هذه المقالة تتناول مواضيع حيوية تتعلق بحياة الله تعالى وإدراكه، بالإضافة إلى صفتي السمع والبصر، يبدأ بتعريف مفهوم الحياة في سياق الذات الإلهية، مستعرضا الأدلة التي تثبت هذه الصفة وخصائصها الفريدة، ثم تنتقل لاستكشاف معنى الإدراك وعلاقته بالعلم والحياة، والبحث في حقيقة وصف الله بأنه سميع وبصير، موضحين الصلة بين هاتين الصفتين والعلم، تهدف هذه الأبحاث إلى تقديم رؤية شاملة ومعمقة للصفات الإلهية.

معنى حياة الله تعالى

مفهوم الحياة واضح وبديهي يدركه الإنسان بالوجدان إدراكاً فطرياً، ويمكن القول بأنّ كثرة وضوح وظهور هذا المفهوم أدّى إلى عسر تعريفه بالبيان. وقد ذكر العلماء في بيان مفهوم الحياة عدّة معاني أهمّها:

المعنى العام للحياة: وقد ذكر العلماء في بيان مفهوم الحياة عدّة معاني أهمّها: الحياة صفة تجعل المتّصف بها مبدءاً للآثار المتوقّع صدورها منه. مثال ذلك: حياة الأرض كونها نابتة ومخضرة، وموتها خلافه؛ حياة العمل عبارة عن انتهائه إلى الغرض المبتغى منه، وموته خلافه؛ حياة القلب عبارة عن ازدهار الفضائل الأخلاقية فيه، وموته خلافه.

المعنى الخاص للحياة: الحياة صفة توجب صحة الاتّصاف بالعلم والقدرة. أي: لا تتصف أيّة ذات بصفة العلم والقدرة إلاّ بعد اتّصافها بصفة الحياة. والضرورة تقضي بأنّ كلّ عالم وقادر حي[1].

تنبيه: ذكر البعض[2] بأنّ الحي هو المدرك الفاعل أو الدرّاك الفعّال أو الفعّال المدبّر. ولكن لا يخفى بأنّ نسبة هذا المعنى من الحياة إلى الله تعالى يستلزم القول بقدم العالم. لأنّ الحياة من صفات الله الذاتية. والفعل والتدبير من صفات الله الفعلية. وجعل الحياة وهي صفة ذاتية ملازمة للخلق والتدبير وهي صفة فعلية يستلزم القول بأنّه تعالى خالق ومدبّر مادام حيّاً، فيؤدّي هذا الأمر إلى القول بقدم العالم.

ولكن هذه النظرية ـ كما بيّنا سابقاً ـ باطلة، وكلّ ما سوى الله تعالى حادث.

تتمّة: يمكن القول بأنّ المقصود من تعريف الحي بالفعّال المدبّر أنّه تعالى متمكّن من الفعل دائماً وله القدرة على التأثير; لأنّ ما يقابل الحي هو الميّت، والميّت هو الذي لا يصدر منه فعل، ولا أثر له على الواقع الخارجي.

المبحث الثاني: أدلة ثبوت صفة الحياة للذات الالهية

1ـ الضرورة تحكم باتّصاف كلّ عالم وقادر بصفة الحياة.

وحيث ثبت اتّصافه تعالى بالعلم والقدرة، فلهذا يلزم كونه تعالى حيّاً[3].

2ـ الحياة صفة كمالية، وبما أنّ لله الكمال كلّه، فلهذا يثبت كونه تعالى حياً.

3ـ وهب الله الحياة لبعض مخلوقاته، وقد ذكرنا بأنّ الحياة صفة كمالية، فلهذا يثبت من منطلق معطي الكمال غير فاقد له بأنّه تعالى حيّ وغير فاقد لهذه الصفة الكمالية.

المبحث الثالث: خصائص حياة الله تعالى

1ـ الحياة صفة من صفات الله الذاتية، والله حيّ بذاته، ولا يصح أبداً سلب هذه الصفة عنه تعالى[4].

2ـ الحياة التي تطلق على الله مغايرة تماماً عن الحياة التي تطلق على غيره تعالى من الكائنات الحية، ومن أوجه التغاير:

أوّلاً: حياة الله أزلية وباقية ولا تفنى.

حياة ما سوى الله مسبوقة دائماً بالعدم.

ثانياً: حياة الله منزّهة عن الخصائص الجسمانية.

حياة ما سوى الله ممزوجة بالكيفات النفسانية والمزاجية، ومقترنة بالجذب والتماسك والنمو والإحساس وغيرها من الأمور الجسمانية أو الأمور المحدودة.

ثالثاً: حياة الله عين ذاته، وليست هذه الصفة زائدة على ذاته تعالى.

حياة ما سوى الله تعالى صفة زائدة على الذات.

تنبيه: ما نتصوّره بصورة عامة من الحياة هي الحياة المرتبطة بالمخلوقات الحيّة، وحياة الله مغايرة لحياة المخلوقات، فلهذا يلزم علينا عند نسبة صفة الحياة إلى الله أن نقوم بتنزيه هذه الصفة عن كلّ نقص وشائبة ليكون ما ننسبه إلى الله تعالى لائقاً بمقامه الأسمى ومنزلته العليا.

المبحث الرابع: حياة الله في القرآن والأحاديث

حياة الله في القرآن

1ـ قال تعالى: اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ[5].

2 ـ قال تعالى: هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [6].

3ـ قال تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ[7].

حياة الله في الأحاديث

1ـ قال الإمام محمد الباقر (ع): إنّ الله تبارك وتعالى كان ولا شيء غيره حيّاً لا موت فيه، وكذلك هو اليوم، وكذلك لا يزال أبداً[8].

2ـ قال الإمام الصادق (ع): والله حي لا موت له حيّ الذات[9].

3ـ قال الإمام الكاظم (ع): إنّ الله حيّاً بلا كيف حيّاً بلا حياة حادثة بل حي لنفسه[10].

4ـ قيل للإمام الرضا (ع): روينا أنّ الله… حياة لا موت فيه….

قال: كذلك هو[11].

معنى إدراك الله تعالى

الإدراك صفة من صفات الله المذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[12].

الإدراك في أصل اللغة هو بلوغ أقصى الشيء ومنتهاه. ولکن اختلف العلماء في معنى الإدراك نتيجة اختلافهم في صلة الإدراك بصفة العلم، والمشهور وجود معنيين، سنذكرهما في المبحث التالي.

المبحث الثاني: صلة الادراك بالعلم

الرأي الأوّل: الإدراك هو العلم بالمُدَرك.

أي: الإدراك نوع من أنواع العلم، وهو علم خاص يشمل العلم بالموجودات الجزئية العينية[13].

وبعبارة أخرى: إدراك الله عبارة عن علمه بالأشياء الخارجية.

الرأي الثاني: الإدراك لا يتعلّق بالعلم، وهو وصف مستقل وزائد على العلم[14].

دليل ذلك: إنّنا نجد في أنفسنا بأنّ الإدراك يفترق عن العلم.

فنعلم ما لا ندركه، وندرك ما لا نعلمه.

فنستنتج مطلقاً بأنّ الإدراك مغاير للعلم.

مثال ذلك: مثال علم الإنسان بما لا يدركه:

1ـ المعدومات، فإنّها تقع في دائرة علم الإنسان، ولكنّها لا تقع في دائرة إدراكه، لأنّ الإدراك مختص بالموجودات[15].

2ـ الموجودات التي يعلمها الإنسان وليس له اتّصال مباشر بها، أي: لم تقع في دائرة إدراكه.

مثال إدراك الإنسان ما لا يعلمه: إدراك النائم الأصوات وغيرها التي تكون سبباً في انتباهه.

وهذه الأصوات يدركها الإنسان من دون علمه بها، لأنّه لا يمكن له العلم بها وهو نائم، ولا يمكن القول بأنّه يدركها بعد الانتباه، لأنّه لا يوجد سبب في استيقاظه إلاّ هي[16].

قال الشريف المرتضى: لا يجوز أن ترجع هذه صفة [الإدراك] إلى كونه عالماً، لأنّه قد يعلم ما لا يدركه، مثل: القديم سبحانه والقيامة، وذلك غير مدرك[17].

قال الشيخ الطوسي: [لا يرجع الإدراك] إلى كونه عالماً، لأنّه تعالى يكون عالماً بها قبل إدراكها وبعد انقضائها[18].

