مفهوم البداء مفهوم ديني يتناول قدرة الله تعالى على تغيير ما قد قدره أو أعلنه سابقا، وهو ما يبرز في القرآن والسنة، ويتجلى هذا المفهوم في آيات متعددة، حيث يشير إلى أن الله يملك القدرة على محو وإثبات ما يشاء، وأن مشيئته تتعلق بمصالح عباده، وفي السنة النبوية، نجد الكثير من الأحاديث التي توضح كيف يمكن للدعاء والصدقة وصلة الأرحام أن تؤثر في الأقدار، هذه المقالة تستعرض مفهوم البداء في القرآن والسنة، وتسلط الضوء على كيفية فهم العلماء المسلمين له.
مفهوم البداء في القرآن
1ـ يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ[1].
2ـ للهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ[2].
3ـ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ[3].
4ـ وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون[4].
5ـ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ[5].
مفهوم البداء في السنة
عن أمير المؤمنين (ع) أنه سأل رسول الله (ص) عن آية الرعد، ۳۹، فقال (ص): لأقرن عينيك بتفسيرها، ولأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها: الصدقة على وجهها وبر الوالدين واصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة ويزيد العمر ويقي مصارع السوء[6].
عن أبي هريرة قال: سمعت النبي (ص) يقول: من سره أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه[7].
عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): إن الصدقة لتطفي غضب الرب وتدفع عن ميتة السوء[8].
قال النبي (ص): الدعاء سلاح المؤمن، والدعاء يرد القضاء، والبر يزيد في العمر. وقالوا: الدعاء بين الآذان والإقامة لا يرد. وقال النبي (ص): استقبلوا البلاء بالدعاء، وقال الله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[9]،[10].
عن أنس قال بما موجزه: قام رجل فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يسقينا، فتغيمت السماء ومطرنا حتى ما كاد الرجل يصل إلى منزله، فلم تزل تمطر إلى الجمعة المقبلة، فقام ذلك الرجل ـ أو غيره ـ فقال: ادع الله أن يصرفه عنا فقد غرقنا، فقال (ص): آلهم حوالينا ولا علينا، فجعل السحاب يتقطع حول المدينة ولا يمطر أهل المدينة[11].
عن الإمام العسكري (ع) قال: بعد نزول الآية المباركة: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ، جاء قوم من اليهود إلى رسول الله (ص) فسألوه إن كانت القبلة إلى بيت المقدس حقا فقد تركته إلى باطل، فإن ما يخالف الحق باطل، أو كانت باطلا، فقد كنت عليه طول هذه المدة ـ 14 سنة صلى خلالها الرسول (ص) إلى بيت المقدس ـ، فما يؤمننا أن تكون إلى الآن على باطل؟
فقال رسول الله (ص): بل ذلك كان حقا، وهذا حق، يقول الله: قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[12].
إذا عرف صلاحكم يا أيها العباد في استقبال المشرق أمركم به، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به، وإن عرف صلاحكم في غيرهما أمركم به، فلا تنكروا تدبير الله تعالى في عباده وقصده إلى مصالحكم.
ثم أعطاهم مثالا من عملهم يوم السبت فسألوه إن كان بدا لربك فيما كان أمرك به بزعمك من الصلاة إلى بيت المقدس حين نقلك إلى الكعبة؟ فقال (ص): ما بدا له عن ذلك، فإنه العالم بالعواقب والقادر على المصالح، لا يستدرك على نفسه غلطا ولا يستحدث رأيا بخلاف المتقدم، جل عن ذلك، ولا يقع أيضا عليه مانع يمنعه من مراده، وليس يبدو إلا لمن كان هذا وصفه، وهو عز وجل يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا.
بعدما ذكر (ص) لهم بعض الأمثلة وتوضيح صلاح الحالين قال (ص): يا عباد الله أنتم كالمريض، والله رب العالمين كالطبيب، فصلاح المريض فيما يعلمه الطبيب ويدبره به، لا فيما يشتهيه المريض ويقترحه، ألا فسلموا لله أمره تكونوا من الفائزين.
