تُعد واقعة الغدير واحدة من أبرز الأحداث التاريخية في السيرة النبوية، حيث تمثل نقطة فارقة في تاريخ الأمة الإسلامية، وقد ألقى النبي (ص) خطبته الشهيرة في يوم غدير خم، التي أعلن فيها عن ولاية الإمام أمير المؤمنين (ع)، مما جعلها حدثا جماهيريا شهدته أعداد غفيرة من المسلمين.
لقد اتفق علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم، على ثبوت هذه الواقعة وأهميتها، حيث أوردتها كتب السير والحديث، واعتُبرت من الأحداث المحورية التي تؤكد مكانة أهل البيت (ع) في الإسلام، والبحث عنها يقع في نقاط:
1ـ الاتفاق علی ثبوتها
لا شك لدی علماء المسلمین في ثبوت واقعة الغدير وأصل ما جاء فیها من عقد الولاء للامام أمير المؤمنين (ع)، فأوردها عامة أهل السیر في أحداث السیرة النبویة في أحداث شهر ذي الحجة من السنة العاشرة، وتلقّاه الجمیع تلقّي حدث تاريخي ظاهر ومعلوم في عداد الأحداث التاریخیة الکبیرة من هذا القبیل.
وكذلك قد نقلها أهل الحدیث في کتبهم وصحّحها عامة علماء الحدیث ونقّاده فیما اهتموا به من السیرة أو ألفوه في فضائل الامام علي بن أبي طالب (ع).
هذا وقد انفرد نادر من أهل السیرة والمحدثین بإهمال واقعة الغدير، ولکن الاهمال لا يعني النفي کما هو مقرر لدی أهل العلم کافة، ولذلك فهو لا يعني وجود خلاف في الموضوع ولا ينفي وضوح ثبوت الحدیث وفق المقاییس المعتمدة.
فمن النادر بین أهل السیر ما صنعه ابن هشام في السیرة النبویة التي هي اختصار لسیرة ابن اسحاق، فحذفها من سیرته بعنوان التخلیص والایجاز، فأوجب التعجب من صنیعه هذا، رغم أن الاعراض في مثله لا یعتبر انکارا لواقعة الغدير عند علماء التاریخ.
لکن ذلك أمر لا یجوز مثله بحال فانه إخلال بالمنهج وبمقتضیات الامانة، ولا یصح إهمال مثل واقعة الغدير والخطبة وهي حدث جماهیری عام حضره الالاف من المسلمین، لا سیما أن بناء التاریخ علی ذکر الأحداث المعهودة دون المشاحّة في رجال الاسناد کما هو دأب المحدثین من أصحاب الصحاح کما هو معلوم لأهل الممارسة.
ومن النادر بین أهل الحدیث اعراض البخاري عن ایراد هذا الحدیث من دون قدح صریح، وقد استدرکه علیه جماعة من النقاد المتقدمین كالذهبي والمتأخرین کالألبان، وقالوا: ان الحدیث صحیح علی شرطه بمعنی أن الرجال الذین رووه قد روی لهم البخاري في صحیحه، ولم یکن له أن یمل هذا الحدیث بتاتا.
وينبغي الالتفات في هذا السیاق إلى أن عدم ذکر واقعة الغدير لا یدل علی انکارها ونفي صحتها که هو معروف عند أهل فن الحدیث، اذ قد علم من خلال المقارنة والممارسة والتأمّل أن للاعراض عن ذکر الحدیث أسبابا لدی بعض أهل الحدیث كالبخاري غیر الشك في صحته مثل تجنب تمسّك أهل البدع به، وکانت خطبة الغدیر هي المستمسك الأهم لإمامة أهل البیت (ع) التي اعتبرت بدعة لدی مدرسة الخلافة.
وأیا کان فإن إهمال واقعة الغدير حالة نادرة، لکنها لا تعني انکار صدورها من أهملها عند أهل العلم.
نعم، ربما وقع موقف شاذ صریح في التشکیك في ثبوت أصل واقعة الغدير، وهو ما صدر من ابن تیمیة في بعض کلماته فوقع موضعا للنقد في هذا الموقف، واعتبر خروجا ظاهرا عن الموازین العلمیة، واعتبر سببه ضربا من التسرّع، وقد یکون منشأه التحوّط لسلامة الاعتقاد بمدرسة الخلافة.