المبحث الثالث: صلة الادراك بالحياة

الرأي الأوّل: إنّه تعالى مدرك لأنّه حي، وكلّ من كان حيّاً فهو مدرك[19].

الرأي الثاني: إدراك الله لا يستند إلى كونه حيّاً.

دليل ذلك:

1ـ إنّ الإدراك من صفات الله الفعلية، لكن الحياة من صفات الله الذاتية.

ولا يصح أن تكون صفة لفعل بعينها صفة الذات[20].

قال الشريف المرتضى: لا يجوز أن [ترجع صفة الإدراك]… إلى كونه حيّاً، لأنّ كونه حيّاً قد كان حاصلاً، فلم يجد نفسه على هذا الأمر [أي: الإدراك][21].

قال الشيخ الطوسي: [الإدراك] لا يستند إلى كونه حياً، لأنّه كان حيّاً قبل ذلك ولم يجد نفسه كذلك [أي: لم يكن مدركاً للمعدومات، لأنّ الإدراك لا يتعلّق بالمعدومات، وإنّما يتعلّق بالموجودات][22].

2ـ يتطلّب الإدراك مُدركات مختلفة، كالسمع والبصر وغيرهما.

ولا تتطلّب الحياة إلى شيء من ذلك.

فيثبت أنّ الإدراك مغاير للحياة، ووصفه تعالى بكونه مدركاً أمر زائد على كونه حيّاً[23].

المبحث الرابع: خصائص صفة الادراك عند الله

1ـ الإدراك من صفات الله الفعلية لأنّ الإدراك لا يكون إلاّ بعد وجود المُدرَك في الواقع الخارجي، فلهذا لا يتّصف الله بهذه الصفة إلاّ بعد خلقه تعالى للأشياء، والخالقية ـ كما لا يخفى ـ من صفات الله الفعلية[24].

2ـ يدرك الله الأشياء بذاته ومن دون الاستعانة بشيء، وهو تعالى بخلاف الإنسان الذي يدرك الأشياء عن طريق حواسه لأنّه تعالى منزّه عن الاحتياج، وهو لا يفتقر أبداً إلى الآله في الإدراك[25].

3ـ لا يصح وصفه تعالى بأنّه:

ذائق لإدراكه الطعوم.

شام لإدراكه الروائح.

لامس لإدراكه الحرارة والبرودة.

لأنّ الذوق والشمّ واللمس ليست إدراكات، وإنّما هي طرق للإدراك.

والمطلوب بالنسبة إلى الله إثبات حقيقة الإدراك دون طرقها[26].

4ـ لا يصح وصفه تعالى بصفة الملتذ والمتألّم على الرّغم من إدراكه للذّة والألم، لأنّ اللذّة والألم من خصائص الأشياء المادية، والله منزّه عنها[27].

سمع الله تعالى وبصره

المبحث الأوّل: حقيقة وصفه تعالى بالسميع والبصير

قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ[28].

وقال تعالى لموسى وهارون (ع): إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ[29].

سبب تسميته تعالى بالسميع والبصير

قال الإمام الصادق (ع): إنّما يُسمّى تبارك وتعالى بهذه الأسماء لأنّه لا تخفى عليه خافية، ولا شيء مما أدركته الأسماع والأبصار[30].

قال الإمام الرضا (ع): وسمّى ربّنا سميعاً أخبر أنّه لا يخفى عليه الأصوات الله بصير لا يجهل شخصاً منظوراً إليه[31].

النتيجة: إنّ الله تعالى سميع، أي: لا يخفى عليه شيء من المسموعات.

إنّ الله تعالى بصير، أي: لا يغيب عنه شيء من المبصرات.

الله سميع وبصير بذاته

المخلوقات تسمع وتبصر عن طريق الحواس وآلتي السمع والبصر، ولكنّ الله تعالى لا يسمع ولا يبصر عن طريق الحواس، وإنّما يسمع ويبصر بذاته. لأنّه تعالى منزّه عن الحواس، ومنزّه عن الاحتياج إلى آلة أو أداة في هذا المجال.

قال الإمام جعفر الصادق (ع): هو سميع بصير، سميع بغير جارحة، وبصير بغير آلة، بل يسمع بنفسه ويبصر بنفسه.