ثم سئل الإمام (ع) عن السبب في الأمر بالقبلة الأولى؟ فقال (ع): لما قال الله عز وجل: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا – وهي بيت المقدس – إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ[13]، إلا لنعلم ذلك منه موجودا، بعد أن علمناه سيوجد، وذلك أن هوى أهل مكة كان في الكعبة، فأراد الله أن يبين متبع محمد من مخالفه بإتباع القبلة التي كرهها، ومحمد يأمر بها، ولما كان هوى أهل المدينة في بيت المقدس، أمرهم بمخالفتها والتوجه إلى الكعبة ليتبين من يوافق محمدا فيما يكرهه، فهو مصدقه وموافقه[14].
اخترنا الأحاديث التالية من كتاب الكافي[15] حول مفهوم البداء:
عن زرارة عن أحدهما (ع) قال: ما عبد الله بشئ مثل البداء.
عن الإمام الصادق (ع) قال: وهل يمحى إلا ما كان ثابتا، وهل يثبت إلا ما لم يكن.
عن الصادق (ع) أيضا قال: ما بعث الله نبيا حتى يأخذ عليه ثلاث خصال: الإقرار له بالعبودية، وخلع الأنداد، وأن الله يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء.
عن الإمام الباقر (ع) قال: العلم علمان: فعلم عند الله مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلم علمه ملائكته ورسله… الخ.
وعنه (ع) قال: من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم منها ما يشاء، ويؤخر منها ما يشاء.
وعن الإمام الصادق (ع) قال: ما بدا لله في شئ إلا كان في علمه قبل أن يبدو له.
وعنه (ع) أيضا قال: إن الله لم يبد له من جهل.
سئل الإمام الصادق (ع): هل يكون اليوم شئ لم يكن في علم الله بالأمس؟ قال (ع): لا، من قال هذا فأخزاه الله، ثم سئل: أرأيت ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، أليس في علم الله؟ قال (ع): بلى، قبل أن يخلق الخلق.
وعنه (ع) قال: لو علم الناس ما في القول بالبداء من الأجر ما فتروا في الكلام فيه.
وعنه (ع) قال: إن الله عز وجل أخبر محمدا (ص) بما كان منذ كانت الدنيا وبما يكون إلى انقضاء الدنيا، وأخبره بالمحتوم من ذلك واستثنى عليه فيما سواه.
عن الإمام الرضا (ع) قال: ما بعث الله نبيا قط إلا بتحريم الخمر وأن يقر لله بالبداء.
عن أحدهم (ع) قال في حديث طويل جاء فيه: فلله تبارك وتعالى البداء فيما علم متى شاء، وفيما أراد لتقدير الأشياء، فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
واخترنا الأحاديث التالية من الكافي أيضا[16] حول مفهوم البداء:
عن الإمام الصادق (ع) قال لميسر بن عبد العزيز: يا ميسر، ادع ولا تقل أن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عز وجل منزلة لا تنالها إلا بالمسألة، ولو أن عبدا سد فاه ولم يسأل لم يعط شيئا، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلا أن يوشك أن يفتح لصاحبه.
عن أبي الحسن (ع) قال: إن الدعاء يرد ما قدر وما لم يقدر، فسئل: ما قدر قد عرفته، فما لم يقدر؟ قال (ع): حتى لا يكون.
عن الإمام الصادق (ع) قال: إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء، وقد أبرم إبراما.
أما في موضوع صلة الأرحام، فقد اخترنا الأحاديث التالية من الكافي[17]:
عن الإمام الرضا (ع) قال: يكون الرجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيرها الله ثلاثين سنة، ويفعل الله ما يشاء.
عن الإمام الباقر (ع) قال: صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال وتدفع البلوى وتيسر الحساب وتنسئ في الأجل.
نقل الشيخ الصدوق مناظرة الإمام الرضا (ع) مع سليمان المروزي، متكلم خراسان في مجلس المأمون، الذي جمع بينهما للمناظرة بحضور آخرين، فكان إنكار سليمان للبداء مدخلا للمناظرة، فسأله الإمام الرضا (ع): وما أنكرت من البداء يا سليمان، والله عز وجل يقول: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا[18].
