تُعتبر مسألة وجود الله من أبرز القضايا الفلسفية والدينية التي تناولها الفكر الإنساني، ومن أهم السبل لإثبات هذا الوجود هو برهان الحدوث، الذي يستند إلى مفهوم أن كل ما هو حادث يحتاج إلى مُحدِث، ويُظهر برهان الحدوث من خلال أدلة واضحة أن الأجسام تحمل صفات الحدوث، مثل الحركة والسكون، مما يستدعي وجود مُحدِث لها، سنستكشف تفاصيل برهان الحدوث وأهميته في إثبات وجود الله من خلال العقل والنقل.

معنى الحدوث

عندما نقول: هذا الشيء حادث، معنى ذلك: أنّ هذا الشيء لم يكن ثمّ كان، أي: كان معدوماً ثمّ صار موجوداً.

معنى القديم (الأزلي): عندما نقول: هذا الشيء قديم، معنى ذلك: أنّ هذا الشيء موجود في الأزل، ولا بداية لوجوده، وهو الموجود الذي لم يسبقه العدم[1].

برهان الحدوث[2]

المقدمة الأولى: العالم حادث.

المقدمة الثانية: كلّ حادث يحتاج إلى مُحدِث.

النتيجة: العالم يحتاج إلى مُحدِث.

بيان المقدّمة الأولى لبرهان الحدوث: العالم حادث

الدليل الأوّل: كلّ جسم لا يخلو من الحوادث. وكلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث. فكلّ جسم حادث. هذا الدليل مبني على إثبات ثلاث قضايا:

الأولى: وجود الحوادث.

الثانية: كلّ جسم لا يخلو من الحوادث.

الثالثة: كلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.

القضية الأولى: إثبات وجود الحوادث

الحوادث عبارة عن:

1ـ الحركة: هي كون الجسم في مكان بعد كونه في مكان آخر.

2ـ السكون: هي كون الجسم في مكان بعد كونه في ذلك المكان.

3ـ الاجتماع: هي كون الجسمين في مكانين بحيث لا يكون بينهما مسافة ولا بُعد.

4ـ الافتراق: هي كون الجسمين في مكانين بحيث يكون بينهما مسافة وبُعد.

ووجود هذه الحالات في الأجسام أمر بديهي لا يحتاج إلى استدلال.

القضية الثانية: إثبات أنّ الأجسام لا تخلومن الحوادث

إنّ الأجسام لا تخلومن الحوادث، أي: لا تخلومن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق.

توضيح ذلك: لابدّ لكلّ جسم أن يكون في مكان.

ومن المستحيل أن يكون الجسم في لا مكان.

وكون الجسم في مكان معناه: أنّه لا يخلومن السكون والحركة، أي:

1ـ يستقر الجسم في مكانه فيكون في سكون.

2ـ ينتقل الجسم إلى مكان آخر، فيكون في حركة.

وإذا كان مع الجسم جسماً آخر:

فلا تخلوعلاقة هذا الجسم مع الجسم الآخر من الاجتماع والافتراق، أي:

1ـ لا يتوسّط بين الجسمين شيء آخر، فيكونان في اجتماع.

2ـ يتوسّط بين الجسمين شيء آخر، فيكونان في افتراق.

فنستنتج: أنّ الأجسام لا تخلومن الحوادث.

القضية الثالثة: إثبات كلّ ما لا يخلومن الحوادث فهو حادث

إنّ الأجسام تعتريها حالات خارجية، وهي: الحركة، السكون، الاجتماع والافتراق. وماهية جميع هذه الحالات هي التغيير[3] الدال على الحدوث، أي: الدال على الاتّصاف بالوجود المسبوق بالعدم. فيثبت أنّ الأجسام حادثة.

