ما هو نوع الولاء الوارد في قول رسول الله (ص) في خطبة الغدير فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه؟ فهل نوع الولاء الذي أثبته النبي (ص) للإمام علي (ع) في هذه الخطبة ولاء الحكم بمعنى كون الإمام علي (ع) ولي الأمر بعد النبي (ص)، أو يعني ولاء آخر غير ذلك؟
فقرتان أصليان في خطبة الغدير
أن خطبة الغدير تتضمن فقرتين أصليتين مختلفتين موضوعاً ومضموناً:
الأولى فقرة الثقلين ومقدماتها وتوابعها
وتتضمن جعل أهل البيت (ع) أعلاماً للهداية في الأمة بعد النبي (ص)، وموضوعها هو أهل البيت (ع)، وهو عنوان أعم يشمل الإمام علياً (ع) وسائر أفراد أهل البيت (ع).
كما أن مضمونها المباشر كونهم (ع) أعلاماً للهدى، ويكون التمسك بهم واقياً من الهلاك والضلالة، فهم القوام على هذه الأمة في مسيرتها واتجاهها في دينها ودنياها كما كان النبي (ص) في حياته.
وتفيد هذه الفقرة اصطفاء أهل البيت (ع) مع النبي (ص) في هذه الأمة، فالله سبحانه وتعالى اصطفى محمد وآل محمد من هذه الأمة كما اصطفى الأنبياء وسلالاتهم في الأمم السابقة مثل اصطفاء إبراهيم وآل إبراهيم.
الثانية فقرة الولاء ومقدماتها وتوابعها
وهي قوله (ص): فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، ونعني بمقدماتها إقراره (ص) الناس على أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم بقوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما نعني بتوابعها قوله: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه و انصر من نصره واخذل من خذله.
وموضوع هذه الفقرة يختص بالإمام علي (ع) ولا يشمل غيره من أهل البيت (ع)، ومن حيث مضمونها تتضمن إثبات الولاء وليس التميز في الهدى كما في فقرة الثقلين، فالفقرتان مختلفتان موضوعاً ومضموناً، ولكن الثانية متفرعة عن الأولى.
والسؤال الواقع في هذا السياق هو عن نوع الولاء، فهل يعني هذا الولاء الذي أثبته النبي (ص) للإمام علي (ع) في هذه الخطبة ولاء الحكم بمعنى كون الإمام علي (ع) ولي الأمر بعد النبي (ص)، أو يعني ولاء آخر غير ذلك؟
وهذا الولاء الآخر أحد ولاءات ثلاثة:
- الولاء العام القائم بين المؤمنين المذكور في القرآن الكريم بمثل قوله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[1]، فيكون المراد بالحديث تأكيد هذا الولاء في حق الإمام علي (ع).
- ولاء خاص للإمام (ع) يقتضي محبة المسلمين له فحسب دون مزيد على ذلك.
- ولاء خاص للإمام (ع) يقتضي نصرة المسلمين إياه إذا اعتدي عليه فحسب.
والواقع أن الاستحضار الحي لمشهد واقعة الغدير يؤدي إلى الانتباه إلى الدلالة الواضحة والمؤكدة لهذه الواقعة على إثبات مثل الولاء الثابت للنبي (ص) على جماهير المسلمين للإمام علي (ع).
وإنني أعتقد يقيناً أن التأمل الصادق من جمهور المسلمين لواقعة الغدير كما لو كانوا قد حضروها في حينها كاف في الانتباه لدلالاتها ومفهوم الخطبة النبوية فيها.
ولكن الذي سلب دلالتها ودلالة النص الملقى فيها هو ما لحقها من الأحداث الذي مثّل غياب أمير المؤمنين (ع) عن مشهد الحكم، بل عن مشهد تعيين الحاكم في السقيفة.
حيث إن أهل الحل والعقد من الصحابة – كما يعبّر عنهم – قد بتوا بأمر تعيين الخليفة في السقيفة من دون إطلاعه (ع) ولا إخباره، وقد نقل الجميع عنه (ع) أنه اعترض على ذلك، وامتنع (ع) من البيعة إلى عدة أشهر.
