مسألة في كون الرئاسة واجبة في حكمة الله تعالى

مسألة في كون الرئاسة واجبة في حكمة الله تعالى

کپی کردن لینک

الرئاسة واجبة في حكمة الله تعالى على كل مكلف يجوز منه إيثار القبيح، لكونها لطفا في فعل الواجب والتقريب إليه وترك القبيح أو التبعيد منه، بدليل عموم العلم للعقلاء بكون من هذه حاله عند وجود الرئيس المنبسط اليد الشديد التدبير القوي الرهبة إلى الصلاح أقرب ومن الفساد أبعد، وكونهم عند فقده أو ضعفه بخلاف ذلك.

وجوب نصب الرؤساء في كل زمان

وقد ثبت وجوب ما له هذه الصفة من الألطاف في حكمته تعالى، فوجب لذلك نصب الرؤساء في كل زمان اشتمل على مكلفين غير معصومين.

والمخالف لنا في هذه لا يعدو خلافه أن يكون في الفرق بين وجود الرؤساء وعدمهم في باب الصلاح، أو في صلاح الخلق برئيس، أو في وقوع القبح عند وجودهم كفقدهم، فإن خالف في الأول فيجب مناظرته، لظهور هينه للعقلاء وعلمهم بكذبه على نفسه فيما يعلم ضرورة خلافه.

وإن خالف في الثاني لم يضر، لأنا لا نقل إن صلاح الخلق نفع كل رئيس، وإنما دللنا على كون الرئاسة لطفا في الجملة، فصلاح العقلاء على رئيس دون رئيس لا يقدح، على أنا سنبين أن الرئاسة المطلوب بها لا فساد فيها، لعصمة من ثبتت له وتوفيقه.

وإن خالف على الوجه الثالث لم يقدح أيضا، لأن الرئاسة لطف وليست ملجئة، فلا يخرجها عن ذلك وقوع القبيح عندها كسائر الألطاف، ولأن الواقع من القبيح عندها يسير من كثير، ولولاها لوقع أضعافه بقضية العادة، ولا فرق في وجوب الاستصلاح بما يرفع القبح جملة، أو بعضه، أو يبعد منه، أو يؤثر وقوع كل واجب واحد، أو يقرب إليه.

ولا يقدح في ذلك إيثار بعض العقلاء لرئيس دون رئيس، واعتقاد الصلاح لفقد الرؤساء، لأنا لا نستدل بفعلهم، وإنما استدللنا بقضية العادة الجارية بعموم الصلاح بالرؤساء والفساد بفقدهم، فحكمنا بوجوب ما له هذه الصفة في حكمته سبحانه وقبح الاخلال به مع ثبوت التكليف، وليس في الدنيا عاقل عرف العادات ينازع فيما قضينا به من الفرق بين وجود الرؤساء المهيبين وعدمهم، بل حال ضعفهم.

وفعل العقلاء أو بعضهم بخلاف ما يعلمونه لا يقدح في علمهم، كما لا يقدح إيثارهم للقبائح وإخلالهم بالواجبات الضرورية في وجوب هذه وقبح تلك. على أن دعواهم اعتقاد بعض العقلاء حصول الصلاح للخلق بعدم الرؤساء، كاعتقاد بعضهم عدم الصلاح بوجودهم كذب على أنفسهم يشهد الوجود به، لعلمنا بأنه ليس في الدنيا عاقل سليم الرأي من الهوى يؤثر عدم الرؤساء جملة ويعتقد عموم الصلاح به والفساد بوجودهم، فالمعلوم من ذلك هو اعتقاد بعض العقلاء حصول الفساد برئاسة ما يختصه ضررها بحسد أو طمع أو خوف ضرر إلى غير ذلك، دون نفي الرئاسة جملة، كأهل الذعارة والمفسدين في الأرض الذين لا يتم لهم بلوغ ما يؤثرونه من أخذ الأموال والفساد في الأرض إلا بفقد الرؤساء المرهوبين، فلذلك آثروا فقدهم واعتقدوا حصول الصلاح لهم بعدمهم، ولا شبهة في قبح هذا الاعتقاد والإيثار.

