تتناول هذه المقالة مفهوم القدرة في سياق العقيدة الإسلامية، موضحة معناها اللغوي والاصطلاحي، وأقسام القادر، وأدلة إثبات قدرة الله تعالى، وخصائص هذه القدرة، وتُعرّف القدرة بأنها التمكن من الفعل وتركه، وتُظهر كيف يرتبط مفهوم القدرة بأسماء الله الحسنى، كما تسلط الضوء على الفرق بين القادر المختار والقادر الموجب، وتناقش الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت قدرة الله، وتهدف المقالة إلى تقديم فهم عميق لماهية قدرة الله تعالى، وكيف تتجاوز هذه القدرة الحدود الطبيعية، مما يعكس كمال صفاته وعلو منزلته.
المبحث الأوّل: معنى القدرة لغةً واصطلاحاً
معنى القدرة لغة: القدرة تعني التمكّن من الفعل وتركه.
ورد في مجمع البحرين: قدرت على الشيء: قويت عليه وتمكّنت منه[1].
ورد في لسان العرب: يقال: قدر على الشيء، أي: ملكه، فهو قادر[2].
ورد في مصباح الكفعمي: القادر هو الموجد للشيء اختياراً من غير عجز ولا فتور[3].
وقال الشيخ الصدوق (ره): قَدِر، أي: ملك، وقدرته على ما لم يوجد واقتداره على إيجاده هو قهره وملكه له[4].
تنبيه: القدير، هو الذي لا تتناهى قدرته، فهو أبلغ من القادر، ولهذا لا يوصف بصفة القدير إلاّ الله تعالى.
والمقتدر هو التام في القدرة الذي لا يمنعه شيء عن مراده[5].
معاني القدرة في الاصطلاح العقائدي
المعنى الأوّل: قال الشيخ الصدوق (ره): إنّ الله لم يزل قادراً، إنّما نريد بذلك نفي العجز عنه، ولا نريد إثبات شيء معه؛ لأنّه عزّ وجلّ لم يزل واحداً لا شيء معه[6].
وهذا المعنى مقتبس من قول الإمام محمّد بن علي الجواد (ع) حيث قال لأحد أصحابه: فقولك: إنّ الله قدير خبّرت أنّه لا يعجزه شيء، فنفيت بالكلمة العجز، وجعلت العجز سواه[7].
المعنى الثاني: القدرة هي الفعل عند المشيئة، وترك الفعل عند عدم المشيئة، والقادر هو الذي إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل.
بعبارة أخرى: إذا شاء أن يفعل فعل، وإذا شاء أن يترك ترك.
المعنى الثالث: القدرة تعني صحّة الفعل والترك[8].
والقادر هو الذي يصح أن يفعل ويصح أن يترك، أي: لا يفعل.
بعبارة أخرى: القادر هو الذي يصح أن يصدر عنه الفعل ويصح أن لا يصدر عنه الفعل.
تنبيه: إنّ الله سبحانه وتعالى قادر على الأشياء كلّها على ثلاثة أوجه:
أوّلاً: على المعدومات بأن يوجدها.
ثانياً: على الموجودات بأن يفنيها أو يتصرّف فيها بجمعها أو تفريقها أو تحويلها أو نحو ذلك.
ثالثاً: على مقدور غيره بأن يقدر عليه ويمنع منه.
أسماء الله التي تعود إلى صفة قدرة الله
1ـ القوي
أي: ذو القوّة الكاملة، فلا يعجزه أمر ممكن في إيجاد أو إعدام، ولا يمسّه نَصَب، ولا يلحقه ضعف.
قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[9].
2ـ المتين
أي: ذو المتانة الكاملة. والمتانة أبلغ من مطلق القوّة؛ لأنّها القوّة الزائدة.
فمعنى المتين: هو الذي له كمال القوّة التي لا تعارضها ولا تشاركها ولا تدانيها قوّة، كما لا يعرض لها عجز ولا تعب ولا تناقض في التصرّف بكلّ أمر ممكن.
قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[10].
3ـ القادر
أي: ذو القدرة الكاملة، وقد مرّ معنى القدرة قبل قليل.
قال الله تعالى: قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ[11].