وقد يسلب دلالة الوقائع والنصوص التاريخية – حتى إذا كانت واضحة وصريحة – عدم ترتيب الأثر الملائم لها في مسرح الأحداث خارجاً في حينها، فتحجم دلالاتها بما يلائم ما اتفق من الأحداث المتراكمة لاحقاً، فتولد الأحداث الخارجية المنافرة غباراً حاجباً لمدلول النص محدداً له وصارفاً له إلى ما ينسجم مع الواقع الجاري، ويذلل النص التشريعي للواقع على ما هو عكس المفروض من تحكم النص في الواقع.
وهذا أمر يكثر في الشأن السياسي وما شابهه عندما يقع الانقلاب على الشرعية الدستورية، ويتفق ذلك في العالم المعاصر في دول العالم مكرراً، حيث نجد ليّ النصوص بفعل المؤثرات السياسية الغالبة، ويصبح الفهم المحور المدلول النص تدريجاً بحكم الواقع هو الفهم الطبيعي له.
وهذه ظاهرة وقعت كثيراً في شأن النصوص المأثورة في شأن أهل البيت (ع) مثل فقرة الثقلين – الواردة في ضمن خطبة الغدير أيضاً – حيث نزلت مدرسة الخلفاء مؤداها إلى مستوى محبة أهل البيت، بينما يفيد الحديث بوضوح بالغ ومؤكد – من خلال قرنهم بالكتاب – أنهم عصمة من الضلالة.
وهو ما يقتضي وجود أفراد محدودين يكونون بهذه الصفة؛ إذ من غير المعقول ضمان صلاح وعلم وهدى عشيرة بكاملها على امتداد الأزمان، لكن لم يكن الموقع الذي أحل فيه أهل البيت بعد النبي (ص) ملائماً لهذا المعنى، فنزله الجمهور على مستوى المحبة لعترة النبي (ص).
وهكذا أدى تغييب أهل البيت (ع) عن موقعهم الملائم للنصوص إلى تأويل دلالاتها وتوجيه مفاهيمها بما يلائم سير الوقائع بعد النبي (ص) على أساس اعتبار ما وقع هو الأصل المحكم الذي ينبغي أن تعرض عليه الأحاديث، وبيان ذلك يقع في ضمن أمرين:
الأول: توضيح الولاء في اللغة والعرف والاستعمالات
فيه نقاط:
1ـ نوع الولاء
والولاء ذو معنى واضح ومعروف في اللغة والعرف وشائع في الاستعمالات القرآنية وغيرها، ولا يزال يستعمل في العرف العام، وهو وشيجة اجتماعية[2] خاصة قائمة بين الطرفين تستوجب التعاون والتعاضد والتكاتف بينهما.
ويبدو أن نوع الولاء في أصل اللغة من الاتصال، لكنه كان يعني الاتصال الحسي حيث يقال: هذا الشيء يلي هذا إذا كان يقع بعده متصلاً به من غير فصل، ويقال: ولي فلان فلاناً إذا تبعه من غير فصل، وتواليا إذا تتابعا، ولكنه عمم إلى الاتصال المعنوي على قاعدة تدرج اللغة من الأمور الحسية إلى الأمور المعنوية، فكأن بعض الأولياء متصل ببعض، فهو يلي أمره، ويكون عونه وظهيره وحاميه، وبذلك يكون أولى به من الآخرين.
ويتنوع نوع الولاء بحسب مناشئه وما يترتب عليه من حقوق واستحقاقات إلى أنواع عديدة:
1ـ ولاء الله سبحانه لخلقه
وهو على ضربين: فمنه ولاء عام لجميع خلقه وإن كانوا كافرين بالله تعالى كما قال سبحانه: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَا هُمُ الْحَقِّ[3].
كما أن منه ولاء خاصاً للمؤمنين، كما قال سبحانه: واللهُ وَلِيٌّ المُؤْمِنِينَ[4]، وذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى هم[5]، وأَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[6]، وَبَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ[7]، ووَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمُوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ[8].
هذا وللمؤمنين أيضاً ولاء لله تعالى أيضاً، كما قال تعالى: أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[9].
2ـ ولاية الرسول (ص) على المؤمنين
وهو ولاء يستوجب طاعته ولو اقتضى بذل أنفسهم من دونه[10]، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ[11]، وقال سبحانه: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ[12]، كما أنه يستوجب رحمته ورأفته (ص) بالمؤمنين، كما قال عز من قائل: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[13].
هذا، والمؤمنون أيضاً أولياء للرسول (ص)، كما قال سبحانه: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظهير[14]، وهذا الولاء قد يدرج تحت ولاء الحاكم.