ويقول: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ[19].
ويقول: بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ[20].
ويقول: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ[21].
ويقول: ووَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ[22].
ويقول: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ[23].
ويقول: وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ[24].
قال سليمان: هل رويت فيه عن أبائك شيئا؟ قال: نعم، رويت عن أبي عبد الله (ع) إنه قال: إن لله عز وجل علمين: علما مخزونا مكنونا لا يعلمه إلا هو، من ذلك يكون البداء، وعلما علمه ملائكته ورسله، فالعلماء من أهل بيت نبينا (ص) يعلمونه.
قال سليمان: أحب أن تنزعه لي من كتاب الله عز وجل، قال (ع): قول الله عز وجل لنبيه (ص): فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ[25]، أراد إهلاكهم، ثم بدا لله تعالى فقال: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ[26].
قال سليمان: زدني جعلت فداك، قال (ع): لقد أخبرني أبي عن أبائه (ع) عن رسول الله (ص) قال: إن الله عز وجل أوحى إلى نبي من أنبيائه أن أخبر فلانا الملك إني متوفيه إلى كذا وكذا، فأتى ذلك النبي فأخبره، فدعا الله الملك وهو على سريره حتى سقط من السرير وقال: يا رب أجلني حتى يشب طفلي وأقضي أمري.
فأوحى الله عز وجل إلى ذلك النبي أن ائت فلانا الملك فأعلمه أني قد أنسيت في أجله وزدت من عمره إلى خمس عشرة سنة، فقال النبي: يا رب إنك لتعلم أني لم أكذب قط، فأوحى الله عز وجل إليه: إنما أنت عبد مأمور فأبلغه ذلك والله لا يسئل عما يفعل.
ثم التفت (ع) إلى سليمان فقال: أحسبك ضاهيت اليهود في هذا الباب، قال: أعوذ بالله من ذلك، وما قالت اليهود؟ قال (ع): قالت اليهود: يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ[27]، يعنون أن الله تعالى قد فرغ من الأمر، فليس يحدث شيئا فقال الله عز وجل: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ، ولقد سمعت قوما سألوا أبي، موسى بن جعفر (ع) عن البداء فقال: وما ينكر الناس من البداء، وأن يقف الله قوما يرجيهم لأمره.
قال سليمان: ألا تخبرني عن إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ[28]، في أي شيء أنزلت؟ قال (ع): يا سليمان ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من حياة أو موت أو خير أو شر أو رزق، فما قدره في تلك فهو من المحتوم.
ثم قال الرضا (ع): يا سليمان، إن من الأمور أمورا موقوفة عند الله عز وجل، يقدم منها ما يشاء ويؤخر ما يشاء ويمحو ما يشاء. يا سليمان إن عليا (ع) كان يقول: العلم علمان: فعلم علمه الله ملائكته ورسله، فما علمه ملائكته ورسله فأنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله، وعلم عنده مخزون لم يطلع عليه أحدا من خلقه يقدم منه ما يشاء ويؤخر منه ما يشاء. قال سليمان للمأمون: يا أمير المؤمنين لا أنكر بعد يومي هذا البداء ولا أكذب به إن شاء الله.
علّق الشيخ الصدوق بعد انتهاء المناظرة بقوله: فكان لا يكلمه أحد إلا أقر له بالفضل وألزم الحجة له عليه، لأن الله تعالى ذكره يأبى إلا أن يعلي كلمته ويتم نوره وينصر حجته، وهكذا وعد تبارك وتعالى في كتابه فقال: إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[29]، يعني بالذين آمنوا الأئمة الهداة وأتباعهم العارفين بهم والآخذين عنهم، ينصرهم بالحجة على مخالفيهم ما داموا في الدنيا، وكذلك يفعل بهم في الآخرة، وإن الله عز وجل لا يخلف الميعاد[30].
