فكرة البداء في الفكر الشيعي ليست فكرة يهودية

فكرة البداء في الفكر الشيعي ليست فكرة يهودية

کپی کردن لینک

المقالة تتناول فكرة البداء في الفكر الشيعي، مع تسليط الضوء على عدم وجود أي علاقة جوهرية بين اليهودية والشيعة، ويُشير النص إلى أن بعض المفكرين، مثل الدكتور النشار، يعتقدون أن جذور فكرة البداء تعود إلى اليهود، رغم أن اليهود أنفسهم ينكرون هذا المفهوم، كما يستعرض المقال كيف يؤكد الشيعة من خلال تصريحات علماءهم، أن البداء يمثل ردًا على معتقدات اليهود الذين يرون أن الله قد حسم الأمور بشكل نهائي، وسنغوص في الأبعاد الفكرية والدينية للبداء، مستكشفين كيف تنعكس هذه الأفكار على العلاقات بين الأديان والفرق المختلفة، مما يُبرز الجدل القائم حول هذه المسألة.

فكرة البداء عند اليهود

وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاء وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا[1].

يرى الدكتور النشار في كتابه نشأة الفكر الفلسفي الإسلامي، بأن فكرة البداء يهودية الأصل، ولكنه في الصفحة السابقة أكد بأن اليهود يمتنعون من إطلاق النسخ على الشريعة لأنه يستلزم البداء على الله، فإذا كان اليهود ينكرون البداء ولا يقرونه فكيف أن بداء الشيعة يهودي الأصل؟

وكتب السيد عبد الله شبر[2] ضمن أحد معاني البداء قائلا: ما أختاره العلامة المجلسي، وهو أنهم (ع) إنما بالغوا في البداء ردا على اليهود القائلين إن الله قد فرغ من الأمر، وعلى النظام وبعض المعتزلة القائلين إن الله خلق الموجودات دفعة واحدة على ما هي عليه الآن، معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، ولم يتقدم خلق آدم على خلق أولاده، والتقدم إنما يقع في ظهورها، لا في حدوثها ووجودها.

هناك كثيرون يحملون العداء للشيعة حقدا ويعكسون دليل أصل فكرة البداء، كما فعل الدكتور النشار، فالمدعو محمد البنداري كتب فصلا عن فكرة البداء ضمن كتابه التشيع بين مفهوم الأئمة والمفهوم الفارسي، جاء في بدايته: فكرة البداء فكرة يهودية استخدموها للطعن بالقرآن الكريم فاعتبروا الناسخ والمنسوخ دليلا على أن القرآن ليس من عند الله، فالنسخ يستلزم البداء، والبداء محال على الله….الخ.

إلا أنه أنكر فكرة البداء، كما أنكره اليهود، فقد قال في آخر فقرة من كتابه: فهل الله عز وجل غير عالم بما سيفعله العبد من الخير والشر فينتظر ليرى هذا العبد وصل رحمه أو قطعه ليقرر زيادة عمره أو نقصانه؟

أولا: إن الله عز وجل لا ينتظر ولا يقرر بالمفهوم الذي يراه الجاهلون، ولكن الظاهر أن هناك علاقة غير منظورة أو لا يدركها البشر بين أعمال الإنسان، فردا ومجموعة ومجاميع، وبين ما يحصل في الطبيعة من بلاء وشقاء ورفاه وسعادة.

فهذه العلاقة تعد من النظام الطبيعي الذي أودعه الله تعالى في الكون ومواده و المخلوقات وأرواحها، فهي لا تتخلف عما أودعه سبحانه وتعالى فيها لتسيير الحياة على الأرض، فإذا لم يتوصل العلماء إلى تحديد القوانين التي تحكم هذا النظام وتسيره، فلا مسوغ لإنكاره فالجهل بالشيء لا يعني عدم وجوده.

أما ثانيا: فقد قال تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَالِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[3].

فقد أنكر البنداري مفاهيم كثيرة من القرآن الكريم تم توضيحها من قبل الرسول (ص) وبعض الصحابة والمفكرين وردت في بعض كتب الحديث غير الشيعية، فهو إضافة إلى أنه قد أشترك مع اليهود في إنكار فكرة البداء أو آية المحو والإثبات في القرآن، أنكر مفهوم زيادة العمر ونقصانه المذكور في الآية ـ فاطر، ۱۱ ـ، وأنكر آيات الحث على الدعاء ومنها قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ[4].

