تفسير القضاء والقدر وفق نظام الأسباب الإلهي

تفسير القضاء والقدر وفق نظام الأسباب الإلهي

کپی کردن لینک

تتناول هذه المقالة مفهوم القضاء والقدر في الاصطلاح العقائدي، حيث يتم استعراض آراء العلماء حول معانيهما وتأثيرهما في حياة الإنسان، ويركز الرأي الأول على تفسير القضاء والقدر ككتابة إلهية لكل ما يحدث في الكون، بينما يتناول الرأي الثاني كيفية ارتباطهما بأفعال العباد، كما يستعرض المقال أهمية نظام الأسباب في تحقيق الأفعال، وضرورة التمسك به لتحقيق الأهداف، مع التأكيد على أن الأسباب لا تعني الاستغناء عن إرادة الله.

المبحث الأول: معنى القضاء والقدر في الاصطلاح العقائدي

الرأي الأوّل: القضاء والقدر عبارة عن كتابة اللّه تعالى كلّ ما سيجري في الكون بتمام خصوصياته وقدره في اللوح المحفوظ، والتي منها كتابته عزّ وجلّ ما سيجري على العباد وإخبار الملائكة بذلك.

أقوال العلماء المؤيدين لهذا الرأي

1- الشيخ الصدوق: يجوز أن يقال: إنّ الأشياء كلّها بقضاء اللّه وقدره تبارك وتعالى بمعنى أنّ اللّه عزّ وجلّ قد علمها وعلم مقاديرها[1].

2- المحقّق الطوسي: والقضاء والقدر إن أُريد بهما خلق الفعل لزم المحال.. والإعلام ـ أي: وإن اُريد بهما الإعلام والإخبار ـ صحّ مطلقاً.

3- العلاّمة الحلّي: أنّه تعالى قضى أعمال العباد وقدّرها ـ فإذا قلنا ـ أنّه تعالى بيّنها وكتبها وأعلم أنّهم سيفعلونها فهو صحيح، لأنّه تعالى قد كتب ذلك أجمع في اللوح المحفوظ وبيّنه لملائكته[2].

خلاصة هذا الرأي: القضاء والقدر ينقسم إلى قسمين:

1- القضاء والقدر العلمي: وهو علم اللّه الذاتي بما سيجري من أُمور في الخلق مع علمه تعالى بالحدود والمقادير المحيطة بها، والعلم بعلّتها التامة الموجبة لها.

2- القضاء والقدر الفعلي العيني: وهو تسجيل اللّه لهذا العلم في لوح المحو والإثبات، وتدوين كلّ فعل مقدّر بالمقادير ومستند إلى علّته التامة الموجبه له.

الحكمة من كتابة المقادير وتدوينها: إنّ اللّه تعالى لا يحتاج إلى كتابة المقادير، وهو منزّه عن السهو والنسيان، وإنّما المقادير تدوّن لكي تتلقاها الملائكة كأوامر، فتقوم بإنجاز الأعمال الموكّلة بها وتنفيذها بإذن اللّه، ومنه قوله تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً[3]، والمقصود من المدبرات كما ورد في التفاسير هي الملائكة التي تدبّر شؤون الخلق.

عمل الملائكة: إنّ لكلّ حدث في هذا العالم ـ إضافة إلى العلل والأسباب المادية ـ علل وأسباب غيبية خافية علينا، بحيث لا يمكننا معرفتها بالحس ورصدها بالتجربة، وتعتبر الملائكة من هذه الأسباب الغيبية حيث إنّها تقوم بمهمات خاصة في هذا العالم.

الرأي الثاني: حول معنى القضاء القدر اصطلاحاً

القضاء: إنّ القضاء الإلهي في أفعال العباد يعني أنّه تعالى: قضى في أفعالهم الحسنة بالأمر بها، وقضى في أفعالهم السيئة بالنهي عنها.

القدر: إنّ القدر الإلهي في أفعال العباد يعني أنّه تعالى بيّن مقادير أوامره ونواهيه للعباد، ووضّح لهم تفاصيل هذه التكاليف، وأدلة هذا الرأي:

1- قال الإمام علي بن موسى الرضا (ع):… ما من فعل يفعله العباد من خير وشرّ إلاّ وللّه فيه قضاء، فسأله الراوي: فما معنى هذا القضاء؟ قال (ع): الحكم عليهم بما يستحقونه على أفعالهم من الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة[4].

2- فسّر الإمام أمير المؤمنين (ع) القضاء والقدر لمن سأله عنهما بأنّهما الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية.

