة سجلوا فيها بنوداً قاسية وعلقوها في جوف الكعبة، وهذه بعض موادها:
1- حرمانهم من المواد الغذائية.
2- منع الدخول عليهم.
3- عدم الزواج منهم.
4- منع ايصال الماء لهم.
5- منع ايصال الفراش لهم.
6- عدم فك الحصار عنهم، إلا أن يُسلموا لهم النبي محمد (ص).
7- إقامة حرس على باب الشعب لمنع كل من يحاول الهرب منهم[7].
ووقّع على الصحيفة أبو سفيان، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبو البختري، وأبو لهب، وعمرو بن العاص وغيرهم من طغاة القرشيين، وعلّقوا الصحيفة في جوف الكعبة.
وحاول مردة القرشيين اغتيال نبي الله (ص) في الشعب، فخاف عليه أبو طالب فكان يقيم ولده الإمام أمير المؤمنين (ع) في مكانه، واستمر الحصار الظالم ثلاث سنين عجاف، وكانت السيدة الزكية أم المؤمنين خديجة هي التي تمدهم بما يحتاجونه من الطعام والشراب وغير ذلك من النفقات حتى أنفقت عليهم جميع ما عندها من الأموال حتى فرّج الله عنهم.
وبعث الله تبارك وتعالى الأرضة على صحيفتهم فأتت عليها، ولم تترك منها كلمة سوى لفظ الجلالة، وأحاط النبي محمد (ص) عمه أبا طالب علماً بذلك فخرج من الشعب إلى الحرم فاجتمع القريشيون فقال لهم: إن ابن أخي أخبرني أن الله تعالى أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحم وظلم، وتركت اسم الله تعالى فأحضروها فإن كان صادقاً علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً علمنا أنكم على حق وأنا على باطل. فانبروا مسرعين إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر عنها أبو طالب (ره) واشتدت صولته، وخاطب قريش قائلاً: إنكم أولى بالظلم والقطيعة، وقال (ره) في ذلك:
وَقَدْ كَانَ فِي أَمْرِ الصَّحِيفَةِ عِبْرَةٌ ** متى ما يُخَبَّرْ غَائِبُ الْقَوْمِ يَعْجَبِ
محا اللهُ ذِكْراهُمْ وَأَفْنَى عُقُوْقَهُمْ ** وَمَا نَقَمُوا مِنْ نَاطِقِ الْحَقِّ مُعْرِبِ
فَأَصْبَحَ مَا قَالُوا مِنَ الْأَمْرِ باطِلاً ** وَمَنْ يَخْتَلِقُ مَا لَيْسَ بِالْحَقِّ يَكْذِبِ[8]
وفرّج الله تعالى عن نبيه (ص) وسائر من كان معه من الهاشميين، فقد انبری زهیر بن أبي أمية إلى قريش فخطب فيهم خطاباً بليغاً، وطلب منهم فك الحصار عن الهاشميين فرده أبو جهل ردّاً عنيفاً إلا أن كوكبة من قريش انضموا إلى زهير بن أبي أمية ودعموا مقالته فاستجابت قريش لهم ورفعوا الحصار عن رسول الله (ص) وسائر من معه.