فقد عد الله تعالى الدعاء أحد مفردات العبادة وعد تركه استكبارا ووعد المستكبرين أن يدخلهم جهنم.

قال السيد الطباطبائي: كانت اليهود لا ترى جواز النسخ في الأحكام الدينية، ولذا كانت لا تقبل بنسخ التوراة وتعير المسلمين بنسخ الأحكام، وكذا كانت لا ترى جواز البداء في القضايا التكوينية على ما يتراءى من خلال ساحة الآيات القرآنية[5].

والسيد الجزائري[6] نقل عن تفسير علي بن إبراهيم عن أبي عبد الله الصادق (ع) في حديث طويل عن بني إسرائيل جاء فيه قوله (ع): لما عملت بنو إسرائيل بالمعاصي وعتوا عن أمر ربهم، أراد الله أن يسلط عليهم من يذلهم ويقتلهم فأوحى الله إلى ارميا بذلك، ثم أوحى إليه بأن بني إسرائيل: عملوا بالمعاصي وغيروا ديني وبدلوا نعمتي كفرا، فبي حلفت……لأسلطن عليهم شر عبادي ولادة وشرهم طعاما، فليتسلطن عليهم فيقتل مقاتليهم ويسبي حريمهم ويخرب بيتهم.

ثم بإيجاز: سأل ارميا ربه أن يدله على هذا الشخص فذهب إليه وهو بخت نصر فأخذ منه عهدا، فكتب له كتاب أمان أن لا يؤذيه إذا غزا بيت المقدس وتسلط على بني إسرائيل، ففعل بخت نصر ذلك موفيا بوعده عندما غزاهم.

هناك عدة ملاحظات لابد من أخذها بنظر الاعتبار، لعل من أهمها بإيجاز:

۱- إن اليهود ينكرون فكرة البداء، ولكن أبن صوريا المنكر للبداء أصلا، بعدما ألزمه سلمان الحجة في الرد عليه عندما أوضح سبب عدائهم لجبريل (ع)، احتج بآية المحو والإثبات الواردة في كتاب ينكره اليهود، لكي يجد سبيلا للخروج من ورطته ظنا منه إن المحو والإثبات إنما يتم بمعصية الله تعالى ومغالبة أمره وتكذيب رسله، فيمحو الله عنهم ما كانوا هم السبب في وقوعه، ولم يمنعهم ذلك من الاستمرار في ارتكاب المعاصي.

ويؤكد إفساد بني إسرائيل وعلوهم في الأرض آيات سورة الإسراء، 4-8، فقد رد الله عز وجل الكرة لهم وأمدهم بأموال وبنين وجعلهم أكثر نفيرا، ثم خيرهم بين الإحسان والإساءة لأنفسهم في المرة الثانية، والظاهر أنها تنطبق على دولة إسرائيل الحالية، ووعدهم بالرحمة إن أحسنوا لأنفسهم، وفي حالة الإساءة أن يعيد إرسال عباد له ليقضوا عليهم ويدمروا دولتهم إضافة إلى جهنم في الآخرة. وهكذا هم في كل إمكانية مادية تتوفر لهم، مفسدون ومستكبرون لا تنفع معهم العبر.

۲- الظاهر إن ما زعمه أبن صوريا بإرسال نبي لقتل بخت نصر، هو بهتان على نبيهم، فالنبي هو أول من ينفذ أحكام الله تعالى في الأرض، وكل أنبياء الله يعرفون أنه لا يجوز القصاص قبل الجناية، فمن غير المعقول أن يذهب نبيهم لقتل شخص لم يقم بأية جريمة، ولكنهم اعتادوا على القتل فتصوروا أن أنبياءهم كذلك، فيكون سبب ذهاب نبيهم هو لمقابلة بخت نصر للحصول منه على عهد مكتوب منه لكي لا يؤذيه، كما نقل ذلك السيد الجزائري عن الإمام الصادق (ع).