4ـ المقتدر
أي: ذو القدرة الكاملة. والمقتدر أبلغ من القادر.
قال الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا[12].
5ـ الواجد
أي: ذو الجدّة الكاملة، والجدة هي الغنى مع امتلاك قدرة التصرّف وعدم الاحتياج إلى مساعد ومعين، فمعنى الواجد: القادر على التصرّف بكلّ شيء وفق مراده، ولم يرد هذا الاسم في القرآن الكريم.
6ـ العزيز
أي: ذو العزّة الكاملة، والعزّة هي القدرة على التغلّب.
قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ[13].
7ـ المُقيت
أي: الحافظ للشيء والشاهد والمقتدر، وبعبارة أخرى: المُقيت يعني المستولي القادر على كلّ شيء. وهذا المعنى هو أحد معاني هذا الاسم.
قال الله تعالى: وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتًا[14].
8ـ مالك المُلك
أي: الذي تنفذ مشيئته في ملكه كيف يشاء، لا مردّ لقضائه، ولا يكون ذلك إلاّ من كمال القوّة والمتانة والقدرة والعزّة والغنى.
قال الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ[15].
9ـ المِلك (بكسر الميم)
أي: المتصرّف بالأمر والنهي التكويني في كلّ شيء، فإذا قال لشيء: كُن، وُجد ذلك الشيء حسب مشيئته تعالى، وهذا يرجع إلى كمال القدرة على التصرّف بالممكنات.
قال الله تعالى: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ[16].
المبحث الثاني: أقسام القادر
1ـ القادر المختار
مثاله: الله سبحانه وتعالى، الإنسان في أفعاله الاختيارية.
2ـ القادر الموجب المضطر
مثاله: الشمس بالنسبة إلى الإشراق، والنار بالنسبة إلى الإحراق.
الفرق بين القادر المختار والقادر الموجب
1ـ القادر المختار هو المتمكِّن من الفعل والترك.
القادر الموجب هو المتمكِّن من الفعل فقط دون الترك.
2ـ القادر المختار يصح منه أن لا يفعل.
القادر الموجب يمتنع منه أن لا يفعل.
3ـ القادر المختار يصح منه أن يفعل الفعل.
القادر الموجب يجب أن يصدر عنه الفعل.
4ـ القادر المختار هو الذي يفعل مع شعوره بفعله.
القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل مع عدم شعوره به.
5ـ القادر المختار هو الذي يعلم بأثره.
القادر الموجب هو الذي لا يعلم بأثره.
وبصورة عامّة: القادر المختار هو الذي يؤدّي فعله بإرادته واختياره.
القادر الموجب هو الذي يصدر منه الفعل من دون إرادته واختياره.
تنبيهان
1- اشتهر عن بعض الفلاسفة القول بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر موجب لا قادر مختار.
ولهذا قال هؤلاء بقدم العالم[17]، وأثبتوا لله إرادة وقدرة لا بالمعنى الذي أثبته المتكلّمون، بل شبّهوا الله تعالى بجهاز مبرمج يعمل من دون إرادة واختيار وفق ما يملي عليه علمه بالنظام الأحسن، تعالى الله عن ذلك، وسبحانه عمّا يصفه هؤلاء.
2ـ القادر المختار أشرف وأسمى من القادر الموجب.
لأنّ القادر الموجب لا فضل له في ألطافه وتفضّله على العباد؛ لأنّه يفعل من دون إرادته واختياره.
ولكن القادر المختار، فإنّه متفضّل في تقديم الطافه ومواهبه؛ لأنّه إن شاء منح هذه الألطاف والمواهب وإن شاء منعها.
أضف إلى ذلك: القادر الموجب أشبه ما يكون بجهاز مبرمج يعمل وفق البرمجة الموجودة فيه، وهكذا ذات لا تستحق العبادة والإطاعة؛ لأنّها فاقدة للاختيار، ولهذا من المستحيل أن نقول بأنّه تعالى ـ والعياذ بالله ـ قادر موجب ومضطر!
المبحث الثالث: أدلة اثبات قدرة الله
الدليل الأوّل
إنّ الفعل كما يكشف عن وجود الفاعل، فإنّه يكشف أيضاً عن اتّصاف الفاعل بالقدرة التي مكّنته من أداء هذا الفعل.