مما يؤكد ما ذهب إليه الشيخ الصدوق، أن الأئمة (ع) كانت حججهم هي البالغة والغالبة على كل من حاججهم، وأن النص القرآني ـ أي: غافر، 51 ـ لا يعني النصر العسكري وظهورهم على أعدائهم في الحياة الدنيا، لأنهم (ع) كانوا مغلوبين على أمرهم، وكانت القوة والسلطة لأعدائهم حتى عصر الظهور.
مفهوم البداء كما فهمه العلماء المسلمون
عن أبن مسعود كان يدعو: اللهم إن كنت كتبتني في السعداء فأثبتني في السعداء، وإن كنت كتبتني في الأشقياء فامحني من الأشقياء وأثبتني في السعداء، فأنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب[31].
فمفهوم البداء كما يقول السيد الخوئي: إنما يقع في القضاء غير المحتوم، أما المحتوم منه فلا يتخلف، ولابد من أن تتعلق المشيئة بما تعلق به القضاء[32].
وقسّم السيد الخوئي القضاء الإلهي إلى ثلاثة أقسام هي بإيجاز:
۱- قضاء الله الذي لم يطلع عليه أحدا من خلقه والعلم المخزون الذي استأثر به لنفسه ولا يقع البداء في هذا القسم. وإنما – كما في بعض الروايات – ينشأ البداء من هذا العلم.
۲- قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بأنه سيقع حتما، فلا يقع فيه البداء، وإن افترق عن القسم الأول بأن البداء لا ينشأ إلا منه.
۳- قضاء الله الذي أخبر نبيه وملائكته بوقوعه في الخارج، إلا أنه موقوف على أن لا تتعلق مشيئة الله بخلافه، وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء.
وقسم السيد الطباطبائي القضاء إلى قضاء متغير وغير متغير، وقال: بأن الروايات تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا، بمعنى تغيير علمه في ذاته، وإنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا، بعدما كان الظاهر منه خلافه أولا، فهو محو الأول وإثبات الثاني، والله سبحانه عالم بهما جميعا[33].
وقال السيد محمد كلانتر حول مفهوم البداء: بأن البداء بمعنى الظهور والبيان يستحيل في ذاته المقدسة لاستلزام ذلك حدوث علم الله عز وجل بشيء بعد جهله به، وهو محال في حقه تعالى لتعلق علم الله عز وجل بالأشياء كلها منذ الأزل[34].
وقسّم السيد كلانتر في علمه تعالى بالموجودات بأسرها إلى حصولي وحضوري، فالعلم الحصولي عبارة عن حصول صورة الشيء عند العقل وإن كان لدى التحقيق الدقيق هي كيفية نفسانية كسائر حالات النفس، وملكاتها من السخاء والشجاعة والعفة وغيرها.
أما العلم الحضوري فهو عبارة عن انكشاف الشيء بتمام ذاته وحقيقته وهويته لدى العالم، وهو ليس مقسما للتصور والتصديق، أو عبارة عن مجموع التصويرات الثلاثة مع الحكم وهي: تصور الموضوع والمحمول والنسبة بينهما والحكم بالوقوع أو اللاوقوع.
وقال الشيخ محمد جواد البلاغي حول مفهوم البداء: بأن البداء المنسوب إلى الله جل شأنه، أي ظهر لله من المشيئة ما هو مخفي على الناس وعلى خلاف ما يحسبون[35].
ثم قال: بأن آية المحو والإثبات تنادي بأن مقام المحو والإثبات هو غير مقام أم الكتاب، وعلم الله المكنون ومشيئته وإرادته الأزلية، بل هو في مقام الظاهر في سير الأسباب وتسبيباتها، فقد تقتضي مشيئته – جل أسمه – أن يمنع أسباب البقاء وطول العمر عن الزاني وقاطع الرحم، وقد يمنع الأسباب المهلكة عن واصل الرحم والمتصدق والداعي – مثلا- فيمحو في هذه الموارد ما جعله لنوع الأسباب من التسبيب، وقد لا يمحوه في بعض الموارد لحكمة أخرى فيكون قد أثبته أي أبقاه ثابتا.