ليس قولي: إنّه يسمع بنفسه ويبصر بنفسه أنّه شيء والنفس شيء آخر، ولكن أردت عبارة عن نفسي إذ كنت مسؤولاً، وإفهاماً لك إذ كنت سائلاً[32].

السميع والبصير من صفات الله الذاتية

قال الإمام الباقر (ع): لم يزل الله تعالى سميعاً بصيراً[33].

قال الإمام الباقر (ع) حول الله: إنّه واحد، صمد، أحدي المعنى، ليس بمعاني كثيرة مختلفة.

فسأله الراوي: جعلت فداك! يزعم قوم من أهل العراق، أنّه يسمع بغير الذي يبصر، ويبصر بغير الذي يسمع.

أي: إنّ السمع صفة زائدة على ذاته تعالى.

وإنّ البصر صفة زائدة على ذاته تعالى.

وما يحتاج الله إليه في خارج ذاته عند السمع مغاير لما يحتاجه في خارج ذاته عند البصر.

فقال (ع): كذبوا وألحدوا وشبّهوا، تعالى الله عن ذلك، إنّه سميع بصير، يسمع بما يبصر، ويبصر بما يسمع.

أي: إنّ صفة السمع والبصر من صفات الله الذاتية، والله تعالى يسمع بذاته، ويبصر بذاته.

وذاته هي التي يسمع بها وهي التي يبصر بها.

وهذا معنى قوله (ع): يسمع بما يبصر، ويبصر بما يسمع[34].

الفرق بين السميع والسامع وبين البصير والمبصر

السميع والبصير من صفات الله الذاتية.

ويصح القول بأنّه تعالى لم يزل سميعاً وبصيراً، لأنّ معنى ذلك أنّه تعالى متمكّن من السمع والبصر فيما لو وُجدت المسموعات والمبصرات.

أمّا السامع والمبصر فهما من صفات الله الفعلية.

ولا يصح القول بأنّه تعالى لم يزل سامعاً ومبصراً، لأنّه تعالى لا يوصف بالسامع والمبصر إلاّ بعد وجود المسموعات والمبصرات[35].

المبحث الثاني: الصلة بين السمع والبصر وبين العلم

الرأي الأوّل: السمع والبصر معناهما العلم، وكشف الأشياء بالسمع والبصر نوع من العلم.

والله تعالى سميع، أي: عالم بالمسموعات.

والله تعالى بصير، أي: عالم بالمبصرات[36].

الرأي الثاني: السمع والبصر لا يرجعان إلى العلم.

والانكشاف بالسمع والبصر يغاير الانكشاف بالعلم.

والله تعالى سميع، أي: أ نّه تعالى على صفة يدرك المسموعات إذا وجدت.

والله تعالى بصير، أي: أنّه تعالى على صفة يدرك المبصرات إذا وجدت[37].

توضيح الرأي الأوّل: السمع والبصر معناهما العلم.

وحقيقة كونه تعالى سميعاً، أي: أنّه عالم بالمسموعات.

وحقيقة كونه تعالى بصيراً، أي: أنّه عالم بالمبصرات.

دليل تفسير السمع والبصر بالعلم

حقيقة السمع والبصر عند المخلوقات مشروطة بوجود الحواس والأدوات، وبما أنّه تعالى منزّه عن ذلك، فلهذا يلزم القول بأنّ صفة السمع والبصر له تعالى مجازية، ويراد منهما العلم بالمسموعات والمبصرات[38].

المقصود من العلم في علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات

إنّ تفسير السمع والبصر بالعلم لا يعني مطلق العلم بل المقصود من العلم في هذا المقام هو علم خاص، وهو عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات بعد وجودها.

وهذا النمط من العلم يختلف مفهوماً عن العلم العام الذي يشمل العلم بالمسموعات والمبصرات قبل وجودها.

تنبيه: حقيقة علم الله بالأشياء (من قبيل: المسموعات والمبصرات) هو نفس حقيقة علمه تعالى بها قبل كونها، وعلم الله واحد لا يتعدّد ولا يتغيّر، وإنّما الاختلاف الموجود هنا في المفهوم فقط دون المصداق.

ولهذا قال الإمام علي (ع) حول علمه تعالى: أحاط بالأشياء علماً قبل كونها، فلم يزدد بكونها علماً، علمه بها قبل أن يكوّنها كعلمه بعد تكوينها[39].