ومن هذا المنطلق: فإنّنا كما نكتشف من خلال النظر في هذا العالم بأنّ لهذا العالم خالقاً، فإنّنا نكتشف أيضاً من خلال هذا النظر بأنّ خالق هذا العالم متّصف بالقدرة؛ لأنّ الفعل لا يصح أن يصدر إلاّ من قادر[18].
قال الإمام محمّد الباقر (ع): العجب كلّ العجب للشاك في قدرة الله، وهو يرى خلق الله[19].
الدليل الثاني
فقدان القدرة يثبت العجز، والعجز نقص لا يليق بالذات الإلهية، والله تعالى مستجمع لجميع الصفات الكمالية، ومنزّه عن جميع النقائص والصفات الجلالية.
الدليل الثالث
لو لم يكن الله سبحانه وتعالى قادراً، لكان محتاجاً إلى غيره، والله تعالى منزّه عن الاحتياج.
المبحث الرابع: خصائص قدرة الله
1ـ القدرة من صفات الله الذاتية الكمالية.
والله سبحانه وتعالى قادر فيما لم يزل.
ولا يصحّ ـ في جميع الأحوال ـ سلب القدرة من الله، ونسبة العجز إليه تعالى؛ لأنّ هذا السلب يوجب احتياجه تعالى في الخلق إلى شيء غير ذاته، والله سبحانه وتعالى منزّه عن الاحتياج.
قال الإمام جعفر الصادق (ع): لم يزل الله عزّ وجلّ ربّنا… والقدرة ذاته ولا مقدور، فلمّا أحدث الأشياء … وقع … القدرة على المقدور …[20].
سُئل الإمام علي بن موسى الرضا (ع): خلق الله الأشياء بالقدرة أم بغير القدرة؟ فقال (ع): لا يجوز أن يكون خلق الأشياء بالقدرة.
لأنّك إذا قلت: خلق الأشياء بالقدرة فكأنّك قد جعلت القدرة شيئاً غيره، وجعلتها آلة له بها خلق الأشياء، وهذا شرك.
وإذا قلت: خلق الأشياء بغير قدرة، فإنّما تصفه أنّه جعلها باقتدار عليها وقدرة، ولكن ليس هو بضعيف ولا عاجز ولا محتاج إلى غيره، بل هو سبحانه قادر لذاته لا بالقدرة[21].
2- قدرة الله غير مقيّدة بالقوانين والأسباب الطبيعية، بل الله تعالى قادر على فعل الأشياء من دون توسّط هذه القوانين والأسباب، كما أنّ الله تعالى قادر على إلغاء هذه القوانين والأسباب والعمل بمشيئته وفق قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ[22].
إذن: لا تنحصر قدرة الله في المجالات العادية، بل لله تعالى أن يجري الأمور من طرق أخرى كالإعجاز.
3- امتلاك القدرة على فعل شيء لا يعني لزوم فعل ذلك الشيء؛ لأنّ القدرة لا تؤثّر لوحدها، وإنّما يكون منها التأثير عند مقارنتها مع الإرادة.
فنستنتج بأنّ قدرة الله على جميع الممكنات لا يلزم وجود جميع هذه الكائنات، وإنّما تحقّق أيّ كائن يكون بعد إرادة الله تعالى له.
وبعبارة أخرى: إنّ الله سبحانه وتعالى قادر على كلّ الممكنات، ولكنّه غير مؤثّر في كلّها، وإنّما يؤثّر على بعضها وفق ما يريد.
4ـ مفهوم القدرة أوسع من مفهوم الإرادة.
مثال ذلك: القدرة تتعلّق بالفعل والترك.
ولكن الإرادة لا تتعلّق إلاّ بواحدة من الفعل أو الترك.
توضيح ذلك: قدرة الله تتعلّق بأن يفعل وأن لا يفعل، ولهذا يكون نطاق قدرته تعالى واسع وشامل للفعل وترك الفعل.
ولكن إرادة الله لا تتعلّق إلاّ بواحد من أن يفعل أو أن لا يفعل، والله سبحانه وتعالى إمّا أن يريد الفعل وإمّا أن لا يريده.
ولا يمكن تعلّق الإرادة بالفعل والترك في آن واحد؛ لأنّ تعلّق الإرادة بكليهما مستحيل، ويلزم منه التناقض.
ولهذا يكون نطاق تعلّق القدرة أوسع من نطاق تعلّق الإرادة.
5- لا يوجد في قبال قدرة الله قدرة مضاهية أو معارضة أو مانعة من نفوذها؛ لأنّ كلّ ما سوى الله فهو ممكن الوجود وكلّ ممكن الوجود لا استقلالية له بذاته في الوجود، بل هو مقهور له تعالى، فلهذا ليس بإمكان هذا الممكن أن يزاحم القدرة الإلهية أو يمنعها من نفوذها.
الاستنتاج
أن القدرة هي صفة أساسية من صفات الله تعالى، تعكس التمكن من الفعل وتركه، وتتميز قدرة الله بأنها غير محدودة وغير مقيدة بالقوانين الطبيعية، والقدرة الإلهية تشمل القدرة على إيجاد المعدومات، والتصرف في الموجودات، وإمكانية التحكم في مقدور غيره، ويتميز الله بأنه القادر المختار الذي يمتلك إرادة حرة، في حين أن المخلوقات تكون قادرة موجبة بشكل محدود، كما أن وجود القدرة لا يعني ضرورة الفعل، إذ تعتمد الفاعلية على الإرادة، وأخيرا أن قدرة الله لا يمكن أن تُعادل أو تُعارض، مما يبرز تفرده وعظمته.
الهوامش
[1] الطريحي، مجمع البحرين، ج3، ص466.
[2] ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص57، مادة قدر.
[3] الكفعمي، المصباح، ج1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص382.
[4] الصدوق، التوحيد، باب 29، ذيل ح9، ص192.
[5] الكفعمي، المصباح، ج1، في الأسماء الحسنى وشرحها، ص383.
[6] الصدوق، التوحيد، باب 9، ذيل ح12، ص127.
[7] الصدوق، التوحيد، باب 29، ح7، ص188.
[8] إذا كان الفعل ممكناً ولم يمنع منه مانع.
[9] هود، 66.
[10] الذاريات، 58.
[11] الأنعام، 65.
[12] الكهف، 45.
[13] هود، 66.
[14] النساء، 85.
[15] آل عمران، 26.
[16] طه، 114.
[17] لأنّ الموجب هو الذي لا يتخلّف أثره عنه بالضرورة، وهو الذي لا ينفك عنه فعله، والذين يقولون بأنّه تعالى قادر موجب، يعتقدون بأنّ العالم بالنسبة إلى الله كالنور بالنسبة إلى الشمس، وبما أنّه تعالى كان من الأزل، فالعالم أيضاً كان معه من الأزل؛ لأنّ العالم لا ينفك عن الله؛ وهو كالنور بالنسبة إلى الشمس، فمادامت الشمس موجودة فالنور موجود معها.
[18] الطوسي، الاقتصاد، قسم 1، فصل 2، ص53.
[19] البرقي، المحاسن، ج1، باب 23، ح233.
[20] الكليني، الكافي، ج1، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح1، ص107.
[21] الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج1، باب 11، ح7، ص108.
[22] النحل، 40.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه.
3ـ البرقي، أحمد، المحاسن، تصحيح وتعليق جلال الدين محدّث، قم، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثانية، 1371 ه.
4ـ الصدوق، محمّد، التوحيد، تصحيح وتعليق السيّد هاشم الحسيني الطهراني، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
5ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
6ـ الطريحي، فخر الدين، مجمع البحرين، تحقيق أحمد الحسيني الأشكوري، طهران، المكتبة المرتضوية، الطبعة الثالثة، 1375 ش.
7ـ الطوسي، محمّد، الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، طهران، مكتبة جامع جهلستون، طبعة 1400ه.
8ـ الكفعمي، إبراهيم، جنّة الأمان الواقية، المعروف بمصباح الكفعمي، النجف، دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، 1405 ه.
9ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الحسون، علاء، التوحيد عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، مركز بحوث الحج، الطبعة الأُولى، 1432ه.