وقد عدد الطبري الأقوال المختلفة في تحديد معنى التغيير لآية المحو والإثبات واستعرض الحجج التي استدل بها كل قائل على ما يراه، فمنهم من يذهب إلى أن التغيير في كل شيء عدا السعادة والشقاء فأنهما ثابتان، وآخرون يرون أن التغيير في كل شئ، أي أن الآية تفيد الإطلاق، وهو مذهب عمر بن الخطاب وجماعة آخرين[36].
ثم ذكر رواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن النبي (ص) أشار إلى أن الرزق والأجل يمحى منهما ويزيد فيهما.
وأكد الشيخ الطبرسي بأن التغيير عام في كل شيء، لأن الله تعالى بيده مقاليد أمور العباد، فما شاء منها قدم، وما شاء منها أخر وما شاء منها أثبت، وعنده أم الكتاب[37].
وأكد الشيخ المفيد بأن الأصل في مفهوم البداء الظهور، وأما عن آية الزمر، 47، فقال: ظهر لهم من أفعال الله تعالى ما لم يكن في حسبانهم وتقديرهم، وعن آية الزمر، 48، قال: يعني ظهر لهم جزاء كسبهم وبان لهم ذلك، ثم قال: فالمعنى في قول الإمامية: بدا لله في كذا، أي ظهر له فيه، ومعنى ظهر فيه أي ظهر منه.
ثم أكد بأن اللفظة إنما أطلقت على الله من باب الاستعارة، كما يطلق عليه الغضب والرضا مجازا، فاللفظ خاص فيما يظهر من الفعل الذي كان وقوعه بعيدا عن النظر.
وأكد البنداري بأن في قول المفيد تمييز واضح على أن لفظ البداء إذا أطلق بحق الواجب، فأنه يعني الظهور الذي تمتاز به بعض الأفعال الإلهية، بينما لا يقصد به المعنى الإنساني الذي يراد به تغيير العزم وتجدد الإرادة.
ونقل البنداري عن الغزالي قوله: فالله تعالى لا يغيّر ما قضاه، لأنه تعالى لا يعارض نفسه فيما قضاه، إذ لم يكن عبثا ولا تبعا للشهوات، تعالى عن ذلك، وإنما قضى بمقتضى الحكمة، وما صدر عن الحكمة فلا مغير له، فما قضاه منوطا بفعل العبد فكالحرث والنسل، وما قضاه موقوفا على فعل العبد فكالدعاء والاستغفار[38].
ونقل البنداري عن الباقلاني بأنه أدرج مفهوم البداء تحت مفهوم النسخ، لأنه يرى جواز نسخ الشئ قبل وقت فعله وامتثاله. ولكن البنداري في نظرية البداء أكد بأن هذا ليس نسخا وإنما هو بداء، إذ المعروف إن النسخ لا يكون نسخا إلا بعد الفعل به، ومن ثم يرد الأمر بترك الفعل لانتهاء المصلحة المتعلقة بظرف الفعل ذاته.
ويمكن أن يضاف إلى رأي البنداري فرقا مهما بينهما هو أن النسخ يتعلق بالأحكام التشريعية خلال فترة الرسالة فقط، وقد انتهى النسخ بوفاة الرسول محمد (ص)، فلا نسخ بعد وفاته (ص).
أما البداء فهو يتعلق بالأحداث الخاصة بالفرد، والعامة للمجتمع، ومنها ما يتعلق بالكوارث، مثل انتشار الأمراض والأوبئة والقتل والحروب و الزلازل والعواصف وغيرها التي تتعلق بانتشار الآثام بين البشر، ومنها عدم انتشار هذه الكوارث، وإنما ينتشر الرخاء والرفاه والسعادة والصحة والأمن والاستقرار بين الأفراد والشعوب إذا عمت طاعة الناس لخالقها وأبتعد البشر عن المعاصي والآثام والاعتداء على الآخرين.