فلما سُئل الإمام (ع): فما القضاء والقدر الذي ذكرته يا أمير المؤمنين؟ قال (ع): الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية، والتمكين من فعل الحسنة وترك المعصية، والمعونة على القربة إليه، والخذلان لمن عصاه، والوعد والوعيد والترهيب. كلّ ذلك قضاء اللّه في أفعالنا وقدره لأعمالنا[5].

3- قال الإمام أمير المؤمنين (ع) للشخص الذي فهم معنى الجبر من القضاء والقدر: … لعلك ظننت قضاءً لازماً وقدراً حاتماً! ولو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد. إنّ اللّه سبحانه أمر عباده تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلّف يسيراً ولم يكلّف عسيراً، ولم يُعص مغلوباً، ولم يطع مُكرِهاً، ولم يرسل الأنبياء لعِباً، ولم ينزل الكتب للعباد عبثاً، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا: ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ[6]،[7].

أقوال العلماء المؤيدين لهذا الرأي

1- قال الشيخ الصدوق حول القضاء والقدر: اعتقادنا في ذلك قول الصادق (ع) لزرارة حين سأله حول ما تقول يا سيدي في القضاء والقدر؟ قال (ع): أقول: إنّ اللّه تعالى إذا جمع العباد يوم القيامة سألهم عما عهد إليهم[8] ولم يسألهم عما قضى عليهم[9].

توضيح ذلك: إذا جمع اللّه تعالى العباد يوم القيامة، فإنّه لا يسألهم إلاّ عن أعمالهم التي عهد إليهم، فأمرهم بالحسن منها، ونهاهم عن القبيح منها[10].

2- قال الشيخ الصدوق: يجوز أن يقال: إنّ الأشياء كلّها بقضاء اللّه وقدره تبارك وتعالى بمعنى …: له عزّ وجلّ في جميعها حكم من خير أو شر، فما كان من خير، فقد قضاه بمعنى أنّه أمر به وحتمه وجعله حقاً، وعلم مبلغه ومقداره، وما كان من شر فلم يأمر به ولم يرضه، ولكنه عزّ وجلّ قد قضاه وقدّره بمعنى أنّه علمه بمقداره ومبلغه وحكم فيه بحكمه[11].

المبحث الثاني: تفسير القضاء والقدر وفق نظام الأسباب

إنّ تحقّق كلّ شيء في هذا العالم بحاجة إلى وجود مجموعة أسباب وعلل تسبقه، ومن مجموع هذه العلل الناقصة تتكوّن العلة التامة التي تؤدّي إلى تحقّق ذلك الشيء.

قال الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع): أبى اللّه أن يجري الأشياء إلاّ بأسبابها، فجعل لكلّ شيء سبباً [12].

معنى القضاء: القضاء عبارة عن حتمية وقوع الشيء ووصوله إلى مرتبة ضرورة التحقّق عند اجتماع علله الناقصة وتكوين علّته التامة التي تؤدّي إلى تحقّقه.

مثال: إنّ عملية احتراق الخشب بالنار لا تتحقّق إلاّ بعد: 1- توفّر الشروط المطلوبة، من قبيل: تماس النار بالخشب ووجود الأوكسجين و..، 2ـ ارتفاع الموانع من قبيل: وجود بلل أو رطوبة في الخشب و …

فإذا وجدت النار، وتوفّرت الشروط المطلوبة، وارتفعت الموانع، فحينئذ تتكوّن العلّة التامة، فيصل الأمر إلى مرتبة القضاء، فيتحقّق الاحراق، وأمّا إذا انتفى جزء من هذه الأجزاء المكوّنة للعلّة التامة، فإنّ المعلول ينتفي في الخارج، فلا يصل الأمر إلى مرتبة القضاء، ولا يتحقّق الاحراق.

معنى القدر: القدر عبارة عن الحدود والخصائص التي يتّصف بها الشيء حين تحقّقه من جهة الزمان والمكان والكمية والكيفية والأُمور الأخرى التي بها يتعيّن الشيء ويتميّز عن غيره.

بعبارة أُخرى: القضاء يعني بلوغ أسباب وقوع كلّ فعل إلى حدّ العلّة التامة المؤدّية إلى تحقّق الفعل. أي: وصول الفعل بعد اجتماع جميع علله الناقصة وتكوين علّته التامة إلى مرتبة التحقّق.

والقدر يعني: أنّ الأسباب المكوّنة للعلّة التامة لا تعمل إلاّ في إطار المقادير التي حدّدها اللّه تعالى لها.