تبنّي أبو طالب الدعوة الإسلامية
وقام أبو طالب (ره) بدور إيجابي ومتميز في الدعوة إلى الإسلام الحنيف، وقد دعا ملك الحبشة إلى اعتناق الدين الإسلامي، وكتب (ره) له رسالة بذلك، وختمها بهذه الأبيات:
أَتَعْلَمُ مَلْكُ الْحُبْشِ أَنَّ مُحَمَّداً ** نَبِيٍّ كَمُوسَىٰ وَالْمَسِيحِ بْنِ مَرْيَمِ
أتى بالْهُدَى مِثْلَ الَّذِي فِي هُداهُما ** فَكُلٌّ بِأَمْرِ اللهِ يَهْدِي وَيَعْصِمِ
وَأَنَّكُمْ تَتْلُونَهُ فِي كِتَابِكُمْ ** بِصِدْقٍ حَدِيثٍ لَا حَدِيثِ التَّرَاجُمِ
فَلا تَجْعَلُوا لِلهِ نِداً وَأَسْلِمُوا ** فَإِنَّ طَرِيقَ الْحَقِّ لَيْسَ بِمُظْلِمِ[9]
لقد كان أبو طالب (ره) داعية الإسلام وحاميه والذاب عنه، وكان يذيع فضائل رسول الله (ص) وينشر مناقبه ومآثره، ومما قال (ره) فيه:
ظَهَرَتْ دَلَائِلُ نُورِهِ فَتَزَلْزَلَتْ ** منْهَا الْبَسِيطَةُ وَازْدَهَتْ أَيَّامُ
وَهَوَتْ عُرُوشُ الْكُفْرِ عِنْدَ ظُهُورِهِ ** وَبِسَيْفِهِ قَدْ شُيِّدَ الْإِسْلَامُ
وَأَتَاهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ فَادِحٌ ** وَتَساقَطَتْ مِنْ حَوْلِهِ الْأَصْنَامُ
صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ خَلّاقُ الْوَرى ** مَا أَعْقَبَ الصُّبْحَ الْمُضِيءَ ظَلَامُ
وقال (ره) أيضاً:
فيا لِبَني فِهْرٍ أَفِيقُوا وَلَمْ تَقُمْ ** نوائِحُ قَتْلَى تَدَّعِي بِالْتَّنَدُّمِ
على ما مَضَى مِنْ بَغْيِكُمْ وَعُقُوقِكُمْ ** وَإِتْيَانِكُمْ فِي أَمْرِكُمْ كُلَّ مَأْثَمِ
وَظُلْمِ نَبِيٍّ جَاءَ يَدْعُو إِلَى الْهُدَى ** وَأَمْرٍ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ قَيِّمِ
فهذي مَعَاذِيرٌ وَتَقْدِمَةٌ لَكُمْ ** لِئَلَّا تَكُونَ الْحَرْبُ قَبْلَ التَّقَدُّمِ[10]
لقد كانت مواقف أبي طالب (ره) متميزة بروح الإيمان، فقد اعتنق الإسلام وجاهد في سبيله أعظم ما يكون الجهاد، ولولاه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع شامخ الكيان، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين.
وصيته الخالدة
وأوصى أبو طالب (ره) ـ عملاق الإسلام ـ أبناءه وسائر أفراد أسرته بهذه الوصية التي حفلت بمكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، والولاء العارم لابن أخيه سيد الكائنات محمد المصطفى (ص)، وهذه بعض بنودها:
أوصيكم بتعظيم هذه البنية ـ يعني الكعبة المقدسة – فإن فيها مرضاة الرب، وقواماً للمعاش، وثباتاً للوطأة، صلوا أرحامكم ولا تقطعوها؛ فإن صلة الرحم منسأة للأجل، وزيادة في العدد واتركوا البغي وأعطوا السائل، وعليكم بصدق الحديث وأداء الأمانة، فإن فيها محبة في الخاص ومكرمة في العام… .
وحكى هذا المقطع كل فضيلة يسمو بها الإنسان، والتي هي من صميم القيم الكريمة التي أعلنها رسول الله (ص)، ومن بنود هذه الوصية حثّه للأسرة الهاشمية وغيرها على الولاء والاخلاص لرسول الله (ص) ومناصرته والذب عنه قال:
وإني أوصيكم بمحمد (ص) فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيتكم به، ولقد جاءنا بأمر قبله الجنان ووعاه القلب.
وأيم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف، والمستضعفين من الناس، وقد أجابوا دعوته وصدّقوا كلمته، وعظّموا أمره، فخاض بهم غمار الموت، وصارت رؤساء قريش وصناديدها أذناباً، ودورها خراباً، وإذا بأعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم عنه أحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها، دونكم يا معشر قريش، دونكم ابن أخيكم كونوا له ولاة ولحزبه حماة، فوالله! لا يسلك أحد سبيل محمد إلا رشد، ولا يأخذ به إلا سعد ولو كان لنفسي مدة، وفي أجلي تأخير لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي، غير أني أشهد بشهادته وأعظم مقالته[11].
حكت هذه الوصية إيمان أبي طالب (ره) بالنبي محمد (ص) واعتناقه للإسلام وتفانيه في الدفاع عنه.
لقد استشفّ هذا العملاق العظيم المستقبل الزاهر للإسلام، وأنه سيؤمن به المستضعفون في الأرض، وأنهم سيشكلون قوة ضاربة للدفاع عنه، وستكون صناديد قريش وساداتها أذلاء صاغرين يستعطفون النبي (ص) وأصحابه، ويطلبون ودّهم، ولم تمض الأيام حتى تحقق ذلك على مسرح الحياة، وإذا بجبابرة قريش أذلاء صاغرون.
