خصائص المدرسة الاجتهادية المعاصرة والاجتهاد والثورة الإسلامية

خصائص المدرسة الاجتهادية المعاصرة والاجتهاد والثورة الإسلامية

2024-09-15

38 بازدید

البحث عن خصائص المدرسة الاجتهادية المعاصرة والحديثة، وعن دور الاجتهاد في إنجاح الثورة الإسلامية المباركة في إيران، وأهمية الاعتقاد بولاية الفقيه باعتبارها امتداد القيادة الأصيلة التي يجب أن تطبق التجربة الإسلامية في الحياة، والكلام يقع في بحثين:

البحث الأول: خصائص المدرسة الاجتهادية الحديثة

يمكننا أن نعتبر بزوغ الشيخ الأنصاري (ره) في مدرسة النجف العلمية دفعة جديدة للمرحلة التي بدأها المرحوم الوحيد البهبهاني (ره).

وتكفي نظرة ولو سريعة على كتابه الضخم (فرائد الاُصول) والمعروف لدى العلماء بكتاب (الرسائل) لمعرفة التأثير العميق والطفرة التي حدثت في هذا الجانب.

ويأتي بعده كتاب (كفاية الاُصول) الذي ألّفه فقيه عصره المرحوم الآخوند الخراساني (ره) وهو بدوره أثرى المسيرة الاجتهادية أيّما إثراء، ومن بعده يأتي دور الازدهار والتوسع الفكري الكبير على يد أمثال:

الميرزا النائيني والشيخ العراقي والشيخ الاصفهاني والسيّد الخوئي والسيّد الحكيم والإمام الخميني والشهيد السيد محمّد باقر الصدر وغيرهم من جهابذة العلماء.

ويمكننا أن نذكر من خصائص هذه المرحلة الحديثة ما يلي:

الخصيصة الأولى

المنهجية الدقيقة في عرض المراحل الاجتهادية فيبدأ الشخص السائر في طريق الاجتهاد بتهيئة مقدماته من دراسته العلوم اللغوية والبلاغية والمنطقية والحديثية والفقهية والتفسيرية والاُصولية وغيرها ممّا يرتبط بعملية الاجتهاد من قريب أو بعيد أحياناً كعلم الهيئة وعلم الحساب وحتى بعض البحوث الاجتهادية والنفسية.

وبعد الإنتهاء من هذه المرحلة تبدأ عملية تحديد الموقف الاُصولي من خلال دراسة العناصر المشتركة في الوقائع الفقهية وهي نوعين:

النوع الأوّل

الأدلة المحرزة التي يطلب بها كشف الواقع كالكتاب والسنّة والاجماع والعقل.

النوع الثاني

الأدلة العلمية التي يطلب بها تحديد الوظيفة العملية في حالة الشك في الحكم الواقعي.

وقبل البحث عن هذه العناصر تأتي بحوث مقدمية ضخمة من مثل البحث عن: الحكم الشرعي وتقسيماته ومبادئه، والتضاد بين الأحكام التكليفية والحكم الواقعي والظاهري واجتماعهما.

والبحث عن حجّية القطع (معذريّته ومنجزيّته) والقطع الموضوعي والطريقي، وأمثال ذلك.

وفي مجال الأدلة المحرزة للواقع التشريعي تأتي بحوث موسعة في الأدلة الشرعية بعد تقسيمها الى لفظية وغير لفظية، وفي اللفظية يأتي البحث عن الظهور، والوضع والمجاز وعلامات الحقيقة والمجاز، والاشتراك والمعنى الحرفي، والجمل التامّة والناقصة، والأمر والنهي، والاطلاق، والعموم، والمفاهيم وضوابطها والتطابق بين الدلالات وغير ذلك.

وفي الأدلة الشرعية غير اللفظية يُتحدث عن دلالة الفعل، والسكوت والسيرة.

وفي مجال إثبات صغرى الدليل الشرعي يتحدّث عن وسائل الإثبات الوجداني بالخبر المتواتر وبالاجماع وبسيرة المتشرّعة ووسائل الاحراز التعبّدي كخبر واحد.

وفي مجال حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي يتحدّث عن حجّية الظهور، وظواهر القرآن الكريم.

وفي مجال الدليل العقلي يتحدّث عن إثبات القضايا العقلية وتقسيماتها وبعض القواعد العقلية، مثل:

قاعدة امكان التكليف المشروط وقاعدة تنويع القيود، ومسألة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه، والتخيير العقلي والشرعي في الوجوب، وامتناع اجتماع الأمر والنهي، والوجوب الغيري لمقدمات الواجب واقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه، واقتضاء الحرمة البطلان، وامكان النسخ، والملازمة بين الحسن والقبح والأمر والنهي، والاستقراء والقياس.

ثم يأتي البحث عن حجّية الدليل العقلي التي ترجع بالتالي الى حجية القطع.

أما في مجال الاُصول العملية: فيتحدّث فيها ببحوث مفصّلة عن البراءة والعلم الإجمالي، والاستصحاب ـ وفيه بحوث عميقة ـ والتخيير، والاشتغال.

وأخيراً يتحدث بشكل واسع عن مسألة التعارض بين الأدلة اللفظية والتعارض بين الاُصول العملية ثم التعارض بين الأدلة اللفظية والاُصول العملية، كل هذا وغيره في مجال البحث الاُصولي وهو المرحلة الاُولى من عملية الاستنباط وتليها العملية الفقهية بدراسة العناصر الخاصة بالواقعة من جميع جهاتها.

الخصيصة الثانية

الدقّة والعمق الفني فإن من يلاحظ عمق الدراسات الاُصولية اليوم في الحواضر العلمية في قم والنجف يدرك الأبعاد الواسعة التي انتهت إليها بفضل فتح باب الاجتهاد وحتى لتجدهم يقضون الأسابيع في بحث قد يبدو بسيطاً لأوّل وهلة كبحث الوضع وبحث الشرط المتأخر وبحث مقدمة الواجب ولكن السير معهم يوقف الإنسان على عوالم من النظريات المبدعة وذلك كالذي نراه في بحث الحكومة والورود والترتّب وأمثالها.

إنّ الحديث عن الجانب الفني ممتع للغاية ولا مجال له هنا.

الخصيصة الثالثة

الاستيعاب التقريبي للعناصر المشتركة في عمليات الاستنباط وذلك نتيجة تلك المنهجية والدقة معاً، وإنّما عبّرنا بالتقريبي لأنّ مجال اكتشاف عناصر جديدة مازال مفتوحاً أمام العقل الإنساني الجوّال.

الخصيصة الرابعة

الاتّجاه الاجتماعي الذي راح يفرض وجوده خصوصاً في الفترة الأخيرة.

فإنّ الاجتهاد عملية تمكِّن المسلمين من تطبيق النظرية الإسلامية للحياة. وللتطبيق مجالان: فردي واجتماعي ـ هذا على الصعيد النظري ـ ولكن الملاحظ أن هذه العملية كانت تتّجه تاريخياً الى التطبيق الفردي ـ على الأكثر ـ لدى الإمامية وذلك نتيجة لظروف موضوعية وملابسات تاريخية عميقة الجذور.

ومنذ سقوط الحكم الإسلامي على أثر الغزو الاستعماري الكافر طرحت القواعد الفكرية اللا إسلامية لبناء الحياة الإنسانية، مثل الفكرة الاستعمارية الخبيثة (فصل الدين عن السياسة وعن الحياة) وفكرة الالتقاط أي الجمع بين تطبيق الأحكام  الإسلامية في الجانب الفردي واستجداء القوانين الغربية في الجوانب الاجتماعية الضخمة الاُخرى.

وفكرة (الحرية في السلوك حتى ولو عارضت الأحكام كما في الحجاب، ومسألة الخمر، والقمار)، بذلك أحسّت الحركة الاجتماعية بالخطر، وان التركيز على الجانب الفردي مرتبط كل الارتباط بالجانب الاجتماعي، إذ بدأ الأوّل ينهار بانهيار الثاني.

ومن ناحية اُخرى ـ كما يقول المرحوم الشهيد محمّد باقر الصدر (ره) ـ (بدأت الاُمّة نفسها تعي وجودها وتفكّر في رسالتها الحقيقية المتمثّلة في الإسلام، بعد أن اكتشفت واقع القواعد الفكرية الجديدة، ونوع التجارب الاجتماعية المزيّفة التي حملها إليها الاستعمار، ومن الطبيعي أن ينعكس هذا الوعي على حركة الاجتهاد نفسها ويؤكد احساسها الذاتي خلال التجربة المريرة التي عاشتها في عصر ما بعد الاستعمار بأنّ الإسلام كل لا يتجزّأ)[1].

وكان لهذا الأثر الكبير في دفع الروح الجهادية للاجتهاد لديهم الى الأمام، فصدرت بحوث ضخمة في هذا المجال، وأن تطوره المستقبلي يبشّر بألف خير بعد نجاح الثورة الإسلامية الكبرى التي قادها مجتهد أعلى هو الإمام الخميني  الرائد (ره) بعد أن مهّد لها هو وتلامذته بأروع تمهيد سواء على صعيد تحريك الحوزات العلمية، وطرح الرؤى الاجتماعية الكبرى أمامها أو على صعيد اشعار الاُمة بالخطر وإثارة حبّها وعواطفها نحو التطبيق الإسلامي الشامل.

ولا أدلّ على ذلك من محاضرات الإمام القائد في مجال (الحكومة الإسلامية) التي انتشرت قبل نجاح الثورة بأكثر من عشر سنين ومدت الوعي كالعافية الى عروق الاُمّة المسلمة في إيران وغيرها.

نعم بعد انتصار الثورة الإسلامية الكبرى اندفعت عملية الاجتهاد الى الإمام بعد أن كان على الجميع أن يجيبوا على الأسئلة الاجتماعية الجديدة في المجال العائلي والمجال الإداري والمجال الحقوقي والمجال القضائي والمجال العسكري والمجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال التربوي والمجال الجنائي وغير ذلك كثير كثير، فكانت الثورة الإسلامية المباركة مصدر خير لا يحصى في هذا المجال خصوصاً بعد أن طلب الإمام القائد من الفقهاء هذا المعنى.

ولا ننسى ونحن بهذا الصدد أن نذكّر بظهور خاصية المقارنة في الفترة الأخيرة بين المذاهب الإسلامية في الحياة وغيرها من المذاهب المادية وما تمثل أكثر من غيره في مؤلّفات من قبيل (اقتصادنا) و (نظام حقوق المرأة في الإسلام) و (البنك اللاربوي في الإسلام) وغيرها.

البحث الثاني: الاجتهاد والثورة الإسلامية المباركة في إيران

يمكننا أن نعزو نجاح الثورة الإسلامية المباركة في إيران المسلمة الى عوامل كثيرة إلاّ أنّ الأهمّ منها هو عنصر الاجتهاد الحرّ، الذي تمتّعت به الجوامع الدينية هناك، فقد لعب دوراً ضخماً أذهل الاستكبار العالمي وأفقده صوابه بعد أن لم يكن ليملك قدرة تقديره… وإلاّ فهل يمكننا أ ن نصدّق أنّ مدينة كمدينة قم تضرب عن العمل وتغلق محلاتها لمده ثلاثة عشر شهراً لولا وجود عنصر الاجتهاد الرائع وتغلغل مفعوله في الاُمة المسلمة؟

وهل يمكن أن نصدق سجود الجماهير على الأرض لله والدبابات تتّجه إليها مزمجرة لكنها تبقى بجنودها ترتجف أمام الإيمان العظيم؟ والحديث واسع في هذا المجال.

لقد إمتلك المجتهدون وجوداً قوياً في أعماق الاُمّة المسلمة أثر فيها وعياً رائعاً لتعاليم الإسلام من جهة ومؤثرات أعدائه من جهة اُخرى، وعاطفة واعية قائمة على أساس ذلك الوعي، وإنشداداً عملياً الى قيادته المجتهدة يتجاوز كل التصورات.

أما كيف إمتلك الاجتهاد هذا التأثير الرائع في إنجاح الثورة الإسلامية فله مجال واسع من الحديث، ولكننا نشير هنا الى بعض الاُمور الموضّحة لذلك، فهناك:

الأمر الأول

الانعكاس الطبيعي للروح الاجتهادية الحرّة على شخصية المجتهدين والسائرين في طريق الاجتهاد ممّا انتج استقلالية اقتصادية وسياسية وقبل كل شيء استقلالية في الشخصية، ومن الواضح دور هذا الاستقلال في ارعاب الحكّام وتكتيل الجماهير حول القيادة.

الأمر الثاني

الروح الحريصة التي ينتجها الاجتهاد في مجال العمل على تطبيق الإسلام في كلّ مجالات الحياة خصوصاً حينما يجد المجتهد أن الأحكام التي يَبذُلُ في سبيل استنباطها السنين الطوال ويدرك قدسيتها قبل كل شيء ضائعة مهملة ممّا يحركه نحو ايجاد الجو المناسب للتطبيق. وقد أدرك الأعداء هذه الخاصية للاجتهاد الإسلامي فشنوا حملة ضارية ضدّه.