وهم مع ذلك غير منكرين لحصول الصلاح بجنس الرئاسة، ولهذا لا توجد فرقة منهم بغير رئيس مقدم يرجعون إلى سياسته، كالخوارج وغيرهم من فرق الضلال الذاهبين إلى قبح كل رئاسة تخالف ما هم عليه من النحلة، كاعتقاد الكفار والمنافقين ذلك في رئاسة الأنبياء والأئمة (ع)، وإنما كرهوا رئاستهم واعتقدوا حصول الفساد بها والصلاح بعدمها، لاعتقادهم حصول المفسدة بها لكونها قبيحة، ولم ينكر أحد منهم وجوب الرئاسة جملة، ولهذا لم نر فرقة منهم إلا ولها رئيس مطاع.

وكمعتقدي حصول صلاحهم برئاسة ما وعدمه بوجود أخرى، فهم يكرهون هذه ويؤثرون تلك، ككراهية قريش ومن وافقها في الرأي رئاسة الأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، لاعتقادهم فوت الأماني بثبوتها، وإيثارهم رئاسة غيره، لظنهم بلوغ الأغراض الدنيوية بها، فهؤلاء أيضا لم ينكروا عموم الصلاح بالرئاسة في الجملة، وإنما كرهوا رئاسته لصارف عنها، وآثروا آخر لداع إليها.

وكمن حسد بعض الرؤساء وشنأه من العقلاء إنما يكره رئاسته حسدا وبغضا، ولا يكره رئاسة من لا شنآن بينه وبينه، كقريش ومن وافقها على حسد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وبغضه في الفضل على جميعهم وتقدمه في الإسلام على سائرهم وعظيم نكايته فيهم، إنما كرهوا رئاسته لذلك، ولم يكرهوا رئاسة من لا داعي لهم إلى حسده وعداوته.

وكمن يرى الرئاسة لأنفسهم ويرشحهم لها، إنما يكرهون كل رئاسة مناكسة لهم، ويعتقدون حصول الفساد بها فيما يخصهم، لأن مقصودهم لا يتم إلا بذلك، ككراهة المستخلفين بعد وفاة النبي محمد (ص) ومن تبعهم من خلفاء بني أمية وبني العباس رئاسة الإمام علي بن أبي طالب (ع) وذريته (ع)، لاعتقادهم حصول الفساد بها فيما يخصهم، لأن مقصودهم من رئاسة الأنام لا يتم إلا بذلك.

ولم ينكر أحد منهم الرئاسة، وكيف ينكرونها مع حصول العلم بمثابرتهم عليها، ومنافستهم فيها، واستحلالهم بعد استقرارها لهم ذم القادح فيها، ومظاهرتهم بأن نظام الخلق وصلاح أمرهم لا يتم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، واستصلاحهم رعاياهم بالرؤساء، واجتهادهم في تخير ذوي البصائر لسياسة البلاد ومن فيها بالتأمير على أهلها، وكراهية رعية الظلمة من الرؤساء المسرفين في الفساد لرئاستهم لما فيها من الضرر دينا ودنيا، واعتقادهم الصلاح بفقدها لذلك. ولا يكره أحد من هؤلاء رئاسة ذوي العقل والإنصاف، ولا يعتقد حصول الفساد بها، بل يتمناها، لعلمه بما فيها من الصلاح.

وعلى هذا يجري القول في كل طائفة من العقلاء كرهوا رئاسة رئيس، إنما يكرهونها لأمر يخصهم نفعه وضرره، فليتأمل يوجد ظاهرا، وشبهة الخصم به مضمحلة، ومن المقصود في إيجاب الرئاسة العامة أجنبية، والمنة لله سبحانه وتعالى.

ولا يقدح في الاستصلاح بالرئيس ووجوب وجوده لذلك عقلا قولنا: إن العقاب لا يستحقه بعضنا على بعض. لأن المقصود يصح من دون ذلك، من حيث كان علم المكلف أو ظنه بأنه متى رام القبيح منعه منه الرئيس بالقهر صارفا له عنه، بل ملجئا في كثير من المواضع، ولأن العقاب وإن لم يستحقه بعضنا على بعض، فالمدافعة حسنة بكل ما يغلب في الظن ارتفاع القبح به، وإن، تلفت معه نفس المدافع.

فإذا كان هذا ثابتا عقلا، وعلم المكلف بكون الرئيس القوي منصوبا لمدافعة مريدي الظلم عن المظلوم، صرفه ذلك عن إيثاره، على أنا وأن منعنا من كون العقاب مستحقا بعضنا ونفينا استحقاق القديم له قطعا، فإنا نجيز استحقاقه منه سبحانه على القبح عقلا، وتقطع به سمعا، وتجويز المكلف كون الرئيس الملطوف له به منصوصا له عقاب العاصي كاف في الزجر.

ولا يقدح فيما ذكرناه القول: بأن الصلاح الحاصل بالرؤساء دنيوي، فلا يجب له نصبهم، لأنا قد بينا تخصصه بالدين وإن اقترن به الدنيوي، على أن وجودهم إذا أثر صلاح الدنيا – كالأمن فيها، والتصرف في ضروب المعايش بمنع الرؤساء المفسدين، وصرف من يتوهم منه الفساد عنه بالرهبة، وارتفاع هذا الصلاح الدنيوي بعدمهم يقهر الظالمين وأخافهم ذوي السلامة – عاد الأمر إلى الصلاح الديني بوجودهم المؤثر، لوقوع الحسن وارتفاع القبح، وفساد الدين بعدمهم، ولم ينفصل من الصلاح الدنيوي بغير إشكال.

ولا يقدح في ذلك دعوى الالجاء لخوف الرئيس إلى فعل الواجب وترك القبح على ما اعتمده المتأخرون من مخالفينا، لأن ذلك يسقط ما لا يزالون يمنعون منه من تأثير الرئاسة في وقوع الواجب وارتفاع القبح، من حيث كان الشئ لا يكون ملجئا إلا بعد كونه غاية في التأثير، فكيف يجتمع القول بذلك مع نفي التأثير جملة لذي عقل سليم.

وبعد فالملجئ إلى الفعل والترك هو ما لا يبقى معه صارف عن الفعل ولا داع إلى الترك، فيجب إذ ذاك وقوع هذا وارتفاع ذاك، والرئاسة بخلاف ذلك، لعلمنا ضرورة بتردد الدواعي إلى الواجب والقبيح والصوارف عنهما، ووقوع كثير من القبيح، وارتفاع كثير من الواجب عند وجود الرؤساء المهيبين، واستحقاق فاعل القبح والمخل بالواجب الذم والاستخفاف، واستحقاق مجتنب هذا وفاعل ذلك المدح، وكل هذا ينافي الالجاء بغير شبهة.

ولا يمنع من عموم اللطف بالرئاسة تقدير وجود واحد منفرد لا يتقدر منه ظلم أحد، لأن من هذه صفته إذا كان الظلم مأمونا منه صح منه العزم على فعله متى تمكن منه، لأن العزم على القبح لا يفتقر إلى التمكن منه في الحال، لصحة عزم كل من جاز منه القبح على ما يقع بعد أحوال متراخية على العزم.

وإذا صح هذا، فعلم هذا المفرد أن من ورائه رئيس متى رام الظلم منعه منه بالقهر أو أنزل به ضررا مستحقا أو مدافعا به، صرفه ذلك عن العزم عليه، كما يصرف ظن كل عاقل عن العزم على قتل السلطان أنه متى رام ذلك منع منه، ولا فرق والحال هذه بين كون الرئاسة لطفا في أفعال القلوب أو الجوارح.

وهذا التحرير يقتضي كون الرئاسة لطفا في الجميع، لأن الصارف عن أفعال الجوارح صارف عن العزم عليها، كما أن الداعي إليها داع إلى العزم، والعزم على الشئ جز منه أو كالجزء في الحسن والقبح، ولا قدح بعموم المعرفة للأزمان والتكاليف والمكلفين في اللطف، وخصوص الغنى والفقر في تميز الرئاسة منهما فيما له كانت لطفا، لأن قياس الألطاف بعضها على بعض لا يجوز، لوقوف كونها ألطافا على ما يعلمه سبحانه، وإثبات أعيانها وأحكامها بالأدلة.

فعموم المعرفة لعموم مقتضيها وأحكامها بالأدلة وخصوص الغنى والفقر لاختصاص موجبهما، لا لكونهما لطفا في الجملة، واختصاص الرئاسة بمن يجوز منه فعل القبيح في أفعال الجوارح وما يتعلق بها من أفعال القلوب، وبكل زمان وجد فيه مكلفون بهذه الصفة بحسب ما اقتضته الأدلة فيها، ولا يخرجها ذلك عن كونها لطفا لمخالفتها باقي الألطاف، كما لم يخرج كل لطف خالف لطفا سواه في مقتضاه عن كونه كذلك.

