خص الله تعالى النبي محمد (ص) بالإسراء والمعراج، فقد ميزه بهما على بقية أنبيائه (ع)، وهذه الخصوصية تعكس مكانته (ص) العالية عند المولى سبحانه وتعالى، حيث أشهده الله تعالى خلال معراجه إلى السماء العديد من الأنبياء كما رأى مشاهد مدهشة، وسنتطرق في هذا المقال بإيجاز لهما:
الإسراء والمعراج
أما الإسراء فقد تحدث عنه القرآن الكريم بقول الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلَاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [1]، ونظراً للأهمية البالغة لهذه الرحلة المباركة سميت السورة باسم سورة الإسراء.
فكان إسراء رسول الله (ع) من تلك البقعة المباركة التي هي مهبط أنبياء الله تعالى ورسله، فقد بارك تعالى فيها وخصها بالفضل، وميزها على بقية البقاع.
لقد أسري برسول الله (ص) من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالقدس، كما جاء في نص الآية المباركة، وكان الإسراء بنفس النبي (ص) جسداً وروحاً.
سنة الإسراء والمعراج
اختلف الرواة في السنة التي وقع فيها الإسراء، وهذه بعض الأقوال:
1- إنه كان قبل الهجرة بثمانية عشر شهراً.
2- إنه قبل الهجرة بسنة واحدة، وإنه يوم الأثنين.
3- وقع الإسراء قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر.
4- حدث الإسراء في السنة الحادية عشرة من المبعث.
5- إنه بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر.
وقيل غير ذلك.
الشهر والليلة
أما الشهر الذي أسري فيه بخاتم الأنبياء، فقد اختلفت فيه روايات المؤرخين وكذلك في الليلة، وفيما يلي ذلك:
1- في ربيع الأول في ليلة السابع عشر منه.
2- في ليلة السابع والعشرين من شهر رجب.
3ـ في ليلة السبت لسبع عشر ليلة خلت من شهر رمضان.
مكان الإسراء والمعراج
أما المكان الذي حظي بإسراء سيد الكائنات (ص)، فقد روي بصور مختلفة منها:
1- روى أنس بن مالك عن رسول الله (ص)، قال: بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل بالبراق[2].
2- روى مالك: قال رسول الله (ص): بينا انا عند البيت بين النائم واليقظان وذكر يعني رجلا بين الرجلين فأتيت بطست من ذهب ملئ حكمة وإيمانا [3].
3- روت السيدة أم هاني قالت: «إن رسول الله (ص) نام عندي تلك الليلة في بيتي، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبل الفجر أيقظنا، فلما صلى الصبح وصلينا معه، قال: يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين [4].
4- روى أبو ذر الغفاري: أن النبي محمد (ص) قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبرئيل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغه في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء[5].
هذه كوكبة من الأخبار التي أثرت في تعيين المكان الذي أسري به النبي محمد (ص) من مكة إلى بيت المقدس، البيت المعظم الذي درسته اليهود في هذا العصر، وأخذت تبيد أهله بالأسلحة الفتاكة التي أمدتهم بها الولايات المتحدة التي تزعم أنها تنادي بحقوق الإنسان.
كيفية الإسراء والمعراج
وصور الرواة المركبة التي اعتلاها النبي محمد المصطفى (ص) في إسرائه لبيت المقدس بما لا يخلو من تكلف، وليس في ذكرها فائدة أو متعة تعود على القراء، وإنما نذكر بعض المواضع التي صلّى فيها النبي محمد (ص)، وهي:
١- طور سيناء: أمره جبرئيل أن يصلّي فيه؛ لأن الله تعالى كلم فيه موسى بن عمران.
٢- بيت لحم: أوعز جبرئيل إلى النبي محمد (ص) أن يصلي في بيت لحم؛ لأنه ولد فيه السيد المسيح، فصلى فيه.
٣- بيت المقدس: وانتهت المسيرة بالنبي محمد (ص) إلى بيت المقدس، فأنزله جبرئيل في المسجد فصلى فيه ركعتين، وقد ائتمت به الأنبياء العظام (ع).