معنى القضاء والقدر الإلهي في أفعال العباد

إنّ كلّ شيء في هذا العالم ومنها أفعال العباد لا تتحقّق إلاّ في إطار الأسباب التي جعلها اللّه تعالى في هذا العالم.

معنى القضاء الإلهي في أفعال العباد

إنّ معنى قولنا: لا تتحقّق أفعالنا إلاّ بقضاء اللّه تعالى، أي: لا تتحقّق أفعالنا إلاّ من خلال العلل والأسباب، وكلّ فعل من أفعالنا إذا اجتمعت العلل الناقصة لتحققه، وبلغت مرحلة العلّة التامة، فإنّ تحقّق هذا الفعل يصل إلى مرحلة القضاء.

فيقال: تحقّق هذا الفعل بقضاء اللّه، أي: تحقّق هذا الفعل نتيجة النظام السببي الذي جعله اللّه تعالى وسيلة لتحقّق هذا الفعل.

تنبيه: لا يصل فعل الإنسان إلى مرحلة التحقّق ـ أي: مرحلة القضاء ـ إلاّ بعد اجتماع جميع العلل الناقصة المؤدّية إلى تكوين العلّة التامة التي تكون السبب الأساسي لتحقّق الفعل.

ولا يخفى بأنّ إحدى العلل المؤثّرة في تحقّق كلّ فعل من أفعال الإنسان الاختيارية هي اختياره لذلك الفعل. وهذا الاختيار يشكّل إحدى العلل والأسباب المؤدّية إلى تشكيل العلّة التامة للفعل الذي سيصدر منه، إذن: إنّ اختيار الإنسان سبب كباقي الأسباب، وجزء من العلل المؤثّرة في تحقّق أفعاله.

معنى القدر الإلهي في أفعال العباد

إنّ معنى قولنا: لا تتحقّق أفعالنا إلاّ بقدر اللّه، أي: لا تتحقّق أفعالنا إلاّ في دائرة الحدود التي منحها اللّه للأسباب، فمن تمسّك بسبب، فإنّ هذا السبب لا يترك أثره إلاّ بمقدار ما جعل اللّه فيه من قوّة وقدرة وغيرها من الخصوصيات.

الأدلة الروائية المؤيّدة لهذا الرأي

1- ورد أنّ الإمام علي (ع) عدل من عند حائط مائل ومشرف على السقوط إلى مكان آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء اللّه ؟! فقال (ع): أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه[13].

معنى الحديث: إنّ الحائط يسقط عند توفّر علّته التامة، فإذا سقط فإنّه يسقط بقضاء اللّه تعالى، أي: وفق نظام الأسباب الذي جعله اللّه تعالى في هذا العالم.

وبما أنّ اللّه تعالى جعل اختيار الإنسان من جملة الأسباب، وقدّر أن يكون الإنسان مختاراً ومحدداً لمصيره، فإنّ العدول عن الحائط المشرف على السقوط إلى مكان آخر أيضاً يكون من قدر اللّه تعالى، لأنّه يتم عن طرق التمسّك بالأسباب التي خلقها اللّه تعالى، ومن هذه الأسباب هي كون الإنسان مختاراً.

ولهذا قال الإمام علي (ع): أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه.

2- سُئل الإمام جعفر بن محمّد الصادق (ع) عن الرقي[14] هل تدفع من القدر شيئاً؟ فقال (ع): هي من القدر[15].

معنى الحديث: إنّ الأذى الذي يصيب الإنسان إنّما يصيبه عن طريق الأسباب، ولهذا يكون هذا الأذى من القدر، أي: من الأُمور التي تصيب الإنسان في إطار النظام السببي، وبما أنّ الأسباب يسلب بعضها أثر الآخر، من قبيل: إزالة النار عن طريق صبّ الماء عليها، فإنّ الإمام (ع) يعتبر الرقية ـ التي يتعوّذ بها الإنسان من الآفات ـ سبباً من الأسباب التي تردع الآفات وتصون الإنسان من أذاها.

ولهذا اعتبر الإمام (ع) الرقية من القدر، أي: من الأسباب التي يدفع الإنسان بها أثر الأسباب الأخرى من قبيل الآفات.

بعض السنن الإلهية المذكورة في القرآن الكريم

1- وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكات مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ[16].

2- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ[17].

3- وَمَنْ يَتَّقِ اللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[18].

4- ذلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ[19].

إِنَّ اللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْم حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ[20].

6- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ[21].

7 ـ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ[22].

8 ـ وَما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ[23].

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً[24]، أي: من سنن اللّه تعالى ثبات سننه وعدم تبدّلها وعدم تحوّلها.

10ـ قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ[25]، أي: إنّ اللّه تعالى جعل أيدي المؤمنين سبباً لتعذيب الكفار.

ضرورة التمسّك بنظام الأسباب

1- إنّ أسباب التقدّم والعمران والتطوّر مبذولة للجميع، ومن يتمسّك بها يصل إليها ـ بإذن اللّه تعالى ـ سواء كان برّاً أو فاجراً، مؤمناً أو كافراً.

2- إنّ الذي يكتشف السنن الكونية، ويتعرّف عليها بدقّة يكون قادراً على تسييرها والتحكّم بها، ولكن الغافل عنها يكون أسيراً بيدها تتحكّم به كيفما تشاء وهو مغمض العينين!

3- ينبغي للإنسان الأخذ بكافة الأسباب التي أوجدها اللّه تعالى، والتعامل معها في صعيد الحياة وتطويرها والسعي للاستفادة منها بأقصى حدّ ممكن من أجل الوصول إلى النتائج المطلوبة.

4 ـ يكون الإنسان بمقدار إلمامه بالسنن الكونية قادراً على تفجير طاقاته الكامنة وتنمية مواهبه واستعداداته واقتحام الموانع التي تمنعه من بلوغ أهدافه السامية.

5- إنّ من الأُمور التي ينبغي الالتفات إليها هي أنّ كلّ سبب له من التأثير ما يختلف عن السبب الآخر، وبما أنّ الأشياء تتعرّض في كلّ آن لأسباب مختلفة، فلهذا يكون لكلّ منها اتّجاهٌ خاصٌّ يختلف عن غيرها.

6- إنّ سعي الإنسان لاكتشاف السنن عمل عبادي، لأنّ به يوفّر الإنسان لنفسه ولغيره الأرضية المناسبة لنيل الأهداف العبادية، من قبيل استخدام التقنية لتسهيل أعمال الخير وأدائها في نطاق واسع.

7- إنّ الأسباب المؤثّرة في هذا العالم لا تقتصر على الأسباب المادية فحسب، لأنّ العالم لا يقتصر على البُعد الحسي والمادي فقط، بل فيه بُعد غيبي ومعنوي، ولهذا ينبغي للإنسان أن لا يغفل عن الأسباب الغيبية والمعنوية الموجودة في الكون، من قبيل الدعاء كسبب إيجابي والحسد كسبب سلبي.

8- إنّ الواقع الفردي أو الاجتماعي لا يتغيّر بصورة عفوية، وإنّما يتوقّف ذلك على شروط، وتعتبر إرادة الإنسان الناتجة من اختياره هي الشرط الأساس لحدوث هذا التغيير.

9- كلّ شيء في هذا العالم يخضع لأسبابه الواقعية ويجري ضمن قانون محكم ومخطّط دقيق، والصدفة إنّما هي حدث خفيت علينا أسبابه.

10- إنّ فشل الإنسان وعدم تمكّنه من الوصول إلى أهدافه في دائرة الأسباب لا يدل على أنّ اللّه تعالى لا يريد حتماً تحقّق هذه الأهداف، بل قد يكون ذلك نتيجة وجود عوامل مجهولة تقف دون وصول الإنسان إلى ما يريد، وعلى الإنسان أن يسعى لاكتشاف هذه الأسباب المجهولة.

11- إنّ ترك الأسباب وعدم مجاراة السنن الكونية بذريعة الاتّكال على اللّه تعالى ينشأ من قلّة العلم بالنظام الإلهي في هذا العالم، وتكون نتيجته المعيشة في دائرة الفقر والحرمان نتيجة مخالفة سنن اللّه تعالى.

12- ينبغي للإنسان أن يتجنّب في مسيرة حياته من الإفراط والتفريط المتمثّل من جهة في الإعراض عن اللّه تعالى والاتّكال على الأسباب فحسب، ومن جهة أُخرى التوكّل على اللّه من دون التمسّك بالأسباب، لأنّ هذا الأمر ليس من التوكّل، بل هو من التواكل المذموم.

13- إنّ اللجوء إلى الأسباب والمسببات لا يعني خروجها عن حيطة ملكوت اللّه سبحانه وتعالى وسلطان مشيئته، بل إنّ جميع الأسباب تعمل في ظلّ مشيئة اللّه تعالى وفي إطار هيمنته المطلقة.