اشتراط العصمة في الرئيس

وهذا اللطف لا يتم إلا بوجود رئيس أو رؤساء لا يد على أيديهم ترجع إليه أو إليهم الرئاسات، ولا يكون كذلك إلا بكونه معصوما، لأنا قد بينا وجوب استصلاح كل مكلف غير معصوم بالرئاسة، فاقتضى ذلك وجوب رجوع الرئاسات إلى رئيس معصوم، وإلا اقتضى وجود ما لا يتناها من الرؤساء، أو الاخلال بالواجب في عدله تعالى، وكلاها فاسد.

ولنا تحرير الدلالة على وجه آخر، فنقول: العلم بوجوب الحاجة إلى رئيس لا ينفصل من العلم بوجه الحاجة، لأنا إنما علمنا حاجة المكلفين إلى رئيس من حيث وجدناه لطفا في فعل الواجب واجتناب القبيح، وهذا لا يتقدر إلا في من ليس بمعصوم، فصار العلم بالوجوب لا ينفصل من العلم بوجهه، وترتيب الأول أولى، لبعده من الشبهة وإسقاطه الاعتراض بعصمة كل رئيس، وافتقار هذا إلى استئناف كلام لإسقاط ذلك.

ما يتعلق بالرئيس

ولا بد من كون الرئيس أعلم الرعية بالسياسة، لكونه رئيسا فيها، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه. ولا بد من كونه أفضلهم ظاهرا، لهذا الوجه بعينه. وأكثرهم ثوابا، لوجوب تعظيمه عليهم وخضوعهم له، والتعظيم قسط من الثواب واستحقاق ذمته منه ما لا يساويه فيه أحد من الرعية يقتضي كونه من أفضلهم بكثرة الثواب. ولا سبيل إلى تميزه إلا بمعجز يظهر عليه، أو نص يستند إلى معجز، لما قدمناه من وجوب صفاته، لمتعذر علمها على غير القديم تعالى.

ولا اعتراض بما لا يزالون يهذون به: من كون الاختيار طريقا إذا علم سبحانه اتفاق اختيار المعصوم؛ لأن هذا أولا لا يتقدر من دون نص على اختيار الرئيس، ونحن في أحكام عقلية فبل السمع، وبعد فما له قبح تكليف اختيار الأنبياء (ع) والشرائع وإن علم اتفاق إصابة المختارين للمصلحة يقتضي قبح تكليب اختيار الرئيس.

وأيضا فتكليف ما لا دليل عليه ولا إمارة تميزه بصفته قبل وقوعه قبيح، وإذا فقد المكلف الأدلة والأمارات المميزة لذي الصفة المطلوبة بالاختيار قبح تكليفه، ولم ينفعه علمه بعد وقوع الاختيار بصفة المختار، على أن هذا المعلوم لا يخلو أن يختصه تعالى دونهم، أو ينص لهم على أن اختيارهم يوافق المعصوم، والأول لا يؤثر شيئا فيما قصدوه، والثاني نص على عين المعصوم، لأنه لا فرق بين أن ينص سبحانه على عينه أو على تميزه بفعل غيره.

ويصح هذا اللطف برئيس واحد في الزمان بهذه الصفة، ويستصلح أهل الأصقاع بأمرائه الملطوف لهم، ويجوز كونه بوجود عدة رؤساء بالصفات التي بيناها في وقت واحد، ويجب ذلك في كل صقع في ابتداء الرئاسة، وفي كل حال تعذر العلم بوجود الرئيس المخصوص فيها ومن قبله من الأمراء، لأن تعذر العلم في ابتداء الرئاسة لطف فيه.

وإن كنا قد أمنا هذا التجويز والقطع في شريعتنا، لحصول العلم بأن الرئيس واحد، وأنه لا مكلف تكليفا عقليا ولا سمعيا خارج عن تكليف نبوة نبينا وإمامة الأئمة (ع) وما جاء به من الشرعيات، وأن التكليف من دون المعلم أو إمكانه قبيح، فاقتضى ذلك رفع الجائز العقلي وما ابتنى عليه من الوجوب.