۳- إن ما نقل عن الله تعالى، سواء ما ورد في الكتب المقدسة أو على لسان أنبيائه، لابد أن تكون صادقة ومنها التنبؤ بأحداث المستقبل، فالله عز وجل لا يكذب نفسه، فمثل هذه الأحداث غير مشمولة بالمحو، وإنما هي من القضاء المحتوم إلا إذا تم ربطه بأحداث أخرى، ويمكن توضيح ما حصل مع بني إسرائيل وما سوف يحصل استنادا إلى نصوص القرآن وأحاديث المعصومين (ع) كما في الأسطر التالية:

قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً[7]، فالله عز وجل لم يخبر أنبياء بني إسرائيل بتسليط بخت نصر عليهم ليقتلهم ويهدم بيت المقدس ويسبيهم، إلا بعدما قدم أنبياءهم كل ما يتمكنون منه من نصح وإرشاد وموعظة وإنذار من أجل ردعهم عن الظلم والإفساد والمعصية والاستكبار فكان الإخبار بتعذيبهم من المحتوم، وبدلا من أن يصلحوا أنفسهم بالتوبة والابتعاد عن المعاصي والظلم، تمادوا في طغيانهم فأرادوا قتل غلام برئ وزعموا أنهم بعثوا نبيا لهم لقتله.

ولهم في قصتهم مع فرعون مصر عبرة، ولكنهم قوم لا تنفع معهم العبر. عندما علم فرعون مصر أن أحد أفراد بني إسرائيل لم يولد بعد سينهي حكمه، فأمر بقتل كل طفل ذكر يولد في بني إسرائيل فأحدث ذلك فتنة في مصر، فجعله بين سنة وأخرى، ومع ذلك وقع قضاء الله المحتوم فيه فأغرقه الله في اليم بعد ما أنجى الله عز وجل موسى (ع) وبني إسرائيل من الغرق.

في الإفساد والعلو الثاني الذي قضاه الله تعالى على بني إسرائيل: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا[8].

ربط الله تعالى جزاءه فيهم بأعمالهم فخيرهم بين الإحسان والإساءة لأنفسهم فقال: إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا، ثم حدد جزاءه تعالى على ضوء ذلك فقال: عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا، فالنص واضح: وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا للقضاء على دولتهم في الدنيا كما حدث في المرة الأولى.

فالمحو يقع حصرا في الظاهر مما يبديه الله عز وجل من أحداث تقع على الأفراد والبشر، فجعله تعالى يسير بموجب سنته غير القابلة للتبديل ولا للتحويل ولا للتغيير، مرتبطا بأعمال وأفعال الإنسان، فردا وجماعات، فأعمال البر والإحسان من صلة الرحم والدعاء والصدقة والصدق وعدم الغش والتعاون عليها…….الخ، لها نتائج إيجابية تصب في مصلحة الفرد والمجتمع، أما الآثام من ظلم وسرقة وغش واعتداء…الخ، فلها آثار سلبية على الفرد والمجتمع، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ[9].

مَن آخذ أحكام البداء من اليهود؟

إن الديانات اليهودية والمسيحية والإسلامية ديانات سماوية أنزلها الله تعالى على أنبياء اختارهم بعلمه وإرادته، من أجل تبليغها لعباده، لذا فتشابه ما أنزله الله تعالى على أنبيائه أمر طبيعي لا غبار عليه، سواء أكان التشابه في الأحكام الشرعية أو في العقائد أو الأفكار الأخرى، ولكن، مع وجود التشابه، توجد اختلافات كثيرة فيما بين هذه الأديان، وتم نسخ شريعة موسى (ع) بشريعة عيسى (ع)، وتم نسخ شريعة عيسى (ع) بشريعة خاتم الأنبياء محمد (ص) التي وعد الله عز وجل بإظهارها على كل الأديان في عصر الظهور وعدم نسخها.

أكد كل علماء الشيعة أن كل عقائدهم وأحكامهم الشرعية قد نقلوها حصرا عن رسول الله (ص) وعن أوصيائه الأئمة الهداة (ع)، وكتبهم المعتمدة تشهد بذلك، ولم يقولوا أن الرسول (ص) أو أحد أئمتهم (ع) قد نقل عقيدة أو حكما شرعيا عن غير الرسول (ص) منقولا وحيا أو بواسطة الملك جبرائيل (ع) أو غيره من الملائكة عن الله تعالى، سواء أكان ذلك متفقا مع ما عند اليهود أو مع ما عند النصارى، أو كان مختلفا عما عند أي منهم، ولم يوجد في كتبهم أن الرسول (ص) قد أخذ حكما عن أي منهم أو غيرهم.

أما الذين اتهموا الشيعة بأن بعض عقائدهم وأحكامهم يهودية، فهم المتهمون بذلك، فقد وضعوا بعض القصص والأحاديث في صوم عاشوراء زاعمين بأن الرسول (ص) قد أمر بصوم عاشوراء لأن اليهود وأهل الجاهلية كانت تصومه، أو إن اليهود والنصارى كانت تعظمه.

قد استعرض الأستاذ عبد الرضا علي صباغ هذه المجموعة من القصص والأحاديث ومصادرها وقدم الأدلة على وضعها وهي بإيجاز: تضارب الأحاديث فيما بينها، وأن بعض رواتها محل تهمة وريب، وبعضهم لم يكن في المدينة حين صوم عاشوراء المزعوم، ولم يعرف عن اليهود والنصارى أنهم يعظمون أو يصومون يوم عاشوراء، وإن النصارى يعتمدون التقويم الشمسي في أعيادهم، ولم يعرف مصطلح عاشوراء، وهو اليوم العاشر من محرم، إلا بعد مقتل الإمام الحسين (ع) فيه سنة 61 ه‍، وهو أسم إسلامي لم يكن معروفا في الجاهلية…الخ.

إضافة إلى ذلك، فقد وضعوا على لسان الرسول (ص) بأنه أراد أن ينهي عن الغيلة مس الرجل امرأته وهي ترضع، ولكنه (ص) امتنع عن ذلك بعدما نظر إلى الفرس والروم ولم تضرهم شيئا، وفيه نقض واضح ومخالفة صريحة لقوله تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى[10].

فأي الفريقين أساء إلى الرسول (ص) زاعما أنه (ص) أخذ أحكامه عن اليهود والنصارى والفرس والروم؟ والظاهر أن الذين يتهمون الشيعة بذلك هم الذين أخذوا أحكامهم عن غير الرسول (ص) ومنهم اليهود ونسبوا تلك الأحكام إلى الرسول (ص) زورا وبهتانا.

بهتان وأوهام حول البداء

وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[11].

وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا[12].

قال البنداري في كتابه: نسب موت إسماعيل قبل موت أبيه اضطرابا لدى الشيعة، فنسبوا إلى الصادق (ع) قوله: بدا لله في إسماعيل، وللتخلص من هذا المأزق قالوا: نص الصادق (ع) على إسماعيل غير أنه كان سكيرا فنقلت إلى موسى. وفي الهامش بأن هذا الكلام منقول عن الطوسي في الغيبة[13]، ورونلدسن في عقيدة الشيعة.

لو اكتفى المؤلف المذكور بأن الكلام قد نقل عن المصدر الثاني (عقيدة الشيعة) فقط، فلربما كان صادقا فيما نقله، ولوجهت تهمة الكذب والبهتان إلى رونلدسن، ولتحمل هو إثم نقل عقائد الشيعة من كتب أعدائهم.

لنقرأ ما كتبه الطوسي عن البداء في الغيبة، فقال: بأن موت محمد في حياة أبيه (ع): فقد رواه سعد بن عبد الله الأشعري قال: حدثني أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري قال: كنت عند أبي الحسن (ع) وقت وفاة أبنه أبي جعفر- وقد كان أشار إليه ودل عليه – فأني لأفكر في نفسي وأقول هذه قضية أبي جعفر وقضية إسماعيل، فأقبل عليّ أبو الحسن (ع) فقال: نعم يا هاشم بدا لله تعالى في أبي جعفر وصير مكانه أبا محمد، كما بدا لله في إسماعيل بعدما دل عليه أبو عبد الله (ع) ونصبه، وهو كما حدثت به نفسك، وإن كره المبطلون، أبو محمد أبني الخلف من بعدي عنده ما تحتاجون إليه…الخ.

الظاهر من هذه الرواية أن الإمامين أبا عبد الله وأبا الحسن (ع) قد أشارا أو نصا على إمامة إسماعيل وأبي جعفر، وهو خلاف الواقع، كما أوضح ذلك الشيخ الطوسي في تعليقه على هذه الرواية في نفس الصفحة والمنقول لاحقا، وربما كانت العبارتان وقد كان أشار إليه ودل عليه وبعدما دل عليه أبو عبد الله (ع) ونصبه خطأ مطبعيا أو زيادة من النساخ، لأن الشيخ الطوسي نفى بصورة قاطعة وجود نص على إمامة إسماعيل وأبي جعفر، فلو كان في نص الرواية التي نقلها، وهو عالم بما كتبه، ما يشير إلى وجود نص على إمامة إسماعيل وأبي جعفر لعلق عليه.

علق الشيخ الطوسي على الرواية أعلاه موضحا ما جاء فيها وعلاقته بالبداء قائلا: معناه ظهر من الله وأمره في أخيه الحسن ما زال الريب والشك في إمامته، فأن جماعة من الشيعة كانوا يظنون أن الأمر في محمد، من حيث كان الأكبر، كما كان يظن جماعة أن الأمر في إسماعيل بن جعفر دون موسى (ع)، فلما مات محمد، ظهر من أمر الله فيه، وإنه لم ينصبه إماما، كما ظهر في إسماعيل مثل ذلك، لا إنه كان نص عليه ثم بدا له في النص على غيره، فأن ذلك لا يجوز على الله تعالى العالم بالعواقب.

قال البنداري في الفقرة الأولى من كتابه المذكور: أما ما يذكره من قول الصادق فهو دليل على أن الصادق (ع) لم يكن يعرف أن إسماعيل ليس بإمام بعده لو لم يهلكه الله.

مما يؤكد وجود الخطأ في الرواية أعلاه، إنها وردت في الكافي بنص آخر ليس فيه إشارة إلى وجود نص على إمامة إسماعيل والسيد محمد، فقد نقل السيد محمد سعيد الطباطبائي الحكيم[14] الرواية عن الكافي[15]، كما يلي:

كنت عند أبي الحسن (ع) بعدما مضى أبنه أبو جعفر، وإني لأفكر في نفسي أريد أن أقول: كأنهما – أعني أبا جعفر وأبا محمد- في هذا الوقت كأبي الحسن موسى وإسماعيل أبني جعفر بن محمد (ع)، وإن قصتهما كقصتهما، إذ كان أبو محمد المرجى بعد أبي جعفر (ع). فأقبل عليّ أبو الحسن (ع) قبل أن أنطق فقال: نعم يا أبا هاشم، بدا لله في أبي محمد بعد أبي جعفر ما لم يكن يعرف له، كما بدا له في موسى بعد مضي إسماعيل ما كشف به عن حاله، وهو كما حدثتك نفسك وإن كره المبطلون، وأبو محمد أبني الخلف من بعدي، عنده علم ما يحتاج إليه ومعه آلة الإمامة.

استعرض السيد الحكيم في كتابه المذكور النصوص الدالة على إمامة أبي الحسن موسى (ع) بعد وفاة أبيه جعفر بن محمد (ع) وفيه 35 حديثا، وعلى إمامة أبي محمد الحسن بن علي (ع) بعد وفاة أبيه أبي الحسن علي بن محمد (ع) وفيه ۲۰ حديثا.

في الأحاديث نصوص واضحة تؤكد أن الإمام الصادق (ع) قد نص على إمامة أبنه موسى (ع) عند ولادته وأحيانا قبل وفاة أبنه إسماعيل، كما نص الإمام أبو الحسن علي الهادي (ع) على إمامة أبنه أبي محمد الحسن العسكري (ع) قبل وفاة أبنه أبي جعفر محمد.

هكذا تؤكد النصوص بأن الله تعالى قد أوحى إلى نبيه محمد (ص) بأسماء الأئمة من بعده، وإن الأئمة (ع) قد توارثوا هذه النصوص والأسماء إماما عن إمام، وإن الإمام الصادق (ع) كان يعرف قبل ولادة أكبر أبنائه وهو إسماعيل، إن الإمام بعده هو أبنه موسى (ع) وليس إسماعيل، كذلك الإمام علي الهادي (ع) كان يعرف أن الإمام بعده هو أبنه الحسن (ع) وليس أبو جعفر محمد.