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر المفسّر وفق نظام الأسباب

يندفع الإنسان الذي يؤمن بهذا المعنى من مفهوم القضاء والقدر إلى اتّباع الطريق الصحيح في جميع المراحل التالية التي يمرّ بها خلال سلوكه العملي في الحياة:

أوّلاً ـ قبل العمل

1- يندفع الإنسان إلى بذل المزيد من الجدّ والاجتهاد والسعي من أجل التعرّف على نظام الأسباب، والسير على ضوئه من أجل الوصول إلى أفضل النتائج وأجود الثمرات والانجازات.

2- يزداد اهتمام الإنسان بمسألة التخطيط واتّباع الخطوات المدروسة، لأنّه يعي بعد إيمانه بالقضاء والقدر بأنّ العالم يحكمه نظام سببي دقيق بحيث لا يمكن الوصول إلى الأهداف إلاّ عن طريق مراعاة هذا النظام.

ثانياً ـ أثناء العمل

1- يعي الإنسان بوجود نظم وعدم وجود فوضى في هذا الكون، ويدرك أنّ السنن والأسباب تمثّل التدبير الإلهي ومشيئته في كيفية وصول الإنسان إلى أهدافه في هذه الحياة.

2- يندفع الإنسان إلى التمسّك بالأسباب التي أوجدها اللّه تعالى والاستفادة منها بأقصى حدّ ممكن من أجل حصد أكبر قدر ممكن من النتائج والثمار المطلوبة.

ثالثاً ـ بعد العمل

1- إذا كانت النتيجة مطلوبة: يحمد الإنسان ربّه ويشكره على ما هيّأ له من أسباب النجاح.

2 ـ إذا كانت النتيجة غير مطلوبة:

أوّلا: لا يلوم الإنسان نفسه، ولا تضعف عزيمته، ولا يشعر بالحسرة والندامة، لأنّه يدرك بأنّه أدّى ما كان عليه، فيسلّم أمره إلى اللّه تعالى ويحمده على كلّ حال.

ثانياً: يقوم الإنسان بدراسة الأسباب من جديد، لأنّ فشله في العمل قد يكون نتيجة خطئه في التمسّك بالأسباب، وقد تعينه دراسة الأسباب من جديد إلى معرفة الطريق الصحيح الذي يوصله إلى هدفه المطلوب.

تنبيه: إنّ النتيجة الحاصلة من التمسّك بالأسباب تختلف من شخص إلى آخر، لعدّة عوامل منها اختلاف الناس فيما وهبهم اللّه تعالى من استعداد وقدرة وقابلية، وينبغي للإنسان أن يرضى بما قدّر اللّه تعالى له من استعداد وقدرة، وليس عليه سوى السعي في إطار ما لديه من قابلية، كما ينبغي للإنسان أن يعلم بأنّ المواهب التي أعطاها اللّه له ليست مزايا، بل هي وسيلة لاختباره في هذه الحياة، وسيحاسب اللّه تعالى كلّ إنسان حسب ما يمتلك من هذه المواهب.

آداب التمسّك بنظام الأسباب: ينبغي للإنسان حين تمسّكه بالأسباب أن:

1ـ يتّكل ويعتمد على اللّه تعالى لا على الأسباب.

2ـ يعي بأنّ اللّه تعالى هو الذي هيّأ له الأسباب ويسّر له السعي والعمل.

3ـ يعلم حين العمل بأنّه لم يستطع ذلك إلاّ بحول اللّه تعالى وقوّته.

4- يستعين بخالق الأسباب وهو اللّه تعالى، ولا يغفل عنه عند تمسّكه بالأسباب.

القول باستقلال نظام الأسباب

ذهب البعض إلى القول باستقلال الأسباب واستغنائها عن اللّه تعالى، وقالوا بأنّ اللّه تعالى كفّ يده عن العالم، وفوّض الكون بيد نظام الأسباب والمسببات، ويرد عليه:

1- إنّ وصول الإنسان إلى الأهداف عن طريق التمسّك بالأسباب لا يعني انعزال هذه الأسباب عن اللّه تعالى، بل هذه الأسباب ـ في الواقع ـ هي النظام الذي أراد اللّه تعالى أن يتمّ من خلاله تحقّق الأشياء في هذا العالم.

2- إنّ تحقّق الأُمور عن طريق الأسباب في هذا العالم لا يعني خروج الأمر عن إرادة اللّه تعالى، لأنّ هذه الأسباب ـ في الواقع ـ لا تمتلك التأثير المستقل، ولا تعمل بنفسها، بل تعمل بقدرة اللّه تعالى، وفي ظل مشيئته.

3- إنّ الأسباب الموجودة في هذا العالم لا تحدِّد قدرة اللّه تعالى أبداً، ولا يكون الباري مغلول اليدين أمام الأسباب التي وضعها بنفسه، بل اللّه تعالى كما كانت له القدرة على إيجادها، فله القدرة على تغييرها ومحوها أو إثباتها كيفما يشاء.

تنبيه: إنّ التصّرف الإلهي في الكون لا يعني بالضرورة تبديل وخرق السنن الطبيعية الموجودة في هذا العالم، بل شاء اللّه تعالى أن يكون تصرّفه في الكون وفق المجرى الطبيعي وحسب الأسباب الموجودة فيه.

النتيجة: إنّ القول باستقلال الأسباب يؤدّي إلى: أوّلا: تحويل نظام الأسباب إلى أوثان تُعبد من دون اللّه، ثانياً: عزل اللّه تعالى عن سلطانه وتنفيذ إرادته في هذا العالم، ثالثاً: سلب روح عبودية اللّه تعالى من الإنسان خلال تعامله في الحياة.

للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابط التالي: 1ـ مسألة القضاء والقدر وأسباب النهي عن الخوض، 2ـ الرضا بالقضاء والقدر وأقسامه، وفهمه الصحيح.

الاستنتاج

أن القضاء والقدر يمثلان مفهومين مركزيين في العقيدة الإسلامية، حيث يشيران إلى كتابة الله لكل ما يحدث في الكون في اللوح المحفوظ، ويوضح الرأي الأول أن القضاء والقدر يتضمنان علم الله بما سيحدث، بينما يركز الرأي الثاني على كيفية تأثير الأفعال الإنسانية ضمن إطار القدر، كما تتناول المقالة أهمية نظام الأسباب في تحقيق الأفعال، مع التأكيد على أن الأسباب لا تعمل بشكل مستقل عن إرادة الله.

الهوامش

[1] انظر: الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادة قضي.

[2] الصدوق، التوحيد، باب 6، باب القضاء والقدر و…، ذيل ح32، ص375.

[3] النازعات، 55.

[4] الحلّي، كشف المراد، مقصد 3، فصل 3، مسألة 8، ص433.

[5] انظر: المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تفسير آيات القضاء والقدر، ص56.

[6] ص، 27.

[7] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب 1، ح18، ص12.

[8] المجلسي، بحار الأنوار، ج5، كتاب العدل والمعاد، أبواب العدل، باب 3، القضاء والقدر…، ح20، ص96.

[9] الشريف الرضي، نهج البلاغة، باب المختار من حكم أمير المؤمنين، حكمة 78، ص666.

[10] أي: عمّا كلّفهم به.

[11] الصدوق، الاعتقادات، باب 6، الاعتقاد في الارادة والمشيئة، ص10.

[12] الكليني، الكافي، ج1، كتاب الحجّة، باب معرفة الإمام والردّ عليه، ح7، ص183.

[13] الصدوق، الاعتقادات، باب 7، باب الاعتقاد في القضاء والقدر، ص16.

[14] الرقي جمع رقية، وهي ما يتعوّذ بها الإنسان من الآفات.

[15] الصدوق، الاعتقادات، باب7، باب الاعتقاد في القضاء والقدر، ص16.

[16] الأعراف، 96.

[17] الأنفال، 29.

[18] الطلاق، 2 ـ 3.

[19] الأنفال، 53.

[20] الرعد، 11.

[21] البقرة، 22.

[22] إبراهيم، 7.

[23] القصص، 59.

[24] فاطر، 43.

[25] التوبة، 14.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الحلّي، محمّد، كشف المراد، شرح العلّامة الحلّي، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، 1413 ه‍.

3ـ الراغب الإصفهاني، حسين، المفردات في غريب القرآن، قم، دفتر نشر الكتاب، الطبعة الثانية، 1404 ه‍.

4ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه‍.

5ـ الصدوق، محمّد، الاعتقادات في دين الإمامية، تحقيق عصام عبد سيّد، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414 ه‍.

6ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

7ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

8ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

10ـ المفيد، محمّد، تصحيح اعتقادات الإمامية، تحقيق حسين درگاهي، بيروت، دار المفيد، الطبعة الثانية، 1414ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحسون، علاء، العدل عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، طبعة 1432ه‍.