تقسيم الرئاسة إلى نبوة وإمامة

وهذه الرئاسة قد تكون نبوة، وكل نبي رسول وإمام إذا كان رئيسا، وقد تكون إمامة ليست بنبوة، ومعنى قولنا: نبي، يفيد الإخبار من أنبأ ينبئ ونبا بالتشديد، من التعظيم، مأخوذ من النبوة، وهو: الموضع المرتفع.

وفي عرف الشرائع: المؤدي عن الله بغير واسطة من البشر، وهذه الحقيقة الشرعية تتناول المعنيين المذكورين، لأن المؤذي عن الله تعالى مخبر ومستحق في حال أدائه التعظيم والاجلال، وأما رسول، فمقتض لمرسل وقبول منه للارسال، كوكيل ووصي، وهو في عرف الشرائع مختص بمن أرسله الله تعالى مبينا لمصالح من أرسل إليه من مفاسده.

وفي عرف شريعتنا: مختص بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب (ص)، لأنه لا يفهم من قول القائل: قال رسول الله (ص) وروي عن الرسول، غيره، والإمام هو: المتقدم على رعيته المتبع فيما قال وفعل.

الغرض من بعثة النبي

والغرض في بعثة النبي – زائدا على الاستصلاح برئاسته إن كان رئيسا عقليا من الوجه الذي ذكرناه – بيان مصالح المرسل إليهم من مفاسدهم التي لا يعلمها غير مكلفهم سبحانه، وهو الوجه في حسن البعثة، لكون اللطف غير مختص بجنس من جنس، ولا بوجه من وجه، ولا وقت من وقت، وإنما يعلم ذلك عالم المصالح.

وقد بينا وجوب فعل ما يعلمه لطفا من فعله سبحانه، وبيان ما يعلمه كذلك من أفعال المكلف، فيجب متى علم أن من جنس أفعاله ما يدعوه إلى الواجب ويصرفه عن القبيح، أو يجتمع له الوصفان، أو يكون مقربا أو مبعدا، أن يبين ذلك للملطوف له بالإيحاء إلى من يعلم من حاله تحمله بأعباء البلاغ، وكونه بصفة من تسكن الأنفس إليه، وإقامة البرهان على صدقه متى علم تخصص المصلحة ببيانه (ع) دون فعله تعالى العلم بذلك في قلبه، أو خطابه على وجه لا ريب فيه، أو ببعض ملائكته، أو كونه نائبا في بيان المصلحة مناب ما تصح النيابة فيه.

صفات الرسول

والصفات التي يجب كون الرسول (ع) عليها، هي أن يكون معصوما فيما يؤدي، لأن تجويز الخطأ عليه في الأداء يمنع من الثقة به، ويسقط فرض اتباعه، وذلك ينقض جملة الغرض بإرساله، وأن يكون معصوما من القبائح لكونه رئيسا وملطوفا برئاسته لغيره حسب ما دللنا عليه، ولأن تجويز القبيح عليه ينفر عن النظر في معجزه، ولأنه قدوة فيما قال وفعل، وتجويز القبيح عليه يقتضي إيجاب القبيح، ولأن تعظيمه واجب على الإطلاق والاستخفاف به فسق على مذاهب من خالفنا وكفر عندنا، ووقوع القبيح منه يوجب الاستخفاف، فيقتضي ذلك وجوب البراءة منه مع وجوب الموالاة له.

المعجز وشرطه

والطريق إلى تميزه المعجز أو النص المستند إليه، لاختصاصه من الصفات بما لا يعلمه إلا مرسله تعالى، ويفتقر المعجز إلى شروط ثلاثة:

منها: أن يكون خارقا للعادة، من فعله تعالى، مطابقا لدعواه، واعتبرنا فيه خرق العادة، لأن دعوى التصديق بالمعتاد لا تقف على مدع من مدع، ولا تميز صادقا من كاذب وإن كان من فعله تعالى، كطلوع الشمس من المشرق ومجئ المطر في الشتاء والحر في الصيف، وطريق العلم بذلك اعتبار العادات وما يحدث فيها، وخروج الفعل الظاهر على يد المدعي عن ذلك.

واعتبرنا كونه من فعله تعالى، لجواز القبيح على كل محدث، وجوازه يمنع من القطع على صدق المدعي وكون ما أتى به مصلحة، وطريق العلم بذلك أن يختص خرق العادة بمقدوراته تعالى، كإيجاد الجواهر وفعل الحياة، أو يقع الجنس من مقدورات العباد على وجه لا تمكن إضافته إلى غيره، كرجوع الشمس وانشقاق القمر وأمثال ذلك.

واعتبرنا كونه مطابقا للدعوى، لأنه متى لم يكن خرق العادة متعلقا بدعوى مخصوصة لم يكن أحد أولى به من أحد، فإذا تكاملت هذه الشروط، فلا بد من كونه دلالة على صدق المدعى، لكون هذا التصديق نائبا مناب لو قال تعالى: صدق هذا فيما يؤذيه عني، كما لا فرق في كون الملك الحكيم مصدقا لمدعي إرساله له بين أن يقول: صدق علي، أو يفعل ما ادعى كونه مصدقا له به مما لم تجر عادة الملك بفعله.

فإن كان ما ذكرناه مشاهدا، ففرض المشاهد له النظر فيه، لكونه خائفا من فوت مصالح وتعلق مفاسد، وإن كان نائيا عن حدوث المعجز أو موجودا بعد تقضيه، فلا بد مع تكليف ما أتى به النبي محمد المصطفى (ص) من نصب دلالة على صدقه وصحة ما أتى به، لقبح التكليف من دونهما.

وذلك يكون بأحد شيئين: إما قول من يعلم صدقه وإن كان واحدا، أو تواتر نقل لا يتقدر في ناقليه الكذب بتواطئ وافتعال، أو إنفاق لبلوغهم حدا في الكثرة وتنائي الديار والأغراض، أو وقوع نقلهم على صفة يعلم الناظر فيها تعذر الكذب في مخبرهم من أحد الوجوه بقضية العادة وإن قالوا، وإن كانت هذه الطبقة تنقل عن غيرها وجب ثبوت هذه الصفات في من ينقل عنه، ثم كذا حتى يتصل النقل بجماعة شاهدت المعجز لا يجوز على مثلها الكذب.

وذلك لا يتم إلا بتعين الأزمنة للناظر في النقل وتميز الناقلين ذوي الصفة المخصوصة في كل زمان، لأن الجهل بأعيان الأزمنة يقتضي الجهل بأهلها، وتعين الأزمنة مع الجهل بأعيان الناقلين الموصوفين يقتضي تجويز انقطاع النقل وتجويز افتعاله واستناده إلى معتقدين دون الناقلين، فمتى اختل شرط مما ذكرناه ارتفع الأمان من كذب الخبر المنقول، ومتى تكاملت الشروط حصلت الثقة بالمنقول.

وهذه الصفات متكاملة في نبينا صلوات الله عليه، ومن عداه من الأنبياء (ع)، فطريق العلم بنبوتهم إخباره (ع)، لكونهم غير مشاهدين، ولا تواتر بمعجز أحد منهم، لافتقار التواتر إلى الشروط المعلوم ضرورة تعذرها في نقل من عدا المسلمين.

وإذا وجب ذلك اقتضى القطع على نبوة من أخبر بنبوته من آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء على التفصيل والجملة، وكونهم بالصفات التي دللنا على كون النبي عليها، وتأول كل ظاهر سمعي خالفها بقريب أو بعيد، لوقوف صحته على أحكام العقول وفساد تضمنه ما يناقضها، إذ كان تجويز انتقاضها به يخرجها من كونها دلالة على فساد سمع أو غيره، وهذا ظاهر الفساد.

الاستنتاج

أن الرئاسة واجبة في حكمة الله تعالى لتكون لطفا في توجيه المكلفين نحو الواجبات وترك القبيح، وتُظهر الحاجة إلى الرؤساء في كل زمان، حيث يساهم وجودهم في تحقيق الصلاح وتقليل الفساد، وتُعتبر الرئاسة ضرورة عقلية، خاصةً في مجتمع يتكون من أفراد غير معصومين، ويشترط في الرئيس أن يكون معصوما، عالما، وأفضل من الرعية لضمان فعالية قيادته، كما تشير المقالة إلى ضرورة وجود نبي أو إمام كدليل على الصلاح، مع التأكيد على أهمية العصمة والصفات الفريدة في القيادة لتحقيق الأهداف الدينية والدنيوية.

مصدر المقالة (مع تصرف)

الحلبي، أبو صلاح، تقريب المعارف، قم، تحقيق ونشر فارس تبريزيان الحسون، طبعة 1417ه‍، ص144ـ 156.