وهذا ما أكده السيد محمد كلانتر في كتابه البداء عند الشيعة الإمامية[16] فقال: كانت الشيعة تعتقد الإمامة فيه ـ أي: إسماعيل ـ لوجود مؤهلات الإمامة عنده، ولاسيما كونه أكبر ولد الإمام الصادق (ع)، وكان هذا الأمر من المسلمات البديهية، والتي لا يشك فيها اثنان منهم. ولكن بعد موت إسماعيل كشف الإمام الصادق (ع) وجهه وأراه للشيعة حتى يتيقنوا بموته، ظهر لهم خلاف ما كانوا يعتقدون، وإن الإمامة كانت لأخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام من بداية الأمر.

وهذا المعنى لا يستلزم نسبة الجهل إلى الله عز وجل، ولا التغيير والتبدل في علم الله جل شأنه المستلزم للتغيير والتجدد في ذاته المقدسة.

إن كل ما قلناه في حق الإمام موسى الكاظم (ع) نقوله في حق الإمام الحسن العسكري (ع)، من أن الشيعة كانت تعتقد أن الإمامة في السيد محمد لوجود مؤهلات الإمامة فيه، وبعد موته ظهر لهم خلاف ما كانوا يعتقدونه، وتبين أن الإمامة من البداية كانت للإمام الحسن العسكري (ع)، لا للسيد محمد.

فقول الإمام الهادي (ع) لأبنه الإمام العسكري (ع) لما توفي السيد محمد (ع): يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا، فأن معناه إن الله عز وجل قد أظهر إمامتك التي كانت مخفية على الشيعة.

للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابطين التاليين:

مفهوم البداء عند الشيعة وأمثلته والرؤى المنصفة

مفهوم البداء في القرآن والسنة وأثره في القضاء الإلهي

الاستنتاج

أن فكرة البداء في الفكر الشيعي تختلف عن التصورات اليهودية حوله، حيث يُعتبر البداء ردا على معتقدات اليهود الذين ينكرون هذا المفهوم، وتناقش المقالة كيف أن بعض المفكرين، مثل الدكتور النشار، يربطون فكرة البداء عند الشيعة باليهود، رغم أن اليهود أنفسهم لا يقرون بها، كما تسلط المقالة الضوء على العلاقة بين الأفعال الإنسانية وأقدار الله تعالى، وتؤكد على أن الإمامة في الشيعة ليست مرتبطة بالأصول اليهودية، بل هي موحاة من الله عبر الأنبياء، وتظهر التباينات بين الأديان في فهم هذه المفاهيم.

الهوامش

[1] المائدة، 64.

[2] شبر، حق اليقين في معرفة أصول الدين، ج1، ص۱۰۱.

[3] البقرة، 85.

[4] غافر، 60.

[5] الطباطبائي، تفسير الميزان، ج6، ص32.

[6] الجزائري، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، ص478.

[7] الإسراء، 15.

[8] الإسراء، 4ـ 8.

[9] الأعراف، 96.

[10] النجم، 3ـ 5.

[11] النساء، ۱۱۲.

[12] الأحزاب، 58.

[13] الطوسي، الغيبة، ص۱۲۰.

[14] الحكيم، في رحاب العقيدة، ج3، ص۲۸۱.

[15] الكليني، الكافي، ج1، ص۳۲۷.

[16] كلانتر، البداء عند الشيعة الإمامية، ص۸۷.

مصادر البحث

1ـ القرآن الكريم.

2ـ الجزائري، نعمة الله، النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين، قم، مكتبة السيّد المرعشي النجفي، طبعة 1404 ه‍.

3ـ الحكيم، محمّد سعيد، في رحاب العقيدة، النجف، دار الهلال، طبعة 2017م.

4ـ شبّر، عبد الله، حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1418ه‍.

5ـ الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.

6ـ الطوسي، محمّد، الغيبة، قم، مؤسّسة المعارف الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1425 ه‍.

7ـ كلانتر، محمّد، البداء عند الشيعة الإمامية، النجف، منشورات جامعة النجف الأشرف، 1975م.

8ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الكاتب: سعد حاتم مرزه