إرادة الله: صفاتها، خصائصها، وتأثيرها على أفعال العباد

إرادة الله: صفاتها، خصائصها، وتأثيرها على أفعال العباد

إنّ موضوع إرادة الله يعدّ من أبرز القضايا التي تشغل فكر المسلمين، حيث تتناول هذه المقالة طبيعة إرادة الله، وما إذا كانت تُعتبر من صفات الذات أم من صفات الفعل، وسنستعرض في هذه المقالة العديد من المباحث التي تسلط الضوء على خصائص إرادة الله وأثرها على أفعال العباد، بالإضافة إلى تحليل مفهوم الحسن والقبح في الإرادة، ومدى تعلق إرادة الله بالأفعال القبيحة، كما سنناقش الكراهة الإلهية لبعض الأفعال وما تعكسه من صفات الله تعالى، من خلال هذا التحليل، نسعى لتقديم فهم أعمق لمفهوم الإرادة الإلهية وتطبيقاتها في الحياة اليومية.

المبحث الأول: ارادة الله صفة ذات أم صفة فعل

إنّ إرادة الله من صفات الله الفعلية؛ لأنّ إرادة الله تعني قصده تعالى للفعل، وهذا القصد لا ينفك عن الفعل.

تبيين فعلية صفة إرادة الله

1- من مقاييس تمييز الصفات الذاتية عن الصفات الفعلية: الصفات الذاتية لا تقع في دائرة النفي والإثبات.

فلا يقال: إنّ الله تعالى يعلم ولا يعلم.

ولا يقال: إنّ الله تعالى قادر وغير قادر.

ولكن الصفات الفعلية تقع في دائرة النفي والإثبات.

فيقال: إنّ الله تعالى يعطي ولا يعطي.

ويقال: إنّ الله تعالى يرزق ولا يرزق.

وعلى ضوء هذا المقياس نجد بأنّ إرادة الله تقع في دائرة النفي والإثبات، ويقال: إنّ الله يريد كذا ولا يريد كذا.

فيثبت أنّ إرادة الله تعالى من صفات الله الفعلية.

2- من مقاييس تمييز الصفات الذاتية عن الصفات الفعلية: صفات الذات تُنتزع من الذات الإلهية مع قطع النظر عن مخلوقاته سبحانه وتعالى، من قبيل: الحياة، العلم، القدرة.

وصفات الفعل تُنتزع من الأفعال الإلهية، ولا يمكن نسبتها إلى الله تعالى إلاّ بعد لحاظ إحدى مخلوقاته تعالى[1]، من قبيل: الخالق، الرازق، المدبّر.

والإرادة ـ في الواقع ـ تنتزع من الأفعال الإلهية.

لأنّ الإرادة تعني الحدوث بعد العدم و الوجود بعد اللاوجود، وبهذا المعنى يستحيل أن تكون الإرادة وصفاً لذاته تعالى.

فيثبت أنّ إرادة الله من صفات الله الفعلية، وليست من صفات الله الذاتية.

الأحاديث المبيّنة بأنّ الإرادة من صفات الله الفعلية

1- قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع): المشيّة والإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ الله تعالى لم يزل مريداً فليس بموحّد[2].

2- سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): لم يزل الله مريداً؟ فقال (ع): إنّ المريد لا يكون إلاّ لمراد معه، لم يزل الله عالماً قادراً ثمّ أراد[3].

3- قال الإمام جعفر الصادق (ع): كان الله، وهو لا يريد بلا عدد أكثر مما كان مريداً[4].

ومن هذا المنطلق قال السيّد عبد الله شبّر (ره): ورد في جملة من الأخبار عن الأئمة الأطهار (ع) الملك الغفّار أنّ إرادته عبارة عن إيجاده وإحداثه، وأنّها من صفات الفعل الحادثة كالخالقية والرازقية ونحوها، لا من صفات الذات بمعنى العلم بالأصلح[5].

تنبيه: لو كانت الإرادة قديمة ومن الصفات الذاتية، فسيلزم ذلك قدم المرادات، وهو باطل.

النتيجة: إنّ الإرادة من صفات الله الفعلية، وهي حادثة.

وما هو من صفات الله الذاتية هو الاختيار بمعنى أنّه تعالى غير مضطر ولا مجبور.

المبحث الثاني: خصائص ارادة الله

1ـ العامل المؤثّر في حدوث الفعل هو القدرة فحسب.

والإرادة لا تؤثّر في حدوث الفعل، وإنّما تؤدّي إلى إعمال القدرة في اتّجاه معيّن، فتنطلق القدرة وتحقّق الفعل المقصود وفق الخصائص المطلوبة.

2- لا يكون الله مريداً لشيء بإرادة أخرى، ليحتاج في إرادته إلى إرادة أخرى.