ويقول الرواة: إن امرأة من المسلمين خطبها معاوية فجاءت إلى رسول الله (ص) وطلبت رأيه في ذلك، فنهاها عن الزواج به وقال لها: إنه صعلوك[12].
وعلى أي حال فإن وصية أبي طالب (ره) حافلة بالقيم الكريمة والمثل العليا والإيمان العميق بالإسلام.
في ذمة الخلود
ولاقي أبو طالب (ره) جهداً شاقاً وعسيراً في حمايته للنبي الأكرم (ص) ونصرته للإسلام، وكفاحه للقوى المعادية لابن أخيه، وقد تعرض لأقسى ألوان المحن والخطوب من طغاة القريشيين وعتاتهم.
وقد ألمّت به (ره) العلل والأمراض ودنا منه الموت، وكان أهم ما يعنيه مصير رسول الله (ص) من بعده، وماذا سيلاقيه من ذئاب قومه الذين تنكّروا لجميع القيم والأعراف، فأخذ وهو على حافّة الموت يوصي أبناءه وأفراد أسرته بنصرة رسول الله (ص) والوقوف إلى جانبه، وحمايته من كيد القرشيين وبطشهم وأخذ المرض فيه مأخذه حتى وافته المنية في شهر شوال أو في ذي القعدة، وذلك بعد خروج النبي محمد المصطفى (ص) من الشعب[13].
لقد انتقل هذا العملاق إلى حظيرة القدس بعد ما أدّى ما عليه من جهد في نصرة الإسلام والذب عن رسول الله (ص)، ولما أذيع نبأ وفاته (ره) اهتزت مكة من هول الفاجعة، فتصدعت القلوب، وغامت العيون كما فرح الطغاة والجبابرة بموته.
وسارع الإمام أمير المؤمنين (ع) فغسل جسد أبيه الطاهر وأدرجه في أكفانه، وقد ذابت نفسه عليه حزناً وأسى، وهرعت الجماهير إلى دار أبي طالب فحملوا الجثمان المقدس بمزيد من الحفاوة والتكريم، وواروه في مقره الأخير، وقد واروا معه الشرف والإيمان.
لقد انطوت حياة هذا المجاهد العظيم الذي وهب حياته لله تعالى، فنصر الإسلام، وقاوم الشرك، وقارع الباطل، فسلام الله عليه، فما أعظم عائدته على الإسلام والمسلمين!
تأبين رسول الله (ص) له
ووقف النبي محمد الأكرم (ص) على حافة قبر عمه، وهو واجم حزین، قد روى ثرى قبره بدموعه، وأخذ يصوغ من حزنه كلمات في تأبينه قائلاً: وَصَلَتْكَ رَحِمٌ يَا عَمْ، جُزِيتَ خَيْراً، فَلَقَدْ رَبَّيْتَ وَكَفَلْتَ صَغِيراً، وَآزَرْتَ وَنَصَرْتَ كَبِيراً، أَمَا وَاللهِ يَا عَمِّ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، وَأَشْفَعَنَّ فِيكَ شَفاعَةً يَعْجَبُ مِنْهَا الثَّقَلَانِ…[14].
وبلغ من تأثر النبي (ص) وشدة حزنه على عمه أنه (ص) سمّى العام الذي توفي فيه عام الحزن.
وقد فقد رسول الله (ص) المحامي والناصر، والركن الشديد الذي كان يأوي إليه، فقد استوحدته قريش وأجمعت على التنكيل به وقال: مَا نَالَتْ قُرَيْسٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ[15].
وقد بالغت قريش في إيذائه، فجعلوا ينثرون التراب على رأسه، وطرح بعضهم عليه رحم شاة وهو يصلي… إلى غير ذلك من صنوف الاعتداء عليه[16].
وقد أجمعوا على قتله (ص)، فخرج في غلس الليل البهيم بعد ما أحاطوا بداره ميمّماً وجهه تجاه يثرب، وترك أخاه ووصيه الإمام علي بن أبي طالب (ع) في فراشه.
وعلى أي حال فأبو طالب (ره) حامي الإسلام وناصره، والمساهم الأول في إقامة دعائم الإسلام، فله (ره) اليد البيضاء على كل مسلم ومسلمة، فما أعظم عائدته على الإسلام!
ومن سخف القول إن هذا المجاهد العظيم مات كافراً ولم يكن يدين بدين الإسلام، فإن هذا البهتان من صنع الأمويين والعباسيين الحاقدين على الأسرة النبوية.
ومما يدعم زيف ذلك شدة حزن رسول الله (ص) عليه بعد وفاته، وتسميته لعام موته بعام الحزن، فإنّه إذا كان كافراً كيف يحزن عليه؟ وكيف يترحم عليه ويذكره بمزيد من التكريم والتعظيم؟ وكيف يأكل ويشرب في داره؟ وحكم الإسلام صريح واضح في نجاسة الكافر؟ وكيف يكون هذا المؤمن المجاهد في النار وابنه الإمام أمير المؤمنين (ع) قسيم الجنة والنار؟
إن من المآثر والفضائل والأوسمة الشريفة التي يتحلى بها الإمام أمير المؤمنين (ع) أنه نجل هذا المجاهد العظيم الذي حمى الإسلام في أيام محنته وغربته فجزاه الله عن الإسلام وأجزل له الأجر، وحشره مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
الاستنتاج
أبو طالب رعى النبي (ص) منذ طفولته، وكان على علم بمكانته المستقبلية كرسول خلال رحلة تجارية إلى الشام، حذره راهب من مخاطر اليهود، مما دفعه للعودة إلى مكة لحماية النبي (ص)، وعندما بدأ النبي دعوته، واجه أبو طالب هجمات قريش، حيث كان المدافع الرئيسي عن الإسلام، مشجعا النبي (ص) على الاستمرار في دعوته رغم الضغوط، وتعرض أبو طالب وبني هاشم لحصار قريش في شعب أبي طالب لثلاث سنوات، بينما كانت زوجته خديجة تمدهم بالمؤن، ولم يقتصر دور أبو طالب على الحماية، بل دعا أيضا ملك الحبشة إلى اعتناق الإسلام، وأوصى أسرته بالولاء لرسول الله، وتوفي (ره) بعد أن تحمل العديد من المحن، وكانت وفاته فاجعة للنبي (ص)، الذي أطلق على عام وفاته عام الحزن.
الهوامش
[1] ابن هشام، السيرة النبوية، ج١، ص٩٠.
[2] الحلبي، السيرة الحلبية، ج١، ص١٤٠.
[3] اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج2، ص31.
[4] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج٣، ص٣١٦.
[5] ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج3، ص198.
[6] آل عمران، ١٤٤.
[7] الحلبي، السيرة الحلبية، ج١، ص٣٧٤، وغيرها.
[8] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص33.
[9] ابن هشام، السيرة النبوية، ج١، ص٣٥٧.
[10] ابن معد الموسوي، الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، ص189.
[11] ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج2، ص213، وغيرها.
[12] الخطيب البغدادي، الكفاية في علم الرواية، ص٥٧.
[13] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج2، ص34.
[14] الطبرسي، إعلام الورى، ج1، ص282.
[15] ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، ج7، ص148.
[16] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج٢، ص٣٤.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن أبي الحديد، عبد الحميد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، الطبعة الأُولى، 1378 ه.
3ـ ابن الأثير، علي، الكامل في التاريخ، بيروت، دار صادر، طبعة 1386 ه.
4ـ ابن حجر العسقلاني، أحمد، فتح الباري شرح صحيح البخاري، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بلا تاريخ.
5ـ ابن سعد، محمّد، الطبقات الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
6ـ ابن معد الموسوي، فخار، الحجّة على الذاهب إلى تكفير أبي طالب، تحقيق محمّد بحر العلوم، قم، انتشارات سيّد الشهداء، الطبعة الأُولى، 1410 ه.
7ـ ابن هشام، عبد الملك، السيرة النبوية، تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة محمّد علي صبيح، طبعة 1383 ه.
8ـ الحلبي، علي، السيرة الحلبية، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1427 ه.
9ـ الخطيب البغدادي، أبو أحمد، الكفاية في علم الرواية، تحقيق وتعليق أحمد عمر هاشم، بيروت، دار الكتاب العربي، الطبعة الأُولى، 1405 ه.
10ـ الطبرسي، الفضل، إعلام الورى بأعلام الهدى، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
11ـ اليعقوبي، أحمد، تأريخ اليعقوبي، بيروت، دار صادر، بلا تاريخ.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج3، ص25 ـ ص36.