وقد عهدت من ابن تیمیة زلّات متعددة من هذا القبیل في شأن الروایات التي ترد في فضائل أهل البیت (ع)، وذلك معروف لمن سبر منهجه، وقد انتقده العدید من أهل العلم من بعده.
هذا، وقد انقرض مثل هذا الموقف النادر والشاذ في أوساط المسلمین، افقد اتفق جمیع علماء الحدیث وأهل الفن فیه علی صحة هذه الوا قعة وخطبتها وفق الموازین العامة للجرح والتعدیل.
ولذلك یمکن القول ان هذا الأمر هو متفق علیه بین علماء الحدیث ممن تعرض لتقییم روایة واقعة الغدير بنحو ما، فهناك من أوردها في کتابه الذي ألفه في الأحادیث الصحیحة والحسنة، ومن قیّمها في التعلیق علی کتب الحدیث وشرحها، أو من تطرّق لها ضمن مباحثه الکلامیة، فلا تجد أحدا أنکر اعتبار هذا الحدیث عدا شاذ صرح علماء الفن بأنه غیر جار عی الموازین العلمیة ونشأ إنکاره من عدم المراجعة والاطلاع علی طرق الحدیث.
ولیس في عدم روایة البخاري واقعة الغدير شهادة نافیة لثبوتها لدی أحد من صیارفة الحدیث ونقاده، وانما ذلك ما یظنه عوام الناس أو بعض المبتدئین، أو یتمسك به بعض أهل العصبیة والجدال، لأن من الواضح للغایة بالمتابعة والمقارنة أن البخاري ومسلم لم یستوعبا کل الأحادیث الصحیحة علی شرطهما وترکا بعضها.
والدلیل القاطع الواضح علی ذلك هو ورود کثیر من الاحادیث التي ترکاها بعین الأسانید التي رویا بها الأحادیث التي صححاها وأورداها وبروایة الرواة الذین رووا لهم بأعیانهم، وواقعة الغدیر من مصادیق هذه الحالة، فإن العدید من طرقها صحیحة وفق شروط البخاري ومسلم کا صرح به جماعة من أهل العلم، ومنهم الذهبي والالباني من المتأخرین.
2ـ ثبوت الواقعة بالثبوت التاریخي والمتواتر والصحیح
إن مستوی اعتبار هذا الحدیث لیس مقصورا علی الخبر الصحیح باصطلاح علماء الحدیث، بل یرقی إلى مستوی الحدث التاريخي المشهور، بل إلى الخبر المتواتر کما صرح بذلك جماعة من المحدثین النقاد من أهل السنة.
وینبّه علی ذلك أن بعض المحدثين وأصحاب السير خصه بکتاب مفرد منهم:
1ـ الطبري صاحب التاریخ والتفسیر، وهو من أئمة الفقه، حیث بلغه تشکیك بعضهم في هذا الحدیث، فاهتم بإثباته وألّف فیه کتابا مفردا في جزأین[1].
2ـ ابن عقدة الزیدي وهو حافظ مشهور، فقد قیل انه استوعب طرق الحدیث، وقد وقف علیه ابن حجر العسقلاني وقال عن طرقه: منها صحاح ومنها حسان[2]، واهتم جماعة من أهل النظر والتتبّع برصد طرق روایة واقعة الغدير ورواتها وشواهدها في التاریخ والأدب.
وتوضیح ذلك أن هناك ثلاثة أنواع من الطرق معهودة لثبوت الوقائع والأقوال – وقد ثبتت واقعة الغدير بها جمیعا ـ.
الطریق الأول: الطریق التاریخي
والمراد به أن الواقعة الاجتماعیة العامة یحصل الوثوق برواتها وفق المعتاد في روایة التاریخ ما لم یکن هناك معارض لها، بالنظر إلى أن خلق واقعة واسعة بهذا الحجم التي حضرها عشرة آلاف من الرجال عی آقل تقدیر، وقیل بل عشرات الألوف، وفیهم جمهور المهاجرین والأنصار من غیر أن تکون قد وقعت أصلا.