دليل ذلك: أوّلاً: يوجب احتياج الإرادة إلى إرادة أخرى تسلسل الإرادات إلى ما لا نهاية له، وهذا محال، فيثبت أنّ إرادة الله تصدر منه تعالى من دون احتياجها إلى إرادة أخرى.

ثانياً: لا يحتاج تحقّق الإرادة إلى وجود إرادة أُخرى لأنّ الإرادة لا تقع على وجوه مختلفة لتحتاج إلى ما يؤثّر في وقوعها على بعض تلك الوجوه.

ثالثاً: لا تتحقّق الإرادة لغرض يخصّها، وإنّما تتحقّق والمراد والمقصود شيء آخر، فلا تكون الإرادة مُرادة ليتطلّب تحقّقها إلى إرادة أخرى، وإنّما المقصود هو ذلك الشيء فيحتاج تحقّقه إلى إرادة.

المبحث الثالث: حسن وقبح الارادة

1ـ الإرادة لا تمتلك الحسن أو القبح الذاتي، ولا تؤثّر في حسن وقبح الأشياء.

وإنّما تترك الإرادة الأثر في وقوع الشيء على بعض الوجوه.

وهذه الوجوه: قد تكون حسنة، وقد تكون قبيحة.

فتتصف الإرادة عن طريق هذه الوجوه بالحسن أو القبح.

مثال ذلك: إنّ الخبر بذاته فاقد للحسن أو القبح، وإنّما يكون حسنه وقبحه بالواسطة.

فإذا كان الخبر مطابقاً للواقع، كان صدقاً وحسناً.

وإذا كان الخبر مخالفاً للواقع، كان كذباً وقبيحاً.

2ـ كلّ إرادة تعلّقت بمراد حسن فهي حسنة، ولكن يشترط في هذا المقام انتفاء وجوه القبح؛ لأنّ المراد قد يكون حسناً، وتكون الإرادة قبيحة، من قبيل: إرادة الفعل الحسن ممن لا يطيقه.

3ـ إرادة القبيح قبيحة؛ لأنّ الذمّ يتعلّق بمريد القبيح كما يتعلّق بفاعله.

المبحث الرابع: عدم تعلّق ارادة الله بأفعال العباد القبيحة

قال الشيخ المفيد (ره): إنّ الله سبحانه وتعالى لا يريد إلاّ ما حسن من الأفعال، ولا يشاء إلاّ الجميل من الأعمال، ولا يريد القبائح، ولا يشاء الفواحش، تعالى الله عمّا يقول المبطلون علوّاً كبيراً[6].

قال السيّد المرتضى (ره): إنّ الله تعالى لم يرد شيئاً من المعاصي والقبائح، ولا يجوز أن يريدها ولا يشاءها ولا يرضاها، بل هو تعالى كاره وساخط لها[7].

قال سديد الدين الحمصي: ذهب جماهير أهل العدل إلى أنّه تعالى لا يريد شيئاً من القبائح والفواحش والمعاصي، ولم يحبّها ولم يرض بها، بل كرهها.

أدلة عدم تعلّق إرادة الله بأفعال العباد القبيحة

1ـ نهى الله العباد عن القيام ببعض الأفعال، وهذا ما يكشف كراهته تعالى لهذه الأفعال.

وليس من المعقول أن يكره الله صدور فعل من العبد، ثمّ تتعلّق إرادته تعالى به.

لأنّ تعلّق الإرادة والكراهة بشيء واحد في آن واحد محال.

فيثبت عدم تعلّق إرادة الله بما نهى العباد عنه وكرهه لهم، أي: لا تتعلّق إرادة الله بأفعال العباد القبيحة.

2- لو كان الله مريداً لفعل القبائح التي تصدر من العباد، لكان العاصي مطيعاً لله بفعل القبائح؛ لأنّ العاصي يكون ـ في حالة عصيانه ـ مؤدّياً لما أراده الله، فيكون بذلك مطيعاً لله.

3ـ من مستلزمات الإرادة: الحبّ والرضا، فلو جاز أن تتعلّق إرادة الله بأفعال العباد القبيحة، جاز أن يحبّ الله هذه الأفعال القبيحة ويرضى بها.

فلمّا لم يجز أن يحبّ الله هذه الأفعال أو يرضى بها، لم يجز أن تتعلّق إرادته بها.

4- إذا كان مرجع الإرادة هو الداعي، فلا شك في أنّه تعالى لا داعي له إلى فعل القبيح، فلا تتعلّق إرادته بالفعل القبيح.

وإذا كان مرجع الإرادة أمراً زائداً على الداعي، فلا يمكن أيضاً نسبة إرادة القبيح إلى الله؛ لأنّ إرادة القبيح قبيحة، وهي بمنزلة فعل القبيح، والله تعالى منزّه عن ذلك.

وبهذا يثبت أنّه تعالى لا يريد شيئاً من القبائح التي تصدر من العباد.