الأمر الثالث

الدور العظيم الذي يقوم به تقليد المجتهدين الأحياء في شدّهم ـ عقائدياً ـ للقيادة بنحو لا تستطيع أية حكومة مهما كان ارهابها أن تقطع الأواصر العقائدية هذه لأنها تمتد من القلب والعمق العقائدي الى من يتمثل بهم الاجتهاد.

الأمر الرابع

أهمية الاعتقاد بولاية الفقيه باعتبارها امتداد القيادة الأصيلة التي يجب أن تطبق التجربة الإسلامية في الحياة… فإن هذه الولاية تمتلك قدرة توجيه الجماهير وحتى المجتهدين الآخرين وفق أوامر المجتهد الولي.. ولها مفعولها العظيم في اضفاء الطبيعة الإسلامية على الحياة وملء الشريعة في مجالها.

هذا الى غير ذلك من العناصر التي توّجتها شخصية الإمام الخميني القائد القويّة  المتّقية الزاهدة الصابرة فاستثمرت هذا الوعي والاخلاص لتحقيق الخطوة الاُولى من الهدف المنشود وهو نجاح الثورة الإسلامية.

أما بعد نجاح الثورة الإسلامية فإن نفس العوامل ولكن بمستوى  أقوى وأعمق هي التي مكّنت الشعب الإسلامي المؤمن من الوقوف بوجه كلّ قوى الاستكبار العالمي وعملائه ومؤتمراته المتنوعة.

ولا يسعنا المجال هنا لعرض كلّ الآثار.

إلاّ أننا نستعرض باختصار الدور الذي منحه الدستور الإسلامي للمجتهد الفقيه في مجال القيادة وإدارة الحياة الإسلامية، فقبل كل شيء جعل الدستور الإسلامي الفقيه قائداً للاُمّة الإسلامية وذكر له أعلى الصلاحيات وهي الولاية العامّة التي قرّرتها الشريعة له.

فقالت المادة الخامسة بأن الولاية العامة إنّما هي للفقيه العادل الواعي المدبر الذي تؤيّده بالطبع جماهير الاُمة المسلمة في حين فصّلت الموارد من (107 ـ 112) صلاحيات القائد وفي المادة السابعة بعد المئة: يقوم الخبراء في الاُمور الفقهية بتشخيص القائد وانتخابه بشروطه المذكورة له.

وتقرّر المادة (91) تشكيل مجلس صيانة الدستور على نحو يكون ستّة من أعضائه من الفقهاء ويقوم هؤلاء الستّة بدراسة ما إذا كانت القوانين التي يصادق عليها مجلس الشورى الإسلامي منسجمة مع التعاليم الإسلامية أم لا، في حين يعطي الأعضاء كلّهم رأيهم في مدى انسجامها مع الدستور الإسلامي.

وتؤكد المادة (162) على أن يكون رئيس القوّة القضائية مجتهداً عالماً. وهكذا نجد الدستور يتلاءم وما قرّره الإسلام للمجتهد من مناصب مهمة.

أما منصب الفتوى والتقليد فهو يرتبط بقرار الفرد نفسه وتوصله الى المجتهد الذي يجب أن يقلّده في أحكام دينه ولا ربط له بالدستور.

الاستنتاج

أن هناك خصائص للمدرسة الاجتهادية الحديثة، منها: المنهجية الدقيقة في عرض المراحل الاجتهادية، والدقّة والعمق الفني، والاستيعاب التقريبي للعناصر المشتركة في عمليات الاستنباط، والاتّجاه الاجتماعي الذي راح يفرض وجوده خصوصاً في الفترة الأخيرة، وأن من عوامل نجاح الثورة الإسلامية هو وجود عنصر الاجتهاد الحر الذي تمتّعت به الجوامع الدينية.

الهوامش

[1] من مقال المرحوم الشهيد الكبير (ره) حول الاتجاهات المستقبلية لحركة الاجتهاد.

مصدر المقالة (مع تصريف بسيط)

التسخيري، محمّد علي، حول الشيعة والمرجعية في الوقت الحاضر، نشر المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية، 1426 ه‍.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *