تتناول هذه المقالة مفهوم الشر وأبعاده المختلفة، حيث يبدأ البحث بتعريف الشر في اللغة والاصطلاح العقائدي، موضحا أنه يشمل عدم الكمال والوجود، ويتناول المقال أيضا تصنيفات الشر إلى شر حقيقي وشر قياسي، مع تقديم أمثلة توضح طبيعة كل منهما، كما يناقش المقال الحكمة من وجود الشرور والآلام في الحياة.
المبحث الأوّل: مفهوم الشر
مفهوم الشر في اللغة: السوء، وهو ضدّ الخير وفي الاصطلاح العقائدي: يطلق الشر على[1]:
1- عدم كمال الوجود مما له شأنية ذلك الكمال، من قبيل العمى للعين، أو عدم الثمرة في الشجرة المؤهّلة لإعطاء الثمرة.
2- عدم الوجود مما له شأنية الوجود، من قبيل عدمية وجود الإنسان بعد وجوده، لأنّ ذلك شرّ بالنسبة إلى هذا الإنسان.
المبحث الثاني: أقسام الشر
1- مفهوم الشر الحقيقي الذاتي: وهو أمر عدمي لما من شأنه الوجود، كالجهل والعجز والفقر بالنسبة إلى الموجود الذي من شأنه العلم والقوّة والغنى.
2- مفهوم الشر القياسي العرضي: وهو أمر وجودي، وإنّما يتّصف بالشر لأنّه يؤدّي إلى إعدام وجود شيء ما أو إعدام كمال وجوده، كالزلازل والسيول والزواحف السامّة والحيوانات المفترسة و….
القسم الأوّل: الشر الحقيقي
ليس مفهوم الشر الحقيقي أمراً وجودياً، بل هو أمر عدمي، ومن أمثلة عدمية الشر الحقيقي[2]:
1- إنّ الجهل هو عدم العلم، وللعلم وجود، ولكن الجهل ليس له أي وجود، وإنّما هو مجرّد عدم العلم.
2- إنّ الفقر هو عدم الملك، وللملك وجود، ولكن الفقر ليس له أي وجود، وإنّما هو مجرّد عدم الملك، والفقير هو الفاقد للملك والثروة، وليس الفقير هو المالك لشيء اسمه الفقر.
3- إنّ العمى عدم، وليس له واقع ملموس بحيث يوجد في العين شيء يسمى العمى، وإنّما هو فقدان الرؤية وعدم البصر.
4- إنّ الموت عدم، وهو فقدان الجسم للحياة وتحوّله إلى جماد، وليس الموت تحصيلا لشيء، بل هو فقدان لشيء.
5- إنّ الظلمة ليست شيئاً سوى عدم النور، والنور له وجود، وله منشأ يشع منه، ولكن الظلمة ليس لها وجود، وليس لها مبدأ أو منشأ تشع منه.
ثمرة نظرية عدمية الشرور
يؤدّي إثبات عدمية الشرور إلى بطلان النظرية الثنوية بجميع اتّجاهاتها المتنوّعة، بيان ذلك: ذهبت الاتّجاهات الثنوية إلى:
1ـ أنّ الشر أمر وجودي.
2ـ أنّ الخير يحتاج إلى مبدأ فاعلي ينسجم ـ له سنخية ـ مع الخير، وأنّ الشرّ يحتاج إلى مبدأ فاعلي ينسجم ـ له سنخية ـ مع الشرّ، فلهذا ينبغي أن يكون موجد الخير غير موجد الشر.
تقييم نظرية الثنوية حسب القول بعدمية الشر
تنهار نظرية الثنوية مع إثبات عدمية الشرّ، لأنّ هذه النظرية تثبت بأنّ الشر ليس أمراً وجودياً ليحتاج إلى موجد أو مبدأ يسانخه، بل الشرّ أمر عدمي، والعدم ليس شيئاً حتّى يحتاج إلى إيجاد.
القسم الثاني: الشر القياسي
إنّ مفهوم الشرّ القياسي أمر وجودي، أي له وجود، وهو من قبيل الجراثيم والميكروبات والعقارب السامّة والحيوانات المفترسة والزلازل والعواصف، فهي موجودة، وهي ليست شرّاً بذاتها وإنّما توصف بالشرّ عند مقايستها مع الإنسان، لأ نّها تلحق بالإنسان ما هو شرّ له.
تبيين كيفية اتّصاف الموجودات بالشر
أقسام الصفات: الأوّل: الصفات الحقيقية، الثاني: الصفات القياسية النسبية العرضية.
خصائص الصفات الحقيقية
1ـ لها واقعية في الصعيد الخارجي، 2ـ تثبت هذه الصفات للأشياء بقطع النظر عن أي شيء آخر.
مثال الصفات الحقيقية
1ـ صفة الوجود للإنسان، فهي صفة لها واقعية في الصعيد الخارجي، 2ـ صفة الحياة للإنسان، لأنّ الإنسان يتّصف بالحياة بقطع النظر عن مقارنته بأي شيء آخر.
خصائص الصفات القياسية
1ـ ليس لها واقعية في الصعيد الخارجي، 2ـ ينتزعها ذهن الإنسان عن طريق المقايسة بينها وبين شيء آخر.
مثال الصفات القياسية
1ـ الصغر والكبر، فالكبر صفة ليس لها وجود في الواقع الخارجي، وإنّما يتّصف بها الشيء عن طريق مقايسته بما هو أصغر منه.
توضيح المثال: توصف الأرض بالكبر عند مقايستها بالقمر، وتوصف في نفس الوقت بالصغر عند مقايستها بالشمس، وهذان الوصفان لا يدخلان في حقيقة الموصوف وهو الأرض، وإلاّ لما صح وصف الأرض بوصفين متعارضين في آن واحد.
2- الأوّليّة والثانوية، فهذه الصفات ليس لها وجود خارجي، وإنّما يتّصف بها الشيء عند مقايسته مع الشيء الآخر.
توضيح المثال: لو شرح الأستاذ موضوعاً لتلميذه مرّتين، فهذا الشرح له في كلّ مرّة صفة خاصة، ويوصف تارة بالشرح الأوّل، ويوصف تارة أُخرى بالشرح الثاني، ولا يعني هذا أنّ الأستاذ أدّى في كلّ مرّة عملين أحدهما نفس الموضوع، والآخر صفة الأوليّة والثانوية، بل: هذه الصفات اعتبارية وقياسية تنشأ من أداء الأستاذ للعمل مكرراً.
نوعية الشر في الأشياء المتّصفة بالشر
إنّ الأشياء المتّصفة بالشرّ ليست شرّاً من قبيل مفهوم الشر الحقيقي، بل هي من قبيل مفهوم الشر القياسي، أي: إنّ شرّها صفة قياسية ينتزعها ذهن الإنسان عند مقايستها مع الأشياء الأخرى، مثال ذلك:
1ـ إنّ الجراثيم والميكروبات ليست شرّاً بذاتها، وإنّما توصف بالشرّ لأ نّها تؤدّي إلى فقدان حياة الإنسان أو فقدان صحة بدنه، فهي شرّ بالعرض وبالمقايسة إلى الأمر الذي تقوم به إزاء الإنسان.
2- إنّ العقارب السامّة والحيّات القاتلة والحيوانات المفترسة والسباع الضواري ليست شرّاً بذاتها، بل تتّصف بالشر نتيجة الأذى الذي تلحقه بالإنسان أو بالكائنات الأُخرى.
3- إنّ الزلازل والعواصف ظواهر طبيعية تنتج من حدوث بعض التغييرات الأرضية والجوية، وليست هذه الظواهر شراً بذاتها، وإنّما توصف بالشرّ لأ نّها من شأنها تدمير حياة الإنسان وإلحاق الضرر بمنافعه، ولهذا فإنّ وصف هذه الظواهر بالشرّ لا يكون إلاّ بعد مقايستها مع مصالح ومنافع الإنسان.
تنبيه: بما أنّ مفهوم الشر القياسي أمر وجوديٌّ، فلهذا يحتاج هذا الشر إلى الخلق والتقدير، ومن هذا المنطلق:
1ـ قال الإمام جعفر الصادق (ع) في تمجيده للّه تعالى: … أنت اللّه لا إله إلاّ أنت خالق الخير والشرّ….
2- قال (ع) أيضاً في دعاء عرفة: اللّهم … بيدك مقادير الخير والشرّ …[3].
والمقصود من مفهوم الشرّ في هذا المقام هو الشرّ القياسي الذي له وجود، وليس المقصود الشرّ الحقيقي، ولا شكّ أنّ الجراثيم والمكروبات والعقارب السامّة والزلازل والعواصف أُمور مخلوقة ويكون الضرر الذي تلحقه بالكائنات الأُخرى وفق مقادير معيّنة.
تنبيهات حول الشرور
1ـ إنّ وجود الشرور ـ أي: وجود الكائنات التي تلحق الشرّ بالكائنات الأُخرى ـ لا ينافي الحكمة الإلهية ولا يتعارض مع وجود النظم في العالم، لأنّ اللّه تعالى جعل هذا العالم مكاناً لاختبار العباد، فجعل الشرور وسيلة لاختبارهم وتمييز مستوى استعانتهم بالصبر إزاء الشرور التي تصيبهم.
2- إنّ اللّه تعالى هو الذي خلق العالم بصورة تتزاحم وتتضاد فيه الموجودات، فينتهي الأمر إلى نشوء الشرور، وكان بإمكانه تعالى أن يصمّم عالم الإمكان بصورة لا تقع فيه الشرور، ولكنه لم يفعل ذلك، لأ نّه شاء أن تكون الشرور هي الوسيلة لاختبار العباد.
3- لا يصح القول بأنّ اللّه تعالى وجد بأنّ خلقه للعالم يستلزم الخير الكثير والشر القليل، فرضي بالشر القليل لكثرة الخير، بل الصحيح: إنّ اللّه عزّ وجلّ هو الذي جعل الدنيا داراً بالبلاء محفوفة، وهو الذي خلق الإنسان في كبد[4] ـ أي: في وسط الآلام والشدائد ـ، وهو الذي جعل الشر في العالم ليبلوا الناس أيّهم أحسن عملا[5].
المبحث الثالث: الآلام وأوجه حسنها وقبحها[6]
إنّ الألم من الأُمور الوجدانية المحسوسة لدى كلّ إنسان، وما يهمُّنا في هذا المقام معرفة أوجه حسن وقبح الألم، ليمكننا بعد ذلك معرفة أوجه حسن إلحاق الألم من اللّه تعالى بالعباد.
أوجه حسن الألم: 1ـ الاستحقاق، 2ـ حصول النفع الوافي، 3 ـ دفع ضرر أعظم من الألم.
أمثلة حسن إلحاق الأذى والألم بالآخرين على نحو الاستحقاق:
ألف ـ ذم المسيء، وإن كان ذلك سبباً في تألّمه، لأ نّه يستحق ذلك.
ب ـ تأديب أهل السوء على إساءتهم، لأ نّهم يستحقون ذلك.
تنبيه: يرد على من يرى بأنّ إلحاق الألم من اللّه تعالى بالعباد لا يكون إلاّ للاستحقاق بأنّ الأنبياء أكثر الناس بلاءً، فلو كان البلاء والألم على وجه الاستحقاق فقط، لأخلّ ذلك بعصمتهم، بل بعدالتهم.
أمثلة حسن إلحاق الأذى والألم بالنفس أو الغير من أجل الحصول على النفع:
ألف ـ إتعاب النفس وتحمّل المشقّات المؤلمة طلباً للعلم أو الحصول على الأرباح من خلال السفر، فإنّ هذا الألم حسن، لأنّ به يتم الحصول على النفع الوافي.
ب ـ استئجار الغير لأداء عمل شاق إزاء أجر يعتد به، فإنّ الألم الذي يتحمّله الإنسان خلال العمل حسن، لأنّ به يحصل الإنسان على النفع الوافي.
تنبيه
1- لا يحسن الألم للحصول على النفع إلاّ في حالة عدم وجود سبيل للوصول إلى هذا النفع إلاّ بالإيلام، ولهذا لا يحسن منّا السفر وإتعاب النفس فيه طلباً للأرباح التي نستطيع أن نظفر بها في بلادنا.
أمثلة حسن إلحاق الأذى والألم بالنفس أو الغير من أجل دفع الضرر:
ألف ـ شرب المريض الدواء الكريه والمرّ للتخلّص من المرض.
ب ـ مبادرة الطبيب إلى معالجة المريض عن طريق العملية الجراحية المؤلمة.
أوجه قبح الألم
1ـ العبث، 2ـ الظلم، 3ـ الفساد.
الآلام الصادرة من قبل اللّه تعالى: إنّ جميع الآلام الصادرة من قبل اللّه تعالى حسنة، لأ نّه تعالى منزّه عن العبث والظلم والفساد.
أوجه حسن الألم الصادر من قبل الله
1ـ الاستحقاق: وهو أن يعجّل اللّه تعالى عقوبة بعض المذنبين في دار الدنيا، فيصيبهم ببعض الآلام التي يستحقونها، مثال ذلك:
ألف ـ الحدود والتعزيرات على من ارتكب موجباتها، ب ـ إنزال العذاب على الأُمم الطاغية بما كانوا يعملون.
2ـ الغرض والمصلحة: إنّ اللّه تعالى قد يؤلم البعض لوجود مصلحة ولطف لهم أو لغيرهم، بحيث يخرج الألم بهذه المصلحة عن كونه عبثاً، وسنبيّن حكمة الشرور والآلام في المبحث القادم.
3ـ العوض: إنّ اللّه تعالى إضافة إلى وجود الحكمة في إلحاقه الألم بالعباد، فإنّه يعوّضهم إزاء ما يؤلمهم، وبهذا العوض يخرج الألم عن كونه ظلماً.
تنبيه: لا يحسن الألم من اللّه تعالى لدفع الضرر، لأ نّه تعالى قادر على دفع كلّ ضرر من دون ألم، فيكون الألم في هذا المقام عبثاً، واللّه عزّ وجلّ منزّه عن العبث.
المبحث الرابع: حكمة الشرور والآلام
1ـ تثبت البراهين القاطعة بأنّ اللّه تعالى حكيم ومنزّه عن الظلم والأفعال القبيحة، ولهذا يلزم حمل الشرور على ما لا ينافي هذه البراهين القاطعة.
2- عدم معرفة حكمة الشرور والآلام لا يعني عدم وجود حكمة فيها، بل غاية الأمر قصور الفهم وعدم العلم بحكمتها، وقد ورد في النصوص الدينية: قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً[7]، وقال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا[8].
قال الإمام أمير المؤمنين (ع): إنّ الدنيا لم تكن لتستقر إلاّ على ما جعلها اللّه عليه من النعماء والابتلاء والجزاء في المعاد، أو ما شاء مما لا تعلم، فإن أشكل عليك شيء من ذلك فاحمله على جهالتك.
3- إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لتفجير الطاقات وازدهار المواهب وتنشيط المساعي والاندفاع نحو الحركة المثمرة والمحاولة المقتدرة والسعي المتواصل والتحرّر من الكسل.
بعبارة أُخرى: يكمن كمال الإنسان في المسارعة نحو الكمال، ولا يكون ذلك إلاّ في ظل الطموح، ولا يتحقّق الطموح إلاّ في ظل الحرمان.