5- لا يرضى الله أن يُفترى عليه أو يُكذّب أنبياؤه، فكيف يريد ذلك؟! فيثبت أنّ إرادة الله، لا تتعلّق بأفعال العباد القبيحة.

6ـ إن قالوا: إنّ الذي نريده من الكفّار الإيمان.

قيل لهم: فأيّهما أفضل ما أردتم من الإيمان أو ما أراد الله من الكفر؟

فإن قالوا: ما أراد الله خير مما أردنا من الإيمان.

فقد زعموا أنّ الكفر خير من الإيمان!

وإن قالوا: إنّ ما أردنا من الإيمان خير مما أراده الله من الكفر.

فقد زعموا أنّهم أولى بالخير والفضل من الله!

وكفاهم بذلك خزياً.

وبهذا يثبت عدم تعلّق إرادة الله بأفعال العباد القبيحة.

بعض الآيات التي تنزّه الله عن إرادة الفعل القبيح

1ـ قول الله عز وجل: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ[8].

2- قول الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا[9].

3ـ قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[10].

4ـ قول الله عز وجل: فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[11].

5ـ قول الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[12].

6ـ قول الله عز وجل: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[13].

7ـ قول الله عز وجل: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ[14].

8ـ قول الله عز وجل: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ[15].

المبحث الخامس: كراهة الله لبعض الافعال

معنى الكراهة: الكراهة هي القصد والميل القاطع نحو ترك الفعل.

الداعي إلى الكراهة: العلم باشتمال الفعل أو اشتمال بعض خصائصه على المفسدة.

وهذا العلم هو الصارف عن إيجاد الفعل أو إيجاده وفق تلك الخصائص.

أقسام كراهة الله لصدور بعض الأفعال:

1ـ كراهته تعالى لصدور بعض الأفعال من نفسه.

2ـ كراهته تعالى لصدور بعض الأفعال من عباده.

تنبيهات

1- لا يصح أن يكره الله شيئاً من أفعاله؛ لأنّ كراهته تعالى لأيّ فعل تقتضي قبح ذلك الفعل، والله تعالى منزّه عن فعل القبيح[16].

2- لا يصح أن يكره الله شيئاً مما أراده من أفعال عباده وأمرهم بها؛ لأنّ كراهيته تعالى لشيء تستلزم قبح ذلك الشيء، وقد علمنا حسن هذه الأفعال نتيجة أمر الله تعالى بها.

3- تتمثّل كراهة الله لبعض أفعال عباده في نهيه إيّاهم عنها، ليتركوها على وجه الاختيار.

الاستنتاج

أن إرادة الله تعالى تعتبر من الصفات الفعلية، حيث تعكس قصده للفعل، ولا يمكن اعتبارها من الصفات الذاتية، كما تؤكد المقالة أن إرادة الله لا تتعلق بالأفعال القبيحة، إذ إن الله لا يريد ولا يشاء المعاصي أو القبائح، بل يكرهها ويعبر عن ذلك من خلال نهيه عنها، وتُظهر المقالة أيضا أن حسن أو قبح الإرادة يعتمد على المراد، وليس للإرادة ذاتها صفة الحسن أو القبح، وبذلك يُظهر النص منزلة الله كخالق عادل لا يتصف بالقبيح، مما يرسخ فكرة الرحمة والعدالة الإلهية.

الهوامش

[1] أي: تحكي هذه الصفات عن الأفعال الإلهية وكيفيتها.

[2] الصدوق، التوحيد، باب 55، باب المشيئة والإرادة، ح5، ص329.

[3] الكليني، الكافي، كتاب التوحيد، باب الإرادة …، ح1، ص109.

[4] المجلسي، بحار الأنوار، ج4، ب4، ح17، ص145.

[5] شبّر، حقّ اليقين، ج1، كتاب التوحيد، فصل 3، باب 1، ص54.

[6] المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، فصل في الإرادة والمشيئة، ص49.

[7] السيد المرتضى، رسائل الشريف المرتضى، جوابات المسائل الطبرية، مسألة 2، ص140.

[8] آل عمران، 18.

[9] الأنبياء، 47.

[10] يونس، 44.

[11] التوبة، 70.

[12] النساء، 40.

[13] الكهف، 49.

[14] فصّلت، 46.

[15] آل عمران، 108.

[16] وإنّما يصح من الإنسان أن يكره بعض أفعاله ليصرف نفسه بذلك عن فعلها، وليوطّن نفسه على أن لا يفعلها، وكلّ ذلك لا يجوز عليه سبحانه وتعالى.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ السيّد المرتضى، رسائل الشريف المرتضى، تحقيق مهدي الرجائي، قم، دار القرآن الكريم، الطبعة الأُولى، 1405ه‍.

3ـ شبّر، عبد الله، حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1418ه‍.

4ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

5ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

6ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

7ـ المفيد، محمّد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تحقيق حسين درگاهي، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ه‍.

 مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه‍.