للاطلاع على المزيد مما كتبه نفس الكاتب حول هذا الموضوع، يُرجى الضغط على الرابطين التاليين:
مفهوم البداء عند الشيعة وأمثلته والرؤى المنصفة
فكرة البداء في الفكر الشيعي ليست فكرة يهودية
الاستنتاج
أن مفهوم البداء في القرآن والسنة يعكس قدرة الله المطلقة في تغيير ما قد قدره أو أعلنه سابقا، مما يبرز أهمية الدعاء والأعمال الصالحة كعوامل مؤثرة في تغيير الأقدار، يتجلى البداء في النصوص الدينية كوسيلة لإظهار رحمة الله وعدله في التدبير، حيث يمكن أن يؤثر تصرف الإنسان في مصيره، كما يوضح العلماء أن البداء لا يعني تغيير علم الله، بل هو ظهور لمشيئته الأزلية في سياق الحياة اليومية، ويسلط النص الضوء على العلاقة بين القدر والاختيار البشري، مشيرا إلى أن الأعمال الصالحة قد تغير مجرى الأحداث.
الهوامش
[1] الرعد، ۳۹.
[2] الروم، 4.
[3] الزمر، 47.
[4] الجاثية، ۳۳.
[5] فاطر، ۱۱.
[6] السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص661.
[7] البخاري، صحيح البخاري، ج4، ص112.
[8] البخاري، صحيح البخاري، ج3، ص168.
[9] غافر، 60.
[10] ابن عبد ربّه، العقد الفريد، ج3، ص218.
[11] البخاري، صحيح البخاري، ج2، ص194.
[12] البقرة، 142.
[13] البقرة، 143.
[14] الإمام العسكري، التفسير، ص386.
[15] الكليني، الكافي، ج1، ص146.
[16] الكليني، الكافي، ج2، ص466.
[17] الكليني، الكافي، ج2، ص150.
[18] مريم، 67.
[19] الروم، 27.
[20] البقرة، ۱۱۷.
[21] فاطر، ۱.
[22] السجدة، ۷.
[23] التوبة، 106.
[24] فاطر، ۱۱.
[25] الذاريات، 54.
[26] الذاريات، 55.
[27] المائدة، 64.
[28] القدر، ۱.
[29] غافر، 51.
[30] الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع)، ج1، ص144ـ 152.
[31] السيوطي، الدر المنثور، ج4، ص663.
[32] الخوئي، البيان في تفسير القرآن، 409.
[33] الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج۱۰، ص۳۷۸.
[34] كلانتر، البداء عند الشيعة الإمامية، ص۲۹.
[35] البلاغي، مسألة في البداء، ص10.
[36] الطبري، تفسير الطبري، ج6، ص477.
[37] الطبرسي، مجمع البيان، ج۱۳، ص185.
[38] الغزالي، روضة الطالبين، ص51.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن عبد ربّه، أحمد، العقد الفريد، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأُولى، 1404 ه.
3ـ الإمام العسكري، الحسن، التفسير، قم، تحقيق ونشر مدرسة الإمام المهدي (ع)، الطبعة الأُولى، 1409 ه.
4ـ البخاري، محمّد، صحيح البخاري، دار الفكر، طبعة 1401ه.
5ـ البلاغي، محمّد جواد، أربع رسائل، مسألة في البداء، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1424 ه.
6ـ الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار الزهراء، الطبعة الرابعة، 1395 ه.
7ـ السيوطي، عبد الرحمن، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، بيروت، دار الفكر، بلا تاريخ.
8ـ الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا (ع)، تصحيح وتعليق حسين الأعلمي، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، طبعة 1404 ه.
9ـ الطباطبائي، محمّد حسين، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسّسة النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
10ـ الطبرسي، الفضل، مجمع البيان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسّسة الأعلمي، الطبعة الأُولى، 1415 ه.
11ـ الطبري، محمّد، جامع البيان عن تأويل آي القرآن (تفسير الطبري)، بيروت، دار الفكر، طبعة 1415 ه.
12ـ الغزالي، محمّد، مجموعة رسائل الإمام الغزالي، روضة الطالبين وعمدة السالكين، بيروت، دار الفكر، طبعة 1416 ه.
13ـ كلانتر، محمّد، البداء عند الشيعة الإمامية، النجف، منشورات جامعة النجف الأشرف، 1975م.
14ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الكاتب: سعد حاتم مرزه