دور علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات

ليس علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات هو السبب في توصيفه تعالى بالسميع والبصير، ليُقال: لماذا لا يصح توصيفه تعالى بأنّه لامس وذائق وشام; لأنّه عالم بالملموسات والمذوقات والمشمومات؟

بل السبب في توصيفه تعالى بالسميع والبصير هو ذكرهما في الكتاب والسنة. وكما لا يخفى أنّ صفات الله وأسمائه توقيفية، ولا يصح وصفه تعالى إلاّ بما وصف به نفسه.

والسبب في أنّنا لا نصف الله باللمس والذوق والشم ـ على الرغم من علمه واحاطته بها ـ هو عدم ذكر هذه الصفات في الكتاب والسنة[40].

تنبيه: قد يكون السبب في تأكيد الشارع على وصفه تعالى بالسمع والبصر هو ردع المكلّفين عن المعاصي; لأنّ علم المكلّف بأنّ الله يراه ويسمعه يدفعه إلى المزيد من التحرّز عن ارتكاب الذنوب والمعاصي.

توضيح الرأي الثاني: السمع والبصر للّه وصفان لهما خصائصهما الذاتية، ولهما معناهما الخاص، ولا تعود حقيقتهما إلى العلم، وبل لهما حقيقة خاصّة بهما.

ومعنى قولنا الله سميع وبصير: أنّه على صفة يدرك المسموعات والمبصرات إذا وجدت[41].

وليس معنى قولنا: الله سميع وبصير: أنّه عالم بالمسموعات والمبصرات.

دليل خطأ تفسير السمع والبصر بالعلم: إنّا نجد فرقاً ـ معلوماً لنا بالضرورة ـ: بين إدراكنا حين فتح أعيننا ومشاهدة المرئي، وبين إدراكنا حين تغميض أعيننا مع وجود العلم بالمرئي.

ومن هنا يثبت لنا بأنّ السمع والبصر لهما سماتهما الخاصة، وأنّ صفتهما مغايرة لصفة العلم.

المبحث الثالث: الادلة العقلية على كونه تعالى سميعاً وبصيراً

الدليل الأوّل: إنّ الله تعالى عالم بجميع المعلومات التي من جملتها المسموعات والمبصرات; فلهذا يصح اتّصافه تعالى بأنّه سميع بصير[42].

يلاحظ عليه: ينسجم هذا الدليل فقط مع الرأي الأوّل الذي يفسّر السمع والبصر بأنّهما عبارة عن العلم بالمسموعات والمبصرات، ولا ينسجم مع الرأي الثاني القائل بوجود تغاير بين حقيقة السمع والبصر وبين حقيقة العلم.

الدليل الثاني: كلّ حيّ يصح اتّصافه بالسمع والبصر.

والله تعالى حي.

فيثبت أنّه تعالى سميع بصير[43].

يلاحظ عليه:

أوّلاً: لا يصح القول بأنّ كلّ حي سميع وبصير، لوجود كائنات حيّة فاقدة للسمع والبصر.

مثال ذلك: أكثر الهوام والسمك لا سمع لها.

العقرب والخُلد[44] لا بصر لهما[45].

ثانياً: لو سلّمنا بأنّ حياة الإنسان توجب اتّصافه بالسمع والبصر.

فإنّ حياته تعالى مخالفة لحياتنا.

فلهذا لا يلزم الاشتراك بيننا وبين الله في كلّ ما يلازم حياتنا.

ومثال ذلك: إنّ حياتنا تستلزم الشهوة دون حياته تعالى.

الدليل الثالث: لو لم يتّصف الله بالسمع والبصر، لزم أن يتّصف بضدّهما.

وضدّهما نقص، والنقص على الله محال، فيثبت بالضرورة كونه تعالى سميعاً بصيراً.

يلاحظ عليه: ليس كلّ من لا يتّصف بصفة يتّصف بضدّ تلك الصفة.

بل الاتّصاف بضدّ الصفة يكون لمن شأنه الاتّصاف بها، ولكنّه لا يتّصف بها، كالإنسان الذي من شأنه أن يكون سميعاً وبصيراً، فإذا لم يتّصف بهما اتّصف بضدّهما، أي: بالصمم والعمى.

ولم يثبت عقلاً أنّه تعالى من شأنه الاتّصاف بالسمع والبصر، ولا سيما إذا قلنا بأنّ حقيقة السمع والبصر مشروطة بوجود الحواس، فيكون السمع والبصر من لوازم الكائنات الجسمانية، والله تعالى منزّه عن ذلك[46].

الدليل الرابع: إنّ السميع والبصير أكمل ممن لا يسمع ولا يبصر.

والواحد منا سميع بصير.

فلو لم يكن الله سميعاً، لكان الواحد منّا أكمل من الله، وهذا محال.

فيثبت أنّه تعالى سميع بصير[47].

يلاحظ عليه: ليس كلّ ما كان كمالاً في حقّنا يكون كمالاً في حقّه تعالى.

مثال ذلك: إنّ الماشي منّا أكمل ممّن لا يمشي.

فهل يمكننا القول بأنّه تعالى لو لم يكن ماشياً لكان أحدنا أكمل منه.

وقد يُقال: إنّ المشي صفة كمال في الأجسام، والله تعالى ليس بجسم.

ولكن السمع والبصر غير مختصّان بالأجسام، ولهذا يصح نسبتهما إليه تعالى.

والجواب: لا يوجد دليل عقلي على أنّ السمع والبصر غير مختصّان بالأجسام، والواقع يكشف أنّهما ملازمان للجسمانية، ومفتقران إلى الحواس والجوارح[48].

أضف إلى ذلك: لو جاز عقلاً وصفه تعالى بالسميع والبصير لجاز عقلاً وصفه تعالى باللمس والذوق والشم; لأنّ من يتصّف منّا بهذه الصفات أفضل ممن لا يتّصف بها، ولكنّنا نجد أنّ الشارع لم يجوّز لنا وصفه تعالى بهذه الصفات.

تنبيه مهم: هذه الردود الواردة على أدلة إثبات كونه تعالى سميعاً وبصيراً لا تعني إنكار كونه تعالى سميعاً وبصيراً، بل تعني عدم وجود دليل عقلي لهذا الإثبات، وأنّ السبيل الوحيد لإثبات كونه تعالى سميعاً وبصيراً هو النقل (الكتاب والسنة) فحسب.

وعليه إذا قلنا بأنّ الله سميع وبصير بمعنى أنّه عالم بالمسموعات والمبصرات، فالدليل العقلي الوحيد لإثبات كونه تعالى سميعاً وبصيراً هو إثبات علمه تعالى.

وإذا قلنا بأنّ حقيقة السمع والبصر مغايرة لحقيقة العلم، فلا يبقى دليل عقلي محكم لإثبات كونه تعالى سميعاً وبصيراً، ويكون الدليل النقلي والاعتماد على القرآن والسنة هو السبيل الوحيد لإثبات ذلك.

الاستنتاج

تناقش المقالة مفهوم حياة الله تعالى وخصائصها، حيث يتضح أن الحياة صفة ذاتية لله، تختلف عن حياة المخلوقات، ويُستدل على حياة الله من خلال صفاته الأخرى مثل العلم والقدرة، وتؤكد الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة على أزلية حياة الله ونزاهتها عن الخصائص الجسمانية، كذلك يتناول المقال الإدراك كصفة فعلية لله، مميزًا بين الإدراك والعلم، ويشير إلى أن الله يُدرك الأشياء بذاته دون الحاجة إلى أدوات، كما تُعتبر صفات السمع والبصر من صفاته الذاتية، حيث لا يحتاج الله إلى حواس كالمخلوقات.

الهوامش

[1] انظر: المفيد، النكت الاعتقادية، فصل 1، ص24.

[2] ينسب هذا القول إلى الفلاسفة، انظر: المجلسي، بحار الأنوار، كتاب التوحيد، باب 1، ذيل ح12، ص68.

[3] انظر: المفيد، النكت الاعتقادية، ص24.

[4] انظر: البحراني، قواعد المرام، قاعدة 4، ركن 3، بحث 3، ص87.

[5] البقرة، 255.

[6] غافر، 65.

[7] الفرقان، 58.

[8] الصدوق، التوحيد، باب 11، ص136، ح5.

[9] الصدوق، التوحيد، باب 11، ص136، ح4.

[10] الصدوق، التوحيد، باب 11، ص137، ح6.

[11] الصدوق، التوحيد، باب 01، ص133، ح12.

[12] الأنعام، 103.

[13] انظر: المفيد، النكت الإعتقادية، فصل 1، ص25.

[14] ذهب الشريف المرتضى والشيخ الطوسي إلى هذا الرأي.

[15] إنّ الإدراك يشمل العلم بالموجودات فقط، ولا يشمل العلم بالمعدومات.

[16] انظر: الحلبي، غنية النزوع، ج2، فصل 3، ص31.

[17] السيد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص53.

[18] الطوسي، الاقتصاد، قسم 1، فصل 2، ص56.

[19] انظر: الحلّي، الباب الحادي عشر، فصل 2، صفة 5، ص41.

[20] انظر: الشريف المرتضى، الملخّص في أصول الدين، ج1، ص94.

[21] السيد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص53.

[22] الطوسي، الاقتصاد، قسم 1، فصل 2، ص56.

[23] انظر: الشريف المرتضى، الملخّص في أصول الدين، ج1، ص95.

[24] انظر: الحلبي، غنية النزوع، ج2، فصل 4، ص40.

[25] انظر: المفيد، النكت الاعتقادية، فصل 1، ص25.

[26] انظر: الشريف المرتضى، الملخّص في أصول الدين، ج1، ص90.

[27] انظر: الشريف المرتضى، الذخيرة، ص212.

[28] الإسراء، 1.

[29] طه، 46.

[30] المجلسي، بحار الأنوار، ج3، باب 5، ص194.

[31] الصدوق، التوحيد، باب 29، ح2، ص383.

[32] الصدوق، التوحيد، باب 36، ح1، ص239.

[33] الكليني، الكافي، ج1، ص86، ح2.

[34] الكليني، الكافي، ج1، ص108، ح1.

[35] انظر: الصدوق، التوحيد، باب 29، ص192.

[36] انظر: المفيد، النكت الاعتقادية، فصل 1، ص24.

[37] انظر: الصدوق، التوحيد، باب 29، ص192.

[38] انظر: الكراجكي، كنز الفوائد، ج1، ص85.

[39] الكليني، الكافي، ص135، ح1.

[40] انظر: الطوسي، تلخيص المحصّل، ص288.

[41] انظر: السيد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص55.

[42] انظر: المفيد، النكت الاعتقادية، فصل 1، ص24.

[43] انظر: السيد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص55.

[44] الخُلد: الفارة العمياء.

[45] انظر: الطوسي، تلخيص المحصّل، ص288.

[46] انظر: البحراني، قواعد المرام، قاعدة 4، ركن 3، بحث 5، ص91.

[47] انظر: الطوسي، تلخيص المحصّل، ركن 3، قسم 2، ص288.

[48] انظر: الطوسي، تلخيص المحصل، ركن 3، قسم 2، ص288.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ البحراني، ميثم، قواعد المرام في علم الكلام، تحقيق السيّد أحمد الحسيني، قم، مكتبة السيّد المرعشي النجفي، الطبعة الثانية، 1406ه‍.

3ـ الحلبي، ابن زهرة، غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، قم، مؤسّسة الإمام الصادق (ع)، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

4ـ الحلّي، الحسن، الباب الحادي عشر، مشهد، العتبة الرضوية، الطبعة الثانية، 1370ش.

5ـ السيّد المرتضى، علي، الذخيرة في علم الكلام، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1411ه‍.

6ـ السيّد المرتضى، علي، الملخّص في أصول الدين، تحقيق محمّد رضا الأنصاري القمّي، طهران، مركز نشر الجامعي، طبعة 1381ش.

7ـ السيّد المرتضى، علي، جمل العلم والعمل، تحقيق السيد احمد الحسيني، النجف، مطبعة الآداب، الطبعة الأُولى، 1378ه‍.

8ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، بلا تاريخ.

9ـ الطوسي، محمّد، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، طهران، مكتبة جامع جهلستون، طبعة 1400ه‍.

10ـ الطوسي، محمّد، تلخيص المحصل، بيروت، دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1405ه‍.

11ـ الكراجكي، محمّد، كنز الفوائد، قم، مكتبة المصطفوي، الطبعة الثانية، 1369 ش.

12ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

13ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

14ـ المفيد، محمّد، النكت الإعتقادية، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه‍