صخرة بيت المقدس
وعرج النبي محمد (ص) من صخرة بيت المقدس إلى مكة، وقد وصفها ابن عربي بقوله: إن صخرة بيت المقدس من عجائب الله تعالى، فإنها صخرة شعثاء قائمة وسط المسجد الأقصى، قد انقطعت من كل جهة، ولا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وفي أعلاها من جهة الجنوب أثر قدم النبي، حيث صعد عليها حين ركب البراق، وقد مالت من تلك الجهة، ومن الجهة الأخرى أصابع الملائكة التي أمسكتها لما مالت، ومن تحتها المغارة التي انفصلت من كل جهة، فهي معلقة بين السماء والأرض لا يتصل بها من الأرض شيء، ولا بعض شيء، وبعض الجهات أشد انفصالاً من بعض[6].
المعراج
أما المعراج فإنه يحكي الواقع المشرق للفكر الإسلامي الذي لا يؤمن – بأي حال من الأحوال – بالجمود الفكري، ويدعو إلى التحرر والانطلاق في رحاب هذا الكون الفسيح، حتى يؤمن الإنسان بالله تعالى إيماناً عميقاً وقائماً على العلم والبرهان لا على التبعية والتقليد إن تخطى الكون، والارتقاء إلى الفضاء الخارجي أمر ممتنع في ذلك العصر، ولكن الرسول (ص) دلّل في معراجه على إمكانه ووقوعه، لكنه بأمر من الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة، لقد قطع النبي محمد (ص) المسافات الهائلة بفترة يسيرة من الزمن لا تقطعها سرعة الضوء، فأقل من لحظة عين وصل إلى بيت المقدس، ثم منه إلى الملكوت الأعلى، ثم قفل راجعاً إلى الكرة الأرضية.
لقد كان المعراج من الوجهة العلمية من أروع أدلة التوحيد وأوثقها على عظم مكانة النبي محمد وسمو منزلته عند الله تعالى.
ونعرض – بإيجاز – لبعض شؤون هذه الرحلة المباركة، وفيما يلي ذلك:
مشاهدات النبي (ص)
شاهد النبي محمد (ص) في رحلته صوراً رائعة كان منها:
1- التقاؤه (ص) بآدم أبي البشر واحتفاؤه به.
2- التقاؤه (ص) بالسيد المسيح ومقابلته له بمزيد من الاحتفاء والتكريم.
3- مقابلته (ص) ليوسف الصديق.
4- التقاؤه (ص) بالنبي موسى وترحيبه به.
5- التقاؤه (ص) بإدريس[7].
6- كما شاهد النبي محمد (ص) تلك الصور الرائعة، والتقى بأنبياء الله العظام، فقد شاهد صوراً مفزعة ومذهلة، كان منها أنه رأى عصابة من المجرمين يعذبون بأقسى العذاب وأشده، وهم الهمازون واللمازون، والذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، والمرابون، وإنما رأى قسوة عذابهم ليبين لأمته شدة آثامهم، فلا يسلكوا سبيلهم.
مع الخالق المعظم
وتشرف النبي محمد (ص) بسماع حديث الخالق العظيم، أما منه وأما بالواسطة، كما تشرف بذلك النبي موسى بن عمران (ع)، وقد حكى النبي (ص) ما دار بينهما من الحديث قال: لَمَّا عُرِجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ نُودِيْتُ: يا مُحَمَّدُ، فَقُلْتُ: رَبِّي، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، فَنُوْدِيتُ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ عَبْدِي وَأَنا رَبُّكَ، فَإِيَّايَ فَاعْبُدْ، وَعَلَيَّ تَوَكَّلْ، فَإِنَّكَ نُوْرِي فِي عِبَادِي، وَرَسُولِي إِلَى خَلْقِي، وَحُجَّتِي عَلَى بَرِيَّتِي، لَكَ وَلِمَنْ تَبِعَكَ خَلَقْتُ جَنَّتِي، وَلِمَنْ خَالَفَكَ خَلَقْتُ ناري، وَلِأَوْصِيائِكَ أَوْجَبْتُ كَرَامَتِي[8].
ورويت المناجاة بين الله تعالى وبين عبده ورسوله محمد (ص) بصورة أخرى، وهي:
قال: لَمَا أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ ناداني اللهُ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلاً: يَا مُحَمَّدُ، قَدِ انْقَضَتْ نُبُوَّتُكَ فَمَنْ لِأُمَّتِكَ؟ فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، إِنِّي قَدْ بَلَوْتُ خَلْقَكَ، فَلَمْ أَجِدْ أَطْوَعَ، وَلَا أَحَبَّ لِي مِنْ عَلَى بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ اللهُ تعالى: يَا مُحَمَّدُ، بَلَّغْهُ أَنَّهُ رَايَةُ الْهُدَى، وَإِمامُ أَوْلِيَائِي، وَنُوْرٌ لِمَنْ أَطَاعَني[9].
وهكذا كانت الإمامة متميزة باهتمام الله تعالى ورسوله الكريم؛ لأنها الإطار الجامع لحياة المسلمين وكرامتهم.
أهداف المعراج
والذي نراه أن الأهداف في المعراج المبارك هي ما يلي:
1- مشاهدة الرسول (ص) لعظيم ملكوت الله تعالى، وبدائع صنعه، وعجائب مخلوقاته المتجلية في العالم الخارجي، التي هي أعظم من هذا الكوكب الذي نعيش عليه، فإنّه بما فيه من الجبال والبحار والنبات والحيوانات من أبسط مخلوقات الله تعالى، فإنه إذا قيس إلى سائر المجرات والكواكب العملاقة وغيرها تكون نسبته إليها نسبة الرملة الواحدة إلى رمال صحراء الجزيرة العربية حسبما يقول المتخصصون في علوم الفضاء.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الهدف بقول الله تعالى: لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ[10].
2ـ إن هذه الرحلة المباركة كانت من أوثق الأدلة الحاسمة على وجود الخالق العظيم واهب الحياة، ومدبر الكون.
3ـ إن هذه الرحلة المباركة ملئت نفس النبي محمد (ص) صبراً وعزماً على أداء رسالة الله تعالى، وإشاعة أحكام الإسلام الهادفة إلى تغيير مناهج الحياة البشعة التي عاشها الإنسان الجاهلي، ووضع المناهج الإسلامية التي تبنت الأهداف الأصيلة والمثل العليا التي يعيش الإنسان في ظلالها وهو موفور الكرامة ناعم البال.
صدى المعراج في مكة
وانتشر نبأ معراج النبي محمد (ص) في مكة فتلقاه المسلمون بمزيد من الرضا والتصديق، وتلقاه الكافرون والذين في قلوبهم مرض بمزيد من الشك والإنكار، فلم تتحمل عقولهم هذا النبأ العظيم، ولنستمع إلى ما رواه المؤرخون وأرباب السير إلى موقف قريش من المعراج.
فقد رووا أن النبي (ص) أخبر أم هاني أخت الإمام أمير المؤمنين (ع) بذلك، وأراد أن تشيع الخبر في أوساط قريش، فوجمت وخافت على النبي من عتاة قريش وقالت له:
أنشدك الله تعالى أن لا تحدث قريشاً بذلك، فيكذبك من صدقك.
ولم يحفل بها النبي (ص) وخرج منها، فأوعزت إلى جاريتها أن تتبع النبي وتنظر ماذا يصنع، فقد سارع (ص) إلى نفر من قريش في الحطيم، وهو ما بين الكعبة والحجر الأسود، وكان المكان يضم المطعم بن عدي وأبا جهل بن هشام، فأخبرهم النبي برحلته إلى بيت المقدس، ومعراجه إلى السماء، وانبرى أبو جهل منكراً ومستهزاً قائلاً له:
ماذا عندك؟.
أُسْرِيَ بِيَ اللَّيْلَةَ.
إلى أين؟.
إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
فأنكر أبو جهل وقال بسخرية: ثم أصبحت بين أظهرنا.
نَعَمْ
أرأيت أن دعوت قومك تحدثهم بما حدثتني؟
نَعَمْ
وانطلق أبو جهل كالكلب رافعاً عقيرته قائلاً:
يا معشر بني كعب بن لؤي.. وهرعت الجماهير إليه فزعة قائلة: ما وراءك؟
وسارع أبو جهل إلى النبي قائلاً: حدث قومك بما حدثتني به.
وانبرى النبي محمد (ص) قائلاً: أُسْرِيَ بِي.
فصاحوا جميعاً: إلى أين؟
إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَنُشِرَ لِي رَهْطٍ مِنَ الْأَنْبِياءِ، مِنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعَيْسَى (ع) وَصَلَّيْتُ بِهِمْ، وَكَلَّمْتُهُمْ.
وانبرى أبو جهل بسخرية واستهزاء قائلاً: صفهم لي.
أَمَّا عِيسَى فَفَوْقَ الرَّبْعَةِ وَدُوْنَ الطَّوِيْلِ، تَعْلُوْهُ حُمْرَةٌ، كَأَنَّمَا يَتَحَادَرُ عَنْ لِحْيَتِهِ الْجُمَانُ، وَأَمَّا مُوسَى فَضَخْمٌ آدَمٌ طَوِيْلٌ، كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنْو أَةٍ، وَأَمَا إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّهُ وَاللَّهِ أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقاً وخُلُقاً.
واختلف القوم: فصدقه المؤمنون، وأنكره غيرهم، وانطلق المطعم بن عدي مهاجماً للنبي (ص) ومنكراً عليه قائلاً:
كان أمرك قبل اليوم يسيراً غير قولك اليوم، وهو يشهد أنك كاذب، نحن نضرب أكباد الإبل إلى بيت المقدس مصعداً شهراً، ومنحدراً شهراً، وتزعم أنك أتيته في ليلة واحدة، واللات والعزى! لا أصدقك وما كان هذا الذي تقول قط[11].
وهكذا تلقت بعض الأوساط القرشية نبأ الإسراء بالإنكار والجحود ولم تؤمن به.
المعراج روحي أم جسدي؟
واختلف العلماء في معراج النبي محمد (ص): هل هو بروحه أم بجسده؟ فذهب المشهور إلى أن الإسراء والمعراج كانا بروحه الشريفة، وذهب آخرون إلى أنه كان بجسمه، وهذه بعض الأقوال:
قال العلامة الطبرسي: الظاهر من مذهب أصحابنا، والمشهور في أخبارهم أن الله تعالى أصعد بجسمه (ص) إلى السماء حياً، حتى رأى من ملكوت السموات بعينيه، ولم يكن ذلك في المنام[12].
قال العلامة المجلسي: اعلم أن عروجه (ع) إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء في ليلة واحدة بجسده الشريف مما دلت عليه الآيات والروايات المتواترة من طريق الخاصة والعامة، وإنكار أمثال ذلك أو تأويلها بالعروج الروحاني، أو يكون في المنام ينشأ أما من قلة التتبع في آثار الأئمة الطاهرين، أو من قلة التدين، وضعف اليقين[13].
وذهب الطبري إلى أن معراج النبي (ص) كان بروحه لا بجسده، وقد حكى ذلك عن حذيفة فقد قال: إن المعراج كان رؤيا، وما فقد جسد رسول الله (ص)، وإنما أسري بروحه، وحكى الطبري ذلك عن عائشة، وعن معاوية[14].
أدلة المانعين من الإسراء بالجسد
واستدل المانعون من إسراء النبي محمد (ص) بجسده، وإنما بروحه، بوجوه منها:
1- إن الحركة الجسمانية البالغة في السرعة إلى هذا الحد غير معقولة.
2ـ إن صعود النبي (ص) إلى السموات يوجب انخراق الفلك.
3ـ إنه لو صح إسراء النبي ومعراجه بجسده لوجب أن يكون من أعظم معجزاته، ولا بد أن يكون بمحضر من الناس حتى يستدلوا به على صدقه، وما الفائدة في إسرائه ليلاً على حين غفلة من الناس.
4ـ إن الإنسان عبارة عن الروح وحدها التي هي باقية من أول العمر إلى آخره، أما الأجزاء البدنية فإنها في تغيير مستمر، والباقي هي الروح مغاير للمتغير.
5- واستدلوا على ذلك بالآية الكريمة، وهي قول الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِّلنَّاسِ [15]، وأن تلك الرؤيا هي حديث المعراج، وإنما كانت فتنة للناس لأن كثيراً ممن آمن به حين سمعها أرتد وكفر به.
هذه بعض أدلتهم، وقد أجيب عنها بما يلي: أن معراج النبي محمد (ص) في ليلة واحدة لو كان ممتنعاً لكان القول بنزول جبرئيل من العرش إلى مكة في لحظة واحدة أيضاً ممتنعاً، وكذا القول في حركات الجن والشياطين، وقد سخر الله تعالى الريح لسليمان غدوها شهر، ورواحها شهر، قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ[16]، فقد كان عرش بلقيس في أقصى اليمن، وسليمان في الشام.
ويؤيد ذلك ما قيل إن الشعاع ينتقل من العين إلى الكواكب في آن واحد، فثبت أن المعراج أمر ممكن في نفسه، وأقصى ما قيل هو الاستبعاد، وخرق العادة، ولا يقتصر ذلك على المعراج وإنما يعم جميع المعجزات التي هي خلاف العادة كصيرورة النار برداً وسلاماً لإبراهيم شيخ الأنبياء (ع).
أما فائدة الإسراء فقد عادت على النبي محمد (ص) بأعظم المكاسب، فقد شاهد العالم العلوي، والعرش، والكرسي، وما فيها من العجائب المذهلة التي أوجبت انقطاعه الكامل إلى الله تعالى.
وعلى أي حال، فالذي أراه أن قدرة الله تعالى أعظم من أن توصف أو تحد، فهو خالق المجرات القائمة في الفضاء، ولا شيء يمسكها إلا قدرة الله تعالى، وهو خالق العجائب المذهلة، ومعراج النبي (ص) إلى الفضاء الخارجي من أبسط الأمور وأهونها عند الله تعالى[17].
رأي فريد وجدي
وانفرد فريد وجدي برأي في الإسراء والمعراج، فذهب إلى أن الإسراء كان ببدن النبي (ص)، وأما المعراج فكان بروحه لا غير. قال:
الإسراء بالجسد والروح من مكة إلى بيت المقدس أمر ممكن غير مستحيل، فقد ثبت من تجارب العلماء الأوربيين في المسائل الروحانية أن ما يسمونه الأرواح تأتيهم بالزهور الندية الغضة من أقصى البلاد، كالصين والهند مثلاً، وتنثره عليهم وهم جلوس في الغرف، وقد ثبت هذا الأمر لجمهور العلماء الذين أمضوا عشرات السنين في التجارب، ودونوه في مؤلفاتهم، ولا عبرة بالتكذيب من بعض الجامدين الذين لم يحضروا التجارب ولا قرأوا فيها كتاباً، فإذا ثبت هذا جاز أن ينتقل نبي مرسل من بلده إلى بلد قاص بطريق الإعجاز، فإن الله تعالى أقدر على نقل الأجسام وغيرها.
وأضاف يقول: إن الذين شاهدوا بأعينهم التجارب الروحية أو قرأوا ما كتبه المجرّبون، أمثال وليم كركس أو روسل وباركس ولودج وغيرهم من الإنجليز والألمان والفرنسيين، لا يعدون هذه المسألة مستحيلة وغير ممكنة.
أما مسألة العروج إلى السماء فإنّها مستحيلة لأنه ثبت علمياً أن السماء ليست سقفاً مادياً، بل هي فضاء لا نهاية له، تسبح فيه الأجرام، منها ما هو محترق كالشمس، ومنها ما هو بارد، وفيه عوالم كعالمنا، وما ورد في القرآن غير ذلك فلابد من تأويله[18].
هذا بعض ما أفاده فريد وجدي في الإسراء والمعراج، والذي أراه بمزيد من التأمل أنه لا مجال لهذا التفصيل بعد التسليم بقدرة الله تعالى اللامتناهية، فإنه الخالق والصانع للعجائب المذهلة التي يعجز العقل عن تصورها.
وعلى أي حال، فإن هناك بعض الأمور التي تواجه المعراج بجسد النبي (ص) والتي منها:
1ـ التخلص من الجاذبية.
2- التخلص من الغلاف الجوي.
3ـ التخلص من الشهب.
4- انعدام الوزن.
وغير ذلك من الأمور التي أشكل بها بعض المؤلفين، ويدفع ذلك القدرة الخارقة لله تعالى التي خضع لها كل شيء… إن من يتأمل في عجائب مخلوقات الله تعالى وبدائع صنعه وعظيم حكمته، فإنّه يجزم بسهولة الإسراء والمعراج من النبي محمد (ص) بروحه وبدنه، وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الإسراء والمعراج[19].
الاستنتاج
أن الإسراء والمعراج هما من الخصائص الفريدة للنبي محمد (ص)، حيث أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء، واختلف العلماء في كون المعراج جسديا أو روحيا، لكن معظمهم يؤكدون أنه كان بجسده، كما أن الإسراء والمعراج يعكسان قدرة الله العظيمة ويعززان إيمان المسلمين برسالة النبي محمد (ص).
الهوامش
[1] الإسراء، ۱.
[2] البغوي، معالم التنزيل، ج3، ص92.
[3] البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص77.
[4] الطبري، تفسير الطبري، ج15، ص5.
[5] السيوطي، الخصائص الكبرى، ص166.
[6] وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج٦، ص٣١٦.
[7] مسلم، صحيح مسلم، ج1، ص104.
[8] القمّي، سفينة البحار، ج١، ص١٧٦.
[9] الصدوق، الأمالي، ص٢٨٦.
[10] النجم، ١٨.
[11] وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج6، ص316.
[12] الطبرسي، مجمع البيان، ج9، ص١٧٤.
[13] المجلسي، بحار الأنوار، ج8، ص229.
[14] الطبري، تفسير الطبري، ج15، ص23.
[15] الإسراء، ٦٠.
[16] النمل، 40.
[17] وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج6، ص٣٢٤، نقلاً عما ذكره نظام الدين الحسن النيسابوري في تفسيره.
[18] وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، ج6، ص328.
[19] معراج النبي للفضاء الخارجي (مخطوط)، كاظم شريف القرشي، وقد استفدنا منه هذه البحوث.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
3ـ البغوي، الحسين، معالم التنزيل في تفسير القرآن (تفسير البغوي)، تحقيق خالد عبد الرحمن العك، بيروت، دار المعرفة، بلا تاريخ.
4ـ السيوطي، عبد الرحمن، الخصائص الكبرى، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1405 ه.
5ـ الصدوق، محمّد، الأمالي، قم، تحقيق ونشر مؤسّسة البعثة، الطبعة الأُولى، 1417 ه.
6ـ الطبرسي، الفضل، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
7ـ الطبري، محمّد، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه.
8ـ القمّي، عباس، سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار، تحقيق مجمع البحوث الإسلامية، مشهد، العتبة الرضوية، الطبعة الثالثة، 1430 ه.
9ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
10ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
11ـ وجدي، محمّد، دائرة معارف القرن العشرين، بيروت، دار المعرفة، الطبعة الثالثة، طبعة القرن الثالث عشر الميلادي.
مصدر المقالة (مع تصرف)
القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه، ج1، ص198 ـ ص213.