قال الشيخ الصدوق: ومن الدليل على أنّ الأجسام مُحدَثة: أنّ الاجسام لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو مفترقة، ومتحرّكة أو ساكنة. والاجتماع والافتراق والحركة والسكون مُحدَثة. فعلمنا أنّ الجسم محدَث; لحدوث ما لا ينفك منه[4].

الدليل الثاني على حدوث الأجسام

لا يصح أن تكون الأجسام أزلية، لأنّها لو كانت أزلية لكانت في الأزل إمّا متحرّكة أو ساكنة وكلاهما محال.

دليل استحالة كون الأجسام متحرّكة في الأزل:

الأزلية تستدعي المسبوقية بالغير

والحركة تستدعي المسبوقية بالغير[5].

فالأزلية والحركة لا يجتمعان.

فيثبت أنّ الأجسام لا يصح أن تكون أزلية.

حدوث العالم في روايات أهل البيت

1ـ قال رسول الله (ص): الحمد لله الذي لا إله إلاّ هو الملك الحقّ المبين… كنت قبل كلّ شيء. وكوّنت كلّ شيء. وابتدعت كلّ شيء[6].

2ـ قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): لم يخلق الأشياء من أصول أزليّة. ولا من أوائل أبديّة. بل خلق ما خلق فأقام حدّه. وصوّر ما صوّر، فأحسن صورته[7].

3ـ قال الإمام محمّد الباقر (ع): كان الله ولا شيء غيره[8].

4ـ قال الإمام محمّد الباقر (ع): ياذا الذي كان قبل كلّ شيء، ثمّ خلق كلّ شيء، ثمّ يبقى ويفنى كلّ شيء…[9].

5ـ قال الإمام محمّد الباقر (ع): خلق الله تعالى الشيء لا من شيء كان قبلهولو خلق الشيء من شيء، إذن لم يكن له انقطاع أبداً، ولم يزل الله إذن ومعه شيء. ولكن كان الله ولا شيء معه، فخلق الشيء الذي جميع الأشياء منه[10].

6ـ قال الإمام محمّد الباقر (ع): إنّ الله تبارك وتعالى لم يزل عالماً قديماً خلق الأشياء لا من شيء. ومن زعم أنّ الله تعالى خلق الأشياء من شيء فقد كفر. لأنّه لو كان ذلك الشيء الذي خلق منه الأشياء قديماً معه في أزليّته وهويته كان ذلك الشيء أزلياً. بل خلق الله تعالى الأشياء كلّها لا من شيء[11].

7ـ قال الإمام جعفر الصادق (ع): الحمد لله الذي كان إذ لم يكن شيء غيره. وكوّن الأشياء فكانت كما كوّنها[12].

8ـ سُئل الإمام جعفر الصادق (ع): ما الدليل على حدث الأجسام؟

فقال الإمام (ع): إنّي ما وجدت شيئاً صغيراً ولا كبيراً إلاّ إذا ضمّ إليه مثله صار أكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الأولى. ولو كان قديماً ما زال ولا حال، لأنّ الذي يزول ويحول يجوز أن يوجد ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث[13].

9ـ قال الإمام جعفر الصادق (ع): إنّه ليس شيء إلاّ يبيد أو يتغيّر أو يدخله الغِيَر والزوال، أو ينتقل من لون إلى لون، ومن هيئة إلى هيئة، ومن صفة إلى صفة، ومن زيادة إلى نقصان، ومن نقصان إلى زيادة إلاّ ربّ العالمين[14].

10ـ قال الإمام موسى الكاظم (ع):… وهو الأوّل الذي لا شيء قبله. والآخر الذي لا شيء بعده. وهو القديم وما سواه مخلوق مُحدَث، تعالى عن صفات المخلوقين علوّاً كبيراً[15].

النتيجة: إنّ الله سبحانه وتعالى متفرّد بالأزلية، ولا حقّ لأحد أن يوصف شيئاً غير الله تعالى بالقدم والأزلية.