3ـ الولاء السياسي
كما يقال: إن فلاناً مدين بالولاء للدولة أو للجهة السياسية المعينة أو لدولة أخرى، ويترتب على نوع الولاء المذكور وجود نحو من التعاون بين الطرفين في الأمور السياسية.
4ـ الولاء القومي
وهو ولاء بين أهل قومية واحدة بلحاظ الأصل المشترك بينهم وهو على حد الولاء القبلي، ولكنه أوسع نطاقاً ويترتب عليه حماية بعضهم لبعض بإزاء الآخرين.
5ـ الولاء القبلي
وهو الولاء بين أفراد القبيلة الواحدة، ومعناه: أن بعضهم يتولى البعض الآخر، ويترتب عليه أن يكون حمى له وعوناً وظهيراً، فيمنع الآخرين من التعدي عليه، ويستوفي حقه من المعتدي فيقتص ممن يعتدي عليه ويدفع الدية عنه إذا ارتكب جناية، كما قال سبحانه: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيْهِ سُلْطَانًا[15]، وقال عز من قائل: فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهَا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ[16].
6ـ الولاء العقدي[17]
(٤): كما هو الحال في الولاء بالتحالف بين عدة من الدول أو بين القبائل المتعددة، ويترتب عليه أن يكون بعضهم ظهيراً لبعض عند حاجته إلى العون من جهة خطر يهدد أمنه ومصالحه.
ومن هذا القبيل أن يلتحق شخص ما لا عشيرة له أو خلعته عشيرته بعشيرة أخرى فيواليها على أن يحموه ويكون كأحدهم فيما له وعليه بينهم.
7ـ الولاء الأسري أو شبهه
كولاية الأب على الطفل.
8ـ الولاء بالملك
وهو الولاء القائم بين المالك للعبد مع العبد المملوك له، فيعبر عن المالك للعبد بمولى العبد كما يطلق على العبد أيضاً أنه مولى المالك وترتب على ذلك وجوب طاعة العبد للمولى، كما أن على المولى أن يحمي عبده ويقيه من اعتداء الآخرين[18].
9ـ الولاء بالجوار
وهو وشيجة تتحقق بين الجيران تقتضي توقي بعضهم من أذى بعض آخر وعدم مضارته، بل وإعانته ونصرته حسب مقتضى الحال، وعليه يترتب ما أمر به في القرآن الكريم من الإحسان إلى الجار[19].
10ـ الولاء الديني بين أهل الدين الواحد
وهو حالة معروفة في مطلق الأديان ويترتب عليه نوع من التعاطف والتكاتف بين أهل الدين الواحد ومنه الولاء بين المؤمنين في الإسلام، كما قال تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءُ بعض[20]، فالمراد أنهم كجماعة واحدة يتصل بعضهم ببعض، ويتعاونون على الصلاح المشترك بينهم.
11ـ الولاء بين أولي الأرحام
كما قال سبحانه: بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ[21].
12ـ الولاء بالمصاهرة
فمن تزوج من قوم حدث نحو ولاء ووشيجة بينهم – وإن كان دون ولاء العصبة – ولذلك كانت العرب تعتني بالزواج من الأقوام الأخرى حتى إذا كانت بينهم حزازة أو عداوة من قبل لأجل التقارب بينهم.
ولأجل ذلك نجد أن النبي محمد المصطفى (ص) تزوج من سائر فروع قريش الذين عادوه بعد البعثة والدعوة، فتزوج من بني أمية أم حبيبة بنت أبي سفيان شيخ المشركين قبل فتح مكة وأشدهم عداوة للرسول، وتزوج حفصة بنت عمر – بطلب من عمر – من بني عدي، وقد تزوج عائشة ابنة أبي بكر من بني تيم إلى غيرهما من النساء.
كما يتوقع أن يكون زواج الإمام علي (ع) وابنيه الحسن والحسين (ع) وذريته من سائر فروع قريش وقبائل أخرى لأجل إيجاد الصلة بين أهل البيت (ع) وتلك القبائل، وهو من أسباب تعدد أزواجهم كما أن بعض القبائل كانت تعرض عليهم الزواج ببعض بناتها للتشرف بالمصاهرة مع النبي (ص) أو أهل بيته (ع) أو للتقرب إليهم.
وذلك سبب آخر في تعدد أزواج النبي (ص) وعترته (ع)، وربما تزوج بعض الأمراء بإصرار من بنات بعض خصومه أو زوجهم بعض بناته لأجل ذلك كما زوج المأمون العباسي ابنته أم الفضل من الإمام محمد الجواد (ع).
13ـ ولاء المحكومين للقائد[22]
سواء كانت القيادة في مستوى الحاكم العام وهو ما يعبر عنه أيضاً هذا العصر بالولاء للدولة، أو في مستوى دون ذلك مثل الحاكم على المدينة أو القائد العسكري، ولذلك يعبر عن الخليفة بولي الأمر ويعبر عن حاكم المدينة بالوالي عليها وذلك تعبير شائع في العصر الأول.
هذا، وللحاكم أيضاً ولاء للمحكومين طبعاً ويندرج في نوع الولاء المذكور الولاء بين المطاع ومن تجب طاعته كالولاء بين شيخ العشيرة وسائر أفرادها.
14ـ ولاء قائم على الأسباب الخاصة
مثل الولاء الذي يحصل بالعشرة والصحبة والإحسان والتعلق بين الناس حيث يستتبع عرفاً حق الإعانة والنصرة والحماية.
فهذه كلها وجوه من الولاء، وكلها وشائج اجتماعية تستوجب رعاية ونصرة وحماية وطاعة بحسب ما يلائم المورد.
وقد يطلق نوع الولاء على وجه جامع كما قال سبحانه: يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ[23].
وكأن المراد – والله العالم – أنه لن تغني الوشائج القائمة بين الناس غداً في يوم القيامة؛ لأنهم لا يستطيعون إعانتهم ونصرتهم وحمايتهم من عذاب الله سبحانه.
هناك فرق بين كلمة الولاء والولاية رغم أنهما من فروع مادة لغوية واحدة.
فالولاية تطلق في جانب من يُطاع ويُعان وينصر، للتعبير عن موقعه الذي يستوجب له ذلك، كما تستوجب عليه رعايته لمن يتولى أمره، ومنه ولي الأمر، كما يقال إن الرسول هو مولى المسلمين وولي عليهم.
والولاء يطلق في جانب من يطيع ويعين وينصر، فيقال: إن الناس أولياء للرسول (ص) لأنهم يطيعونه ويعينونه وينصرونه.
وبهذا العرض يتضح أن للولاء معنى واضحاً في اللغة، فهو وشيجة خاصة قائمة بين الطرفين، وهو معنى عام يشمل جميع موارد الولاء من الولاء بين الله ورسوله وبين المؤمنين والولاء للعشيرة والأرحام والولاء بين المالك وعبده والولاء بين المؤمنين أنفسهم والولاء بين الجيران والأصدقاء والولاء بين المتحالفين.
2ـ تقسيم الولاء إلى المتكافئ والمختلف
إن الولاء هو – نوعاً – علاقة متكررة، بمعنى أن كلاً من طرفي الولاء يوالي الطرف الآخر، وقد يطلق على كل منهما أنه مولى الآخر ووليه.
ولكن قد يكون الولاء من الطرفين متماثلاً في مغزاه وآثاره وقد يكون مختلفاً.
ولذلك ينقسم الولاء إلى قسمين:
القسم الأول: الولاء المتكافئ
وهو الولاء الذي تترتب عليه آثار متماثلة في حق الطرفين، فيكون لكل من طرفي الولاء من الحقوق على الآخر مثل ما يكون للآخر عليه، كما في الولاء بين أفراد العشيرة، والولاء بين المؤمنين، وكل الولاءات العامة التي تثبت بصفة مشتركة كالولاء القومي والقبلي والتعاقدي والديني والولاء بالجوار والقرابة والمصاهرة والصحبة.
وهذا القسم يشبه المعاني المتماثلة المتلازمة مثل الأخوة فإن أخوة شخص لآخر تلازم أخوة ذاك الآخر للأول أيضاً، وكذلك ابن العم فإنه متى كان شخص ما ابن عم لشخص آخر كان الآخر أيضاً ابن عمه.
وهذا شأن جملة من العلائق الأخرى التي تقوم بين شيئين، مثل المساواة فإذا كان (أ) مساوياً لـ(ب) فإنّ (ب) أيضاً يكون مساوياً لـ(أ).
القسم الآخر: الولاء المختلف
وهو أن يختلف نوع الأثر المترتب على ولاء أحد الطرفين للآخر عن الأثر المترتب لولاء الآخر له، كأن يكون أحد طرفي الولاء أولى بالآخر من نفسه أو بمثابة ذلك، وأما الآخر فلا يكون كذلك، وإن كان للأول أيضاً علقة به تسمى ولاء وتستتبع وظيفة له تجاهه.
وهذا القسم يشبه العلائق المتفاوتة المتلازمة مثل الأبوة والبنوة فإن أبوة شخص لآخر لا تستلزم أبوة الآخر له كما في الأخوة، بل بنوة الآخر له، وكذلك معنى الأم والجد والحفيد والعم والخال وابن الأخ.
وكذلك الحال في جملة من العلائق التي تقوم بين شيئين مثل الزيادة والنقيصة فإنهما ليسا كالمساواة، فإذا كان (أ) أزيد من (ب) فليس (ب) أزيد من (أ)، بل أنقص منه.
ومثال هذا القسم هو مورد الولاء بالملك بين السيد وبين العبد، ويعبر عن كل من السيد والعبد في اللغة بالمولى لكن الولاء غير متكافئ بينهما؛ لأن على العبد أن يطيع السيد، وليس السيد ملزماً بطاعة العبد، نعم من وظيفة السيد أن يحمي عبده وينتصر له.
والظاهر أن التعبير عن كل منهما بالمولى باعتبار أن المولى في اللغة هو صاحب الولاء مع آخر سواء كان الطرف الأعلى فيه أم الطرف الأدنى، ويصدق على السيد أنه صاحب ولاء العبد، وعلى العبد أنه صاحب ولاء مع السيد.
ويمكن التعبير في هذا القسم من نوع الولاء بأن أحد الطرفين يكون تابعاً والآخر متبوعاً، كما هو الحال في ولاء السيد والعبد، فالتابع والمتبوع متصلان بالوشيجة الرابطة بينهما، ومن ثم يتحقق أصل نوع الولاء في كل منهما.
هذا، وقد يطلق الولاء في الطرفين في هذا القسم بمعنى متفاوت وليس بالمنظور الجامع، وذلك من جهة إشراب الولاء معنى التابعية والمتبوعية، فيصدق الولاء على المتبوع على أساس كونه قائداً وأمراً ومطاعاً، وعلى التابع باعتبار أنه مقود ومأمور ومطيع للأول، وإن كان هناك حقوق للتابع على المتبوع من جهة أن الحقوق تتقابل دائماً كما جاء في كلام الأمير المؤمنين (ع)، وهذا شأن الولاء الذي يثبت لأحد الطرفين بصفة خاصة به.
هذا، وينطبق هذا القسم من الولاء على عدد من أنواع الولاء المتقدمة:
1ـ ولاء السيد المالك والعبد المملوك
2ـ الولاء الأسري
من قبيل ولاء الأب على الطفل، فإن الأب ولي الطفل في هذا النوع من الولاء، وليس الطفل ولي الأب، بل هو المولى عليه.
3ـ ولاء الحكم والقيادة
فإن حقوق الحاكم على المحكوم تختلف عن حقوق المحكوم على الحاكم.
4ـ ولاء الله سبحانه على الناس
فهو ولاء مختلف، فإن الله سبحانه من الحق على عباده غير ما للعباد على الله سبحانه، لكن للناس أيضاً ما يستوجبونه من لطف الله تعالى، من جهة أن الحقوق تتقابل دائماً.
5ـ ولاء النبي (ص) على الأمة
حيث جاء قوله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ[24]، مما يعطي أنه ولاء مختلف؛ إذ من المعلوم أن المؤمنين ليسوا كذلك بالنسبة إلى النبي (ص)، فهم ليسوا أولى به (ص) من نفسه، وإن كان لهم حقوق ملائمة لولايته (ص) عليهم، من جهة أن ولاء المؤمنين للنبي (ص) إنما هو بصفته الخاصة، وهي كونه رسولاً، بينما ولاء النبي (ص) للمؤمنين إنما هو لصفة أخرى وهي كونه المرسل إليهم، فلم تكن الصفة المستوجبة للولاء في الطرفين صفة واحدة مشتركة مثل الإيمان الجامع في الولاء بين المؤمنين.
ويترتب على كلا نوعي الولاء حق النصرة، ولكن مع تفاوت.
ففي الولاء المتكافئ تكون نصرة بعض لبعض على نحو متكافئ.
وأما في الولاء المختلف فيكون هناك تناصر أيضاً، إلا أنه يكون بمحورية الطرف الأعلى في الولاء كالنبي (ص)، فهو أولى ببعض شؤون الطرف الآخر منه، ومن ثم وجب على المؤمنين أن ينصروا النبي (ص) نصرة مميزة مبنية على أولويته (ص) لهم من أنفسهم؛ لأنه (ص) محور جبهة الحق وقائده وعلمه، كما قال تعالى: مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ[25].
كما أن العداء أيضاً للأعداء يترتب على كلا نوعي الولاء، ولكن معاداة بعضهم لأعداء بعض يكون بنحو متماثل في الولاء المتكافئ، ومن ثم فإن على المؤمنين أن يعادي بعضهم أعداء البعض الآخر ويدفع العدوان عنه، وأما في نوع الولاء المختلف فيكون محور العداء هو معاداة الطرف الأعلى في الولاء، ومن ثمَّ شدّد في الآيات على عدم موالاة المؤمنين لمن كفر بالله ورسوله.
هذا، ومما ذكرنا في تقسيم الولاء إلى متكافئ وغير متكافئ يظهر القول في جدل دار حول معنى الحديث، حيث إن هناك من ناقش في دلالة الخطبة على ولاء الحكم للإمام (ع) بأنه يتوقف على أن يراد بالمولى الأولى بالناس وقالوا إنه لم يرد المولى بمعنى الأولى، وسعى آخرون في جواب ذلك إلى إثبات مجيء المولى بهذا المعنى.
فهذا الجدال لا موضع له أصلاً؛ لأن ولاء الحكم من قبيل الولاء غير المتكافئ، ولا ريب في أن الولاء والمولى والولي ترد في الولاء المتكافئ والولاء غير المتكافئ، وهذا هو منشأ استفادة الأولوية من كلمة المولى، لا كون المولى بمعنى الأولى، فلا حاجة إلى جعل المولى بمعنى الأولى لفظاً.
الاستنتاج
أن نوع الولاء الذي أشار إليه النبي (ص) للإمام علي (ع) ينقسم إلى نوعين: الولاء العام الذي يعبر عن العلاقات بين المؤمنين، والولاء الخاص الذي يشير إلى مكانة علي (ع) كولي للأمر بعد النبي (ص)، وأن الفقرتين الرئيسيتين في خطبة الغدير، حيث الأولى تتعلق بأهل البيت (ع) كأعلام للهداية، والثانية تعزز ولاء الإمام علي (ع)، كما أن الأحداث التاريخية لها تأثير على فهم هذه المفاهيم.
الهوامش
[1] التوبة، ۷۱.
[2] والمراد بالاجتماع معنى أعم ولو على نحو التغليب فيشمل الولاء بين الله سبحانه وبين خلقه عامة والمؤمنين خاصة.
[3] يونس، ٣٠.
[4] آل عمران، ٦٨.
[5] محمد، ١١.
[6] البقرة، ٢٨٦.
[7] آل عمران، ١٥٠.
[8] الأنفال، ٤٠.
[9] يونس، ٦٢.
[10] وهذا الولاء يمكن أن يدرج في الولاء السياسي للحاكم، ولكن قد يقال إنه أعم منه إذ الظاهر ثبوته للنبي (ص) منذ نبوته منذ العهد المكي وإن لم يكن في موقع الحكم آنذاك، بل كان مستضعفاً مهدداً بالقتل والأذى.
[11] الأحزاب، ٦.
[12] التوبة، ١٢٠.
[13] التوبة، ١٢٨.
[14] التحريم، ٤.
[15] الإسراء، ٣٣.
[16] البقرة، ۲۸۲.
[17] أي الذي منشؤه التعاقد بين الطرفين.
[18] وينبغي أن يعلم أن الولاء بين المالك والمملوك كان يبقى في العرف القبلي حتى بعد عنق المالك للمملوك إلا إذا تخلى عن تعهده تجاهه بعد عتقه، وقال له: اذهب فأنت سائبة.
[19] قال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ، النساء، ٣٦.
[20] التوبة، ٧١.
[21] الأحزاب، ٦.
[22] وهو أعم من الولاء السياسي الذي تقدم ذكره أولاً.
[23] الدخان، ٤١.
[24] الأحزاب، ٦.
[25] التوبة، ١٢٠.
مصدر المقالة (مع تصرف)
السيستاني، محمد باقر، واقعة الغدير ثبوتها ودلالاتها، الطبعة الثانية، 1444 ه، بلا تاريخ، ص305 ـ ص326.