4- إنّ أجواء الحياة المحفوفة بالمشاكل والمصاعب تدفع الإنسان الذي يحسن الاستفادة منها إلى غرس الصمود والصلابة في نفسه، وتزيده قوّة لحلّ المشاكل ورفع الموانع وتحطيم العقبات ومواجهة التيارات المعاكسة التي يجدها خلال مسيرته نحو الكمال.
قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): إنّ الشجرة البريّة[9] أصلب عوداً، والرواتع الخضرة[10] أرق جلوداً[11].
5- إنّ اللذائذ والشهوات ـ بصورة عامة ـ توجب غفلة الإنسان، وتؤدّي إلى ابتعاده عن القيم الأخلاقية والكمالات المعنوية، وإنّ البلايا والمصائب والمحن تكون بمنزلة المنبّهات التي توقظ الإنسان وتخفّف من غفلته وطغيانه، ولهذا قال تعالى: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَة مِنْ نَبِيّ إِلاّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ[12].
وقال: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْص مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ[13]، وقال: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاء عَرِيض[14]، وقال: وَلَوْ بَسَطَ اللّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَر ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ[15]، وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ[16].
6- إنّ البلايا والمصائب خير وسيلة لإيقاف الإنسان العاصي على نتائج عتوّه وعصيانه، وهي أدعى لأهل السوء إلى ترك العناد، وأشدّ زجراً لنفوسهم عن الميل إلى الهوى وحبّ الفساد، وهي تتضمّن التحذير لهم، وتحثّهم على إصلاح نفوسهم، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[17].
قال الإمام جعفر الصادق (ع): إنّ اللّه إذا أراد[18] بعبد خيراً فأذنب ذنباً، أتبعه بنقمة، ويذكّره الاستغفار[19].
7- إنّ كون البلاء نعمة أو نقمة يرتبط بنوع ردّ فعل الإنسان، لأنّ الموضوع الواحد قد يختلف وصفه بالنسبة إلى شخصين.
توضيح: إنّ البلايا والمصائب وسيلة لاختبار الإنسان، فإذا كان موقف الإنسان منها موقف المؤمن الصالح، فسيكون البلاء له خيراً، وسبيلا لوصوله إلى الكمال، وإن كان موقف الإنسان منها موقف المعاند للحق، فسيكون البلاء له شراً، وسبيلا لإيصاله إلى النقصان.
مثال: إنّ الفقر بصورة عامة شرّ، ولكنه إذا كان سبباً في تقرّب الإنسان إلى اللّه تعالى فهو خير، وإنّ الغنى بصورة عامة خير، ولكنه إذا كان سبباً في ابتعاد الإنسان عن اللّه تعالى فهو شر، وقد قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ[20].
النتيجة: يُنزّل اللّه تعالى ـ بحكمته ـ وحسب ما تقتضيه المصلحة النعمة والبلاء على الناس، فمن شكر إزاء النعم وصبر إزاء البلاء فهو من أهل السعادة، ومن كفر إزاء النعم ولم يصبر إزاء البلاء فهو من أهل الشقاء.
8- إنّ الحكمة من بعض البلايا هو اختبار العباد وتشخيص مستوى استعانتهم بالصبر، وقد ورد في النصوص الدينية: قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْء مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْص مِنَ الأَمْوالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصّابِرِينَ[21].
قال الإمام الصادق (ع): إنّ العبد ليكون له عند اللّه الدرجة لا يبلغها بعمله، فيبتليه اللّه في جسده، أو يصاب بماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبر بلّغه اللّه إيّاها[22].
9- إنّ بعض الشرور قد تكون لمعاقبة العصاة والمذنبين، وهي مصائب بما كسبت أيدي الناس، وقد ورد هذا المعنى في العديد من الآيات القرآنية، منها:
1ـ أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْن مَكَّنّاهُمْ فِي الأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ[23]، 2ـ وَما كُنّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ[24]، 3ـ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَة فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ[25]، 4ـ فَكُلاًّ ـ من الأمم التي أنزلنا عليها العذاب ـ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ … وَما كانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[26].
تنبيه: إنّ العذاب الذي أباد اللّه تعالى به بعض الأُمم السابقة بما كسبت أيديهم أهلك الظالمين لظلمهم، وأهلك غيرهم لعدم أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ولهذا ورد في القرآن والسنة:
قال تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً[27].
قال رسول اللّه (ص): لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمّنكم عذاب اللّه[28].
10- إنّ اللّه تعالى يبتلي بعض عباده بالمصائب ليطهّرهم من الأدران والشوائب التي علقت بهم خلال ارتكابهم للذنوب، فيكون ذلك سبيلا لتكفير خطاياهم، قال رسول اللّه (ص): ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا سقم ولا أذى ولا حزن ولا همّ.. إلاّ كفّر اللّه به خطاياه[29].
11- إنّ الحكمة من نزول البلايا والمصائب على الأنبياء والأولياء والمخلصين هو تركهم الأولى أو رفع شأنهم، وقد ورد في الأحاديث الشريفة:
قال الإمام علي (ع): إنّ البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة، وللأولياء كرامة[30]، وقال الإمام الصادق (ع): إنّ اللّه يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها من غير ذنب[31].
تنبيهان
1- إنّ بعض مصاديق الخير والشر واضحة عند الإنسان، والبعض الآخر مبهمة بحيث لا يستطيع الإنسان التمييز بين كونها خيراً أو شراً له، من قبيل الأُمور المرتبطة بعالم الغيب، وهنا ينبغي للإنسان الرجوع إلى الدين والشريعة الحقّة ليعرف ما هو خير له وما هو شر له.
2- إنّ الإنسان قد ينطلق في تقييمه للشرور والبلاء من رؤية غير شمولية، فيجعل المصالح الآنية مقياساً للتقييم، وهو غافل عن مصلحته الكلية، ولهذا قال تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[32].
المبحث الخامس: إيلام غير المكلَّفين
إنّ أسباب الآلام التي تصيب غير المكلّفين ـ من قبيل الأطفال وذوي العقول القاصرة والبهائم و …ـ تنقسم إلى قسمين:
الأوّل: يكون المسبّب للألم غير اللّه، من قبيل الذوات العاقلة التي تمتلك الاختيار في الفعل، فتكون هذه الذوات هي المتحملّة لتبعات إلحاقها الألم بغيرها ـ فيما لو كان في ذلك تجاوزٌ لحدود العدل ـ.
الثانية: يعود سبب الألم إلى اللّه تعالى، وبما أ نّه تعالى عادل وحكيم، فهو لا يفعل إلاّ ما فيه العدل والحكمة، أضف إلى ذلك:
1- قد يكون الغرض والحكمة من إلحاق اللّه الألم بغير المكلّفين هو اعتبار واتّعاظ المكلّفين، وبهذا يخرج هذا الألم عن كونه عبثاً.
2- سيعوّض اللّه تعالى هؤلاء غير المكلّفين في يوم القيامة إزاء هذه الآلام، وبهذا يخرج الألم عن كونه ظلماً.
تنبيه: ليس في موت الأطفال بصورة مبكّرة ما ينافي العدل الإلهي، لأنّ الإبقاء ليس واجباً عليه تعالى ليكون في تركه خلاف العدل، كما أنّ هؤلاء الأطفال سيجتازون مرحلة التكليف يوم القيامة، وسيتم تحديد مصيرهم هناك من خلال اختيارهم لسبيل السعادة أو الشقاء.
وجه حسن إيلامه تعالى للبهائم
إنّ اللّه تعالى أباح للإنسان ذبح البهائم من أجل الانتفاع بها، ويكون الغرض الذي يخرج به هذا الإيلام من العبث: انتفاع الإنسان من لحومها وجلودها و… ويكون الأمر الذي يخرج به هذا الإيلام من الظلم: أ نّه تعالى تكفّل أعطاء العوض لهذه البهائم في يوم القيامة.
الاستنتاج
أن مفهوم الشر يتنوع ويتضمن عدة أبعاد، حيث يُقسم إلى الشر الحقيقي، الذي يُعتبر عدما، والشر القياسي، الذي يرتبط بوجود أشياء تؤذي الكائنات، وتُظهر الآلام جوانبها المتعددة، حيث يمكن أن تكون حسنة أو قبيحة وفقا للسياق، وتُعتبر جزءا من الحكمة الإلهية في اختبار الإنسان، كما يُبرز البحث حكمة الله في إيلام غير المكلَّفين، مما يُظهر عدالة الله ورحمته.
الهوامش
[1] انظر: ابن منظور، لسان العرب، مادة شرر .
[2] إنّ أساس نظرية عدمية الشرور تعود إلى أفلاطون.
[3] ابن طاووس، الإقبال، ج2، باب 3، ص121.
[4] قال الإمام علي (ع) حول الدنيا: دار بالبلاء محفوفة وبالعناء معروفة وبالغدر موصوفة … وإنّما أهلها فيها أغراض مستهدفة، ترميهم بسهامها، وتقصمهم بحمامها، المجلسي، بحار الأنوار، ج73، كتاب الإيمان والكفر، باب 122، ح109، ص117.
[5] إشارة إلى قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ في كَبَد، البلد، 4.
[6] قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ، الأنبياء، 35.
[7] الإسراء، 85.
[8] الروم، 7.
[9] الشجرية البرّية: التي تنبت في البرّ الذي لا ماء فيه.
[10] الرواتع الخضرة: الأشجار والأعشاب الغضة الناعمة التي تنبت في الأرض الندية.
[11] الشريف الرضي، نهج البلاغة، رسالة 45، ص575.
[12] الأعراف، 94.
[13] الأعراف، 130.
[14] فصّلت، 51.
[15] الشورى، 27.
[16] المؤمنون، 75.
[17] الروم، 41.
[18] إنّ إرادة اللّه تعالى ليست عشوائية، وإنّ منشأها في هذا المقام عمل الإنسان نفسه.
[19] الكليني، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب الاستدراج، ح1، ص452.
[20] آل عمران، 178.
[21] البقرة، 155.
[22] المجلسي، بحار الأنوار، ج71، كتاب الإيمان والكفر، باب 62، ح50، ص94.
[23] الأنعام، 6.
[24] القصص، 59.
[25] الشورى، 30.
[26] العنكبوت، 40.
[27] الأنفال، 25.
[28] الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج16، كتاب الأمر بالمعروف، باب 3، ح21173، ص135.
[29] المجلسي، بحار الأنوار، ج81، كتاب الطهارة، باب 44، ح45، ص188.
[30] المجلسي، بحار الأنوار، ج67، كتاب الإيمان والكفر، باب 12، ح54، ص235.
[31] الكليني، الكافي، ج2، كتاب الإيمان والكفر، باب في تفسير الذنوب، باب نادر، ح2، ص450.
[32] البقرة، 216.
مصادر البحث
1ـ القرآن الكريم.
2ـ ابن طاووس، علي، إقبال الأعمال، تحقيق جواد القيّومي، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، الطبعة الأُولى، 1414 ه.
3ـ ابن منظور، محمّد، لسان العرب، قم، نشر أدب الحوزة، طبعة 1405 ه.
4ـ الحر العاملي، محمّد، وسائل الشيعة، تصحيح وتعليق الشيخ عبد الرحيم الربّاني الشيرازي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الخامسة، 1403 ه.
5ـ الشريف الرضي، محمّد، نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، بيروت، الطبعة الأُولى، 1387 ه.
6ـ الكليني، محمّد، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة، 1388 ش.
7ـ المجلسي، محمّد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسّسة الوفاء، الطبعة الثانية، 1403 ه.
مصدر المقالة (مع تصرف)
الحسون، علاء، العدل عند مذهب أهل البيت (ع)، قم، المجمع العالمي لأهل البيت (ع)، طبعة 1432ه.