أو تحریف نصوصها إلى غیر وجهها، مظنة للانکشاف أو الریبة في شأن الراوي، وذلك ما یتجنبه الرواة حتی کثیر من الضعفاء منهم، ولیس هناك من حدیث معارض ينفي واقعة الغدير.
وعلی هذا الطریق یعوّل عموما في اثبات أحداث السیرة النبویة، فإنها لم تُرو روایة مسندة ثقة عن ثقق غالبا، بل هي أخبار مراسیل رواها الاخباریون المعنیون بالسیرة في سیاق حکایة التاریخ.
وهذا الطریق یتحقق بوضوح في شأن خطبة الغدیر، لأن من غیر الوارد أن تکون حکایة واقعة استثنائیة وقعت في أثناء الطریق بهذا الحجم الواسع الذي یدعی فیها حضور ألوف من الناس بما فیهم عامة الوجوه والقادة من رجال المهاجرین والانصار حکایة ملفقة لأمر لم یقع بتاتا.
وهذا أمر ظاهر وفق قواعد اثبات التاریخ، فواقعة الغدير إنما هي من قبیل الوقائع الکبیرة التي لا یتأتی تزویرها في عصر قریب منها کما هو الحال في الحروب والغزوات الکبری.
والواقع أن حدیث الغدیر أولی بالثقة من کثیر من حوادث السیرة النبویة التي یعتمدها عامة المؤرخین والمحدثین وأصحاب السیر، لأن حجم واقعة الغدير أوسع، ومؤشرات کذبها لو کانت کاذبة ستکون أوضح من الوقائع الأخری، لا سیما أنها تضمّنت موضوعا حساسا وخطيرا لدی جمهور المسلمین.
هذا، وينتمي الطریق التاريخي في الحقیقة إلی نوع أعم، وهو الطریق الذي یعوّل فیه علی احتفاف الخبر بالقرائن المؤکدة بأنواعها المختلفة من الاعتبارات التاریخیة وتعدد الرواة واذعان المؤرخین غیر المتهمین والشواهد الأخری.
الطریق الثاني: الروائي المتواتر
هو الطریق الروائي المنقول علی سبیل التواتر، والمراد به أن تتعدد حکایة الخبر من طرق متعددة یوثق بأنها لا تنشأ عن أصل واحد، وقد اقتفی بعضهم أثر بعض آخر.
ومعرفة تحقق التواتر في أحداث السیرة النبویة وأقوال النبي محمد (ص) نوعا بحاجة إلی الاطلاع علی تاریخ الحدیث ومصادره وأحوال الرواة في الجملة، والا احتمل الناظر البعید عن مثل ذلك – في بادي النظر – وضع الحدیث ابتداء من قبل واحد، ثم اقتفاء الضعفاء ایاه واسناده إلى آخرین حتی تراءت له طرق مستقلة وهي لیست كذلك، بل الأصل فیها شخص واحد قد وضع الحدیث.
وقد ثبت تواتر حدیث الغدیر في جملة: من کنت مولاه فهذا علي مولاه، عند جماعة من النقاد من محدثي أهل السنة، الذین اطلعوا علی سعة طرقه ومصادره، وهو أمر ظاهر شریطة أن یکون الباحث مجهزا بمعرفة علوم الحدیث وتاریخه ومصادره وطبقات الرواة وأحواهم.
الطریق الثالث: الروائي المعتمد
وهو الطریق الروائي المعتمد ویوصف بالصحیح أو الحسن، وهو عند المحدثین علی ضربین:
١. الطریق المعتمد علی الثقة بآحاد الرواة
الطریق المعتمد علی الثقة بآحاد الرواة فی جمیع طبقات الاسناد المتصل حتی ينتهي إلى النبي (ص).
ومن البديهي عند المحدثین النقاد تمامیة هذا الطریق في شأن واقعة الغدیر، مهما تشدّد الباحث في قبول الروایة واعتبر شروطا أشد في قبوها، ولذلك صرح جماعة من النقاد بثبوت واقعة الغدير علی شروط البخاري ومسلم في الصحیحین، بل هذا الحدیث أولی بالثقة من جلّ روایات الصحیحین حسب أدنی مقارنة بین طرقها وأوصاف رجاها، ولذلك صرّح غیر واحد من أهل العلم كالذهبي وابن حجر بصحة العدید من طرق الروایة، بینما توقف بعضهم في صحة بعض أحادیث الصحیحین.
۲. الطریق المعتمد علی تقویة الطرق الحسنة
الطریق المعتمد علی تقویة الطرق الحسنة بعضها بعضا من خلال الشواهد والمتابعات وفق ضوابط محددة في علم درایة الحدیث.
وهذا طریق معروف عند المحدثین ولا یندرج به الحدیث عندهم في عنوان الصحیح لذاته، ولکنه یوصف بأنه صحیح لغیره، فهم قد یعتمدون علی حدیث الراوي من جهة اقترانه بغیره أو ورود اطریق آخر یشهد له ویساعد علیه.
وجملة من طرق واقعة الغدیر هي طرق حسنة واجدة لشرائط الثقة بالتقویة والمتابعات کما ذکره النقّاد.
3ـ متن الحدیث
لقد اشتملت خطبة النبي محمد المصطفى (ص) في واقعة الغدیر علی أجزاء متعددة بعضها ممهدات أو متممات ولواحق وبعضها أرکان، والارکان فقرتان:
إحداهما: فقرة الولاء وهي: من کنت مولاه فهذا علي مولاه، وهذا هو المحور الاساس للحدیث.
وثانیتهما: فقرة التمسك بالثقلین، وهذه أیضا فقرة أساسیة جاءت في الحدیث قبل فقرة الولاء.
وقد اختلفت طرق الحدیث فیما تضمّنت حکایته من ركني الخطبة وهما فقرة الثقلین وفقرة الولاء وسائر ممهداته ومتمماتهما.
فاقتصر بعضها علی فقرة الثقلین في الحدیث التي تتضمّن الأمر بالتمسك بالکتاب والعترة للوقایة من الضلالة.
واقتصر بعضها الاخر علی فقرة الولاء: من کنت مولاه فهذا علي مولاه.
واشتمل بعضها علی جمل اضافیة تصف ابتداء الخطبة ومقدماتها ونهایتها.
والقاعدة المعروفة عند کافة أهل العلم أن ما اشتمل علی زیادة یعتبر أکمل مما خلا عنها ویکون حجة علی إثباتها، ولا یکون عدم اشتمال بعض آخر علیها نافیا لوجود الزیادة، لأن اقتصار الرواة علی ایراد بعض الکلام أمر متعارف، ونقل شيء لا یدل علی نفي ما عداه، لاسیما أن من المعلوم أن ما صدر من النبي الأكرم (ص) في غدیر خم کان خطبة خطب بها ولم یکن جملة أطلقها، فکان مؤلفا من جمل عدیدة بطبیعة الحال.
هذا، وقد یکون للاقتصار علی بعض الحدیث دواع طبیعیة للایجاز والتلخیص، إلا أن من الملفت إهمال بعضهم – مثل مسلم في صحیحه تبعا لبعض مشایخه – لفقرة الولاء التي هي لبّ الحدیث ومرکزه والغایة التي أراد النبي (ص) الانتهاء الیها في الخطبة بحسب سیاقها، وتلك هي قول رسول الله (ص):
من کنت مولاه فهذا علي مولاه، فاقتصر مسلم علی روایة فقرة حدیث الثقلین منه رغم أنه رواه من طریق زید بن أرقم، الذي روی عنه جماعة هذا الحدیث مشتملا علی هذه الزیادة وفق شروط مسلم في الصحیح.
علی أنه روی هذه الفقرة بلفظ ذکر فیه الثقلین، ولکن استبدل التمسّك بأهل البیت بالتذکیر بأهل البیت فقط، رغم أن المشهور في روایة زید بن أرقم وغیرها في لفظ الحدیث الامر بالتمسك، وهو الأنسب بسیاق الحدیث.
وقد صح ذلك من روایة زید بن أرقم من طرق أخری صحیحة علی شرط مسلم، ولکنه لم یشأ أن یورد الروایة بتلك اللفظة.
والواقع أن تغییب أهل البیت (ع) عن الموقع الملائم لهم ـ وفق ما تشیر إلیه نصوص الکتاب وتدلّ علیه نصوص الستة من التمیز العلمي والمعنوي والسیاسي ـ أدّی إلی ظاهرة محسوسة بسهولة ویسر في شأن النصوص والوقائع المتعلقة بهم، وهي إهمال النصوص المتعلقة بهم، وقلة طرقها، وتقطیعها، وتخفیف صیاغاتها.
لکن مع ذلك بقیت جملة من تلك الوقائع والنصوص محفوظة بطرق معتبرة تقوم بها الحجة علی المسلم.
4ـ عوامل حفظ الواقعة رغم مساعي کتمانها
ان هناك عدة عوامل ساعدت علی حفظ واقعة الغدير وأخواتها من الأحادیث المهمة الواردة في مکانة أهل البیت (ع) في هذه الأمة، وساعدت علی بقائها في مقابل التحدیات التي واجهتها من قبل الخلفاء والساسة بعد رسول الله (ص) من المنع من تدوین الحدیث ونشره علی وجه عام، ثم ما یختص بفضائل الامام أمير المؤمنين (ع) علی وجه خاص، ومن أهم تلك العوامل:
1ـ مخطط لها من قبل النبي
وقوع بعض أحادیث النبي محمد (ص) عن أهل البیت (ع) في وقائع تاریخیة جماهیرية، وهو فیما یبدو کان أمرا مخططا له من قبل النبي (ص) لأجل بقائها.
ومن مصادیق تلك الوقائع واقعة الغدیر، فقد کانت واقعة الغدير جزءا مشهودا من سیرة النبي (ص)؛ إذ کانت حدثا جماهیریا ذا ملابسات فارقة، ولم یکن قولا حدّث به بعض أصحابه، ولا حدثا اعتیادیا في المسیر، بل کان حدثا مفاجئا قیل انه غيّر لأجله الطریق بعض الشيء، وجمع لإلقائه من حضر حتی عرف المکان وهو غدیر خم بهذه الواقعة في التاریخ.
ویبدو في خصوص واقعة الغدير أن النبي الأكرم (ص) کان معنیا بهذا النوع من الاهتمام الخاص لیکون حدثا تاریخیا یتعذر محوه من ذاکرة الحاضرین ومن بعدهم، واذا کان نادر من أصحاب السیر کابن هشام في السیرة النبویة قد تجرأ علی حذفه فقد ارتکب خطأ فاحشاً.
2ـ إحیاؤها من قبل أهل البیت
کما تصدی لذلك أمیر المؤمنین بعد تولیه الخلافة في خطبه التاریخیة التي ألقاها علی جمهور أهل الکوفة المجموعة في نهج البلاغة، ومثل ذلك فعل ذریته الكرام (ع) اذ رووا هذه النصوص وأکّدوا علیها.
ولو نظرنا إلی واقعة الغدیر فإننا نجد بالنظر في کتب الحدیث عند جمهور المسلمین أن الامام أمير المؤمنين (ع) کان أبرز رواة واقعة الغدیر، وقد استشهد علیها في واقعة معروفة بالرحبة من کان یحضره من الصحابة فشهد له العدید منهم، فعدّ هؤلاء کلهم من جملة رواة الحدیث، علی أن الراوي للحدیث لم یذکر أسماء أکثر من شهد له (ع)، ولذلك قلّ عدد من تُعلم أسماءهم من الصحابة بالقیاس الی من کان یشهد بذلك.
علی أن من المعلوم أن واقعة الغدیر کانت في حجة الوداع التي حج فیها جماهیر المسلمین من المدینة وسائر الاقطار وکان فیها من المهاجرین والانصار فکانوا ألوفا، بل قیل إنهم کانوا یبلغون عشرات الالوف، ومن ثم فإنه مهما تعدّد الرواة فإنهم لا یبلغون عدد شهود الواقعة، علی أن ذكر الامام أمير المؤمنين (ع) واقعة الغدير أدی إلی تحرّي بعض الناس عنها بسؤال بعض الصحابة، وهذا من أسباب روایة بعض الرواة للواقعة عن زید بن أرقم، فإنّها جاءت في سیاق التأكّد منها بعد روایة الامام أمير المؤمنين (ع) لها.
3ـ رد فعل بعض الصحابة
ان نصب الأمویین العداء لاهل البیت (ع) مبکرا ـ من خلال سبهم، وتکفیرهم، وسعیهم إلی إکراه الصحابة وسائر المسلمین علی ذلك – ادّی إلی ردّ فعل من بعض الصحابة لاحقا، ومن المتوقع أن ذلك من أسباب روایة سعد بن أبي وقاص هذا الحدیث.
فقد طلب معاویة بن أبي سفيان من سعد أن یسب الامام أمير المؤمنين (ع) فامتنع ذاکرا بعض ما شهده من أقوال النبي محمد المصطفى (ص) الممیزة في حقه، کما یظهر مما أورده مسلم في صحیحه وأحادیث أخری، وكذلك الحال في روایة عبد الله بن عباس، فقد جاء في مقام انکار سبّه (ع) الذي أشاعه معاویة وبنو أمیة من بعده بین جمهور المسلمین[3].
4ـ وجود روح الانصاف عند البعض
وجود روح الانصاف والالتزام والتحري فی فریق من أهل العلم من الجمهور أبوا معه أن ینفوا أصل هذه الحادثة أو یشککوا فیها، أو یتوسعوا في المبررات المذهبیة لکتمان الأحادیث الواردة في شأن أهل البیت (ع) کما کان شائعا ومحمودا في أوساط جماعة واسعة من أهل الحدیث.
لأنّهم وجدوه انکارا غیر مقبول للتراث التاریخي والحدیثي المحفوظ عن السیرة النبویة، وخروجا صارخا عن الموازین العلمیة في روایة الاحادیث وتوثیقها، ومخالفا مع ما اتفق عليه المسلمون من الأمر بمودة النبي (ص) في قرباه وأهل بيته (ع)، فإن ذكر ما ورد من النبي (ص) في حقهم وفي مكانتهم من جملة المودة، حتى أن بعض أهل العلم تحملوا أذى كثيراً من المجتمع المتعصّب للخلفاء بالجهل، لكنهم لم ينثنوا عن رواية واقعة الغدير وحكايتها.
على أن هؤلاء العلماء الذين اهتموا برواية هذه الواقعة قد صرفوها ونحوها مما جاء في بيان مكانة أهل البيت (ع) عن مفادها مضطرين، لكي لا تمس شرعية الخلافة التي اعتبروها أمرا لا يجوز المساس به بحال.
وأيا كان فقد بقيت واقعة الغدير التاريخية على مر التاريخ من طرق جمهور المسلمين وثبتت ثبوتا واضحا لمن وقف على مداركها واتفق عليها أهل العلم جميعا، رغم عناية فريق من الحكام والرواة وأهل العلم بإخفائها لغايات سياسية أو مذهبية خاصة، وودوا لو أنها لم تكن.
ولذلك اقتصرنا في توضيح ثبوت الحديث على هذا الايجاز تعويلا على وضوح الأمر وجهود أهل العلم في إيضاح ذلك.
الاستنتاج
أن واقعة الغدير تُعتبر حدثا تاريخيا بارزا وثابتا، وأنها حظيت بإجماع العلماء، رغم بعض الإغفالات النادرة في كتب السير والحديث، كما أنها تُعتبر دليلاً على مكانة أهل البيت (ع) في الإسلام، مما يعزز أهمية البحث والدراسة حولها في السياقات التاريخية والدينية.
الهوامش
[1] لاحظ: ابن كثير، البداية والنهاية، ج5، ص227.
[2] لاحظ: المناوي، فيض القدير، ج6، ص282.
[3] لاحظ: مسلم، صحیح مسلم، ج۷، ص۱۲۰.
مصادر البحث
1ـ ابن كثير، إسماعيل، البداية والنهاية، تحقيق علي شيري، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأُولى، 1408 ه.
2ـ مسلم، صحيح مسلم، القاهرة، دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1412 ه.
3ـ المنّاوي، محمّد، فيض القدير شرح الجامع الصغير، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
السيستاني، محمّد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 ه، بلا تاريخ، ج1، ص85 ـ ص103.