تنبيه

1ـ قولنا بحدوث العالم لا يعني وجود مدّة بين الله تعالى وأوّل المحدثات، لأنّ الأوقات محدثة، بل المقصود أنّه تعالى قبلها.

2ـ وصفه تعالى بكان لا يعني تحديده تعالى في إطار الزمان، بل معنى ذلك كما قال الإمام أمير المؤمنين (ع):

إن قيل: كان فعلى تأويل أزلية الوجود.

وإن قيل: لم يكن فعلى تأويل نفي العدم[16].

بيان المقدّمة الثانية لبرهان الحدوث: كلّ حادث يحتاج إلى مُحدِث:

هذه المقدّمة بديهية، ولهذا فهي غنيّة عن الإثبات بالدليل والبرهان.

ويطلق على هذه المقدّمة بـقانون العلية، وهو قانون عام شامل، ويعتبر الأساس لجميع المساعي العلمية والعادية للبشرية.

دور قانون العلية في إثبات الصانع لهذا العالم

1ـ قال الشيخ الصدوق: [لولا قبول قانون العلية لجاز] وجود كتابة لا كاتب لها، ودار مبنية لا باني لها، وصورة محكمة لا مصوّر لها [وهذا غير معقول، فيثبت وجود صانع لهذا العالم][17].

2ـ قال الشيخ الطوسي: الذي يدل على أنّ لها ـ أي: للأجسام ـ مُحدِثاً هو ما يثبت في الشاهد من أنّ الكتابة لابدّ لها من كاتب، والبناء لابدّ له من بان، والنساجة لابدّ لها من ناسج، وغير ذلك من الصنائع[18].

3ـ قال سديد الدين الحمصي: إذا ثبت حدوث الأجسام فلابدّ لها من مُحدِث لحاجة كلّ محدَث في الشاهد في حدوثه مع الجواز إلى مُحدِث منّا، كالصياغة مثلاً والكتابة، وقد ثبت حدوث الأجسام على هذا الوجه، فيجب أن يكون لها مُحدِث[19].

تنبيه

هذه الأقوال كلّها مقتبسة من حديث شريف للإمام أمير المؤمنين (ع) قال فيه: فالويل لمن أنكر المقدِّر، وجحد المدِّبر! زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ولا لاختلاف صورهم صانع لم يلجؤوا إلى حجّة فيما ادّعوا ولا تحقيق لما وَعَوا! وهل يكون بناء من غير بان؟![20].

برهان الحدوث في أحاديث أهل البيت

1ـ قال الإمام علي (ع): الحمد لله الدالّ على قِدَمه بحدوث خلقه، وبحدوث خلقه على وجوده مستشهدٌ بحدوث الأشياء على أزليّته[21].

2ـ قال الإمام علي (ع): الحمد لله الدال على وجوده بخلقه، وبمُحدَثِ خلقِه على أزليّته[22].

3ـ قال الإمام علي (ع): بصنع الله يستدل عليه جعل الخلق دليلاً عليه[23].

4ـ سئل الإمام جعفر الصادق (ع): ما الدليل على صانع العالم؟ قال (ع): وجود الأفاعيل التي دلّت على أنّ صانعها صنعها. ألا ترى أنّك إذا نظرت إلى بناء مشيّد مبني، علمت أنّ له بانياً وإن كنت لم تر الباني وتشاهده[24].

5ـ سُئل الإمام علي الرضا (ع):… ما الدليل على حدوث العالم؟ قال (ع): أنت لم تكن، ثمّ كنت، وقد علمت أنّك لم تكوّن نفسك، ولا كوّنك من هو مثلك[25].

تنبيه

إثبات وجود الله عن طريق وجود الحوادث في برهان الحدوث، يعدّ دليلاً لأصحاب المستويات المتوسّطة في الوعي الديني، وإلاّ فإنّ دليل إثبات وجود الله تعالى عند أصحاب المستويات الرفيعة في الوعي الديني أسمى من هذا الاستدلال. ولهذا ورد عن أهل البيت (ع):

1ـ قال الإمام علي (ع): يا من دلّ على ذاته بذاته[26].

2ـ قال الإمام الحسين (ع): كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟! أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك؟! متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك؟!

ومتى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟! عميت عين لا تراك عليها رقيباً![27].

الاستنتاج

أن برهان الحدوث يعدّ وسيلة فعالة لإثبات وجود الله، حيث يربط بين مفهوم الحدوث وضرورة وجود مُحدِث، ومن خلال استعراض صفات الحدوث مثل الحركة والسكون، تثبت المقالة أن الأجسام ليست أزلية بل حادثة، مما يستدعي وجود خالق، وتُظهر المقالة أهمية هذا البرهان في تعزيز الإيمان بوجود الله، وتؤكد على استخدام العقل والنقل كوسائل للاستدلال على هذه الحقيقة.

الهوامش

[1] الصدوق، التوحيد، باب 42، ص296، ذيل ح7.

[2] انظر: السيّد المرتضى، جمل العلم والعمل، ص43.

[3] يتمثّل هذا التغيير بتبدّل بعض الأجسام إلى البعض الآخر، وتطرّق الزيادة والنقصان إليها واحتياجها في وجودها إلى غيرها

[4] الصدوق، التوحيد، باب 24، ص293، ذيل ح7.

[5] لأنّ الحركة عبارة عن كون الجسم في مكان بعد كونه في مكان آخر.

[6] المجلسي، بحار الأنوار، ج57، باب 1، ص36، ح9.

[7] الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطبة 163، ص307.

[8] الشريف الرضي، نهج البلاغة، باب 11، ح12، ص141.

[9] الشريف الرضي، نهج البلاغة، باب 2، ح11، ص48.

[10] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح20، ج66.

[11] الصدوق، علل الشرائع، ج2، باب 385، ح81 ، ص607.

[12] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح290، ص73.

[13] الصدوق، التوحيد، باب 42، ح6، ص290.

[14] الصدوق، التوحيد، باب 47، ح2، ص307.

[15] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح32، ص74.

[16] الصدوق، التوحيد، باب 2، ح27، ص71.

[17] الصدوق، التوحيد، باب 42، ذيل ح6، ص292.

[18] الطوسي، الاقتصاد، قسم 1، فصل 1، ص49.

[19] الحلبي، غنية النزوع، ج2، فصل 2، ص26.

[20] المجلسي، بحار الأنوار، ج3، كتاب التوحيد، ب 3، ح1، ص26.

[21] الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطبة 185، ص360.

[22] الشريف الرضي، نهج البلاغة، خطبة 152، ص278.

[23] المفيد، الإرشاد، ج1، ص223.

[24] الصدوق، التوحيد، باب 36، ح1، ص239.

[25] الصدوق، التوحيد، باب 42، ح3، ص286.

[26] المجلسي، بحار الأنوار، ج78، باب 82، ح19، ص339.

[27] المجلسي، بحار الأنوار، ج64، باب 4، ذيل ح7، ص142.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الحلبي، ابن زهرة، غنية النزوع إلى علمي الأُصول والفروع، تحقيق الشيخ إبراهيم البهادري، قم، مؤسّسة الإمام الصادق (ع)، الطبعة الأُولى، 1417 ه‍.

3ـ السيّد المرتضى، علي، جمل العلم والعمل، تحقيق السيد احمد الحسيني، النجف، مطبعة الآداب، الطبعة الأُولى، 1378ه‍.

4ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه‍.

5ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الاسلامي، بلا تاريخ.

6ـ الطوسي، محمّد، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، طهران، مكتبة جامع جهلستون، طبعة 1400ه‍.

7ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

8ـ المفيد، محمّد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، قم، المؤتمر العالمي لألفية الشيخ المفيد، الطبعة الأُولى، 1413 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432 ه‍

لا توجد تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *