سجن الإمام الكاظم (ع) واغتياله بأمر هارون الرشيد

سجن الإمام الكاظم (ع) واغتياله بأمر هارون الرشيد

2025-03-04

59 بازدید

ورد أن هارون الرشيد أمر بإلقاء القبض على الإمام الكاظم (ع)، ثم سجنه، ومن ثم نقل (ع) من سجن إلى سجن، وكان هارون بنفسه يراقب (ع)، إلى أن أوعز الرشيد للفضل ثم إلى السندي باغتياله (ع) بأن دس إليه السم بيد السندي.

السندي بن شاهك

ذهب أكثر المؤرخين إلى أن الرشيد أوعز إلى السندي بن شاهك الوغد الأثيم في قتل الإمام الكاظم (ع)، فاستجابت نفسه الخبيثة لذلك، وأقدم على تنفيذ أفظع جريمة في الإسلام، فاغتال سبط النبي وأزكى ذات خلقت في دنيا الوجود بعد آبائه الطيبين.

كيفية سم الإمام الكاظم

والمشهور أن الرشيد عمد إلى رطب فوضع فيه سماً فاتكاً، وأمر السندي أن يقدمه إلى الإمام (ع) ويحتم عليه أن يتناول منه.

وقيل إن الرشيد أوعز إلى السندي في ذلك، فأخذ رطباً ووضع فيه السم، وقدمه للإمام، فأكل منه عشر رطبات.

فقال له السندي: زد على ذلك.

فرمقه الإمام الكاظم (ع) بطرفه وقال له: حَسْبُكَ، قَدْ بَلَغْتَ مَا تَحْتاجُ إِلَيْهِ[1].

ولما تناول الإمام (ع) لتلك الرطبات المسمومة تسمم بدنه، وأخذ يعاني آلاماً مبرحة وأوجاعاً قاسية، وأحاط به الأسى والحزن، قد حفت به الشرطة القساة، ولازمه السندي بن شاهك الوغد الخبيث، فكان يسمعه في كل فترة أخشن الكلام وأغلظه وأقساه، ومنع عنه جميع الاسعافات ليعجل له النهاية المحتومة، وعاني الإمام العظيم في تلك الفترات الرهيبة ما لم يعانه أي إنسان، فآلام السم قد أذابت قلبه، وقطعت أوصاله، وأحزنه أي حزن انتهاك حرمته وغربته، وعدم مشاهدة أعزائه وأحبائه، وهو قد أشرف على مفارقة الحياة.

اضطراب السندي

ولما أقدم السندي على ارتكاب الجريمة الخطيرة اضطرب اضطراباً شديداً، وخاف خوفاً بالغاً من المسؤولية أمام الشيعة والعلويين، فاستدعى الشخصيات والوجوه إلى قاعة السجن، وكانوا ثمانين شخصاً – كما حدث بذلك بعض شيوخ العامة – يقول:

«أحضرنا السندي، فلما حضرنا انبرى إلينا فقال: انظروا إلى هذا الرجل هل حدث به حدث؟ فإنّ الناس يزعمون أنه قد فعل به مكروه، ويكثرون من ذلك، وهذا منزله وفراشه موسع عليه غير مضيق، ولم يرد به أمير المؤمنين – يعني هارون – سوءاً، وإنما ينتظره أن يقدم فيناظره، وها هو ذا موسع عليه في جميع أموره فاسألوه.

يقول ذلك الشيخ: ولم يكن لنا هم سوى مشاهدة الإمام (ع) ومقابلته، فلما دنونا منه لم نر مثله قط في فضله ونسكه، فانبرى إلينا وقال لنا: أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنَ التَّوْسِعَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَهُوَ عَلَى مَا ذُكِرَ، غَيْر أَنِّي أُخْبِرُكُمْ أَيُّهَا النَّفَرُ أَنِّي قَدْ سُقِيتُ السُّمَّ فِي تِسْعِ تَمْرَاتٍ، وَإِنِّي أَصْفَرُّ غَداً، وَبَعْدَ غَدٍ أَموتُ.

ولما سمع السندي ذلك انهارت قواه، ومشت الرعدة بأوصاله، واضطرب مثل السعفة التي تلعب بها الرياح العاصفة، فقد أفسد عليه الإمام (ع) ما رامه من الحصول على البراءة من المسؤولية في قتله.

مع المسيب بن زهير

كان المسيب بن زهير موكلاً بحراسة الإمام الكاظم (ع) أو أنه نقل من حبس السندي إلى داره على ما يستفاد من بعض المصادر، وكان الرجل من دعاة الدولة العباسية، وكان على جانب من الغلظة والشدة، فكان أبو جعفر المنصور إذا أراد بأحد خيراً أمر بتسليمه إلى الربيع، وإذا أراد برجل شراً أمر بتسليمه إلى المسيب.

ولما حبس الإمام (ع) عنده أثر عليه الإمام وهيمن على مشاعره، فاهتدى إلى طريق الحق والصواب، فكان من خلص الشيعة ومن حملة أسرار الأئمة.

وقد استدعاه الإمام قبل وفاته بثلاثة أيام، فلما مثل عنده قال له: يا مُسَيِّبُ.

ـ لبيك يا مولاي.

ـ إنِّي ظاعن في هَذِهِ اللَّيْلَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ، مَدِينَةِ جَدِّي رَسُولِ الله (ص) لَأَعْهَدَ إِلَى عَلِيَّ ابْنِي مَا عَهِدَهُ إِلَيَّ آبائي، وَأَجْعَلَهُ وَصِيِّي وَخَلِيفَتِي، وَآمُرَهُ بِأَمْرِي.

– يا مولاي، كيف تأمرني أن أفتح لك الأبواب وأقفالها والحرس معي على الأبواب؟!

ـ يا مُسَيَّبُ، ضَعُفَ يَقِينُكَ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِينا؟

ـ لا، يا سيدي ادع الله أن يثبتني.

ـ اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ.

ثم قال: ادْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِي دَعَا بِهِ أَصِفُ حَينَ جَاءَ بِسَرِيرِ بَلْقِيسَ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَي سُلَيْمَانَ قَبْلَ ارْتِدادِ طَرْفِهِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَلِيَّ ابْنِي بِالْمَدِينَةِ.

قال المسيب: فسمعته يدعو، ففقدته عن مصلاه، فلم أزل قائماً على قدمي حتى رأيته قد عاد إلى مكانه، وأعاد الحديد إلى رجليه، فوقعت على وجهي ساجداً شاكراً الله على ما أنعم به علي من معرفته.

والتفت الإمام الكاظم (ع) إلى المسيب فقال: يا مُسَيَّبُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاعْلَمْ أَنِّي رَاحِلٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي ثَالِثِ هَذَا الْيَوْمِ.

قال المسيب: فبكيت، فلما رآني الإمام الكاظم (ع) وأنا باك حزين قال لي: لَا تَبْكِ يا مُسَيَّبُ، فَإِنَّ عَلِيًّا ابْنِي هُوَ إِمَامُكَ وَمَوْلاكَ بَعْدِي، فَاسْتَمْسِكْ بِوَلَايَتِهِ فَإِنَّكَ لَنْ تَضِلَّ ما لَمْتَهُ.

قال المسيب: الحمد لله على ذلك[2].

إلى الرفيق الأعلى

وسرى السم في جميع أجزاء بدن الإمام الكاظم (ع)، فأخذ يعاني أشد الآلام والأوجاع، وقد علم الله أن لقاءه بربه لقريب فاستدعى السندي، فلما مثل عنده أمره أن يحضر مولى له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولى غسله، وسأله السندي أن يأذن له في تكفينه، فأبى الله، وقال: إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُهُورُ نِسَائِنَا، وَحَجَّ ضرُورَتِنَا، وَأَكْفَانِ مَوْتانا، مِنْ طَاهِرِ أَمْوَالِنَا، وَعِنْدِي كَفَني[3].

وأحضر له السندي مولاه، وثقل حال الإمام وأشرف على النهاية المحتومة، فأخذ يعاني آلام الموت، فاستدعى المسيب بن زهرة فقال له: إِنِّي عَلَى مَا عَرَّفْتُكَ مِنَ الرَّحِيلِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِذا دَعَوْتُ بِشُرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ فَشَرِبْتُهَا وَرَأَيْتَنِي قَدِ انْتَفَخْتُ، وَاصْفَرَّ لَوْنِي وَاحْمَرَّ وَاخْضَرَّ وَتَلَوَّنَ أَلْوانًا فَأَخْبِرِ الطَّاغِيَةَ بِوَفاتي.

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده حتى دعا بشربة فشربها، ثم استدعاني، فقال لي: يا مُسَيَّبُ، إِنَّ هَذَا الرِّجْسَ السِّنْدِيَّ بْنَ شاهِكٍ سَيَزْعَمُ أَنَّهُ يَتَوَلَّى غُسْلِي وَدَفْنِي، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ أَبَداً، فَإِذا حُمِلْتُ إِلَى الْمَقْبَرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِمَقَابِرِ قُرَيْشٍ فَأَلْحِدوني بها، وَلَا تَرْفَعُوا قَبْرِي فَوْقَ أَرْبَعِ أَصَابِعِ مُفَرَّجَاتٍ، وَلَا تَأْخُذُوا مِنْ تُرْبَنِي شَيْئاً لِتَتَبَرَّكُوا بِهِ، فَإِنَّ كُلَّ تُرْبَةٍ لَنا مُحَرَّمَةٌ إِلَّا تُرْبَةُ جَدِّي الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٌّ اللا، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَهَا شِفَاءاً لِشِيعَتِنَا وَأَوْلِيَائِنَا.

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيدي الرضا (ع) وهو غلام، فأردت أن: أسأله، فصاح بي سيدي موسى، وقال: أَلَيْسَ قَدْ نَهَيْتُكَ.

ثم إن ذلك الشخص قد غاب عني، فجئت إلى الإمام وإذا به جثة هامدة قد فارق الحياة فأنهيت الخبر إلى الرشيد بوفاته[4].

لقد لحق الإمام الكاظم (ع) بالرفيق الأعلى، وفاضت نفسه الزكية إلى بارئها، فأظلمت الدنيا لفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وقد خسر الإسلام والمسلمون ألمع شخصية كانت تذب عن كيان الإسلام، وتنافح عن كلمة التوحيد، وتطالب بحقوق المسلمين، وتشجب كل اعتداء غادر عليهم.

زمن شهادة الإمام الكاظم

والمشهور أن شهادة الإمام الكاظم (ع) كانت سنة ١٨٣هـ لخمس بقين من شهر رجب.

وقيل: سنة ١٨١ه‍.

وقيل: سنة ١٨٦ه‍. ‍

وكانت وفاته (ع) في يوم الجمعة وعمره الشريف كان يوم وفاته أربعاً وخمسين سنة، وكان مقامه منها مع أبيه عشرين سنة، وبعد أبيه خمساً وثلاثين سنة[5].

محل شهادة الإمام الكاظم

المشهور أن وفاته (ع) كانت في حبس السندي بن شاهك، وقيل: إنه توفي في دار المسيب بن زهير بباب الكوفة الذي تقع فيه السدرة.

وقيل: إن وفاته (ع) في مسجد هارون، وهو المعروف بمسجد المسيب، ويقع في الجانب الغربي من باب الكوفة لأنه نقل من دار تعرف بدار عمرو.

تحقيق الشرطة في الحادث

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في هذا الحادث الخطير لتبرأ ساحة هارون من المسؤولية، أما التحقيق فقد قام به السندي أولاً، والرشيد ثانياً، أما ما قام به السندي فكان في مواضع ثلاثة:

1ـ ما حدث به عمرو بن واقد

قال: «أرسل إلى السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد يستحضرني، فخشيت أن يكون لسوء يريده بي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم ركبت إليه، فلما رآني مقبلاً قال لي: يا أبا حفص، لعلنا أرعبناك وأزعجناك؟

ـ نعم.

ـ ليس هنا إلا الخير.

ـ فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري.

ـ نعم.

ـ ولما هدأ روعه وذهب عنه الخوف، قال له السندي: يا أبا حفص، أتدري لم أرسلت إليك؟

ـ لا.

ـ أتعرف موسى بن جعفر؟

ـ إي والله إني أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر.

ـ هل ببغداد ممن يقبل قوله تعرفه أنه يعرفه؟

ـ نعم.

ثم إنه سمى له أشخاصاً ممن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم، فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسموا له قوماً، فأحضرهم وقد استوعب الليل بفعله حتى انبلج نور الصبح، ولما كمل عنده من الشهود نيف وخمسون رجلاً أمر بإحضار كاتبه – ويعرف اليوم بكاتب الضبط – فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم، وبعد انتهائه من الضبط دخل على السندي فعرفه بذلك، فخرج من محله، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص، فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر.

قال عمرو: فكشفت الثوب عن وجه الإمام وإذا به قد مات، والتفت السندي إلى الجماعة فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد بعد واحد فنظروا إليه، ثم قال لهم: تشهدون كلكم أن هذا موسى بن جعفر؟

ـ نعم.

ـ ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك ثم التفت إلى القوم فقال لهم: أترون به أثراً تنكرونه؟

فقالوا: لا، ثم سجل شهادتهم وانصرفوا»[6].

2ـ استدعاء الفقهاء ووجوه أهل بغداد

أنه استدعى الفقهاء وفيهم الهيثم بن عدي وغيره، فنظروا إلى الإمام وهو ميت لا أثر به، وشهدوا على ذلك[7].

3ـ وضع الجثمان على حافة القبر

لما وضع الجثمان المقدس على حافة القبر جاء رسول من قبل السندي فأمر بكشف وجه الإمام للناس ليروه أنه صحيح لم يحدث به حدث.

وهذه الاجراءات المهمة التي اتخذها السندي بن شاهك إنما جاءت لتبرير ساحة الحكومة من المسؤولية، وتنزيهها عن ارتكاب الجريمة، ولكن الإمام القد أفسد عليه صنعه وكشف للناس أن هارون هو الذي اغتاله بالسم، كما ذكرناه سابقاً.

وأما ما اتخذه هارون من الاجراءات لرفع الشبهة التي حامت حوله، فإنه جمع شيوخ الطالبيين والعباسيين، وسائر أهل مملكته، والحكام، فقال لهم: هذا موسى بن جعفر قد مات حتف أنفه، وما كان بيني وبينه ما استغفر الله منه ـ يعني في قتله – فانظروا إليه.

فدخل على الإمام سبعون رجلاً من شيعته، فنظروا إليه وليس به أثر جراحة ولا خنق.

ولم يجد ذلك هارون فإنّ الحق لا بد أن يظهر، ولا يخفيه الدجل ولا يستره الخداع والتضليل، فقد عرف الخاص والعام أنه هو الذي اغتال الإمام وهو المسؤول عن دمه، وأن جميع ما اتخذه من الاجراءات والتدابير لتبرير ساحته قد باءت بالفشل.

وضع جثمان الإمام الكاظم على الجسر

يا الله وللمسلمين، مثل الإمام موسى الكاظم (ع) سبط النبي، وإمام المسلمين، يلقى على جسر الرصافة وهو ميت ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرج عليه المارة، قد أحاطت بجثمانه المقدس الشرطة، وكشفت وجهه للناس قاصدين بذلك انتهاك حرمته، والحط من كرامته، والتشهير به، ولم يرع هارون الرحم الماسة التي بينه وبين الإمام (ع)، ولا حرمته وهو ميت.

لقد حاول هارون الرشيد بفعله هذا إذلال الشيعة وإهانتهم، وقد أثر ذلك في نفوسهم أي تأثير، فظلوا يذكرونه في جميع مراحل تأريخهم مقروناً باللوعة والحزن.

لقد ملأ الرشيد قلوب الشيعة بالحقد والحنق، وتركهم يتذكرون ذلك الاعتداء الصارخ على كرامة إمامهم في جميع مراحل تاريخهم.

النداء الفظيع

يا لروعة الخطب، يا لهول المصاب ! لقد انتهك السندي حرمة الإسلام، وكرامة أهل البيت (ع)، فقد أمر جلاوزته أن ينادوا على جثمان الإمام (ع) بذلك النداء المؤلم الذي تذهب النفوس لهوله أسى وحسرات، فبدل أن يأمرهم بالحضور الجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك.

وانطلق أولئك العبيد يجوبون في الشوارع والطرقات رافعين عقيرتهم بذلك النداء القذر الموحش، وأمرهم مرة ثانية أن يهتفوا بنداء آخر وهو: «هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنه لا يموت، فانظروا إليه ميتاً»[8].

ومن الطبيعي أن السندي لم يقدم على ذلك من تلقاء نفسه، وإنما أوعزت إليه السلطة العليا للنكاية بالشيعة وإذلالها، والنيل من كرامة أهل البيت (ع).

أسباب قيام السلطة بالأعمال المنكرة

من الأسباب التي دعت السلطة إلى القيام بمثل هذه الأعمال المنكرة، هي:

1ـ معرفة الشيعة

وأرادت السلطة بوضع جثمان الإمام الكاظم (ع) على الجسر، والنداء عليه بذلك النداء المحقر أن تقف على العناصر الفعّالة عند الشيعة، وتعرف مدى نشاطها وحماسها بهذا الاعتداء الصارخ على كرامة إمامها لينساقوا إلى القبور والسجون، وأكبر الظن أن الشيعة قد عرفت هذا القصد، فلذا لم تقم بأي عمل إيجابي ضده.

2ـ التشهير بهم

واتخذت السلطة الحاكمة من اندساس الواقفية في صفوف الشيعة وسيلة للتشهير بهم، فقد ذهبت الواقفية إلى أن الإمام الكاظم (ع) حي لم يمت، وأنه رفع إلى السماء كما رفع المسيح عيسى بن مريم، وقد رأت حكومة هارون أن تنسب هذا الرأي الفاسد لعموم الشيعة لتشوه بذلك حقيقتهم أمام الرأي العام.

3ـ التقرب لهارون

وإنما نفذ السندي بن شاهك ما أمر به، مع علمه بفظاعته وخطورته ليحرز بذلك رضا هارون وطاعته حتى ينال من دنياه، ويتقرب إليه، ولم يحفل السندي بما يلاحقه من العار والخزي في سبيل ذلك.

بقاء الإمام الكاظم ثلاثة أيام

وبقي الإمام ثلاثة أيام لم يوار جثمانه المقدس، فتارة موضوع في قاعة السجن، قد أجرت عليه الشرطة التحقيق في حادث وفاته، وأخرى ملقى على جسر الرصافة تتفرج عليه المارة، كل ذلك للاستهانة به، والتوهين بمركزه.

تجهيز الإمام الكاظم

وانبرى سليمان بن أبي جعفر المنصور فتولى تجهيز الإمام الكاظم (ع) وتشييعه، فقد كان قصره مطلاً على نهر دجلة، فسمع الصياح والضوضاء، ورأى بغداد قد ماجت واضطربت، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ما الخبر؟

فقالوا له: هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر، وأخبروه بذلك النداء القاسي الفظيع.

فثارت عواطفه وتغير حاله، واستولت عليه موجة من الغيظ، فصاح بولده قائلاً: انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن ما نعوكم فاضربوهم، وخرقوا ما عليهم من سواد – وهو لباس الشرطة والجيش..

وانطلق أبناء سليمان وغلمانه مسرعين إلى الشرطة، فأخذوا جثمان الإمام منهم، ولم تبد الشرطة معهم أية معارضة، فسليمان عم الخليفة، وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية، وأمره مطاع عند الجميع، وحمل الغلمان نعش الإمام فجاءوا به إلى سليمان، فأمر بالوقت أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، فانطلق غلمانه رافعين أصواتهم بهذا النداء: ألا من أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر.

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين، وخرجت الشيعة وهي تذرف الدموع، وتلطم الصدور، قد استولى عليها الأسى والحزن، ففرج عنها سليمان الكروب، وكشف عنها الآلام.

أسباب مواراة الإمام وتشييعه

من الأسباب التي حفزت سليمان لقيامه بمواراة الإمام وتشييعه هي:

1ـ محو العار عن أسرته

كان سليمان قد حنكته التجارب، وقام على تكريمه عقل متزن، فرأى أن الأعمال التي قام بها الرشيد تجاه الإمام الكاظم (ع) إنما هي لطخة سوداء في جبين الأسرة العباسية، فإن هارون كان يكفيه اغتيال الإمام ودس السم إليه عن القيام بهذه الأعمال البربرية التي إن دلّت فإنّما تدل على نفس لا عهد لها بالشرف والنبل، كما تدل في نفس الوقت على فقدان المعروف والإنسانية عند العباسيين، فقام سليمان بما يفرضه الواجب للحفاظ على سمعته وسمعة أسرته ولمحو العار عنهم.

2ـ الرحم الماسة

إنها الرحم الماسة التي تربط بينه وبين الإمام الكاظم (ع) هي التي هزت مشاعره، وأثارت عواطفه، فلم يستطع صبراً أن يسمع أولئك العبيد وهم ينادون بذلك النداء المنكر على جثمان عميد العلويين وزعيم الهاشميين، بالإضافة إلى ذلك فإنه لم يكن بينه وبين الإمام ما يوجب البغضاء والشحناء، فلذا أثرت فيه أواصر الرحم، وانطلق إلى إنقاذ جثمان ابن عمه من أيدي الجلاوزة وصنع ما صنع له من الحفاوة والتكريم.

3ـ الخوف من انتفاضة الشيعة

وأكبر الظنّ أن سليمان خاف من انتفاضة الشيعة وتمرد الجيش وحدوث الاضطرابات والفتن الداخلية، فإن ذلك الاعتداء الصارخ على كرامة الإمام الكاظم (ع) إنما هو طعنة نجلاء في صميم العقيدة الشيعية، فكان من الطبيعي أن يثير ذلك عواطفهم ويحفزهم على الثورة، والانتقام من خصومهم.

ولم تكن الشيعة قلة في ذلك العصر، فقد اعتنق عقيدتهم خلق كثير من رجال الدولة، وقادة الجيش، وكبار الموظفين والكتاب، ولذا تدارك الموقف وقام بالواجب، وأنقذ حكومة هارون من الفتن والاضطراب.

تجهيز الإمام الكاظم

وقام سليمان بتجهيز الإمام الكاظم (ع) فغسله، وكفنه، ولفه بحبرة قد كتب عليها القرآن بأسره.

وقال المسيب بن زهير: والله لقد رأيت القوم بعيني وهم يظنون أنهم يغسلونه فلا تصل أيديهم إليه، ويظنون أنهم يحنطونه ويكفنونه وأراهم أنهم لا يصنعون شيئاً، ورأيت ذلك الشخص الذي حضر وفاته – وهو الإمام الرضا – هو الذي يتولى غسله وتحنيطه وتكفينه، وهو يظهر المعاونة لهم، وهم لا يعرفونه، فلما فرغ من أمره التفت إليّ فقال:

يا مُسَيَّبُ، مَهُما شَكَكْتَ في شَيْءٍ فَلا تَشُكَّنَّ فِيَّ، فَإِنِّي إِمَامُكَ وَمَوْلاكَ وَحُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْكَ بَعْدَ أَبِي[9].

وبعد انتهاء الغسل حمل الإمام إلى مقره الأخير.

مواكب التشييع

وهرعت بغداد إلى تشييع الإمام الكاظم (ع)، فكان يوماً مشهوداً لم تر مثله في أيامها، فقد خرج البر والفاجر، والصالح والطالح لتشييع سبط النبي (ع) والفوز بحمل جثمانه، و سارت المواكب وهي تجوب الشوارع والطرقات، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، ويتقدم جماهير المشيعين الرشيد – فيما يروي بعض المؤرخين – وهو واجم حزين يترحم على الإمام، ويظهر البراءة من دمه، وخلفه البرامكة وكبار الموظفين والمسؤولين من رجال الحكم يتقدمهم سليمان وهو حافي القدمين أمام النعش مجامير العطور، وحمل الجثمان العظيم على أطراف الأنامل، قد أحاطته الهيبة والجلال، وجيء به فوضع في سوق سمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس بناء لئلا تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له.

في مقره الأخير

وأحاطت الجماهير بالجثمان وهي تتسابق إلى حمله والتبرك به، فجاءت به إلى مقابر قريش، فحفر له قبر هناك وأنزله في مقره الأخير سليمان بن أبي جعفر، وبعد فراغه من مراسيم الدفن أقبلت إليه الناس وهي تعزيه وتواسيه بالمصاب الأليم، وهو واقف يشكرهم على ذلك.

وانصرف المشيعون وهم يعدّدون فضائل الإمام الكاظم ومناقبه، ويذكرون ما عاناه من المحن والخطوب، وكان فقده من أعظم النكبات التي مني بها العالم الإسلامي في ذلك العصر، فقد فقد المسلمون علماً من أعلام العقيدة الإسلامية، وإماماً من أئمة المتقين.

لقد عاش الإمام (ع) في حياته عيشة المتقين والصالحين، فأثر طاعة الله على كل شيء، وعمل جاهداً على رفع كلمة الحق وتحطيم الباطل، فلم يجار هارون، ولم يصانعه، بل كان من أقوى الجبهات المعادية له، وقد تحمل في سبيل ذلك جميع ضروب الأذى والآلام، حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو في ظلمات السجون، ففاز بالشهادة، وجعل الله ذكره خالداً وحياته قدوة، ومرقده ملجاً للمنكوبين، وملاذاً للملهوفين، كما من عليه فجعله من أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.

الاستنتاج

ان هارون الرشيد أوعز إلى السندي بن شاهك في قتل الإمام الكاظم (ع)، فقام بسمّه (ع)، فسرى السم في جميع أجزاء بدنه (ع)، وفاضت نفسه الزكية، ثم وضع جثمانه (ع) على جسر الرصافة، ينظر إليه القريب والبعيد، وبقي ثلاثة أيام لم يوار جثمانه، وتولى سليمان بن أبي جعفر المنصور تجهيزه وتشييعه، وهرعت بغداد إلى تشييعه، ثم جاءت به إلى مقابر قريش، ودفن فيها.

الهوامش

[1] المجلسي، بحار الأنوار، ج٤٨، ص٢٤٧.
[2] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج٢، ص٩٥.
[3] الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص٥٠٤.
[4] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص96.
[5] ابن الصبّاغ، الفصول المهمة، ج۲، ص ۲۳۸.
[6] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص92.
[7] الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ص٥٠٤.
[8] ابن الصبّاغ، الفصول المهمة، ج2، ص۲۳۷.
[9] الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج2، ص95.

مصادر البحث

1ـ ابن الصبّاغ، محمّد، الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، قم، مؤسّسة دار الحديث، الطبعة الأُولى، 1422 ه‍.
2ـ الإصفهاني، أبو الفرج، مقاتل الطالبيين، قم، مؤسّسة دار الكتاب، الطبعة الثانية، 1385 ه‍.
3ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه‍.
4ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه‍.

مصدر المقالة (مع تصرف)

القرشي، باقر، موسوعة سيرة أهل البيت (ع)، تحقيق مهدي باقر القرشي، النجف، دار المعروف، الطبعة الثانية، 1433 ه‍، ج29، ص506 ـ ص524.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *